تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
فراخوانی مقاله و اولویت های پژوهشی
فراخوانی مقاله و اولویت های پژوهشی
سخن موسس فقید
سخن موسس فقید
مسند سهل بن زياد الآدمى (جلد سوم)

(499)

كتاب القضاء


(501)

أبواب صفات القاضي وما يجوز يقضي به

الحديث 1562: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله‌ المؤمن، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله‌ عليه‌السلام قال: اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ، أو وصيّ نبيّ.

المصادر: الكافي 7: 406، كتاب القضاء والأحكام، باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام عليه‌السلام، ح 1، تهذيب الأحكام 6: 217، كتاب القضايا والأحكام، ب87 باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين، ح3، وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به، ح3، جامع أحاديث الشيعة 30: 34، كتاب القضاء، أبواب القضاء ومن له الحكم و...، ب1 باب اختصاص القضاء والحكم بالنبي والإمام عليهم‌السلام و...، ح1.

الشرح: قال العلاّمة المجلسي:

لا يخفى أنّ هذه الأخبار تدلّ بظواهرها على عدم جواز القضاء لغير المعصوم، ولا ريب أنّهم عليهم‌السلام كان يبعثون القضاة إلى البلاد، فلا بدّ من حملها على أنّ القضاء بالأصالة لهم، ولا يجوز لغيرهم تصدّي ذلك إلاّ بإذنهم، وكذا في قوله عليه‌السلام: «لا يجلسه إلاّ نبيّ» أي: بالأصالة، والحاصل أنّ الحصر إضافيّ بالنسبة إلى من جلس فيها بغير إذنهم ونصبهم عليهم‌السلام.[1]


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 24: 265 .


(502)

وقال أيضاً:

قوله عليه‌السلام: «فإنّ الحكومة» أي: بالأصالة، ولا يجوز لأحد أن يصير والياً وقاضياً إلاّ بإذنه.

قوله عليه‌السلام: «لنبيّ» في بعض النسخ: كنبيّ، وقال الوالد العلاّمة قدّس الله‌ روحه: بيان للإمام، فإنّه المعصوم الذي تكون له الرئاسة الدنيويّة مع الأخرويّة، فكلّ إمام نبيّ أو وصيّ نبيّ، وليس كلّ الأنبياء والأوصياء بأئمّة.[1]

الحديث 1563: عليّ بن محمّد[2]، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى جميعاً، عن ابن محبوب، عن أبي أسامة،[3] عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عمّن حدّثه ممّن يوثق به، (قال: سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول):[4] إنّ النّاس آلوا بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم على هدى من الله‌، قد أغناه الله‌ بما علم عن علم[5] غيره، وجاهل مدّع للعلم، لا علم له، معجب بما عنده، قد فتنته الدّنيا، وفتن غيره، ومتعلّم من عالم على سبيل هدى من الله‌ ونجاة، ثمّ هلك من ادّعى، وخاب من افترى.

المصادر: الكافي 1: 33، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، ح1، وسائل الشيعة 27: 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به ح4، جامع أحاديث الشيعة 1: 260، أبواب المقدّمات، ب4 باب حجّية فتوى الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم‌السلام بعد الفحص، ح134.

الشرح: قال المازندراني:


--------------------------------------------------

1. ملاذ الأخيار 10: 9 .

2. في الوسائل زيادة: «وغيره».

3. ليس في الوسائل: «عن أبي أسامة».

4. في الوسائل: «قال: قال أمير المؤمنين عليه‏السلام» بدل «قال: سمعت أمير المؤمنين عليه‏السلام يقول».

5. ليس في الوسائل: «علم».


(503)

قوله: «قال: سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول: إنّ الناس آلوا» على وزن «قالوا» من آل يؤول، أي رجعوا، ويحتمل فتح الهمزة واللاّم مع تخفيفها أو تشديدها، أي قصروا، يقال: ألى الرجل يألوا في الأمر، وأليّ فيه تألية إذا قصّر وترك الجهد، لكن يحتاج حينئذٍ إلى تضمين معنى الرجوع أو الصيرورة، يعني: أنّ الناس قصّروا وتركوا الإجتهاد في طلب الدين «بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله» راجعين أو صائرين «إلى ثلاثة» أقسام، ولو لم يقصّروا رجعوا إلى القسمين يعني إلى عالم ومتعلّم، لكن في هذين الاحتمالين تكلّف لا يحتاج إليه «آلوا إلى عالم على هدى من الله‌، قد أغناه الله‌ بما علم عن علم غيره» وهو العدل الذي أخذ العلم بإعلام نبويّ وإلهام إلهيّ، لاستعداد نفسه القدسيّة، وقلبه المطهّر عن الرذائل الخلقيّة للعلوم والأنتقاش بالأسرار الغيبيّة، والصور الكلّية والجزئية وكيفيّة انشعابها وتفاصيلها، واستفادة بذلك الأحكام والوقائع والأخلاق وأحوال المبدأ والمعاد، وغيرها من الفضائل الشرعيّة، ومقاصدها من الكتاب والسنّة والعادات النبويّة، فهو عارف عالم، عامل، منطقه الصواب، ولباسه الإقتصاد، مشيه التواضع، وصفته الصبر في الضرّاء والسرّاء والرجوع إلى الله‌ في الشدّة والرخاء، له قوّة في دين، وشجاعة في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وعلم في حلم، وقصد في غنى، وخشوع في عبادة، وتحمّل في زهادة، وهو معلّم العلوم والآداب النفسانيّة، ومأخذ جميع الكمالات، ورسوم الحقيقة الإنسانيّة، قد أغناه الله‌ تعالى بعلمه الكامل عن علم غيره من الاُمّة لوجوب رجوع جميعهم إليه، فلو انعكس لزم أن يصير الرئيس مرؤوساً، والأمير مأموراً، والحاكم محكوماً، ذلك يبطل نظام العالم.

«وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده» من المفتريات التي اكتسبها رأيه الفاسد، أو أخذها من جاهل آخر، والجهل على قسمين:

أحدهما: عدم الاعتقاد بشيء لا اعتقاداً صالحاً، ولا اعتقاداً فاسداً، ويقال له:


(504)

الجهل البسيط والغباوة.

وثانيهما: الاعتقاد بشى‌ء اعتقاداً فاسداً، ويقال له: الجهل المركّب، والغيّ والغوايّة، والضلالة، وهذا أشدّ من الأوّل، لأنّه من الأمراض المهلكة للحياة القلبيّة، والأسقام المبطلة للحقيقة الإنسانية، إذ المتّصف به لا علم له مع ادّعائه، أنّ ذلك الاعتقاد الفاسد علم مطابق للواقع، واعجابه به لتسويلات شيطانيّة، وتخيّلات نفسانيّة، وتمويهات وهميّة، فيمنعه ذلك عن الرجوع إلى الحقّ، وهو من شرار الناس، رماه إبليس إلى غاية مقاصده بقول الزور، وحداه إلى سبيل المهالك وأودية الشرور.

«قد فتنته الدنيا وفتن غيره» الفاتن المضلّ عن الحقّ، يعني: قد أضلّته الدنيا عن طريق الهداية بزهراتها، وقادته إلى سبيل الغواية بثمراتها، وزيّنت في نفسه حبّ الجاه والرئاسة، وروّجت فيها صفة الدناءة والخساسة، فجعل ما اكتسبه من الأباطيل، وسيلة إلى تحصيل المشتهيات الدنيّة الزائلة، وما اقترفه من الأقاويل ذريعة إلى تكميل المستلذّات الخسيسة الباطلة، فضلّ عن سواء السبيل، وأضلّ غيره ممّن اقتدى به أهل الجهالة والبطالة الذين طبائعهم مائلة إلى الفساد والعناد، وقلوبهم غافلة عن أحوال المبدأ والمعاد، فارتدّوا بصرصر إضلاله عن منهج الصواب، واجتهدوا بنداء الغواية في الرجوع إلى الأعقاب، أولئك هم شرّ البريّة، وعن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتفارقون للبعضاء ويتلاعنون عند اللقاء.

«ومتعلّم من عالم على سبيل هدى من الله‌ ونجاة» من عذاب الآخرة، أو من فتنة الدنيا، والظرف أعني على، ومدخولها صفة أو حال لمتعلّم أو لعالم، وهذا القسم هو الفرقة الناجية التابعة للعترة عليهم‌السلام في الاُصول والفروع، ولهم دعاء الملائكة وحملة العرش، ودعاء أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله: رحم الله‌ عبداً سمع


(505)

حكماً فوعى، ودعيّ إلى رشادٍ فدنا، وأخذ بحجزة هادٍ فنجا. وفيه دلالة على أنّه لابدّ للناس من استاذ مرشد عالم ليحصل به نجاتهم في مضائق سبيل الله‌ وظلمات الطبائع البشريّة، كما يحصل النجاة لمن سلك طريقاً مظلماً، لم يعرف حدوده بسبب أخذ ذيل آخر عالم بحدوده. وبين أهل السلوك خلاف في أنّه هل يضطرّ السالك إلى الشيخ العارف أم لا، وأكثرهم يرى وجوبه، ويفهم ذلك من كلامه عليه‌السلام، وبه يتمسّك الموجبون له، ويؤيّده أيضاً أنّ طريق المريد مع شيخه العارف بالله‌ أقرب إلى الهداية، وبدونه أقرب إلى الضلالة، فلذلك قال عليه‌السلام: «فنجا» يعني أنّ النجاة معلّقة به، ودلائل الفريقين مذكورة في مصباح العارفين. ثمّ أعاد عليه‌السلام الذمّ على القسم الثاني، وتبيّن بعده عن الحقّ بقوله: «ثمّ هلك من ادّعى» العلم والهداية، ولا يكون عالماً على هدى من الله‌ ولا متعلّماً منه، فضلّ لاضاعة الشرع، وأضلّ لإعلان الباطل.

«وخاب من افترى» أي: خاب عن الرحمة الإلهيّة والشفاعة النبويّة من افترى الكذب على الله‌ وعلى رسوله بادّعائه العلم من الله‌ مع عدم اتّصافه به، وإفنائه في الدين برأيه، أو بقول جاهل آخر، وإضلاله للناس، ووجه الهلاك والخيبة أنّ الكون على الهداية في الدنيا، والسلامة في الآخرة والفوز بالرحمة والشفاعة متوقّف على العلم بالله‌ وبرسوله، والإقرار بجميع ما أنزل إليه، وعدم الإفتراء في الدين وهم قد أعرضوا عن جميع ذلك وجعلوه وراء ظهورهم، وأحدثوا ديناً غير دين الحقّ، فاستحقّوا بذلك الهلاك والخيبة، وابطلوا استعدادهم للحياة الأبديّة وفوزهم بالسعادة الاُخرويّة، وهذا الكلام يحتمل أن يكون إخباراً عن حالهم وسوء عاقبتهم، وأن يكون دعاء عليهم بالهلاك والخيبة والخسران، ودليل حصر الناس في الثلاثة أنّ الناس إمّا ضالّ عن دين الحقّ خارج عنه أو لا.

والثاني: إمّا عالم على هدى من الله‌ تعالى مؤيّد من عنده محفوظ عن الخطأ أو


(506)

لا، فالأوّل هو القسم الثاني، ورؤساؤهم الثلاثة المنتحلين للخلافة، والثاني هو القسم الأوّل وهم الأئمّة المعصومون ورئيسهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام، والثالث هو القسم الثالث وهم شيعتهم رضوان الله‌ عليهم، والشيعة كلّهم متعلّمون على تفاوت درجاتهم في التعلّم، لأنّهم لمّا كانوا ثابتين في دين الحقّ سالكين فيما سلكه ذلك العالم، لا محالة يكونون متعلّمين مهتدين بهداه، محبّين له، وبما ذكرنا يندفع ما يقال: من أنّ هاهنا قسماً رابعاً وهو الجاهل الغافل، الذي ليس بضالّ ولا متعلّم، لأنّ هذا القسم لمّا لم يكن ضالاًّ كان تابعاً لذلك العالم، متعلّماً منه في الدين ولو بواسطة ومحبّاً له، والرجل مع من أحبّه، كما يشعر به الحديث الآتي، ولو فرض أنّه ليس بمتعلّم، فنقول: لعلّه خارج عن المقسم، لجواز أن يراد بالناس المقسم الناس المنتسبون إلى العلم، ويؤيّده تقييد الجاهل في القسم الثاني بكونه مدّعياً للعلم، فإنّه يفيد خروج الجاهل بالجهل البسيط الذي لا ينتسب إلى العلم، وتقييد الأوّل والثالث بالعلم. فعلم من ذلك اعتبار العلم في المقسم.

وأمّا الجواب: بأنّ هذا القسم خارج عن المقسم باعتبار. أنّ المراد بالناس، من له قوّة تحصيل العلم وقدرة الإرتقاء إلى درجة الكمال لا أعمّ منه، وممّن هو من أهل الضرر والزّمانة، فليس بشيء، لأنّ كون هذا القسم مطلقاً من أهل الضرر والزّمانة الموجب لسقوط التكليف بالتعلّم ممنوع كيف، وأكثر الجهّال لهم قوّة وقدرة على تحصيل العلم والكمال[1].

قال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «آلوا» أي رجعوا.

قوله «على هدى. . .» تمثيل لتمكّنه من الهدى واستقراره عليه بحال من


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 2: 44ـ48 .


(507)

اعتلى الشيء وركبه.

قوله عليه‌السلام: «قد أغناه الله‌» أي: علمه موهبيّ وليس بكسبيّ، والمراد بهذا القسم الإمام عليه‌السلام، وبالقسم الثاني أعداء الإمام ومخالفوه، ومن استبدّ برأيه ولم يرجع إليه فيما إلتبس عليه، وبالثالث أتباع الإمام ومن يأخذ العلم منه، إمّا بواسطة أو بغير واسطة، والمستضعفون إمّا داخلون في القسم الثاني بنوع تكلّف، أو خارجون عن المقسم بأن يكون المراد بالناس من له أهليّة الفهم والتميّز بين الحقّ والباطل، فقوله عليه‌السلام: «ثمّ هلك من ادّعى» بيان لهلاك القسم الثاني من الأقسام الثلاثة، فإنّه الذي إدّعى العلم وليس بعالم، أو الإمامة وليس بأهل لها، وخاب بافترائه على الله‌ في بيان علم ما لم يعلم، أو ادّعاء الرئاسة والإمامة، ولعلّ كلّ واحد من أتباع أئمّة الضلال داخل في هذا القسم، إذ هو أيضاً مدّع للعلم بما تعلّمه من إمام الضلال ومعجب به، ويدعو الناس أيضاً إلى هذا التقليد الباطل أو يقال: إكتفى عليه‌السلام بذكر ضلالتهم من ذكر ضلال أتباعهم، فإنّ الأئمّة أيضاً إذا كانوا ضالّين، فأتباعهم كذلك بالطريق الأولى، مع أنّه عليه‌السلام أومأ إليهم بقوله: «وفتن غيره» وربما يوجّه الخبر بوجه آخر وهو أنّ الناس اتّبعوا ورجعوا في دينهم بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم إلى ثلاثة أصناف: فبعضهم اتّبعوا أئمّة الهدى عليهم‌السلام، وبعضهم اتبعوا أئمّة الضلال، وبعضهم اتبعوا العلماء المحقّة من الفرقة الناجية، فالفرقة الثانية هالكة لهلاك أئمّتهم، والفرقتان الباقيتان ناجيتان لانتهاء علمهم إلى إمام الحقّ بواسطة أو بدونها والأوّل أظهر.[1]

الحديث 1564: عليّ بن محمّد وغيره، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 1: 109ـ110 .


(508)

حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عمّن حدّثه، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول: أيّها النّاس! اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم، والعمل به، ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إنّ المال مقسوم مضمون لكم، قد قسّمه عادل بينكم، وضمنه، وسَيَفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.

المصادر: الكافي 1: 30، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح4 وسائل الشيعة 27: 24، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب 4 ح 12، جامع أحاديث الشيعة 1: 160، أبواب المقدّمات، ب1 باب فرض طلب العلم أو الحجّة في الأحكام الشرعية و...، ح17 .

الشرح: قال المازندراني:

قوله: «قال: سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول: أيّها الناس اعلموا» يجوز أن يكون بمنزلة اللاّزم بحذف مفعوله نسياً منسيّاً، ففيه ترغيب في تحصيل ماهيّة العلم وما بعده تعليل له استيناف. وأن يكون متعدّياً ومفعوله قوله: «إنّ إكمال الدين طلب العلم والعمل به» الظاهر أنّ المراد بهذا العلم، العلم المتعلّق بكيفيّة العمل، ويحتمل أن يراد به العلم المتعلّق بمعرفة الله‌ وما يليق به، ومعرفة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ومعرفة ما يجب معرفته عقلاً وشرعاً، وهو الذي يجب التديّن به والاعتقاد له والعكوف عليه والمحافظة له، ثمّ العمل بمقتضاه إن كان المقصود منه العمل، فيصير بذلك عالماً ربّانيّاً، قال الله‌ تعالى: «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ»[1].

قال الأزهرى: هم أرباب العلم الذين يعملون بما يعلمون، وبهما يتحقّق كمال الدين وتمامه.

أقول: وسرّ ذلك أنّ بالعلم يعرف واضع الدين وحدوده وأحكامه ولواحقه


--------------------------------------------------

1. سورة آل عمران 3: 79 .


(509)

وشرائطه ومداخله ومخارجه ومصالحه ومفاسده، وبالعمل يحقّقه ويقيمه ويوجده ويضع كلّ واحد من أجزائه في موضعه، ويخرجه من حيّز البطون إلى حيّز الظهور، فلولا العلم بطل العمل، ولولا العمل بطل العلم وصار بلا فائدة، وذلك كما إذا قصدت بناء دار معيّنة محدودة بحدود معيّنة وموصوفة بصفات مخصوصة وموضوعة على أركان وهيئة معلومة عندك، وطلبت بناءها من زيد، فلابدّ لزيد من أن يعلم مقصودك المشتمل على تفاصيل مذكورة، ثمّ يشتغل بالعمل ويبنيها على نحو ما قصدت، ليتمّ على وجه الكمال كما أردت، فلو اشتغل بالبناء من غير أن يعلم مقصودك لكان ما يبنيه غير موافق لمقصودك غالباً، إذ الإتّفاق نادر جدّاً، ولو علم مقصودك ولم يشتغل بالعمل لم ينفعه ذلك العلم ولم يستحقّ من الثناء والاُجر.

ومن هنا ظهر أنّ كمال الدين وتمامه بالعلم والعمل، وقال بعض الناظرين إلى هذا الحديث: المراد بالدين الأعمال البدنيّة مثل الصلاة والصوم والحجّ ونحوها، والمراد بكماله غايته، يعني: أنّ غاية الأعمال البدنيّة والتكاليف الشرعيّة طلب العلم وذلك، لأنّ الأعمال البدنيّة إنّما تراد للأحوال، أعني: طهارة القلب وصفاءه عن الأخباث والشهوات والتعلّقات، وتلك الأحوال إنّما تراد للعلم، ثمّ هذا قسمان: علم عقليّ كالعلم بذات الله‌ تعالى وصفاته وأفعاله، وعلم عمليّ وهو المتعلّق بكيفيّة أعمال الطاعات، وترك المعاصي والسيّئات، فالقسم الأوّل: إنّما يراد لنفسه لا لغيره، والقسم الثاني: إنّما يراد للعمل به، والعمل يراد للعلم أيضاً، فالعلم هو الأوّل والآخر والمبدأ والغاية، فضرب من العلم وهو العملي وسيلة، وضرب من العلم وهو العقلي غاية وهو الأشرف الأعلى، والعمل لا يكون إلاّ وسيلة، فقوله عليه‌السلام: «والعمل به» إشارة إلى ثمرة ضرب من العلوم وأوائلها، ومبادئها، أعني العملي، فلا خير في طاعة لا يكون وسيلة للعلم، وكذا لا خير في


(510)

علم متعلّق بها إذا لم يكن وسيلة إلى العمل المؤدّي إلى الحال المؤدّي إلى العلم.

«ألا وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال» فيه أمران:

الأمر الأوّل: أنّ طلب المال يعني: قدر الكفاف واجب، وهو كذلك، لأنّ فيه حفظاً للبدن وقواه، وصيانة للعرض وماء الوجه من ذلّ السؤال، وقطعاً للطمع عمّا في ايدي الناس واستعانة بالعبادات والطاعات كما ورد: لولا الخبز ما صلّينا ولا صمنا.

وهذا لا ينافي الروايات الواردة للزهد في الدنيا والحثّ على تركها، لأنّ الزهد في الدنيا ليس بإضاعة المال ولا تحريم اكتساب الحلال، بل الزهد فيها أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله‌ عزّ وجلّ، وقد فسّر الزهد فيها سيّد الوصيّين، بقصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عن كلّ ما حرّم الله‌ عزّ وجلّ. وكيف يكون الزهد عبارة عن ترك الحلال. وقال الصادق عليه‌السلام: لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال يكفّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه.

الأمر الثاني: أنّ طلب العلم أوجب وآكد من طلب المال ووجه ذلك: أنّ العلم حياة القلب من العمى ونور البصيرة من الظلمة، وقوّة الأبدان من الضعف، وغذاء الروح وحياته، وقوّته وكماله ونموّه في الدنيا والآخرة، والمال سبب حياة البدن وبقائه في الدنيا والروح أشرف من البدن، وحياته أدوم وأبقى من حياة البدن، لأنّ حياة البدن زائلة منقطعة، وحياة الروح باقية أبداً لا نهاية لبقائه، فطلب ما يوجب حياة الروح وهو العلم أوجب من طلب ما يوجب حياة البدن وأفضل بقدر الفضل بين الروح والبدن، ويكفي للحكم بكون طلب العلم أوجب من طلب المال ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو ويزداد على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل بن زياد! معرفة العلم دين يدان به يكسب


(511)

الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الاُحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل بن زياد! هلك خزّان الأوّل وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.

ومن طرق العامّة عنه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: إنّ باباً من العلم يتعلّمه الرجل خير له من أن لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه في سبيل الله‌.

وبيّن عليه‌السلام: كون طلبه أوجب بوجه آخر غير هذه الوجوه بقوله: إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم، على حسب ما يقتضيه المصلحة.

وقوله: «قد قسّمه» تأكيد للسابق أو حال عن فاعل مقسوم «وضمنه» وأكّده بالقسم، قال الله‌ تعالى: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»[1] وقال: «وَ مَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله‌ رِزْقُهَا»[2] وقال: «وَ فِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ * فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ»[3].

«وسيفي لكم» ولو كنتم في جحر أو موضع منقطع من الناس، ولا تموتون حتّى تستكملوا أرزاقكم، قال الصادق عليه‌السلام: لو كان العبد في جحر لأتاه الله‌ برزقه، وقيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام: لو سدّ على رجل باب بيته وترك فيه فمن أين كان يأتيه رزقه؟ فقال عليه‌السلام: من حيث يأتيه أجله. وهذا ممّا يحكم به العقل ضرورة، لأنّ وجود الأنسان من غير رزق محال، فإذا قدّر الله‌ سبحانه وجوده في مدّة، فلا محالة يجب أن يأتيه رزقه في تلك المدّة طلبه أو لم يطلبه إلاّ أنّ الدار دار تكليف ودار امتحان، فقد ينبغي له الطلب ويجب عليه ليعلم أنّه مطيع أو عاص في اكتسابه من طريق الحلال أو من طريق الحرام، وقد يكون الطلب لطلب الفضل


--------------------------------------------------

1. سورة الزخرف 43: 32 .

2. سورة هود 11: 6 .

3. سورة الذاريات 51: 22 ـ 23 .


(512)

كما يرشد إليه قول الباقر عليه‌السلام: ليس من نفس إلاّ وقد فرض الله‌ لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية وعوّض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض لها، وعند الله‌ سواهما فضل كثير، وهو قوله عزّ وجلّ: «وَسْئَلُوا الله‌ مِن فَضْلِهِ»[1] فأمر بطلب الفضل والرزق منه تعالى ولم يضطرّه إلى طلبه من الخلق مثله ولم يرتض له بذلك.

«والعلم مخزون عند أهله» وهم عليهم‌السلام أهل الذكر، ومن تمسّك بذيل عصمتهم وأخذ العلم من مشكاة فضلهم.

«وقد أمرتهم بطلبه من أهله» لقوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»[2] «فاطلبوه» من أهله بعد تصفية الظاهر والباطن إلى غير ذلك من آداب التعلّم وشروطه المذكورة في كتب الآداب، ليحصل المناسبة بينكم وبينهم وتستعدّوا بذلك لانعكاس أنوار العلوم من قلوبهم إلى قلوبكم، وإلاّ فكلّ واحد ليس أهلاً للعلم والحكمة، وقد ورد المنع من تعليمها لغير أهلها في كثير من الروايات، والغرض من هذا الحديث الترغيب في طلب العلم عند أهله والتنفير عن طلب الدنيا لما أنّ أبناء الزمان كلّهم عاملين بالعكس.

وملخّصه: أنّ الإنسان مضطرّ في قبول رزقه، وليس له كثير مدخل في قبوله وردّه، ولذلك ترى رزقه معدّاً وهو في بطن اُمّه من غير حيلة له وغير مضطرّ في قبول العلوم ولذلك تراه في أوّل الفطرة خالياً عن العلوم كلّها، إذ ليس العلم من شرائط وجوده وحياته وبقائه في هذه الحياة الدنيا، بل هو مختار في طلبه، إن طلبه من أهله مع شرائطه وجده، وإن لم يطلبه فقده، فوجب عليه طلبه من أهله والسعي في تحصيله فوق طلب المال والسعي له، والله‌ وليّ التوفيق وإليه


--------------------------------------------------

1. سورة النساء 4: 32 .

2. سورة النحل 16: 43، وسورة الأنبياء 21: 7 .


(513)

هداية الطريق.[1]

قال الفيض الكاشاني:

بيان: «مقسوم» إشارة إلى قوله سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»،[2] «مضمون لكم» إشارة إلى قوله عزّ وجلّ: «وَ مَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله‌ رِزْقُهَا»[3] «عند أهله» وهم علماء أهل البيت الذين هم أوصياء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وخلفاء الله‌ في أرضه وحججه على خلقه، ثمّ من أخذ عنهم واستفاد من محكمات كلامهم من غير تصرّف فيه.[4]

قال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «طلب العلم والعمل به». قيل: المراد بهذا العلم العلم المتعلّق بالعمل، ولعلّه لا ضرورة في تخصيصه به، فإنّ كلّ علم من العلوم الدينيّة يقتضي عملاً لو لم يأت به كان ذلك العلم ناقصاً، كما أنّ العلم بوجوده تعالى، وقدرته، ولطفه، وإحسانه يقتضي إطاعته في أوامره ونواهيه، والعلم بوجود الجنّة يقتضي العمل لتحصيلها، والعلم بوجود النار يقتضي العمل بما يوجب النجاة منها، وهكذا قوله عليه‌السلام: «أوجب عليكم» المراد إمّا الوجوب الشرعيّ الكفائي، أو الوجوب العقلي أي: أحسن وأليق بأنفسكم، والمراد بالمال: الرّزق لا فضوله، «قد قسّمه عادل بينكم»، لقوله سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»[5] وضمنه لقوله تعالى: «وَ مَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله‌ رِزْقُهَا»[6].


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 2: 9ـ13 .

2. سورة الزخرف 43: 32 .

3. سورة هود 11: 6 .

4. كتاب الوافي 1: 127 .

5. سورة الزخرف 43: 32 .

6. سورة هود 11: 6 .


(514)

«عند أهله» أي: الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام والذين أخذوا عنهم، وقد أمرتم بطلبه بقوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»[1].[2]

الحديث 1565: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله‌ المؤمن، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله‌ عليه‌السلام يقول: أيّ قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السّماء.

المصادر: الكافي 7: 408، كتاب القضاء والأحكام، باب من حكم بغير ما أنزل الله‌ عزّ وجلّ، ح4، ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد في تهذيب الأحكام 6: 221، كتاب القضايا والأحكام، ب87 باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين، ح 14 وسائل الشيعة 27: 32، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب5 ح12، جامع أحاديث الشيعة 30: 61، كتاب القضاء، أبواب القضاء ومن له الحكم و...، ب4 باب ماورد في أصناف القضاة و...، ح 18.

الشرح: قال الفيض الكاشاني:

بيان: يعني سقط عن مرتبته من الإيمان أبعد من السماء إلى الأرض، وهو من قبيل تشبيه المعنى بالصورة يعني: لو كان بعده المعنويّ مصوّراً، لكان أبعد من ذلك.[3]

قال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «سقط» أي: من درجة قربه وكماله أو درجاته في الجنّة، أو يلحقه الضرر الأخرويّ، مثل ما يلحق الضرر الدنيويّ من سقط من السماء.[4]

الحديث 1566: محمّد بن الحسن، وعليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن محمّد


--------------------------------------------------

1. سورة النحل 16: 43، وسورة الأنبياء 21: 7 .

2. مرآة العقول 1: 100 .

3. كتاب الوافي 16: 891.

4. مرآة العقول 24: 268، وراجع ملاذ الأخيار 10: 19 .


(515)

بن عيسى، عن عبيد الله‌ بن عبد الله‌[1] الدّهقان، عن دُرُست الواسطيّ[2]، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام، قال: دخل رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة، فقال: وما العلاّمة؟ فقالوا: له أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها، وأيّام الجاهليّة، والأشعار العربيّة، قال: فقال: النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: إنّما العلم ثلاثة[3]: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل.

المصادر: الكافي 1: 32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ح1، وسائل الشيعة 27: 43، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب6 ح17، جامع أحاديث الشيعة 1: 163، أبواب المقدّمات، ب1 باب فرض طلب العلم أو الحجّة في الأحكام الشرعية و...، ح32 .

الشرح: قال المازندراني:

«محمّد بن الحسن، وعليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن عبيد الله‌ بن عبد الله‌ بن الدهقان» قيل: الدهقان اسم أعجميّ مركّب من ده وقان ومعناه سلطان القرية، لأنّ ده اسم القرية، وقان اسم السلطان؛ «عن درست الواسطي... قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟» كلمة «ما» للاستفهام وطلب التصوّر وهي على قسمين:

الأوّل: أن يكون المطلوب بها شرح الاسم، وحينئذٍ يجاب بلفظ دلالته على المطلوب أظهر وأشهر، سواء كان مفرداً أو مركّباً.


--------------------------------------------------

1. ليس في الوسائل: «عبيدالله‏ بن عبدالله‏».

2. ليس في الوسائل: «الواسطي».

3. في الوسائل: «ثلاث».


(516)

الثاني: أن يكون المطلوب بها طلب مهيّة الشيء وحقيقته، سواء كان ذلك الشيء ذاتاً مثل ما الإنسان، أو وصفاً مثل ما العلم، أو مركّباً منهما مثل ما الإنسان العالم، والظاهر أنّ المراد هنا هو القسم الثاني المحقّق في الاحتمال الأخير، لأنّ المقصود هو السؤال عن حقيقة ذلك الرجل المتّصف بالوصف الباعث لاجتماع الخلق عليه، يعنى: عن حقيقة هذا المجموع «فقيل: علاّمة» أى: هو رجل موصوف بكثرة العلم، والتاء للمبالغة في وصف العلم بناء على أنّ كثرة الشيء فرع تحقّق أصله، كما أنّ التأنيث فرع التذكير، ويحتمل أن يكون لفظ هذا إشارة إلى الإجتماع ويكون «ما» سؤالا عن سببه بمعنى لِمَ أي: ما سبب هذا الإجتماع، فأجيب بأنّ سببه كثرة علمه ولكنّه بعيد.

«فقال: وما العلاّمة» يحتمل أن يكون «ما» هنا لطلب شرح الاسم، لأنّ مفهوم العلاّمة له أفراد كثيرة باعتبار تعدّد فنون العلم فلم يعلم أنّ مرادهم من العلاّمة أيّ فرد منها، فاحتيج إلى السؤال ليعلم مرادهم «فقالوا» لتفسير المقصود من بين تلك الأفراد وتعيينه «أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة» أي: أيّام الوقائع الجاهليّة، أو أيّام أزمنتها أو نحو ذلك، ولو كانت أيّام معرفة باللام لما احتيج إلى هذا التقدير «والأشعار والعربيّة» وفي بعض النسخ «والأشعار العربيّة» على الوصف بدون الواو، ويحتمل إحتمالاً ظاهراً أن يكون «ما» هنا لطلب الحقيقة ويكون المقصود من السؤال الإستكشاف عن حقيقة كون ذلك الرجل علاّمة. والجواب حينئذٍ ظاهر الانطباق عليه، لا يقال: المناسب هاهنا السؤال عن سبب كونه علاّمة لا عن حقيقة كونه علاّمة، فالمناسب إيراد كلمة لِمَ بدل «ما» بأن يقال: لِمَ هو علاّمة؟ لأنّا نقول: لا نسلّم أنّ المناسب ذلك، لأنّهم لمّا وصفوه بأنّه علاّمة، فقد ذكروا أنّ السبب هو العلم الموصوف بالكثرة والزيادة، والمناسب حينئذ السؤال عن حقيقة العلاّمة، ليعلم هل علموا حقيقته في إطلاقه على ذلك


(517)

الرجل أم لا، ولو سلّم، فلا ريب أنّ السؤال عن حقيقته أيضاً مناسب، فالحصر غير معقول.

والحقّ أنّ السؤال هاهنا عن كلّ واحد منهما صحيح وأنّ الجواب الصحيح عن كلّ واحد من السؤالين مستلزم للجواب عن الآخر، مثلاً إذا قيل: فلان ضارب، صحّ أن يقال: لم هو ضارب، كما صحّ أن يقال: ما الضارب؟ فإن أجيب عن الأوّل بقيام الضرب به علم منه حقيقة الضارب أيضاً، بأنّه الذي يقوم به الضرب، وإن أُجيب عن الثاني، بأنّه الذي يقوم به الضرب، علم سبب إطلاق الضارب عليه، وهو اتّصافه بالضرب، وإن أجيب عنهما بغير ذلك ممّا لا يصحّ، وجب تنبيه المجيب على خطائه كما فيما نحن فيه، فإنّهم أخطأوا وأجابوا عن السؤال المذكور، بأنّه أعلم الناس بالأُمور المذكورة زعماً منهم، أنّ للأمور المذكورة مدخلاً في كونه علاّمة، ولذلك نبّههم على الخطأ.

«قال: فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه» في الآخرة وإنّما ذاك نوع فضيلة يصطاد به الحطام، ويكتسب به صرف قلوب العوام، وما هذا شأنه لا يعتدّ به ولا يعدّ صاحبه علاّمة. «ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم :» إرشاداً لهم إلى العلم الذي يضرّ جهله يوم المعاد، وينفع يوم يقوم فيه الأشهاد، ويصحّ أن يقال لصاحبه علاّمة، لوجود حقيقة هذا الإسم، وجبت إطلاقه فيه «إنّما العلم» أي: الذي يستحقّ إطلاق اسم العلم عليه وينفع في الدين والدنيا «ثلاثة: آية محكمة» أي: غير منسوخة لإحكام معناها، وعدم إزالة حكمها، أو غير متشابهة لإحكام بيانها بنفسها، وعدم افتقارها في معرفة ما فيها من الحقائق والمعارف والأحكام إلى غيرها ذلك، وعدم احتياجها إلى تأويل أو غير مختلف فيها يقال: هذا الشيء محكم إذا لم يكن فيه اختلاف.

«أو فريضة عادلة» أي: العلم بالواجبات المتوسّطة بين الإفراط والتفريط،


(518)

وقيل: المراد بها العلم بالواجبات العادلة، أي الباقية الغير المنسوخة.

وقيل: المراد بها العلم بما اتّفق عليه المسلمون، وقال في النهاية: أراد بالعادلة العدل في القسمة، أي: فريضة معدّلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنّة من غير جور، ثمّ قال: ويحتمل أنّها مستنبطة من الكتاب والسنّة، فتكون هذه الفريضة تعدل بما اُخذ عنهما.

«أو سنّة قائمة» المراد بالسنّة، الطريقة النبويّة، وبالقائمة الدائمة المستمرّة التي العمل بها متّصل لا يترك، من قام فلان على الشيء إذا ثبت عليه وتمسّك به، والمراد بها العلم بما يكون ثبوته من السنّة النبويّة التي لا يطرأ عليها النسخ، سواء كان فريضة أو لا، وخصّ بعض بغير الفريضة، بقرينة المقابلة، والأوّل: إشارة إلى العلم بالمحكمات القرآنيّة المتعلّقة باُصول الدين وفروعه، وبالمواعظ والنصائح والعبرة بأحوال الماضين، وإنّما خصّ المحكم بالذكر، لأنّ المنسوخ ليس للعلم بمضمونه كثير نفع، والمختلف فيه لا يعلم الحقّ منه قطعا إلاّ المعصوم، وكذا المتشابه لقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‌ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»[1].

والثاني: إشارة إلى العلم بكيفيّة العمل وجميع الأمور المعتبرة فيه شرعاً من غير إفراط وتفريط.

والثالث: إشارة إلى العلم بالأحاديث التي بعضها في التوحيد وما يليق به، وبعضها في المعاد وما يناسبه، وبعضها في الأخلاق وما يتعلّق بها، وبعضها في الأحكام وما يعتبر فيها، وبعضها في عادات الرّسول والأئمة صلّى الله‌ عليه وعليهم أجمعين، ويحتمل أن يكون الثاني إشارة إلى العلم بواجبات الأعمال البدنيّة والقلبيّة التي تشمل الأخلاق والمعارف الاُصوليّة، وأن يكون الثالث


--------------------------------------------------

1. سورة آل عمران 3: 7 .


(519)

إشارة إلى العلم بمستحبّاتها.

ووجه حصر العلم في الثلاثة ظاهر، لأنّ العلوم النافعة إمّا متعلّقة باُصول العقائد أو بفروعها، والثانية إمّا متعلّقة بأعمال الجوارح أو بأفعال القلب من محاسن الأخلاق ومقابحها والإعتبار والإتعاظ، وجميع ذلك مندرج في الثلاثة المذكورة.

«وما خلاهنّ فهو فضل» أى: زيادة لا خير فيه في الآخرة سواء كان ممدوحاً في نفسه كعلم الرياضي والهندسة ونحوهما، أو مذموما كعلم السحر والشعبدة ونحوهما، وعلم بعض مسائل الحساب والعربيّة والمنطق في هذا الحصر داخل في الثلاثة المذكورة بالعرض على سبيل المبدئيّة، فلا ينافي ما ذكرناه آنفاً، وإنّما قال: «وما خلاهنّ فضل» ولم يقل حرام لوجوه:

الأوّل: أنّ الحكم بالحرمة ليس كلّياً.

الثاني: إنّ للحاكم أن يمنع الناس عن الإشتغال بما لا ينفعهم كثيراً برفق وقول ليّن.

الثّالث: الإشارة إلى أنّ العلم من حيث إنّه علم ليس بحرام وإن تعلّقت به الحرمة والذم، فإنّما هو باعتبار العمل والآثار المقصودة منه، كعلم السحر والاعداد والموسيقى والنجوم وأمثالها.

أمّا الثلاثة الأوّل: فأعظم منافعها هو الإضرار بالغير والتفريق بين الأحبّة والعناد، وأمّا علم النجوم فالزجر عنه مع قوله تعالى: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لأِّولِى الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله‌ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»[1] وقوله تعالى: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ


--------------------------------------------------

1. سورة آل عمران 3: 190ـ191 .


(520)

بِحُسْبَانٍ»[1] وقوله تعالى «وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ»[2] وقوله تعالى «وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ»[3] فلوجوه ذكروه:

الأوّل: أنّ العلم بالنجوم وأحكامها وعددها على ما هي عليه في نفس الأمر، لا يحصل إلاّ للأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام، وأمّا غيرهم فلا يحصل لهم إلاّ ظنّ وتخمين، فيكون الحكم بها حكماً بظنّ، بل بجهل، فيكون ذمّه من جهة أنّه جهل لا من جهة أنّه علم، ويدلّ عليه بعض الأحاديث المرويّة في هذا الكتاب كحديث القلنسوة في كيفيّة دور الفلك، أو حديث المنجّم مع أمير المؤمنين عليه‌السلام، وحديث الزهرة.

الثاني: أنّ الخائض فيه ربّما يقع في نفسه، أنّ الكواكب والأوضاع الفلكيّة هي المؤثّرات والآلهة المدبّرات حقيقة، فيلتفت إليها ويغفل قلبه عن بارئها وصانعها.

الثالث: أنّ فيه غموضاً ودقّة، والخوض في علم لا يدركه الخائض مذموم، كما ورد النهي عن تعليم العلم لغير أهله، وعن الخوض في مسئلة القدر.

وبالجملة كلّ علم ورد النهى عنه فإنّما هو لقلّة نفعه أو لقبح أثاره او لعدم إدراكه.[4]

وقال الفيض الكاشاني:

بيان: علاّمة أي: كثير العلم والتاء فيه للمبالغة. «لا يضرّ من جهله» نبّههم على أنّه ليس بعلم في الحقيقة إذ العلم في الحقيقة هو الذي يضرّ جهله في المعاد، وينفع إقتناؤه يوم التناد، لا الذي يستحسنه العوام ويكون مصيدة للحطام، ثمّ بيّن


--------------------------------------------------

1. سورة الرحمن 55: 5 .

2. سورة يس 36: 39 .

3. سورة الأعراف 7: 54، وسورة النحل 16: 11 .

4. شرح اُصول الكافي 2: 24ـ28 .


(521)

لهم العلم النّافع المحثوث عليه في الشّرع وحصره في ثلاثة.

وكان الآية المحكمة إشارة إلى أصول العقائد، فإنّ براهينها الآيات المحكمات من العالم أو من القرآن وفي القرآن في غير موضع «إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَات» أو «لاَيَة» حيث يذكر دلائل المبدأ والمعاد والفريضة العادلة، إشارة إلى علوم الأخلاق التي محاسنها من جنود العقل ومساوئها من جنود الجهل، فإنّ التحلّي بالأوّل، والتخلّي عن الثاني فريضة، وعدالتها كناية عن توسّطها بين طرفي الإفراط والتفريط، «والسنّة القائمة» إشارة إلى شرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام، وانحصار العلوم الدينيّة في هذه الثلاثة معلوم، وهي التي جمعها هذا الكتاب وهي مطابقة على النشئات الثلاث الإنسانيّة، فالأوّل: على عقله، والثاني: على نفسه، والثالث: على بدنه، بل على العوالم الثلاثة الوجوديّة التي هي عالم العقل، والخيال، والحسّ، فهو فضل زائد لا حاجة إليه، أو فضيلة ولكنّه ليس بذاك.[1]

وقال العلاّمة المجلسي:

قوله صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: ما هذا لم يقل من هذا تحقيراً أو إهانة وتأديباً له.

قوله: «علاّمة» العلاّمة صيغة مبالغة أي: كثير العلم، والتاء للمبالغة.

قوله صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: «وما العلاّمة؟» أي: ما حقيقة علمه الذي به اتّصف بكونه علامة؟ وهو أيّ نوع من أنواع العلاّمة، والتنوع باعتبار أنواع صفة العلم، والحاصل ما معنى العلاّمة الذي قلتم وأطلقتم عليه؟

قوله صلوات الله‌ عليه: «إنّما العلم» أي: العلم النافع ثلاثة: «آية محكمة» أي: واضحة الدلالة، أو غير منسوخة، فإنّ المتشابه والمنسوخ لا ينتفع بهما كثيراً من


--------------------------------------------------

1. كتاب الوافي 1: 134 .


(522)

حيث المعنى «أو فريضة عادلة» قال في النهاية: أراد العدل في القسمة أي: معدّلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنّة من غير جور، ويحتمل أن يريد أنّها مستنبطة من الكتاب والسنّة، فتكون هذه الفريضة تعدل بما أُخذ عنهما، إنتهى.

والأظهر أنّ المراد، مطلق الفرائض، أي: الواجبات، أو ما علم وجوبه من القرآن، والأوّل أظهر لمقابلة الآية المحكمة ووصفها بالعادلة، لأنّها متوسّطة بين الإفراط والتفريط، أو غير منسوخة، وقيل: المراد بها ما اتّفق عليه المسلمون، ولا يخفى بعده، والمراد بالسنّة: المستحبّات أو ما علم بالسنّة وإن كان واجبا، وعلى هذا، فيمكن أن يخصّ الآية المحكمة بما يتعلق بالاُصول أوغيرهما من الأحكام، والمراد بـ«القائمة»، الباقية غير المنسوخة، وما خلاهنّ فهو فضل، أي: زائد باطل لا ينبغي أن يضيّع العمر في تحصيله أو فضيلة وليس بضروريّ.[1]

الحديث 1567: محمّد بن الحسين وغيره، عن سهل، عن محمّد بن عيسى، ومحمّد بن يحيى، ومحمّد بن الحسين جميعاً، عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر و[2]عبد الكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد الله‌ عليه‌السلام، قال: أوصى موسى عليه‌السلام إلى يوشع بن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون، ولم يوص إلى ولده ولا إلى ولد موسى إنّ الله‌ تعالى له الخيرة، يختار من يشاء، ممّن يشاء، وبشّر موسى ويوشع بالمسيح عليه‌السلام، فلمّا أن بعث الله‌ عزّ وجلّ المسيح عليه‌السلام قال المسيح لهم: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد من ولد إسماعيل عليه‌السلام يجيء بتصديقي وتصديقكم، وعذري وعذركم، وجرت من بعده في الحواريّين في المستحفظين، وإنّما سمّاهم الله‌ تعالى المستحفظين، لأنّهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الّذي يعلم به علم كلّ شيء الّذي كان مع


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 1: 102 .

2. في الوسائل: «عن» بدل «و».


(523)

الأنبياء صلوات الله‌ عليهم يقول الله‌ تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ»[1] الكتاب الاسم الأكبر، وإنّما عرف ممّا يدعى الكتاب التّوراة والإنجيل والفرقان فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم عليهم‌السلام، فأخبر الله‌ عزّ وجلّ «إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»[2] فأين صحف إبراهيم، إنّما صحف إبراهيم الاسم الأكبر، وصحف موسى الاسم الأكبر، فلم تزل الوصيّة في عالم بعد عالم حتّى دفعوها إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم .

فلمّا بعث الله‌ عزّ وجلّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أسلم له العقب من المستحفظين، وكذّبه بنو إسرائيل ودعا إلى الله‌ عزّ وجلّ وجاهد في سبيله، ثمّ أنزل الله‌ جلّ ذكره عليه أن أعلن فضل وصيّك، فقال: ربّ إنّ العرب قوم جفاة، لم يكن فيهم كتاب، ولم يبعث إليهم نبيّ، ولا يعرفون فضل نبوّات الأنبياء عليهم‌السلام ولا شرفهم، ولا يؤمنون بي إن أنا أخبرتهم بفضل أهل بيتي، فقال الله‌ جلّ ذكره «وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ»[3] «وَ قُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»[4] فذكر من فضل وصيّه ذكراً، فوقع النّفاق في قلوبهم، فعلم رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ذلك وما يقولون، فقال الله‌ جلّ ذكره: يا محمّد «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ»[5] «فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله‌ يَجْحَدُونَ»[6] ولكنّهم يجحدون بغير حجّة لهم، وكان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم يتألّفهم ويستعين ببعضهم على بعض، ولا يزال يخرج لهم شيئاً في فضل وصيّه، حتّى


--------------------------------------------------

1. كذا في النسخ وفي المصحف «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنزَلْنَا...» الآية في سورة الحديد 57: 25 .

2. سورة الأعلي 87: 18ـ19 .

3. سورة الحجر 15: 88، سورة النحل 16: 127 ، وسورة النمل 27: 70 .

4. سورة الزخرف 43: 89 .

5. سورة الحجر 15: 97 .

6. سورة الأنعام 6: 33 .


(524)

نزلت هذه السّورة، فاحتجّ عليهم حين أعلم بموته، ونعيت إليه نفسه، فقال الله‌ جلّ ذكره: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَ إِلَى رَبِّكَ فَارْغَب»[1].

يقول: إذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيّك، فأعلمهم فضله علانية، فقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ـ ثلاث مرّات ـ ثمّ قال: لأبعثنّ رجلا يحبّ الله‌ ورسوله، ويحبّه الله‌ ورسوله، ليس بفرّار يعرّض بمن رجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه وقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: عليّ سيّد المؤمنين، وقال: عليّ عمود الدّين، وقال: هذا هو الّذي يضرب النّاس بالسّيف على الحقّ بعدي، وقال: الحقّ مع عليّ أينما مال، وقال: إنّي تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله‌ عزّ وجلّ، وأهل بيتي عترتي، أيّها النّاس اسمعوا وقد بلّغت، إنّكم ستردون عليّ الحوض فأسألكم عمّا فعلتم في الثّقلين، والثّقلان: كتاب الله‌ جلّ ذكره وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.

فوقعت الحجّة بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وبالكتاب الّذي يقرأه النّاس، فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام ويبيّن لهم بالقرآن «إِنَّمَا يُرِيدُ الله‌ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»[2] وقال عزّ ذكره: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْ‌ءٍ فَأَنَّ للّه‌ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى»[3] ثمّ قال: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ»[4] فكان عليّ عليه‌السلام وكان حقّه الوصيّة الّتي جعلت له، والاسم الأكبر، وميراث العلم، وآثار علم النّبوّة فقال: «قُل لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»[5] ثمّ قال: «وَ إِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ»[6].


--------------------------------------------------

1. سورة الشرح 94: 7ـ8 .

2. سورة الأحزاب 33: 33 .

3. سورة الأنفال 8: 41 .

4. سورة الإسراء 17: 26 .

5. سورة الشورى 42: 23 .

6. سورة التكوير 81: 8ـ9 .


(525)

يقول: أسألكم عن المودّة الّتي أنزلت عليكم فضلها، مودّة القربى بأيّ ذنب قتلتموهم، وقال جلّ ذكره: «فَسْـئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»[1] قال: الكتاب [هو] الذّكر، وأهله آل محمّد عليهم‌السلام أمر الله‌ عزّ وجلّ بسؤالهم ولم يؤمروا بسؤال الجهّال، وسمّى الله‌ عزّ وجلّ القرآن ذكراً، فقال تبارك وتعالى: «وَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»[2] وقال عزّ وجلّ: «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ»[3] وقال عزّ وجلّ: «أَطِيعُوا الله‌ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ»[4] وقال عزّ وجلّ: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»[5] فردّ الأمر ـ أمر النّاس ـ إلى أولي الأمر منهم الّذين أمر بطاعتهم وبالرّدّ إليهم.

فلمّا رجع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم من حجّة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام، فقال: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله‌ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله‌ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»[6] فنادى النّاس فاجتمعوا، وأمر بسمرات فقمّ شوكهنّ ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: [يا] أيّها النّاس من وليّكم وأولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله‌ ورسوله، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه ـ ثلاث مرّات ـ فوقعت حسكة النّفاق في قلوب القوم وقالوا: ما أنزل الله‌ جلّ ذكره هذا على محمّد قطّ وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه.


--------------------------------------------------

1. سورة النحل 16: 43 ، وسورة الأنبياء 21: 7 .

2. سورة النحل 16: 44 .

3. سورة الزخرف 43: 44 .

4. سورة النساء 4: 59 .

5. سورة النساء 4: 83 .

6. سورة المائده 5: 67 .


(526)

فلمّا قدم المدينة أتته الأنصار فقالوا: يا رسول الله‌ إنّ الله‌ جلّ ذكره قد أحسن إلينا وشرّفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا، فقد فرّح الله‌ صديقنا وكبّت عدوّنا وقد يأتيك وفود، فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدوّ، فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا حتّى إذا قدم عليك وفد مكّة وجدت ما تعطيهم، فلم يردّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم عليهم شيئاً، وكان ينتظر ما يأتيه من ربّه فنزل جبرئيل عليه‌السلام وقال: «قُل لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»[1] ولم يقبل أموالهم، فقال المنافقون: ما أنزل الله‌ هذا على محمّد وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه ويحمل علينا أهل بيته يقول أمس: من كنت مولاه فعليّ مولاه واليوم: «قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى» ثمّ نزل عليه آية الخمس فقالوا: يريد أن يعطيهم أموالنا وفيئنا، ثمّ أتاه جبرئيل، فقال: يا محمّد إنّك قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك، فاجعل الاسم الأكبر، وميراث العلم وآثار علم النّبوّة عند عليّ عليه‌السلام، فإنّي لم أترك الأرض إلاّ وليّ فيها عالم تعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي، ويكون حجّة لمن يولد بين قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخر، قال: فأوصى إليه بالاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النّبوّة، وأوصى إليه بألف كلمة وألف باب، يفتح كلّ كلمة وكلّ باب ألف كلمة وألف باب.

المصادر: الكافي 1: 293، كتاب الحجّة، باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام، ح3، وسائل الشيعة 27: 66، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب7 ح13، قطعة منه، جامع أحاديث الشيعة 1: 285، أبواب المقدّمات، ب4 باب حجيّة فتوى الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم‌السلام بعد الفحص، ح 196.

الشرح: قال المازندراني:

قوله «قال أوصى موسى إلى يوشع بن نون» إعلم أنّ المقصود من هذا


--------------------------------------------------

1. سورة الشوري 42: 23 .


(527)

الحديث بيان أمور:

منها: أنّ الوصيّة قد جرت بأمر الله‌ تعالى من نبىّ إلى آخر، وهكذا إلى أن وصلت إلى خاتم الأنبياء وعترته الطاهرين، وليس لإرادة الخلق واختيارهم مدخل في الخلافة والإمامة، وبذلك يبطل اختيار الجهلة إيّاها للثلاثة.

ومنها: أنّ الكتب الإلهيّة التى أنزلها الله‌ تعالى إلى أنبيائه السابقين كانت محفوظة عنده صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فلا بدّ أن يكون محفوظة بعده عند خليفته، وإذ ليست عند غير عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالإتفاق، فلا بدّ أن يكون عنده.

ومنها: أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كان لا يزال يخرج شيئاً بعد شيء صريحاً وكناية واشارة في فضل أهل بيته ووصيّه، حتّى ملأ به أسماع الأمّة وقلوبهم، لئلاّ يكون لهم بعده مجال لإنكار فضل أهل البيت وتقدّمهم عليهم.

ومنها: أن الله‌ تعالى لا يزال ينزّل آية بعد آية في فضل أهل بيت نبيّه، حتّى أن قرب انقضاء مدّته صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم فأمره بإعلان فضل وصيّه وإظهار ولايته وخلافته على رؤوس الخلائق، وأوعده بأنّه إن لم يفعل ذلك لم يبلّغ رسالته، فأجاب صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أمر ربّه وبلّغه كما أمره به.

ومنها: أنّ العرب بعد هذه المراتب لشدّة قلوبهم وكمال قربهم بالجاهليّة وميلهم إلى الدنيا وقعت حسكة النفاق في صدورهم، حتّى فعلوا ما فعلوا.

ومنها: أنّه تعالى أمر نبيّه بعد استكمال أيّامه، أن يجعل جميع ما معه من العلم وميراثه وأثار علم النبوّة عند عليّ عليه‌السلام ففعله ومضى.

قوله: «بتصديقي وتصديقكم» أي: بتصديقي في الرسالة وصحّة الولادة ردّا لليهود كما نطقت به سورة المائدة في قوله تعالى: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ»[1] إلى غير ذلك من


--------------------------------------------------

1. سورة المائده 5: 111 .


(528)

الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة.

قوله: «وعذري وعذركم» أي: بمحو إساءتي وإساءتكم وحقيقة عذرت عذراً محوت الإساءة وطمستها، وفيه إشارة إلى أنّ الأنبياء واُمّتهم يحتاجون إليه في نيل القرب ورفع الدرجة، أو المصدر وهو العذر، بمعنى العاذر وهو الأثر، أي: يجيء بأثري وأثركم أشار بذلك إلى قرب ظهوره وإلى أنّه لا نبيّ بعده إلاّ هو صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم .

قوله: «وجرت من بعده في الحواريّين في المستحفظين» الظرف الأخير بدل ممّا قبله، أو تفسير وبيان له، وفاعل جرت الوصيّة المفهومة من الكلام السابق، وحواري النبيّ خلصانه وأنصاره، أي: الذين أخلصوا ونقوا من كلّ عيب.

قوله: «وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ»[1] الميزان ما يوزن به الشيء ويعرف به قدره، وشاع إطلاقه على هذا الذي له لسان وعمود وكفتان، والمراد به هنا إمّا هذا أو العدل أو الشريعة أو الكتاب على أن يكون العطف للتفسير.

قوله: «وإنّما عرف ممّا يدعى الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان» يعني أنّ المعروف بين الناس ممّا يدعى باسم الكتاب السماوي في هذا العصر إنّما هو هذه الثلاثة دون غيرها، ولم يذكر الزبور، لأنّه غير معروف أيضاً بينهم، وفي جملة الكتب السماوية كتاب نوح، وكتاب صالح، وكتاب شعيب، وكتاب إبراهيم، وكتاب داود، ولم يذكره لكون اسمه غير معروف بين الناس فقد أخبر الله‌ تعالى «إِنَّ هَذَا» أي ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم «لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى»[2] فأين صحفهما وهل توجد عند غيره صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، وإنّما صحفهما الإسم الأكبر الذي بلغ يداً عن يد، وكابراً عن كابر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وكان محفوظاً عنده،


--------------------------------------------------

1. سورة الحديد 57: 25 .

2. سورة الأعلى 87: 18 ـ 19 .


(529)

وهو دفعه عند انقضاء مدّته إلى المستحفظين من عقبه، وبالجملة الكتب السماوية المشهورة وغيرها إذا حفظها الله‌ تعالى بوضعها عند الحفظة، حتّى دفعوها إلى خاتم الأنبياء، وجب أن لا يضيّعها بعده بدفعها إلى خليفته، وإذا لم تكن عند غير عليّ بن أبى طالب عليه‌السلام وجب أن تكون محفوظة عنده، يدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن أهل العصمة عليهم‌السلام من أنّ الله‌ تعالى لم يرفع العلم الذي أنزله من لدن آدم إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم بل هو مخزون عند أهله.

قوله: «اسلم له العقب من المستحفظين» «من» إمّا بيانيّة أو ابتدائيّة، والمستحفظون على الأوّل أهل البيت عليهم‌السلام، وعلى الثانى أعقاب العلماء الماضين وأفضل الفريقين عليّ بن أبى طالب عليه‌السلام .

وقوله: «وكذّبه بنو إسرائيل» هم أولاد يعقوب عليه‌السلام وإسرائيل لقبه، ومعناه بالعبرانيّة صفوة الله‌، وقيل عبد الله‌.

قوله: «جفاة» الجفاة جمع الجافى من الجفاء بالمدّ، وهو خلاف البرّ، وفي المُغرِب الجفاء غالب على أهل البدو، وهو الغلظ في العشرة والخرق في المعاملة وترك الرفق.

قوله: «لم يكن فيهم كتاب» إستيناف كأنّه قيل: ما بالهم يكونون جفاة؟ فأجاب بما ذكر، فإنّ الطبائع البشريّة والنفوس الناقصة مائلة إلى الجفاء، فإذا لم يوجد فيهم زاجر من الكتاب والسنّة النبويّة، يأخذ الجفاء حدّ الرسوخ، فيصير كالطبيعة الثانية، أعاذنا الله‌ منه.

قوله: «وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ»[1] لمّا علم الله‌ تعالى أنّ نفسه المقدّسة محزونة لما يفوّتهم من السعادات الدنيويّة والأخرويّة بالجفاء وترك قبول النصيحة، وذلك


--------------------------------------------------

1. سورة الحجر 15: 88، النحل 16: 127 ، وسورة النمل 27: 70 .


(530)

لكمال شفقته على الأمّة، تسلاّه وأدّبه بقوله: «وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ»[1] فإنّ عليك البلاغ وعلينا الحساب، فإذا بلّغت ولم يسمعوا، فلا تجادلهم «وَقُلْ سَلاَمٌ»[2] على عباد الله‌ الصالحين «فَسَوْفَ يَعلَمُونَ»[3] في الآخرة وبال أمركم وسوء عاقبتكم.

قوله: «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ»[4] من الطعن في نصب عليّ عليه‌السلام وذكر فضله، واللام جواب القسم، وقد لتحقيق الفعل وتكثيره، والآية في آخر سورة حجر.

قوله: «فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ»[5] أي في الحقيقة لعلمهم بأنّك صادق فيما ذكرت من فضل وصيّك، والآية في سورة الأنعام وفيها هكذا «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله‌ يَجْحَدُونَ»[6] أي: ينكرونها، والآيات هم الأوصياء كما مرّ عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى: «وَ مَا تُغْنِى الاْيَاتُ وَ النُّذُرُ»[7] قال: الآيات هم الأئمّة، والنذر هم الأنبياء صلوات الله‌ عليهم أجمعين، وعن أبى جعفر عليه‌السلام في قول الله‌ تعالى: «كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا»،[8] قال: يعني الأوصياء كلّهم. وإنّما وضع الظالمين موضع الضمير للتنصيص بظلمهم في إنكار آياته وتمرّنهم على جحدها.

قوله: «لكنهم يجحدون بغير حجّة» عقلاً ونقلاً، بل بمجرّد الحسد والعناد وحبّ الجاه والرئاسة مع علم جلّهم، بل كلّهم على حقيقته وحقيقة الرسول بما قال فيه.


--------------------------------------------------

1. سورة الحجر 15: 88، سورة النحل 16: 127 ، وسورة النمل 27: 70 .

2 ، 3. سورة الزخرف 43: 89 .

4. سورة الحجر 15: 97 .

5 ، 6. سورة الأنعام 6: 33 .

7. سورة يونس 10: 101 .

8. سورة القمر 54: 42 .


(531)

قوله: «يتألّفهم» أي: يوقع الألفة بينهم بالنصائح الشافية والمواعظ الحسنة، ولكن من أضلّه الله‌ فلا هادي له.

قوله: «ويستعين ببعضهم على بعض» في الجهاد، وإجراء الحدود والأحكام ولم يطردها مع علمه بأقوالهم وعقائدهم لضعف الإسلام وقلّة أهله حينئذٍ.

قوله: «حتّى نزلت هذه السورة» أي: ألم نشرح، وفي بعض النسخ «هذه الآية» وهي آية «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ»[1].

قوله: «فإذا فرغت فانصب علمك» العلم، العلامة وهي ما يعلم به الطريق، والمراد به عليّ ابن أبى طالب عليه‌السلام إذ به يعلم طريق الشرع ومنهج التوحيد.

قوله: «فقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: من كنت مولاه» هذا أيضاً مذكور في طرق العامّة بأسانيد متعدّدة مع زيادة وقد ذكرنا بعضها آنفاً.

قوله: «ثمّ قال لأبعثنّ رجلاً» هذا أيضاً رواه العامّة من طرق متكثّرة، منها: ما رواه مسلم بإسناده عن سلمة بن الأكوع قال: كان عليّ رضى‌الله‌عنه قد تخلّف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم في خيبر وكان رمداً، فقال: أنا أتخلّف عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فخرج عليّ فلحق بالنبىّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فلمّا كان مساء الليل الّتي فتحها الله‌ في صبيحتها، قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: لأعطينّ الراية ـ أو ليأخذنّ الراية ـ غداً رجلاً يحبّه الله‌ ورسوله ـ أو قال: يحبه الله‌ ورسوله ـ ويفتح الله‌ عليه. وإذا نحن بعليّ وما نرجوه، فقالوا: هذا عليّ فأعطاه رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم الراية ففتح الله‌ عليه.

ومنها: رواه أيضاً بإسناده عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال يوم خيبر: لأعطينّ هذه الراية رجلاً يفتح الله‌ على يديه يحبّ الله‌ ورسوله، ويحبّه الله‌ ورسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها، قال: فلمّا


--------------------------------------------------

1. سورة الشرح 94: 7 .


(532)

أصبح الناس غدوا على رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها، قال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله‌ تشتكى عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم في عينيه ودعى له فبرأ، حتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال عليّ: يا رسول الله‌ أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا، قال: أنفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله‌ فيه، فو الله‌ لإن يهدي الله‌ بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.

ومنها: ما رواه أيضاً عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أنّه قال يوم خيبر: لأعطينّ هذه الراية رجلاً يحبّ الله‌ ورسوله يفتح الله‌ على يديه، قال عمر بن الخطّاب: ما أحببت الأمارة إلاّ يومئذٍ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم عليّ بن أبى طالب، فأعطاه إيّاها، وقال له: إمش ولا تلتفت، حتّى يفتح الله‌ عليك، قال: فسار عليّ شيئاً، ثمّ وقف ولم يلتفت، فصرخ يا رسول الله‌ علا ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله‌، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماؤهم، وأموالهم إلاّ بحقّهم وحسابهم على الله‌.

قال عياض: هذا من أعظم فضائل عليّ وأكرم مناقبه، وفي الحديث من علامات نبوّته علامتان: قوليّة وفعليّة. فالقوليّة: يفتح على يديه، فكان كذلك. والفعليّة: بصقه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم في عينه وكان رمداً، فبرأ من ساعته، وفي قوله: إمش ولا تلتفت حضّ على التقدّم وترك التأنّى والإلتفات، هنا النظر يمنة ويسرة، وقد يكون على وجه المبالغة في التقدّم، ويدلّ عليه قوله: فسار عليّ فوقف ولم يلتفت، وقد يكون معنى لا تلتفت لا تنصرف، يقال: إلتفت أي إنصرف، ولفته أنا صرفته، وقوله: يدوكون، معناه يخوضون، يقال: هم في دوكة أي، في اختلاط وخوض، وقوله لإن يهدي الله‌ بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، حضّ عظيم على تعليم العلم وبثّه في الناس وعلى الوعظ والتذكير، والنعم الإبل،


(533)

وحمرها خيارها، يعني أنّ ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النفيسة، لأنّ ثواب الصدقة ينقطع بموتها وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث: إذا مات المرء إنقطع عمله إلاّ من ثلاثة: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به بعد موته. وفي قوله: أدعهم إلى الإسلام وجوب الدعوة قبل القتال.

وقال الآبي: وفي الإكتفاء لأبي الربيع قال أبو رافع رضى‌الله‌عنه مولى رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله خرجت مع عليّ رضى‌الله‌عنه حين أعطاه رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم الراية، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه مقاتلهم فقتله، فتناول عليّ رضى‌الله‌عنه باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتّى فتح الله‌ عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، ولقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا منهم، نجهد أن نقلّب ذلك الباب فما نقلّبه، ولا يخفى عليك أنّ قول عمر: تساورت، أي تطاولت، وقوله في حديثهم الآخر حرصت، وقوله: «ما أجببت الإمارة إلاّ يومئذٍ» هو الذي حداه إلى فعل ما فعل فهلك وأهلك.

قوله: «معرض» أي: هو معرض من التعريض وهو التصريح والفرق بينه وبين الكناية، أنّ التعريض تضمين الكلام دلالة ليس لها فيه ذكر، كقولك: ما أقبح البخل، تعرض بأنّه بخيل والكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف، أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم كقولك: فلان طويل النجاد وكثير رماد القدر. يعني أنّه طويل القامة ومضياف، وفي بعض النسخ «معرضاً» بالنصب على الحال وهو أظهر.

قوله: «بمن رجع» يجبّن أصحابه ويجبّنونه هو الأوّل، والثانى حيث رجعوا عن حرب أهل خيبر مغلوبين ينسب بعضهم إلى بعض الجبن وهو خلاف الشجاعة يقال: جبّنته تجبيناً، أي: نسبته إلى الجبن.

قوله: «وقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: عليّ سيّد المؤمنين» لأنّه أكثرهم علماً وحلماً وأشهرهم


(534)

سخاءً وسماحةً، وأقواهم عملاً وشجاعةً، وأقدمهم إسلاماً وإيماناً، وأجلّهم نسباً وقدراً، وأشرفهم تقدّساً وخلقاً، فهو بالرئاسة أولى وأقدم، وبالسياسة أجدر وأعلم.

قوله: «وعليّ عمود الدين» لأنّ الدين يقوم به كما يقوم البيت بالعمود.

قوله: «وقال: هذا هو الّذي يضرب الناس بالسيف) إشارة إلى قتاله مع الناكثين، والقاسطين، والمارقين، أمّا الناكثون: فهم أهل الجمل وطلحة وزبير، وأمّا القاسطون: فهم معاوية وأصحابه، وأمّا المارقون: فهم أهل النهروان.

قوله: «وقال: الحقّ مع عليّ أينما مال» قال صاحب الطرائف: روى أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتاب المناقب في عدّة طرق، فمنها: بإسناده إلى محمّد بن أبى بكر قال: حدّثني عائشة أنّ رسول الله‌ عليه‌السلام قال: الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

قوله: «إنّى تارك فيكم أمرين» الخبر متواتر إتّفقت الأمّة على قوله ونقله، وفيه دلالة على كمال فضلهم والرجوع إليهم في القول والعمل، كما وجب الرجوع إلى القرآن، ولا يجوز مخالفتهم أصلاً كما لا يجوز مخالفة الكتاب، وإنّما فسّر أهل البيت بالعترة وهى الأولاد والأقارب، لئلاّ يتوهّم أنّ المراد نساؤه، وهذا نصّ صريح في إمامتهم وخلافتهم ولا شيء أبلغ منه كما يقول الأمير: إذا أراد الخروج من قريته لأهلها: إنّى تارك فيكم فلاناً يرعاكم فاسمعوا له وأطيعوه، فإنّه صريح عند العقل الصحيح والطبع السليم أنّه استخلفه وأقامه مقامه.

قوله: «اسمعوا وقد بلّغت» أي: بلّغت ما وجب عليّ من الأمر بحفظ كتاب الله‌ والتمسّك بأهل بيتي.

قوله: «والثقلان كتاب الله‌ تعالى وأهل بيتي» اتّفقت العامّة والخاصّة على مضمون هذا الحديث وصحّته، وهذا صريح في المطلب، فإنّه لا يشكّ عاقل أنّ


(535)

الثقلين يقومان مقامه بعده في أمّته، وأنّ التّمسّك بهما أمان من الضلال، وقد مرّ أنّ المراد من أهل البيت العترة عليهم‌السلام وقد صرّحوا أيضاً بذلك، ففي صحيح مسلم قال الحصين لزيد بن أرقم وهو راوي الحديث المذكور مع زيادة: يا زيد ! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

وقال حسّان لزيد بن أرقم: أنساؤه من أهل بيته؟ قال: لا، وأيم الله‌ أنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وأمّها وقومها. أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

وقال عياض: «معنى قول زيد، نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته الذين منعوا الصدقة، أنّ نساؤه من أهل مسكنه وليس المراد إنّما أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده، أي: الذين منعتهم خلفاء بني أميّة صدقتهم التي خصّهم الله‌ سبحانه بها وكانت تفرّق عليهم في أيّامه عليه‌السلام، ويحتمل أن يعني الذين حرموا الصدقة، التي هي من أوساخ الناس، وأمّا وجه تسميتهما بالثقلين، فقال محي الدين البغويّ: سمّاهما ثقلين، لأنّ العمل والأخذ بهما ثقيل، والعرب تقول لكلّ شيء نفيس ثقيل، فسمّاهما ثقلين، لعظمهما وتفخيم شأنهما، ومثله قال إبن الأثير في النهاية، وقال الزمخشري في الفائق: قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله خلّفت فيكم الثقلين كتاب الله‌ وعترتي. الثقل المتاع المحمول على الدابة وإنّما قيل للجنّ والإنس الثقلان، لأنّهما قطّان الأرض فكأنّهما ثقلاها، وقد شبّه بهما الكتاب والعترة في أنّ الدين يستصلح بهما ويعمّر كما عمّرت الدنيا بالثقلين، والعترة العشيرة، وسمّيت بالعترة وهي المرزنجوشة، لأنّها لا تنبت إلاّ شعباً متفرّقة.

قوله: «فلا تسبقوهم فتهلكوا» فمن سبقهم من الخلفاء الثلاثة الذين خلّفوا وغيرهم، فقد هلكوا وأهلكوا من تبعهم ولا تعلموهم، فإنّهم أعلم منكم، لأنّهم


(536)

مهبط الوحي، لكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم منهم وفيهم، وهم ملازموه ومعاشروه، وفيهم باب مدينة العلم وهم أخصّ الخلق به وأقربهم إليه نسباً ومنزلة، وأفضلهم لديه علماً وعملاً مع صفاء نفوسهم وضياء عقولهم وتقدّس ذواتهم، وقد صرّحوا بأنّ عليّا عليه‌السلام أعلم من جميع الاُمّة وفيه دلالة واضحة على أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم من جميع الاُمّة، والعقل الصحيح يحكم بذلك أيضاً. وفي حذف مفعول التعليم دلالة على التعميم.

قوله: «إِنَّمَا يُرِيدُ الله‌» الآية[1] قد مرّ تفسيره مفصّلا فلا نعيده.

قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْ‌ءٍ فَأَنَّ للّه‌ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى»،[2] المشهور في أن للّه‌ خمسه، فتح الهمزة على حذف المبتدأ، أي فحكمه أنّ للّه‌ خمسه، وقيل: على حذف الخبر، أي: فثابت أنّ للّه‌ خمسه، وقرى‌ء بكسرها أيضاً والمعنى أنّ الذي أخذتموه من مال الكفّار قهراً، ممّا يطلق عليه إسم الشيء قليلاً كان أو كثيراً، فحكمه أنّ للّه‌ خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وتقسيمه إلى الأقسام الستّة عندنا ثابت إلى يوم القيامة، والأقسام الثلاثة، أعني: سهم الله‌، وسهم الرسول، وسهم ذي القربى للإمام بعد الرسول، وقال أبو حنيفة: تسقط هذه الأقسام الثلاثة بعده ويصرف الكلّ إلى الثلاثة الباقية، ولا يخفى ما في تخصيص ذي القربى بالذكر وإعادة اللام وتشريكه مع الرسول في التساهم من التعظيم والإهتمام بشأنه.

قوله: «فكان عليّ عليه‌السلام » أي: فكان عليّ عليه‌السلام ذا القربى على حذف الخبر بقرينة المقام.

قوله: «والإسم الأكبر» هذا وما عطف عليه بالنصب، عطف على الوصيّة وقد


--------------------------------------------------

1. سورة الأحزاب 33: 33 .

2. سورة الأنفال 8: 41 .


(537)

مرّ تفسير هذه الأمور.

قوله: «قُل لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»[1] أي: قل لا أسألكم على ما اتعاطاه من التبليغ، والبشارة، والهداية أجراً ونفعاً إلاّ المودّة في أهل بيتي. قال القاضي: روي أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول الله‌ من قرابتك؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما. وفي جعل أجر هداية الأمّة وتبليغ الرسالة الذي لا منتهى له مودّة ذي القربى، وطلبها منهم بأمر الله‌ تعالى دلالة واضحة على كمال رفعتهم وعلوّ منزلتهم ولزوم كون مودّتهم في أكمل المراتب وأشرفها.

قوله: «وَ إِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ»[2] قال في مجمع البيان: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله‌ عليهماالسلام «وإذا المودة» بفتح الواو[3] وروي ذلك من ابن عباس أيضاً والمراد بذلك الرحم والقرابة، وأنّه يسأل قاطعها عن سبب قطعها، وروي عن ابن عباس أنّه هو من قتل في مودّتنا أهل البيت، وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال: يعني قرابة رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ومن قتل في جهاد، وفي رواية أخرى من قتل في مودّتنا


--------------------------------------------------

1. سورة الشورى 42: 23 .

2. سورة التكوير 81: 8 .

3. وقوله: «وإذا المودة بفتح الواو» راوي هذا الحديث عبد الحميد بن أبي الديلم ضعيف مطعون لا يعتدّ بما رواه وليس هذا الاحتجاج شيئاً يمكن اسناده إلى الإمام المعصوم عليه‏السلام لأنّه إن كان في مقام الاحتجاج على منكري الإمامة فظاهر أنّهم لا يقرءون المودّة بفتح الواو حتّى يثبت الحجّة عليهم بمسلّماتهم، بل هم متّفقون على قراءته بصيغة اسم المفعول من الوأد وإن كان في مقام الكلام مع المعترفين بإمامته فإنّهم كانوا يقبلون منه القراءة الغير المعروفة لاعترافهم بصدقه وعصمته وحجّية قوله لكن لا يناسبه سائر فقرات الحديث إذ الظاهر منها أنّها في مقام الاحتجاج على أهل الخلاف، وبالجملة فالاعتماد في أمثال هذه الاحاديث الضعيفة بل غيرها من الصحاح في اُصول الدين على المتن والمعنى لا الاسناد فما علمنا من مضامينها ومعانيها صحّته بقرائن عقلية أو نقلية متواترة كحديث الثقلين «ومن كنت مولاه» وغيرهما اعتمدنا عليها وتمسكنا بها، أو كانت من مسلّمات الخصم كحديث الطير احتججنا بها على المخالف وما تفرّد الحديث الواحد به من غير قرينة تؤيّد صحّة مضمونها، ولا نعلم تسلّم الخصم لها فلا نعتمد عليها بصرف الإسناد. ش


(538)

وولايتنا، إنتهى.

أقول: يحتمل أن يراد بالقتل في هذه الرواية قتل ذي القربى، وقتل من هو من أهل مودّتهم على التقديرين فيه مدح عظيم وفضل جسيم لذي القربى، وفيه حثّ بليغ على مودّتهم، ووعيد عظيم بقتلهم وقتل محبّيهم.

قوله: «المودّة في القربى» عطف بيان للمودّة حيث يفسّرها ويوضّحها.

قوله: «الكتاب الذكر» لمّا كان الكتاب معلوماً كالذكر، جعله مسند إليه، لإفادة أنّ الذكر هو، فلا يرد أنّ العكس أولى، لكون الذكر معلوماً، ولم يعلم أنّه الكتاب أو غيره، ثمّ إنّ هذا التفسير لا ينافى ما مرّ في أحاديث متكثّرة من تفسير الذكر في هذه الآية بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، لأنّ كلا التفسيرين صحيح، وإنّما اقتصر على الأوّل، لأنّ المطلب يحصل من الثانى بطريق أولى.

قوله: «أمر الله‌ عزّ وجلّ بسؤالهم» هذا الأمر دلّ على إحاطة علمهم بجميع الأشياء، وإلاّ لم ينفع السؤال عند الجهل في شيء ما.

قوله: «ولم يؤمروا بسؤال الجهّال» عدم الأمر به ظاهر، مع أنّ الغرض من السؤال طلب العلم وهو من الجاهل محال، وإنّما بنى الفعل هنا للمفعول دون السابق للإشعار، بأنّ قبحه في الكمال إلى حيث يمتنع نسبته إلى الله‌ تعالى بحسب ظاهر اللفظ وإن أُريد نفيه بحسب المعنى.

قوله: «وسمّى الله‌ تعالى الكتاب ذكراً» دليل على إثبات ما ذكره من أنّ الذكر عبارة عن الكتاب.

قوله: «وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون»[1] أي: يتفكّرون ما فيه من المواعظ، والنصائح، والعبر، والزواجر، والثواب والعقاب، فيحصل لهم الدواعي على فعل المحسّنات


--------------------------------------------------

1. سورة النحل 16: 44 .


(539)

وترك المنهيّات.

قوله: «وَسَوفَ تَسئَلُون»[1] عن محافظته ومراقبته والإتيان بمأموراته والإجتناب عن منهيّاته.

قوله: «وَأُولِى الْأَمرِ مِنكُم»[2] هو الذي نصبه الرسول لأمر الأُمّة وخلافتهم وفوّض إليه هداية الخلق وولايتهم ولا يتصوّر غير ذلك وقد مرّ تفسيره مراراً.

قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ»[3] أي: يستخرجونه بعلومهم التى خصّهم الله‌ تعالى بها، والموصول عبارة عن اُولي الأمر، وفائدته التنصيص بأنّهم هم أهل العلم والإستخراج.

قوله: «فردّ الأمر أمر الناس إلى اُولي الأمر منهم» أي: فردّ الله‌ سبحانه أمر الناس في الآيتين المذكورتين إلى اُولي الأمر منهم وهم الخلفاء المنصوبون من قبل الله‌ تعالى وقبل رسوله صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم بطاعتهم وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة الرسول في الآية الأُولي، وأمر بالردّ إليهم وإلى رسوله في الآية الثانية، ومن فسّر أُولي الأمر فيهما بكبار الصحابة أو الأمراء، إن أراد به ما ذكرناه، فنعم الوفاق وإلاّ فقبحه أظهر من أن يحتاج إلى البيان.

قوله: «بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ»[4] المراد به هو الوصيّة والولاية بدليل أنّه نصب عليّاً عليه‌السلام عند نزول هذه الآية.

قوله: «إِنَّ الله‌ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»[5] دلّ على من أنكر ولاية عليّ عليه‌السلام، فهو كافر.


--------------------------------------------------

1. سورة الزخرف 43: 44 .

2. سورة النساء 4: 59 .

3. سورة النساء 4: 83 .

4 ، 5. سورة المائدة 5: 67 .


(540)

قوله: «وأمر بسمرات» أي: بكنس سمرات والإضافة لأدنى ملابسة والسمر بفتح السين، وضمّ الميم من شجر الطلح، والجمع سمر وأسمر وسمرات.

قوله: «فقمّ شوكهنّ» القمّ تقول: قمّمت البيت، أي: كنسته والقمامة الكناسة.

قوله: «فوقعت حسكة النفاق في قلوب القوم¨» أي: بعض القوم أو اللام إشارة إلى جماعة معيّنة، والحسكة بالتحريك نبات تتعلّق بصوف الغنم وتمسّك من تعلّق بها، ومن ثمّ قيل حسكة مسكة والإضافة من باب لجين الماء.

قوله: «وما يريد إلاّ أن يرفع بضبع ابن عمّه» ضبع بفتح الضاد وسكون الباء العضد، والرفع خلاف الوضع يقال: رفعته فارتفع، والباء زائدة للتأكيد، والمقصود أنّه لا يريد بنصب ابن عمّه إلاّ إعلاء قدره.

وأمّا القول بأن يرفع بضمّ الفاء من باب شرف وأنّ الباء للسببيّة يعني ما يريد بذلك إلاّ أن يصير رفيع القدر شريفاً بسبب عضد ابن عمّه وقوّته فبعيد.[1]

وقال العلاّمة المجلسي:

والخيرة: بالكسر وكعنبة مصدر باب ضرب، التفضيل، أو اسم مصدر باب الافتعال كما قيل.

قوله: «لهم»، أي: للمبعوث إليهم «بتصديقي» أي: في الرسالة وصحّة الولادة كما نطقت به سورة مريم وغيرها «وتصديقكم» في الإيمان والمتابعة كما في سورة المائدة: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا»[2] الآية، وغيرذلك من الآيات والأخبار «وعذري وعذركم» أي: حجّتي وحجّتكم من قولهم أعذر إذا احتجّ لنفسه، أو براءتي ممّا رميت به من ادّعاء الألوهيّة والولديّة وبراءتكم من القول في ذلك، أو براءتي ممّا رماني به اليهود


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 6: 117ـ129 .

2. سورة المائده 5: 111 .


(541)

وبراءتكم من متابعة من كان كذلك.

والحواريّون: هم خواص عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام وأنصاره، من التحوير بمعنى التبييض، قيل: إنّهم كانوا قصّارين يبيّضون الثياب وينقونها من الأوساخ، وقيل: بل كانوا ينقون نفوس الخلائق من الكدورات وأوساخ صفات الذميمة، وقال الأزهري: هم خلصان الأنبياء وتأويله، الذين خلصوا ونقوا من كلّ عيب، وتسمية الله‌ إيّاهم بالمستحفظين، كأنّها إشارة إلى قوله عزّ وجلّ في شأنّ التوراة: «فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله‌ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ».[1]

«وجرت» أي: الوصيّة أو الخيرة أو السنّة، وقيل: المراد بالميزان الشرع، وقيل: هو عطف تفسير للكتاب.

قال المحدّث الأسترآبادي: مقصوده عليه‌السلام أنّ المشهور بين الناس في هذا الزمان ممّا يسمّى بالكتاب الكتب الثلاثة، ومن جملة الكتب: كتاب نوح عليه‌السلام، وكتاب صالح، وكتاب شعيب وإبراهيم عليهم‌السلام، وقد أخبر الله‌ أنّ ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، مذكور في صحف إبراهيم وموسى وكانتا عنده، فإذا كانتا محفوظتين إلى زمانه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فكيف لا يحفظهما هو صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، ولا يدفعهما إلى أحد، فالذي دفعهما إليه هو صاحب الشريعة، انتهى.

وأقول: فيه أيضاً ردّ على من زعم أنّ المستحفظين علماء اليهود والنصارى، لعدم وجدان هذه الكتب عندهم، فالمراد بالعقب من المستحفظين الأوصياء، أي: أولادهم، بل ظاهره أنّ العقب لم يكونوا من بني إسرائيل، فالمراد بهم أبو طالب وأمير المؤمنين عليهماالسلام، وكلمة «من» يحتمل التبعيض والإبتداء والبيان أيضاً على بعد.


--------------------------------------------------

1. سورة المائده 5: 44.


(542)

قال بعض المحققّين: إستحفاظهم الإسم الأكبر الذي هو الكتاب الجامع للعلوم، الغير المنفكّ عن الأنبياء، لعلّه كناية عن انتقاش قلوبهم الصافية المصيقلة بنور الله‌، بما في اللوح المحفوظ، وصيرورتهم العقل بالفعل، وبلوغهم رتبة الشهود التام وإلى قابليّة الإنسان لهذه الرتبة أشار أمير المؤمنين صلوات الله‌ عليه بقوله:

دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الّذي بأحرفه يظهر المضمر

والعالم الأكبر هو الإسم الأكبر، إذ العالم ما يعلم به الشيء كالإسم ما يعلم به المسمّى، ومن الأنبياء والأوصياء من أوتي علم الكتاب كلّه، ومنهم من أوتي بعضه، وإلى الأوّل أشير بقوله عزّ وجلّ: «قُلْ كَفَى بِالله‌ شَهِيداً بَيْنِى وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»[1] يعني به أمير المؤمنين عليه‌السلام وإلى الثاني بقوله: «قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ»[2] حيث أتى بـ«من» التبعيضيّة، يعني به آصف بن برخيا.

والمراد بقوله: إنّما عرف ممّا يدّعى الكتاب، أنّ المعروف ممّا يسمّى بالكتاب ليس سوى هذه الثلاثة، مع أنّ كثيراً من الأنبياء كان معهم كتب غير هذه، منها كذا ومنها كذا، وقد أخبر الله‌ عن بعضها وليس ذلك بمعروف بين الناس، فإذا انحصرت الكتب فيما عرف، فأين صحف إبراهيم الذي أخبر الله‌ عنها، والغرض من هذا الكلام، الردّ على من زعم أنّ المراد بالمستحفظين لكتاب الله‌، علماء اليهود الحافظين للتوراة ومن يحذو حذوهم في حفظ الألفاظ والقصص.

فبيّن عليه‌السلام أنّ المراد بكتاب الله‌ الإسم الأكبر المشتمل على كلّ ما في العالم من


--------------------------------------------------

1. سورة الرعد 13: 43 .

2. سورة النمل 27: 40 .


(543)

شيء الذي كتبه الرحمن بيده كما قال سبحانه: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الاْءِيمَانَ وَ أَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنْهُ»[1] وعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّ صحف إبراهيم كانت عشرين صحيفة، وصحف إدريس ثلاثين، وصحف شيث خمسين، يعني ما كان يتلى من الإسم الأكبر على الناس.

وعن أبي ذر رضى‌الله‌عنه أنّه قال لرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: ما كان صحف إبراهيم؟

قال: إقرأ يا أباذر «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى»[2] إلى قوله: «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى»[3] يعني فيها أمثال هذه الكلمات.

«إنّ العرب قوم جفاة» أي: بعداء عن الآداب والأخلاق الحسنة، قال في المُغرِب: الجفاء هو الغلظ في العشرة والخرق في المعاملة وترك الرفق، إنتهى.

«وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيهِم»[4] أقول: هذه الآية بهذا الوجه ليست في المصاحف المشهورة، إذ في سورة الحجر: «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَ جاً مِنْهُمْ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»[5] وفي سورة النحل: «وَ اصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله‌ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ»[6] وفي سورة الزخرف: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»[7] فيحتمل أن يكون عليه‌السلام ذكر الآيتين إحدى السوابق مع الأخيرة فسقط من الروّاة أو النسّاخ، أو أشار عليه‌السلام إلى الآيتين بذكر صدر إحداهما وعجز الأخرى، أو يكون نقلا لهما


--------------------------------------------------

1. سورة المجادله 58: 22 .

2. سورة الأعلى 87: 14 .

3. سورة الأعلى 87: 19 .

4. سورة الحجر 15: 88، سورة النحل 16: 127 ، وسورة النمل 27: 70 .

5. سورة الحجر 15: 88 .

6. سورة النحل 16: 127 .

7. سورة الزخرف 43: 89 .


(544)

بالمعنى، أو يكون في مصحفهم عليهم‌السلام كذلك، والحزن عليهم التأسّف على كونهم هالكين.

«سلام» أي: ما أدعوكم إليه سلامة لكم من النار، أو تسلم منكم، ومتاركة.

«ذكراً» أي: قليلاً من الذكر بدون إعلان ذلك، أي وقوع النفاق في قلوب المنافقين من العرب.

«وَلَقَدْ نَعلَمُ»[1] أقول: في المصاحف المشهورة في سورة الحجر «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُن مِنَ السَّاجِدِينَ»[2] وفي سورة الأنعام «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ»[3] الآية والكلام فيه كالكلام فيما مرّ.

«فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ»[4] قيل: معناه أنّ تكذيبك أمر راجع إلى الله‌، لأنّك جئت من عنده بالمعجزات والآيات، فهم لا يكذّبونك في الحقيقة وإنّما يكذّبون الله‌ بجحود آياته، أو المراد أنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ولكنّهم يجحدون بألسنتهم، أو أنّهم لا يكذّبونك ولا يجحدونك ولكنّهم يجحدون بآيات الله‌، وذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهكان يسمّى عندهم بالأمين، يعرفون أنّه لا يكذب في شيء، وكان أبو جهل يقول: ما تكذب وإنّك عندنا لصدوق وإنّما نكذّب ما جئتنا به.

وروي أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب، فإنّه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله‌ إنّ محمّداً لصادق وما كذب قطّ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة، فماذا يكون لسائر قريش؟


--------------------------------------------------

1. سورة الحجر 15: 97 .

2. سورة الحجر 15: 97ـ98.

3 ، 4 سورة الأنعام 6: 33 .


(545)

وسيأتي في الروضة عن أبي عبد الله‌ عليه‌السلام أنّه قرأ رجل على أمير المؤمنين صلوات الله‌ عليه هذه الآية فقال: بلى والله‌ لقد كذّبوه أشدّ التكذيب ولكنّها مخفّفة «فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ»[1] لا يأتون بباطل يكذبون به حقّك، وهذا التفسير موافق لما فسّرها عليه‌السلام به هاهنا بقوله: «ولكنّهم يجحدون بغير حجّة لهم» والمخفّفة من أكذبه إذا ألفاه كاذباً، والمشدّدة أيضاً لا يبعد عن هذا المعنى على ما في كتب اللغة، قال الفيروزآبادي: أكذبه ألفاه كاذباً وحمله على الكذب وبيّن كذبه، وكذّب بالأمر تكذيباً وكذّاباً أنكره، وفلاناً جعله كاذباً، إنتهى.

و إنّما وضع الظالمين موضع الضمير للتنصيص بظلمهم في إنكار آياته وتمرّنهم على جحدها، ويقال: تألّفه إذا داراه وآلفه بالتكليف.

«هذه السورة» أي: سورة ألم نشرح كما يظهر ممّا بعده، وجملة «فاحتجّ عليهم» معترضة وكأنّه أشير بها إلى ما فعل بغدير خمّ أو إلى أعمّ منه ومن غيره من المواطن، وفي بعض النسخ «هذه الآية» أي آية: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ».[2]

«ونعيت» على بناء المجهول والنعي خبر الموت.

«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ»[3] في القرآن المشهورة بفتح الصاد من النصب بمعنى التعب والإجتهاد، يعني إذا فرغت من عبادة عقّبها بأخرى وواصل بعضها ببعض، وقيل: إذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة، أو فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء كما ورد في الخبر أيضاً، والمستفاد من هذا الحديث أنّه بكسر الصاد من النصب بالتسكين بمعنى الرفع والوضع، أي: إذا فرغت من أمر تبليغ الرسالة فانصب علمك بفتح اللام، أي: إرفع علم هدايتك للناس، وضع من يقوم به خلافتك موضعك حتّى يكون قائماً مقامك من بعدك بتبليغ الأحكام وهداية


--------------------------------------------------

1. سورة الأنعام 6: 33 .

2 ، 3. سورة الشرح 94: 7 .


(546)

الأنام، لئلاّ تنقطع خيط الهداية والرسالة بين الله‌ وبين عباده، ويكون ذلك مستمرّاً بقيام إمام مقام إمام إلى يوم القيامة، فلعلّ في مصحفهم عليهم‌السلام كان بالكسر، أو يقال: لعلّه ورد بالفتح أيضاً بمعنى النصب وإن لم يذكر في الكتب المتداولة في اللغة، ويحتمل أن يكون تفسيره عليه‌السلام بياناً لحاصل المعنى، ويكون المقصود أتعب نفسك في نصب وصيّك بما تسمع من المنافقين في ذلك.

والعجب من المتعصّب الناصب الزمخشري أنّه قال في الكشّاف: ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة أنّه قرأ فانصب بكسر الصاد، أي: فانصب عليّاً للإمامة، قال: ولو صحّ هذا للرافضيّ لصحّ للناصبيّ أن يقرأ هكذا ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض عليّ وعداوته، فانظر إلى هذا المتعصّب المتعنّت كيف عمى الله‌ بصيرته بغشاوة العصبيّة حتّى أتى بمثل هذاالكلام الذي يليق باللئام في هذا المقام.

ولا يخفى فساده على ذوي الأفهام من وجوه:

الأوّل: أنّ المناسبة بين الفراغ من تبليغ الرسالة ونصب الإمام لحفظ الشريعة بيّن ظاهر، لئلاّ يكون الناس بعده في حيرة وضلالة، ولتجري سنّة الله‌ تعالى في الأوّلين ولا مناسبة بين الفراغ وما ذكره بوجه.

والثاني: أنّ إبداء إحتمال مخالف لما ذهب إليه جميع فرق المسلمين لا يكون مساوياً لاحتمال ذهب إليه أكثرالمتورّعين من المؤمنين.

والثالث: أنّ ما ذكره الإماميّة ليس بمحض التشهّي والإختراع، بل نقلوه عن أئمّتهم الذين لاخلاف بين المسلمين في فضلهم وعلوّ شأنهم، وهذا الناصب أيضاً كثيراً ما ينقل القراءات والتفاسير عنهم، وجميع المفسّرين يعتمدون على ما نقل عنهم، فلا يكون ما نقل عنهم بأدون ممّا رووا عن قتادة، وكعب، وابن مسعود وغيرهم.


(547)

والفاء في قوله: «فقال الله‌» للبيان وقوله: ثلاث مرّات متعلّق بقوله: «اللّهمّ. . .» إلى آخر الكلام، أو الجميع «ثمّ قال» أي: في يوم غزوة خيبر بعد ما مضى أبو بكر مع أصحابه، فلمّا رأوا مرحباً اليهوديّ خرج للمبارزة فرّوا، ثمّ في اليوم الثاني مضى عمر وأصحابه وفرّوا، وكلمة «ثمّ» للتراخي بحسب الرتبة لا الزمان إن حملنا الكلام السابق على ما ذكر في يوم الغدير، وإلاّ فيمكن حمله على الزمانيّ أيضاً.

وهذا الخبر مذكورفي كتب العامّة بطرق كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن سلمة بن الأكوع قال: كان عليّ عليه‌السلام قد تخلّف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في خيبر وكان رمداً، فقال: أنا أتخلّف عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم فخرج فلحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم فلمّا كان مساء الليلة التي فتحها الله‌ في صبيحتها، قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله‌ ورسوله، أو قال: يحبّ الله‌ ورسوله يفتح الله‌ عليه، فإذا نحن بعليّ وما نرجوه، فقالوا: هذا عليّ فأعطاه رسول الله‌ الراية ففتح الله‌ عليه.

وروي أيضاً بإسناده عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنّ رسول الله‌ قال يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يفتح الله‌ على يديه يحبّ الله‌ ورسوله ويحبّه الله‌ ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها؟ قال: فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها، قال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله‌ يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم في عينيه ودعا له، فبرأحتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال عليّ: يا رسول الله‌ أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله‌ فيهم، فو الله‌ لئن يهدي الله‌ بك رجلاً واحداً خيرلك من أن يكون لك حمر النعم. وروي


(548)

عن أبي هريرة أيضاً مثله.

«معرضاً» حال عن فاعل قال، والتعريض نفي عيب عن أحد لإثباته لآخر، والمراد أنّ أبا بكر وعمر لا يحبّان الله‌ رسوله ولا يحبّهما الله‌ ولا رسوله وهما فرّاران، وإنّما ذكر عليه‌السلام الجبن فقط ليعلم عدم المحبّة أيضاً مع نوع تقيّة إذ العلّة مشتركة، ولا خفاء في أنّ سياق هذا الكلام يدلّ على اختصاص جميع تلك الأوصاف بالمبعوث أخيراً وإلاّ فلا فائدة في ذكرها.

«يجبّن» حال عن فاعل رجع، أي: يخوّف أصحابه ويدعوهم إلى الجبن عند الحرب، أو ينسبهم إلى الجبن عند الرجوع ويلومهم به، يقال جبّنه تجبيناً، أي: نسبه إلى الجبن.

«عليّ سيّد المؤمنين» أي: أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أنّ السيّد أولى بعبده منه، أو أشرفهم وأفضلهم، لأنّه فاق جميعهم في جميع الكمالات.

«عمود الدين» أي: لا يقوم الدين إلاّ به كما لا تقوم الخيمة إلاّ بالعمود.

«هو الذي» التركيب يدلّ على الحصر، أي: كلّ من يضرب الناس بالسيف بعدي فهو على الباطل غيره وغير أوصيائه، وضمير مال لعليّ أو للحقّ، أي: سواء قام أو قعد وفي جميع أقواله وأفعاله، وهذا الحديث رواه ابن مردويه في مناقبه بعدّة طرق عن عائشة أنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم قال: الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، وادّعى إبن أبي الحديد صحّة هذا الحديث بل تواتره.

«وقال إنّي تارك فيكم أمرين» هذا الخبر متواتر اتّفقت الأمّة على قبوله ونقله، وقد مرّ الكلام فيه «كتاب الله‌» مرفوع بتقديرهما كتاب الله‌ أو منصوب بدل تفصيل لأمرين، والعترة: العشيرة الأدنون «وقد بلّغت» على صيغة المعلوم، أي: بلّغت ما يلزمني تبليغه في أهل بيتي، أو على المجهول، أي: بلّغني جبرئيل عن الله‌


(549)

بالوحي. «لا تسبقوهم» أي: في الإمامة أو في شيء من الأمور. «فَأَنَّ للّه‌ خُمُسَهُ»[1] المشهور في القراءة فتح الهمزة على حذف المبتدأ، أي: فحكمه أنّ للّه‌ خمسه، وقيل: على حذف الخبر أي: فثابت أن للّه‌ خمسه، وقرئ بكسرها أيضاً والمعنى أنّ الذي أخذتموه من مال الكفّار قهراً ممّا يطلق عليه اسم الشيء قليلاً كان أو كثيراً، فحكمه أنّ للّه‌ خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وسيأتي أحكامه في محلّه إن شاء الله‌.

ولا يخفى ما في تخصيص ذي القربى بالذكر وإعادة اللام وتشريكه مع الرسول في التساهم من التعظيم والإهتمام بشأنه.

«فكان عليّ» أي: ذا القربى على حذف الخبر أو كان تامّة، وهذا أحد تأويلات الآية، وقد ورد في أخبار كثيرة من طريق الخاصّة والعامّة أنّها نزلت في فدك، فرووا عن أبي سعيد الخدري وغيره أنّه لمّا نزلت الآية أعطى رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم فاطمة فدك، ولاتنافي بينهما، فإنّ حقّ فاطمة عليهاالسلام من ذوي القربى كان فدك، وحقّ أمير المؤمنين الوصيّة، وقال البيضاوي: وآت ذا القربى حقّه، من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبرّ عليهم، وقيل: المراد بذي القربى أقارب الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم .

«إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»[2] قال الطبرسي رحمه‌الله: اختلف في معناه على أقوال:

أحدها: لا أسألكم في تبليغ الرسالة أجراً إلاّ التوادّ والتحابّ فيما يقرّب إلى الله‌ تعالى.

وثانيها: أنّ معناه إلاّ أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها فهو لقريش خاصّة.


--------------------------------------------------

1. سورة الأنفال 8: 41 .

2. سورة الشورى 42: 23 .


(550)

وثالثها: أنّ معناه إلاّ أن تؤدّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، عن عليّ بن الحسين وابن جبير وعمرو بن شعيب وجماعة، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله‌ عليهماالسلام.

ثم أورد أخباراً كثيرة في ذلك ثمّ قال، وعلى التقادير ففي المودّة قولان:

أحدهما: أنّه إستثناء منقطع، لأنّ هذا إنّما يجب بالإسلام فلا يكون أجراً للنبوّة.

والآخر: أنّه إستثناء متّصل، والمعنى لا أسألكم إلاّ هذا فقد رضيت به أجراً كما أنّك تسأل غيرك حاجة فيعرض المسؤول عليك برّاً، فتقول: إجعل برّي قضاء حاجتي، وعلى هذا يجوز أن يكون المعنى: لا أسألكم أجراً إلاّ هذا فقد رضيت به أجراً، ونفعه أيضاً عائد إليكم، فكأنّي لم أسألكم أجراً، إنتهى.

وقال إمامهم الرازي في تفسيره: روى الكلبي عن ابن عبّاس، قال: إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لمّا قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس في يده سعة، فقال الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله‌ على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا، ثمّ أتوه به فردّه عليهم ونزل قوله تعالى: «قُل لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً»[1] أي: على الإيمان إلاّ أن تؤدّوا أقاربي، فحثّهم على مودّة أقاربه، ثمّ قال بعد نقل خبر طويل عن صاحب الكشّاف في مودّة آل الرسول صلوات الله‌ عليهم وذمّ بغضهم، وأنا أقول: آل محمّد هم الذين يؤل أمرهم إليه، وكلّ من كان أول أمرهم أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين عليهم‌السلام كان التعلّق بينهم وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.


--------------------------------------------------

1. سورة الشورى 42: 23 .


(551)

وأيضاً إختلف الناس في الآل فقيل: هم الأقارب. وقيل: هم أمّته فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأُمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم آل، وأمّا غيرهم هل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه، فثبت على جميع التقديرات أنّهم آل محمّد عليهم‌السلام .

وروى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله‌ من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقيل: عليّ وفاطمة وابناهما، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ثمّ ذكر الرازي دلائل كثيرة على وجوب محبّة الآل.

وأقول: هذه الرواية التي رواها الزمخشريّ رواها الثعلبي والبيضاوي وغيرهما من المفسّرين.

قوله: «وَ إِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ»[1] أقول: القراءة المشهورة: المؤودة بالهمزة، قال الطبرسي: المؤودة هي الجارية المدفونة حيّاً، وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمتها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته، أي تسأل، فيقال لها: بأيّ ذنب قتلت؟و معنى سؤالها توبيخ قاتلها، وقيل: المعنى يسأل قاتلها بأيّ ذنب قتلت؟ وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله‌ عليهماالسلام: وإذا المؤودة سئلت بفتح الميم والواو، وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: هو من قتل في مودّتنا أهل البيت، وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال: يعني قرابة رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ومن قتل في جهاد، وفي رواية أخرى قال: هو من قتل في مودّتنا وولايتنا، إنتهى.

وأقول: الظاهر أنّ أكثر تلك الأخبار مبنيّة على تلك القراءة الثانية إمّا بحذف


--------------------------------------------------

1. سورة التكوير 81: 8 .


(552)

المضاف، أي: أهل المودّة يسألون بأيّ ذنب قتلوا، أو بإسناد القتل إلى المودّة مجازاً، والمراد قتل أهلها أو بالتجوّز في القتل، والمراد تضييع مودّة أهل البيت عليهم‌السلام وإبطالها وعدم القيام بها وبحقوقها، وبعضها على القراءة الأولى المشهورة بأن يكون المراد بالمؤودة النفس المدفونة في التراب مطلقاً أو حيّاً، إشارة إلى أنّهم، لكونهم مقتولين في سبيل الله‌ تعالى ليسوا بأموات بل أحياء عند ربّهم يرزقون، فكأنّهم دفنوا حيّاً، وفيه من اللطف ما لا يخفى، وهذا الخبر يؤيّد الوجه الأوّل لقوله قتلتموهم.

«قال الكتاب الذكر» شبيه بالقلب، أي: الذكر هو الكتاب [وعكس لكون الكتاب] ذاتاً، والذكر صفةً أو أنّ وصف كونه كتاباً أشهر من كونه ذكراً، وقد مرّ الكلام في هذه الآيات في باب أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم‌السلام، وقد مرّ وجه آخر وهو أنّ الذكر رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وهم عليهم‌السلام أهله، وسمّى الله‌ هذا بيان لصحّة إطلاق الذكر على الكتاب ووقوعه.

«وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»[1] أي: ما فيه من المواعظ والعبر والزواجر والثواب والعقاب، فتحصل لهم الدواعي على فعل الحسنات وترك السيئات «وَسَوفَ تُسئَلُونَ»[2] الخطاب إلى الرسول وقومه، أي: يسألكم الناس عمّا فيه فتجيبون أو يسألكم عن مراقبته ومحافظته وتبليغه، وسبق الكلام في آية اُولي الأمر عن قريب «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ»[3] كذا في المصاحف وفي أكثر النسخ «ولو ردّوه إلى الله‌ وإلى الرسول»، فيكون نقلاً بالمعنى، للإشعار بأنّ الردّ إلى الرسول ردّ إلى الله‌، والذين يستنبطونه عبارة عن بعض الرادّين إلى اُولي الأمر وهم المستمعون


--------------------------------------------------

1. سورة النحل 16: 44 .

2. سورة الزخرف 43: 44 .

3. سورة النساء 4: 83 .


(553)

المنصتون للجواب حقّ الإنصات والإستماع، و«من» في منهم للإبتداء، والضمير لاُولي الأمر، أو للتبعيض والضمير للرادّين إلى اُولي الأمر، أو الذين يستبطونه عبارة عن اُولي الأمر، والضمير راجع إلى اُولي الأمر، والغرض التنصيص بأنّهم هم أهل العلم والإستخراج والإستنباط «أمر الناس» بدل من الأمر، أي: دلّت الآيتان على أنّ الله‌ تعالى فوّض أمر الناس إلى أهل بيته وأمرهم بطاعتهم والردّ إليهم فيما اختلفوا فيه.

«بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ»[1] أي الوصيّة والولاية كما مرّ «إِنَّ الله‌ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»[2] دلّ على أنّ كلّ من أنكر ولاية عليّ عليه‌السلام فهو كافر، والسمرات جمع سمرة وهي بفتح السين وضمّ الميم شجرة شائكة يقال لها: أمّ غيلان «فقمّ شوكهنّ» على بناء المجهول أي كنس «وأولى بكم» عطف تفسير للإشعار بأنّ الوليّ في «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله‌»[3] والأولى في قوله: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»[4] بمعنى واحد.

والحسكة، بفتح المهملتين شوك صلب شبّه به النفاق، قال الجوهري: قولهم في صدره حسكة وحساكة أي: ضغن وعداوة، والقوم: المنافقون المتقلّبون.

والضبع بفتح المعجمة وسكون الموحّدة العضد كلّها أو وسطها بلحمها، أو الإبط أو ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه، ذكره الفيروزآبادي.

ورفعها كناية عن إعلاء قدره وإشادة ذكره وجعله مسلّطاً عليهم «بين ظهرانينا» أي: بيننا على سبيل الإستظهار والإستناد إلينا كأنّ ظهراً منّا قدّامك وظهراً وراءك فأنت مكنوف من جانبيك، وفي القاموس: كبته يكبته: صرعه


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة المائده 5: 67 .

3. سورة المائده 5: 55 .

4. سورة الأحزاب 33: 6 .


(554)

وأخزاه وصرفه وكسره وردّ العدوّ بغيظ وأذله، إنتهى.

والوفود جمع الوفد بالفتح وهم الطوائف الواردون على الملوك لحاجة، والشماتة الفرح ببليّة العدو.

«يقول أمس» أي: يوم الغدير، والفيء: الغنيمة «وتعرف به ولايتي» أي: محبّتيأو إمارتي وخلافتي المدلول عليها بقوله: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله‌»[1] في هذه الآية.

وقوله: «ألف باب» تفسير لألف كلمة أو أحدهما متعلّق بالأحكام والآخر بغيرها، ويحتمل أن يكون المراد بألف كلمة وألف باب بقواعد كليّة اُصوليّة وقوانين مضبوطة جملة، أمكنه أن يستنبط منها أحكاماً جزئيّة ومسائل فرعيّة تفصيليّة، لكن لا كاستنباطناً بالظنّ والتخمين، بل استخراجاً بالعلم واليقين، ويؤيّده ما رواه الصفار في بصائر الدرجات بإسناده عن موسى بن بكر، قال: قلت لأبي عبد الله‌ عليه‌السلام: الرجل يغمى عليه اليوم واليومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كم يقضي من صلاته؟ فقال: أ لا أخبرك بما ينتظم به هذا وأشباهه؟ فقال: كلّما غلب الله‌ عليه من أمر فالله‌ أعذر لعبده، وزاد فيه غيره قال: قال أبو عبد الله‌ عليه‌السلام: وهذا من الأبواب التي يفتح كلّ باب منها ألف باب.[2]

الحديث 1568: محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن (محمّد بن مروان العجليّ)[3]، عن عليّ بن حنظلة قال: سمعت أبا عبدالله‌ عليه‌السلام يقول: إعرفوا منازل النّاس على قدر روايتهم عنّا.

المصادر: الكافي 1: 50،، كتاب فضل العلم، باب النوادر، ح13، وسائل الشيعة 27: 79،


--------------------------------------------------

1. سورة المائدة 5: 55 .

2. مرآة العقول 3: 270ـ285، وانظر كتاب الوافي 2: 318 .

3. في بعض النسخ من الكافي: «محمّد بن عمران العجلي» وفي الوسائل: «محمّد بن مروان» فقط.


(555)

كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به، ب8 ح7، وأورده أيضاً في ص 137، ب11 ح3، جامع أحاديث الشيعة 1: 328، أبواب المقدّمات، ب5 باب حجّية أخبار الثقات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام، ح65.

الشرح: قال المازندراني:

فيه دلالة على أنّه يجب التعلّم منهم وأخذ الأحاديث عنهم، لأنّهم عليهم‌السلام خزّان الأسرار الإلهيّة ومعادن الآثار النبويّة، وعلى أنّه لا قدر للناس برواياتهم عن السارقين اسم العلم والخلافة، والمارقين عن الدين والناصبين لآل محمّد عليهم‌السلام، لأنّهم بسبب الجهل المركّب خرجوا عن القابليّة للتعلّم فضلاً عن القابليّة للتعليم، وعلى أنّ الشرف والكمال للناس بالعلم لا بالجاه والمال والنسب، وعلى أنّ الأعلم وكلّ من كان أكثر رواية عنهم عليهم‌السلام ولو بواسطة ينبغي تقديمه على العالم والعالم على الجاهل، كلّ ذلك لترجيح الفاضل على المفضول والأشرف على الأخسّ، فلا قدر للجاهل، لأنّه رذل خسيس دنيّ، وإن كان ذا مال ونسب معروف لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: ما استرذل الله‌ عبداً إلاّ حظر عليه العلم والأدب. وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام: إذا أرذل الله‌ عبدا حظر عليه العلم يقال: أرذل الله‌ عبداً واسترذله أي: جعله رذلاً وهو الخسيس الدنيّ ولتشبيهه تعالى له تارة بالأنعام فقال: «إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»[1] وتارة بالكلب فقال: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» الآية[2] وبالجملة رذالة الجاهل وعدم اعتباره وسفالة حاله ممّا دلّ عليه كثير من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة، وسرّ ذلك أنّ المقصود من خلق الإنسان ليس ذاته من حيث هو بل العلم بالأسرار الإلهيّة والأحكام الربانيّة وتنوير القلب بالإشراقات اللاهوتيّة والمكاشفات الملكوتية، ثمّ سلوك طريق العمل بنور


--------------------------------------------------

1. سورة الفرقان 25: 44 .

2. سورة الأعراف 7: 176 .


(556)

الهداية والإجتناب عن سبيل الضلالة والغواية، والجاهل بمعزل عن هذا المرام وبعيد عن هذا المقام، وفي كلام الحكماء المتقدّمين والمتأخّرين أيضاً دلالة على أنّ الشرف والتقدّم للعالم، قال أفلاطون: المستحقّون للتقديم هم العارفون بالنواميس الإلهيّة وأصحاب القوى العظيمة الفائقة، وقال أرسطاطاليس: المستحقّون للتقديم هم الذين عناية الله‌ بهم أكثر. وقال المحقّق الطوسي: كلّ اثنين بينهما اشتراك في علم واحد، وأحدهما أكمل فيه من الآخر فهو رئيس له ومقدّم عليه، وينبغي للآخر الإطاعة والانقياد له ليتوجّه إلى كمال لائق به، وهكذا يتدرّجون إلى أن ينتهوا إلى شخص هو المطاع المطلق ومقتدى الامم كلّهم بالاستحقاق والملك على الإطلاق، ولا نعني بالملك في هذا المقام من له خيل وحشم وتصرّف في البلاد واستيلاء على العباد، بل نعني أنّه المستحق للملك في الحقيقة وإن لم يلتفت إليه أحد بحسب الظاهر، وإذا تقدّم عليه غيره كان غاصبا جائراً ويوجب ذلك فشو الجور في العالم وفساد نظامه.[1]

وقال الفيض الكاشاني:

بيان: يعني على مقدار روايتهم عنّا كثرة وقلّة، ويحتمل أن يكون المراد على رتبة روايتهم عنّا دقّة ولطافة، فالأعلى من روى سرّاً مخزوناً دقيقاً ومعنى مكنوناً لطيفاً، والأدنى من روى كلاماً مبتذلاً وقولاً مشهوراً وفيما بينهما درجات.[2]

قال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «على قدر رواياتهم عنّا» أي: كيفاً أو كمّاً أو الأعمّ منهما وهو أظهر، وهذا طريق إلى معرفة الرجال غير ما ذكره أرباب الرجال، وهو أقوى وأنفع في هذا الباب، فإنّ بعض الروّاة نرى أخبارهم مضبوطة ليس فيها تشويش، كزرارة


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 2: 244 .

2. كتاب الوافي 1: 225 .


(557)

ومحمّد بن مسلم وأضرابهما، وبعضهم ليسوا كذلك كعمّار الساباطي، وكذا نرى بعض الأصحاب أخبارهم خالية عن التقيّة كعليّ بن جعفر، وبعضهم أكثرها محمولة على التقيّة كالسكوني وأضرابه، وكذا نرى بعض الأصحاب رووا مطالب عالية ومسائل غامضة وأسرار كثيرة كهشام بن الحكم ومفضّل بن عمر، ولم نر في أخبار غيرهم ذلك، وبعضهم رووا أخباراً كثيرة، وذلك يدلّ على شدّة اعتنائهم بأمور الدين، وبعضهم ليسوا كذلك وكلّ ذلك من مرجّحات الروّاة ويظهر الجميع بالتتبّع التامّ فيها.[1]

الحديث 1569: عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن سالم، وحمّاد بن عثمان، وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله‌ عليه‌السلام يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وحديث رسول الله‌ قول الله‌ عزّ وجل.

المصادر: الكافي 1: 53،، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب، ح14، وسائل الشيعة 27: 83، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب8 ح26، جامع أحاديث الشيعة 1: 206، أبواب المقدّمات، ب4 باب حجّية فتوى الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم‌السلام بعد الفحص، ح1.

الشرح: قال المازندراني:

ينتج هذه المقدّمات على سبيل القياس المفصول النتائج، أنّ حديث كلّ واحد من الأئمّة الطاهرين قول الله‌ عزّ وجلّ، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى، وجه الإتّحاد ظاهر لمن له عقل سليم وطبع مستقيم، لأنّ الله‌ عزّ وجلّ


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 1: 171.


(558)

وضع العلم والأسرار في صدر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، ووضعه النبيّ في صدر عليّ عليه‌السلام وهكذا من غير تفاوت واختلاف في الكمّيّة والكيفيّة، ولا استعمال آراء وظنون داعية إلى الاختلاف، وعلى هذا ظهر معنى الإتّحاد، وهذا كما إذ أورثك آباؤك جوهراً نفيساً انتقل من واحد بعد واحد إليك، فإذا قلت: جوهري هذا جوهر أبي، وجوهر أبي جوهر جدّي، وهكذا إلى أن تبلغ إلى الأصل، فقد كنت صادقاً في هذا القول بلا شبهة، إلاّ أنّ بين هذا وما نحن فيه فرقاً، فإنّ الجوهر انقطع عنه أيدي آبائك، بخلاف العلم فإنّه انتقل من صدر مطهّر إلى صدر مطهّر من غير أن يزول عن الأوّل وينقطع تصرّفه فيه، وما في بعض الروايات من نقل أبي عبد الله‌ عليه‌السلام عن أبيه، عن جدّه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أو إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم تصريح بما هو في الواقع ومعلوم ضمناً وفائدته إمّا علوّ الإسناد أو رفع مايختلج في قلب السامع، أو التنبيه على شدّة الإهتمام بمضمون الحديث، فإن قلت: فعلى هذا يجوز من سمع حديثاً عن أبي عبد الله‌ عليه‌السلام أن يرويه عن أبيه أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله‌ تعالى؟ قلت: هذا حكم آخر غير مستفاد من هذا الحديث، نعم يستفاد ممّا ذكر سابقاً من رواية أبي بصير ورواية جميل، عن أبي عبد الله‌ عليه‌السلام جواز ذلك، بل أولويّته والله‌ أعلم.[1]

وقال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «حديث أبي» أي: أحاديث كلّ واحد منهم مأخوذة من الآخر ومنتهية إلى قول الله‌ تعالى، ولا مدخل فيها للآراء والظنون، فلا اختلاف في أحاديثهم، ويؤمي إلى أنّه يجوز رواية ما سمع من أحدهم عن غيره عليه‌السلام كما مرّ.[2]

الحديث 1570: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن ظريف، عن


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 2: 271 .

2. مرآة العقول 1: 182 .


(559)

أبيه ظريف بن ناصح، عن رجل يقال له عبد الله‌ بن أيّوب[1] قال: حدّثني أبو عمرو المتطبّب قال: عرضت هذا الكتاب على أبي عبد الله‌ عليه‌السلام، وعليّ بن فضّال، عن الحسن بن الجهم قال: عرضته على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام، فقال لي: ارووه فإنّه صحيح، قال: قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا أصيب الرّجل في إحدى عينيه فإنّها تقاس ببيضة تربط على عينيه المصابة وينظر ما ينتهي بصر عينه الصّحيحة، ثمّ تغطّى عينه الصّحيحة وينظر ما تنتهي عينه المصابة، فيعطى ديته من حساب ذلك، والقسامة مع ذلك من السّتّة الأجزاء على قدر ما أصيبت من عينه، فإن كان سدس بصره فقد حلف هو وحده وأعطي، وإن كان ثلث بصره حلف هو، وحلف معه رجل آخر، وإن كان نصف بصره حلف هو وحلف معه رجلان، وإن كان ثلثي بصره حلف هو وحلف معه ثلاثة نفر، وإن كان أربعة أخماس بصره حلف هو وحلف معه أربعة نفر، وإن كان بصره كلّه حلف هو وحلف معه خمسة نفر، وكذلك القسامة كلّها في الجروح وإن لم يكن للمصاب بصره من يحلف معه ضوعفت عليه الأيمان، إن كان سدس بصره حلف مرّة واحدة، وإن كان ثلث بصره حلف مرّتين، وإن كان أكثر على هذا الحساب، وإنّما القسامة على مبلغ منتهى بصره وإن كان السّمع فعلى نحو من ذلك غير أنّه يضرب له بشيء حتّى يعلم منتهى سمعه، ثمّ يقاس ذلك، والقسامة على نحو ما ينقص من سمعه، فإن كان سمعه كلّه فخيف منه فجور، فإنّه يترك حتّى إذا استقلّ نوماً صيح به، فإن سمع قاس بينهم الحاكم برأيه، وإن كان النّقص في العضد والفخذ، فإنّه يعلم قدر ذلك يقاس رجله الصّحيحة بخيط ثمّ يقاس رجله المصابة، فيعلم قدر ما نقصت رجله أو يده، فإن أصيب السّاق أو السّاعد فمن الفخذ والعضد يقاس وينظر الحاكم قدر فخذه.


--------------------------------------------------

1. في الوسائل: «عن عبدالله‏ بن أيّوب» بدل «عن رجل يقال له عبدالله‏ بن أيّوب».


(560)

المصادر: الكافي 7: 324، كتاب الدّيات، باب ما يمتحن به من يصاب في سمعه أو بصره أو...، ذيل ح 9، قطعة من الحديث، ورواه الشيخ: عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصّفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن ظريف بن ناصح، وروى أحمد بن محمّد بن يحيى، عن العبّاس بن معروف، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن ظريف بن ناصح، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن ظريف بن ناصح، وسهل بن زياد، عن الحسن بن ظريف، عن أبيه ظريف بن ناصح و...، بتمامه وباختلاف في تهذيب الأحكام 10: 295، كتاب الدّيات، ب26 باب ديات الشّجاج وكسر العظام و...، ح 26، وسائل الشيعة 27: 85، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب8 ح 32، صدر سند الحديث فقط، جامع أحاديث الشيعة 31: 401، كتاب الحدود والقصاص والديات، أبواب ديات الأعضاء، ب3 باب ما ورد في كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في. . .، ح1.

الشرح: قال العلاّمة المجلسي:

وظاهر الخبر إجتماع القسامة مع الإعتبار، فيكون الإعتبار لوثاً، وظاهر أكثر الأصحاب عدم الإجتماع، ولعلّ ما هو مدلول الخبر أوفق بالاُصول، إذ كثيراً ما تختلف الحواس في الإدراك لا سيّما إذا قيس إلى أبناء سنّه كما ذكره المحقّق رحمه‌الله في خصوص هذا الشقّ والشيخ في النهاية مطلقاً، وكذا يحيى بن سعيد في الجامع.

قوله عليه‌السلام: «وإن كان أربعة أخماس» لعلّه كان الأنسب «خمسة أسداس بصره» كما في موضع من التهذيب، لكن سائر نسخ الحديث كلّها متّفقة في ذلك، فيحتمل أن يكون الغرض بيان أنّ في الكسور يلزم اليمين الكامل، فإنّ أربعة أخماس أكثر من الثلاثين ولم يبلغ خمسة أسداس، مع أنّه عليه‌السلام حكم فيه بما يلزم في خمسة أسداس فافهم.

وقال في الروضة: المشهور أنّ القسامة في الأعضاء الموجبة للدية خمسون كما في النفس، وما دونها بحسابه، وقيل: قسامة الأعضاء الموجبة للدية ستّ


(561)

أيمان وما نقص عنها فبالنسبة.

قوله عليه‌السلام: «تقاس رجله» ظاهر الأكثر في ذلك أنّه إذا بلغ حدّ الشلل ففيه ثلثا دية العضو، وإلاّ ففيه الأرش، وقال يحيى بن سعيد في جامعه: ويقيس نقص العضد والفخذ بالصحيحين منهما، إنتهى.[1]

الحديث 1571: عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمّد وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ممّن يوثق به أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام تكلّم بهذا الكلام وحفظ عنه وخطب به على منبر الكوفة اللّهمّ إنّه لا بدّ لك من حجج في أرضك، حجّة بعد حجّة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلّمونهم علمك كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقّب إن غاب عن النّاس، شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم، قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون.

ويقول عليه‌السلام في هذه الخطبة في موضع آخر: فيمن هذا؟ ولهذا يأرز العلم‌إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ويروونه، كما سمعوه من العلماء ويصدقون عليهم فيه، اللّهمّ فإنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز كلّه ولا ينقطع موادّه، وإنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمطاع، أو خائف مغمور كيلا تبطل حجّتك ولا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم، بل أين هم؟ وكم هم؟ أولئك الأقلّون عدداً الأعظمون عند الله‌ قدراً.

المصادر: الكافي 1: 339، كتاب الحجّة، باب في الغيبة، ح13 وسائل الشيعة 27: 90، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ومايجوزأن يقضي به، ب8 ح 46، إلى قوله: فهم بها عاملون.


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 24: 111 .


(562)

الشرح: قال المازندراني:

قوله: «تكلّم بهذا الكلام وحفظ عنه» المراد بهذا الكلام الكلام الآتي وبالحفظ الحفظ بالكتابة أو بظهر القلب على الاحتمال.

قوله: «حجّة بعد حجّة» بيان لقوله حجج وتفسير له، ودفع لاحتمال الإجتماع، وقد مرّ أنّه لا يجتمع في الأرض حجّتان إلاّ واحدهما صامت.

قوله: «يهدونهم إلى دينك» الجملة حال عن الحجج وكونه إستينافاً لبيان سبب الإحتياج إليهم بعيد بالنظر إلى المقام، والمراد بالهداية هنا الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب وبالدين جميع ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم .

قوله: «ظاهر غير مطاع أو مكتتم يترقّب» أي: يترقّب ظهوره وهو صاحب الزمان عليه‌السلام، وأمّا غيره من الأئمّة فهو مندرج في الأوّل لظهورهم بين الخلق وعدم إطاعة الخلق لهم، ولا ينتقض بأمير المؤمنين عليه‌السلام في أيّام خلافته، لأنّه أيضاً لم يكن مطاعاً على وجه الكمال كما دلّت عليه الأخبار والآثار، و «ظاهر» إمّا مجرور على أنّه صفة لحجّة أو مرفوع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف.

قوله: «إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مثبوت علمهم» الهدنة الإسم من المهادنة وهى المصاحبة والمثبوت من ثبته بمعنى أثبته وثبت جاء لازماً ومتعدّياً، وإضافة القديم إلى المثبوت، والمثبوت إلى العلم، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، يعني إن غاب من الخلق شخصهم بالإنزواء والإعتزال في حال مصالحتهم مع الأعداء المتغلّبة وعدم اقتدارهم على الظهور وإجراء الأحكام خوفا منهم وممّن تابعهم، لم يغب عمّن تابعهم علمهم المثبوت القديميّ الذي نقله الروّاة الثقات، وكأنّه عليه‌السلام أخبر عن أمثال زماننا هذا فإنّ علمهم مع غيبتهم شائع بين أصحاب الإيمان أرباب العرفان بنقل السابقين إلى التابعين، وهكذا ينقل إلى ما شاء الله‌، وإليه يشير ما رواه جابر بن عبد الله‌


(563)

الأنصارى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ذكر المهدى، فقال: ذلك الذي يفتح الله‌ عزّ وجلّ على يديه مشارق الأرض ومغاربها يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلاّ من امتحن الله‌ قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت: يا رسول الله‌ هل لشيعته إنتفاع به في غيبته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: أي والذي بعثنى بالحقّ أنّهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب.

أقول: هذا تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح، ولا يخفى ما فيه من الحسن واللطف، إذ كما أنّ الشمس المستترة بالسحاب تنوّر هذا العالم الجسماني وتربّيه وتنمّيه وتغذّيه، كذلك الإمام المستتر بحجاب الغيبة ينوّر العالم الروحاني ويربّيه وينميه ويغذيه، وهو قلوب العارفين وعقول المؤمنين فقلوبهم عارفة بأنوار علومهم وعقولهم مشرقة باشراق نورهم والله‌ الهادى.

قوله: «وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة» الظاهر أنّ آدابهم مبتدأ، ومثبتة خبره والجملة حال عن ضمير عنهم، والمراد بالآداب الأخلاق المرضيّة والأطوار السنيّة بقرينة مقابلته مع العلم، المراد به علم الأحكام النبويّة والمعارف الإلهية، وإنّما قلت الظاهر، ذلك لاحتمال أن يكون آدابهم عطفاً على علمهم ومثبتة حالا عنهما وفي متعلّقاً بمثبتة، وتخصيص قلوب المؤمنين بالذكر، لأنّها القابلة لقبول علمهم وآدابهم دون غيرها.

قوله: «فهم بها عاملون»تقديم الظرف يفيد الحصر، يعنى: أنّهم عاملون بعلوم الائمة عليهم‌السلام لا بغيرها من الأقيسة والإستحسانات المخترعة والآراء المبتدعة، كما هو شأن أهل الخلاف وأرباب الضلال، وفيه أيضاً دلالة على أنّ العمل بدون العلم ليس بعمل وهو كذلك، لأنّ العلم أصل والعمل فرع ولا يعقل وجود الفرع بدون الأصل.

قوله: «فيمن هذا» في بعض النسخ «فمن هذا» وفيه إشارة إلى قلّة وجوده


(564)

وهو الحقّ.[1]

وقال الفيض الكاشاني:

بيان: «أتباع أوليائك» في بعض النسخ «نبيّك» وفي بعضها «أولئك» «يترقّب» ينتظر «هدنتهم» سكونهم ومصالحتهم «مبثوث علمهم» بالمثلّثتين منتشرة «فيمن هذي» في شأن من تكلّم في العلم بغير معقول من الهذيان «ولهذا» ولأجل أنّ الناس يصيرون إلى مثل هذا ويتكلّمون بالباطل «يأرز العلم» بتقديم المهملة ينضّم بعضه إلى بعض ويجتمع عند أهله «مغمود» مستور «بل أين هم وكم هم» يعني أين يوجد أولياؤك وكم يوجد منهم.[2]

وقال العلاّمة المجلسي:

السبيعي: بفتح السين وكسر الباء نسبة إلى بطن من همدان واسمه عمرو بن عبد الله‌ «حجّة» بدل تفصيل لقوله «حجج».

«علمك» أي: ما علمتهم «كيلا يتفرّق» أي: في الآراء والعقائد «ظاهر» إمّا مجرور فيكون نعت«حجّة» أو مرفوع بتقدير مبتدأ أي كلّ منهم «أو مكتتم» على بناء المفعول، يقال: كتمته واكتتمته أي: سترته «يترقّب» على بناء المجهول أي ينتظر، وقيل: هو قائم مقام جزاء «إن غاب» بقرينة الفاء في قوله«فلم يغب».

«شخصهم» أي: الموجود من جملتهم «مبثوث علمهم» لعلّ المفعول بمعنى الفاعل، فإنّي لم أره متعدّيا فيما عندنا من كتب اللغة، وفي بعض النسخ بتقديم الباء على المثلّثة أي منتشر علمهم وهو أظهر «وآدابهم» مبتدأ خبره مثبتة، والمراد بآدابهم أخلاقهم وسيرهم «فهم بها» أي: بالعلوم والآداب، وقيل: المراد بآدابهم قواعدهم الكليّة الاُصوليّة المتعلّقة بكيفيّة عمل أهل الغيبة نحو جواز


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 6: 241 .

2. كتاب الوافي 2: 409 .


(565)

العمل بأخبار الآحاد.

«فيمن هذا» الإستفهام للتقليل، أي: العمل بآدابهم المثبتة في قلوب الناس ليس إلاّ في قليل منهم «ولهذا» أي: ولقلّة ما ذكر ينقبض العلم وتقلّ الحملة، وهو بالتحريك جمع حامل.

وقال بعض الأفاضل«فيمن هذا» أي: في شأن من تكلّم بغير معقول من الهذيان «ولهذا» أي: ولأجل أنّ الناس يصيرون إلى مثل هذا ويتكلّمون بالباطل «يأرز العلم» أي: ينضّم بعضه إلى بعض ويجتمع عند أهله، إنتهى.

وما أشبه هذا بالهذيان وإن كان القائل أجلّ من ذلك، وفي بعض النسخ «فمن هذا» كما في رواية النعماني، فمن بالكسر ولهذا تأكيد له، وهذا في الموضعين إشارة إلى كلام أسقط من البين، ويمكن أن يقرأ بالفتح على الإستفهام للقلّة بالمعنى المتقدّم.

وفي رواية النعماني: وهم بها عاملون يأنسون بما يستوحش منه المكذّبون ويأباه المسرفون، وبالله‌ كلام يكال بلا ثمن، من كان يسمعه بعقله فيعرفه ويؤمن به، ويتبعه وينهج نهجه فيصلح به، ثمّ يقول: فمن هذا ولهذا يأزر العلم، إذ لم يوجد حملة يحفظونه ويؤدّونه كما يسمعونه من العالم، ثمّ قال بعد كلام طويل في هذه الخطبة: «اللّهمّ فإنّي لأعلم» إلى آخره. «يحفظونه» أي: على ظهر القلب وفي الكتب، وقيل: يرعونه حقّ الرعاية ويصدقون على بناء المجرّد، أي: هم صادقون فيما يروونه عنهم في العلم، وربما يقرأ على مجهول باب التفعيل، أي: يصدقهم الناس في الرواية لعلمهم بعد التهم.[1]

الحديث 1572: عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عليّ بن


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 4: 47 ـ 49 .


(566)

رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: قال لي: يا زياد ما تقول لو أفتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التّقيّة؟ قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً.

وفي رواية أخرى إن أخذ به اُوجر، وإن تركه ـ والله‌ ـ أثم.

المصادر: الكافي 1: 65، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح4، وسائل الشيعة 27: 107، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب9، ح2.

قال الحرّ العاملي:

أقول: هذا محمول على ما لم يعلم كونه تقيّة لعدم وجود معارضة، لما مضى ويأتي، أو مخصوص بوقت التقيّة.[1]

الشرح: قال المازندراني:

قوله عليه‌السلام: «قال لي: يا زياد ما تقول لو أفتينا رجلا ممّن يتولاّنا بشيء من التقيّة» أي: من أجل التقيّة أو ممّا يتّقى به، يعني: هل يثاب بالعمل به أم لا؟ «قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك قال: إنّ أخذ به» أي: إن أخذ بذلك الشيء الّذي أفتينا به من أجل التقيّة وعمل به «فهو خير له وأعظم أجراً» من الأخذ بالحكم الواقعيّ والعمل به عند انتفاء الخوف والتقيّة، أو عند تحقّقها، وفيه على الأخير دلالة على أنّ لتارك التقيّة العامل بخلافها أيضاً أجراً وثواباً ولا يبعد ذلك، لأنّ لكلّ واحد من الحكمين رجحاناً من وجه، أمّا الحكم المستند إلى التقيّة فلأنّه ترس المؤمن وحرزه ووقاية لنفسه وماله، وأمّا الحكم الّذي هو خلافه فلأنّه حكم الله‌ بالذّات، والمكلّف به أصالة، فكما يؤجر بالأوّل ينبغي أن يؤجر بالثاني أيضاً، والظاهر أنّ ترتّب الإثمّ على ترك الأوّل كما يستفاد من الرّواية الاُخرى


--------------------------------------------------

1. وسائل الشيعة 27: 107 .


(567)

لا ينافي ثبوت الأجر وترتّبه على الأخذ بالثاني والله‌ أعلم.

قال بعض الأفاضل: لمّا كان العمل بالتقيّة كبيراً إلاّ على من خصّه الله‌ بنور من المعرفة وهداه إلى طريق الحقّ، استكشف عليه‌السلام عن باطن الرجل واستفهم عن قوله، لو أفتى رجلاً من الشيعة بشيء من التقيّة، ثمّ لما أظهر الرجل الطاعة والإنقياد في كلّ ما أفتى وأمر، قال: حقّ القول فيها وهو وجوب العمل بالتقيّة، وحصول الأجر العظيم بالأخذ بها.

أقول: هذا الرجل وهو أبو عبيدة الحذّاء الكوفيّ وإسمه زياد بن عيسى، كان ثقة صحيحاً كما صرّح به أصحاب الرجال، وكان حسن المنزلة عند آل محمّد عليهم‌السلام، وكان زامل أبا جعفر عليه‌السلام إلى مكّة، وكان له كتاب يرويه عنه، وعن عليّ بن رئاب كما صرّح به النجاشي، فحال باطنه وحسن اعتقاده وانقياده كانت معلومة له عليه‌السلام، فيستبعد أن يكون الغرض من الاستفهام استعلام حال باطنه وحسن اعتقاده كما ذكره هذا الفاضل، بل الغرض منه استعلام أنّه هل يعلم حكم ما يترتّب على العمل بالتقيّة وعلى تركه أم لا، فلمّا أظهر الرجل عدم علمه بذلك وفوّض العلم به إليه عليه‌السلام بيّن الحكم له، وإنّما لم يعلّمه أوّلاً بدون سؤال، لأنّ التعليم بعد العلم بأنّ المخاطب لا يعلم، أثبت وأنفع من التعليم ابتداءً.

«وفي رواية أخرى إن أخذ به أوجر» أوجر على البناء للمفعول وقراءته على صيغة التفضيل بمعنى أشدّ أجراً بعيد «وإن تركه والله‌ أثم» لأنّ التقيّة دين الله‌ تعالى وضعها لعباده الصالحين، فمن أخذ بها استحقّ الأجر ومن تركها وألقى نفسه إلى التهلكة استحقّ الإثم، والأظهر أنّ «أثم» من المجرّد، ويجوز قراءته بالمدّ من باب الإفعال للدّلالة على كثرة الإثم، لأنّ هذا الباب قد يجيء للدّلالة على الكثرة كما صرّح به أصحاب العربيّة، لا يقال ثبوت الإثم لترك التقيّة ينافي ما يجيء في باب التقيّة، من قول الباقر عليه‌السلام في رجل من الشيعة قتل لترك التقيّة، أنّه تعجّل إلى


(568)

الجنّة[1] لأنّا نقول: ثبوت الإثم له لا ينافي دخول الجنّة، أو نقول: المراد بالإثم قلّة الأجر بالنسبة إلى العمل بالتقيّة، وفي الرواية السابقة إشعار به على احتمال.[2]

قال العلاّمة المجلسي:

قوله: «فهو خير له وأعظم أجراً» أي: من العمل بالحكم الواقعيّ في غير حال التقيّة على ما هو المشهور من بطلان العمل بالحكم الواقعيّ في حال التقيّة، إن قلنا بصحّته، وعلى هذا يكون الإثم الوارد في الخبر المرسل لترك التقيّة، لا لعدم الإتيان بما أمر به في أصل الحكم وهو بعيد.[3]

الحديث 1573: عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمّد الهمدانيّ، عن محمّد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن عليه‌السلام: يا محمّد! أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة ؟قال: قلت: قلّدنا وقلّدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل، فقال أبو الحسن عليه‌السلام: إنّ المرجئة نصبت رجلاً لم تفرض طاعته وقلّدوه، وأنتم[4] نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته، ثمّ لم تقلّدوه فهم أشدّ منكم تقليداً.

المصادر: الكافي 1: 53، كتاب فضل العلم، باب التقليد، ح2، وسائل الشيعة 27: 125، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به، ب10، ح2 جامع أحاديث الشيعة 1: 422، أبواب المقدّمات، ب7 باب عدم حجّية القياس والرأي والإجتهادو...، ح 120.

الشرح: قال المازندراني:

«عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني» وكيل


--------------------------------------------------

1. الكافي2:221، كتاب الايمان والكفر، باب التقية، ح21.

2. شرح اُصول الكافي 2: 398 .

3. مرآة العقول 1: 217

4. في الوسائل: «وإنّكم» بدل «وأنتم».


(569)

الناحية ثقة على ما رواه الكشيّ «عن محمّد بن أبي عبيدة قال: قال لي أبو الحسن عليه‌السلام: يا محمّد أنتم أشدّ تقليدا أم المرجئة؟» التقليد اتّباع الغير في القول والفعل والأمر والنهى من القلادة وهي التي في العنق، والإرجاء التأخير ويطلق المرجئة على فرقة مقابلة للشيعة، لأنّهم يؤخّرون عليّاً عليه‌السلام عن مرتبته، وعلى فرقة مقابلة للوعيديّة وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سمّوا مرجئة لاعتقادهم أنّ الله‌ تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي: أخّره عنهم وقيل: لتأخيرهم العمل بالسنّة، وإطلاق المرجئة على هاتين الفرقتين ممّا صرح به الشهرستاني في الملل والنحل، والمراد هنا الفرقة الاُولى ويمكن إرادة الفرقة الثانية أيضاً.

«قال: قلت: قلّدنا وقلّدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل» ليس الغرض من السؤال هو الاستعلام، لأنّه عليه‌السلام أعلم بذلك، بل الغرض منه التقرير والتوبيخ، أي: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وذمّه عليه، ومن كان عارفاً بالقوانين العربيّة يعلم أنّه ليس الغرض هنا تقرير أصل الفعل أعني التقليد، لأنّه ثابت محقّق مفروغ عنه فما أجاب به السائل لم يقع السؤال عنه، فلذلك قال عليه‌السلام: لم أسألك عن هذا، بل الغرض هو السؤال عن أشدّيّة تقليد أحد الفريقين والتقرير عليها.

«فقال أبو الحسن عليه‌السلام: إنّ المرجئة نصبت رجلاً» من عند أنفسهم لإمارتهم وإمامتهم «لم تفرض طاعته» بأمر الله‌ تعالى وأمر رسوله بحسب الواقع ولا باعتقادهم أيضاً «وقلّدوه» في جميع أفعاله وأقواله وأوامره ونواهيه، المخالفة لحكم الله‌ وحكم رسوله وكتابه «وأنتم نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته» على أنفسكم بأمر الله‌ وأمر رسوله، وهو الجاذب لكم إلى الخيرات «ثمّ لم تقلّدوه» فيما يأمركم به وينهاكم عنه موافقا للكتاب والسنّة ممّا يتمّ به نظامكم في الدّنيا


(570)

والآخرة «فهم أشدّ تقليداً منكم» ولعلّ السرّ فيه: أنّ لهم باعثا من الشيطان ولأهل الحقّ زاجر منه، فلذلك يتثاقلون في المتابعة، وفيه ترغيب في متابعته عليه‌السلام والرجوع إليه في الأحكام وغيرها ممّا هو سبب لمزيد الكرامة في دار المقامة وتوبيخ على الاعراض عنه والتثاقل في السماع منه.[1]

وقال العلاّمة المجلسي:

قوله عليه‌السلام: «أم المرجئة» قد يطلق المرجئة في مقابل الشيعة من الإرجاء بمعنى التأخير لتأخيرهم عليّاً عليه‌السلام عن درجته، وكأنّه المراد هنا، وقد يطلق في مقابلة الوعيديّة، إمّا من الإرجاء بمعنى التأخير، لأنّهم يؤخّرون العمل عن النيّة والقصد، وإمّا بمعنى إعطاء الرجاء، لأنّهم يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الأيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقيل: كان الشائع في سابق الزمان التعبير بالقدريّة والمرجئة عمّن يضاهي المعبّر عنه في هذه الأعصار بالمعتزلة والأشاعرة في اُصول الإعتقادات، كما ورد في رواية ابن عبّاس أنّه قال: أمرني رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أن أبرأ من خمسة: من الناكثين وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أصحاب الشام، ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدريّة وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم، فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة الذين ضاهوا اليهود في دينهم فقالوا: الله‌ أعلم.

قوله عليه‌السلام: «لم تفرض طاعته» على بناء المجهول، أي: لم يفرض الله‌ تعالى طاعته، ومع ذلك لا يخالفونهم في شيء، أو على بناء المعلوم أي: لم يفرضوا على أنفسهم طاعتهم، إمّا لأنّهم على الباطل فلم يجب عندهم متابعتهم، أو لأنّهم يجوّزون الإجتهاد على‌خلافهم، والحاصل أنّ رسوخهم في التقليد والمتابعة أشدّ


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 2: 277 ـ 278 .


(571)

منكم، وهذه شكاية منه عليه‌السلام عن بعض الشيعة.[1]

الحديث 1574: وعن محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمّد بن مروان، عن عليّ بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله‌ عليه‌السلام يقول: اعرفوا منازل النّاس على قدر روايتهم عنّا.

المصادر: وسائل الشّيعة 27: 137، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب11 ح 3، وقد أورده في ص 79، ب8 ح7. وقد مرّ الحديث في الصفحة 554، رقم الحديث 1568، فراجع هناك.

الحديث 1575: محمّد بن الحسين[2] وعليّ بن محمّد،[3] عن سهل، عن أحمد بن المثنّى، قال: حدّثني محمّد بن زيد الطبريّ، قال: كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرّضا عليه‌السلام يسأله الإذن في الخمس فكتب إليه:

بسم الله‌ الرّحمن الرّحيم، إنّ الله‌ واسع كريم ضمن على العمل الثّواب وعلى الضيّق الهمّ لا يحلّ مال إلاّ من وجه أحلّه الله‌ وإنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته، فلا تزووه عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم، وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي للّه‌ بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللّسان وخالف بالقلب، والسّلام.

المصادر: وسائل الشيعة: 27، 156، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به، ب12 ح8، قطعة منه، وأورده بتمامه في ج9: 538، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، ب3 ح2. وقد مرّ الحديث في المجلّد الثاني رقم الصفحة 40، رقم الحديث 490، فراجع هناك.


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 1: 184 .

2. في الوسائل: «وعن محمّد بن الحسن».

3. في الوسائل زيادة: «جميعاً».


(572)

الحديث 1576: محمّد بن أبي عبد الله‌، ومحمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد جميعاً، عن الحسن بن العبّاس بن الحريش، عن أبي جعفر الثّاني عليه‌السلام قال: قال أبو عبد الله‌ عليه‌السلام: بينا أبي عليه‌السلام يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيّض له فقطع عليه أسبوعه حتّى أدخله إلى دار جنب الصّفا، فأرسل إليّ فكنّا ثلاثة، فقال: مرحباً يا ابن رسول الله‌، ثمّ وضع يده على رأسي وقال: بارك الله‌ فيك يا أمين الله‌ بعد آبائه.

يا أبا جعفر إن شئت فأخبرني، وإن شئت فأخبرتك، وإن شئت سلني وإن شئت سألتك، وإن شئت فاصدقني وإن شئت صدّقتك قال: كلّ ذلك أشاء، قال: فإيّاك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمر لي غيره، قال: إنّما يفعل ذلك من في قلبه علمان يخالف أحدهما صاحبه، وإنّ الله‌ عزّ وجلّ أبى أن يكون له علم فيه اختلاف، قال: هذه مسألتي وقد فسّرت طرفاً منها.

أخبرني عن هذا العلم الّذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟ قال: أمّا جملة العلم فعند الله‌ جلّ ذكره، وأمّا ما لا بدّ للعباد منه فعند الأوصياء، قال: ففتح الرّجل عجيرته واستوى جالسا وتهلّل وجهه، وقال: هذه أردت ولها أتيت زعمت أنّ علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟ قال: كما كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم يعلمه إلاّ أنّهم لا يرون ما كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم يرى، لأنّه كان نبيّاً وهم محدّثون، وأنّه كان يفد إلى الله‌ عزّ وجلّ فيسمع الوحي وهم لا يسمعون، فقال: صدقت يا ابن رسول الله‌ سآتيك بمسألة صعبة.

أخبرني عن هذا العلم ما له لا يظهر كما كان يظهر مع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم قال: فضحك أبي عليه‌السلام وقال: أبى الله‌ عزّ وجلّ أن يطلع على علمه إلاّ ممتحناً للإيمان به، كما قضى على رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أن يصبر على أذى قومه، ولا يجاهدهم إلاّ بأمره، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتّى قيل له: «فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ


(573)

الْمُشْرِكِينَ»[1] وأيم الله‌ أن لو صدع قبل ذلك لكان آمناً، ولكنّه إنّما نظر في الطّاعة، وخاف الخلاف فلذلك كفّ، فوددت أنّ عينك تكون مع مهديّ هذه الأمّة، والملائكة بسيوف آل داود بين السّماء والأرض تعذّب أرواح الكفرة من الأموات، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء.

ثمّ أخرج سيفاً، ثمّ قال: ها إنّ هذا منها، قال: فقال: أبي إي والّذي اصطفى محمّداً على البشر، قال: فردّ الرّجل اعتجاره وقال: أنا إلياس ما سألتك عن أمرك وبي منه جهالة، غير أنّي أحببت أن يكون هذا الحديث قوّة لأصحابك، وسأخبرك بآية أنت تعرفها إن خاصموا بها فلجوا، قال: فقال له أبي: إن شئت أخبرتك بها، قال: قد شئت، قال: إنّ شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا: إنّ الله‌ عزّ وجلّ يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ»[2] إلى آخرها، فهل كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم يعلم من العلم شيئا لا يعلمه في تلك اللّيلة أو يأتيه به جبرئيل عليه‌السلام في غيرها؟ فإنّهم سيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان لما علم بدّ من أن يظهر؟ فيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان فيما أظهر رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم من علم الله‌ عزّ ذكره اختلاف؟ فإن قالوا: لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله‌ فيه اختلاف، فهل خالف رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم؟ فيقولون: نعم، فإن قالوا: لا، فقد نقضوا أوّل كلامهم فقل لهم: ما يعلم تأويله إلاّ الله‌ والرّاسخون في العلم، فإن قالوا من الرّاسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا: فمن هو ذاك[3]؟ فقل: كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم صاحب ذلك، فهل بلّغ أو لا؟ فإن قالوا: قد بلّغ، فقل: فهل مات صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم والخليفة من بعده يعلم علماً ليس فيه اختلاف؟ فإن قالوا: لا، فقل: إنّ خليفة رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم


--------------------------------------------------

1. سورة الحجر 15: 94 .

2. سورة القدر 97: 1 .

3. في الوسائل: «من ذاك».


(574)

مؤيّد ولا يستخلف رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم إلاّ من يحكم بحكمه وإلاّ من يكون مثله إلاّ النّبوّة، وإن كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لم يستخلف في علمه[1] أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده، فإن قالوا لك: فإنّ علم رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كان من القرآن فقل: «حـم * وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا ـ إلى قوله: ـ «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»[2] فإن قالوا لك: لا يرسل الله‌ عزّ وجلّ إلاّ إلى نبيّ، فقل: هذا الأمر الحكيم الّذي يفرق فيه هو من الملائكة والرّوح الّتي تنزّل من سماء إلى سماء أو من سماء إلى أرض؟ فإن قالوا: من سماء، إلى سماء فليس في السّماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية، فإن قالوا: من سماء إلى أرض ـ وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك ـ فقل: فهل لهم بدّ من سيّد يتحاكمون إليه؟ فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم فقل: «الله‌ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ـ إلى قوله: ـ خَالِدُونَ»[3] لعمري ما في الأرض ولا في السّماء وليّ للّه‌ عزّ ذكره إلاّ وهو مؤيّد، ومن اُيّد لم يخط، وما في الأرض عدوّ للّه‌ عزّ ذكره إلاّ وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما أنّ الأمر لا بدّ من تنزيله من السّماء يحكم به أهل الأرض، كذلك لا بدّ من وال، فإن قالوا: لا نعرف هذا، فقل لهم: قولوا ما أحببتم، أبى الله‌ عزّ وجلّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم أن يترك العباد ولا حجّة عليهم.

قال أبو عبد الله‌ عليه‌السلام: ثمّ وقف، فقال: هاهنا يا ابن رسول الله‌ باب غامض أ رأيت إن قالوا: حجّة الله‌ القرآن؟ قال: إذن أقول لهم: إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهى، ولكن للقرآن أهل يأمرون وينهون.


--------------------------------------------------

1. ليس في الوسائل: «في علمه».

2. سورة الدخان 44: 1ـ5.

3. سورة البقره 2: 257 .


(575)

وأقول: قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنّة والحكم الّذي ليس فيه اختلاف، وليست في القرآن، أبى الله‌ لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها، فقال: هاهنا تفلجون يا ابن رسول الله‌، أشهد أنّ الله‌ عزّ ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة في الأرض أو في أنفسهم من الدّين أو غيره، فوضع القرآن دليلاً، قال: فقال الرّجل: هل تدري يا ابن رسول الله‌ دليل ما هو؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام: نعم فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم، فقال: أبى الله‌ أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو في ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصّواب في تلك المصيبة، قال: فقال الرّجل: أمّا في هذا الباب فقد فلجتهم بحجّة إلاّ أن يفتري خصمكم على الله‌ فيقول ليس للّه‌ جلّ ذكره حجّة، ولكن أخبرني عن تفسير «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ»[1]؟ ممّا خصّ به عليّ عليه‌السلام «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»[2] قال: في أبي فلان وأصحابه واحدة مقدّمة وواحدة مؤخّرة «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ»[3] ممّا خصّ به عليّ عليه‌السلام «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»[4] من الفتنة الّتي عرضت لكم بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فقال الرّجل: أشهد أنّكم أصحاب الحكم الّذي لا اختلاف فيه، ثمّ قام الرّجل وذهب فلم أره.

المصادر: الكافي 1: 242، كتاب الحجّة، باب في شأن إنّا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها، ح1 وسائل الشيعة 27: 177، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوزأن يقضي به، ب13 ح3، قطعة من الحديث مع اختلاف، جامع أحاديث الشيعة 1: 238، أبواب المقدّمات، ب4 باب حجّية فتوى الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم‌السلام بعد الفحص، ح84، إلى قوله: «فيقول ليس للّه‌ جلّ ذكره حجّة...».

الشرح: قال المازندراني:


--------------------------------------------------

1 ـ 4. سورة الحديد 57: 23 .


(576)

قوله: «إذا رجل معتجر» في النهاية الإعتجار هو أنّ يلفّ العمامة على رأسه ويردّ طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه، ومنه حديث الحجّاج دخل مكّة معتجراً بعمامة سوداء، وفي المُغرب الإعتجار: الإعتمام، وأمّا الإعتجار المنهيّ عنه في الصلاة فهو ليّ العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك عن الأزهري، وتفسير من قال: هو أن يلفّ العمامة على رأسه ويبدي الهامّة أقرب، لأنّه مأخوذ من معجر المرأة وهو ثوب كالعصابة يلفّه المرأة على استدارة رأسها، وفي الأجناس، عن محمّد، المعتجر المتنقّب بعمامته وقد غطّى أنفه.

قوله: «قد قيّض له» على صيغة المجهول من باب التفعيل يقال: قيّض الله‌ فلاناً لفلان، أي: جاءه به وأتاحه له، يعني قدّره له، ومنه قوله تعالى: «وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ»[1] أي: قدّرنا وسبّبنا لهم من حيث لا يحتسبونه.

قوله: «مرحباً» أي: لقيت رحباً وسعة، وقيل: معناه رحّب الله‌ بك مرحباً فجعل المرحب موضع الترحيب. وقيل أتيت سعة.

قوله: «بارك الله‌ فيك» أي: زاد الله‌ فيك خيراً أو ثبّتك فيه.

قوله: «إن شئت فأخبرني» خيّره بين ثلاثة اُمور: الأوّل: الإخبار وهو إفادة المخاطب، والثاني: المسألة وهى إستفادة ما عنده، والثالث: الصدق أو تصديق المتكلّم وعده صادقاً وهو يناسب الأوّلين جميعاً، لأنّه يناسب الإخبار والجواب كليهما وهذا من جملة الآداب في التخاطب والمناظرة.

قوله: «فإيّاك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمر لي غيره» إضافة المسألة إلى الفاعل أو المفعول، والباء متعلّق بينطبق، والإضمار التغيّب والإخفاء،


--------------------------------------------------

1. سورة فصلت 41: 25 .


(577)

ومنه أضمر في قلبه شيئاً كما صرّح في المُغرِب، وكأنّه حذّره من أن ينطق بغير ما يضمر في قلبه، وأمره بأن يكون لسانه مطابقاً لما في قلبه غير مخالف له كما هو شأن أصحاب المناظرة والجدل، أو أمره بأن ينطق بما يفيد اليقين دون الإحتمال أو الظاهر، فأجاب عليه‌السلام بأنّ ذلك شأن من كان في قلبه علمان يخالف أحدهما الآخر، وأمّا من كان في قلبه علم واحد لا اختلاف فيه فلسانه مطابق لقلبه، وما ينطق به يفيد اليقين الذي لا يحتمل غيره.

قوله: «أمّا جملة العلم فعند الله‌ تعالى» المراد بجملة العلم كلّه، قوله: «ففتح الرجل عجرته» قال الجوهري العجرة بالكسر نوع من العمّة هكذا في بعض النسخ، وفي أكثرها عجيزته بالياء بعد الجيم والزاي المعجمة بعد الياء، والعجز مؤخّر الشيء يذكّر ويؤنّث وهو للرجل والمرأة جميعاً والجمع الأعجاز، والعجيزة للمرأة خاصّة كذا في الصحاح، قال ابن الأثير: في حديث البراء إنّه رفع عجيزته في السجود العجيزة العجز وهي للمرأة خاصّة فاستعارها للرجل.

قوله: «وتهلّل وجهه» في الصراح تهلّل درخشيدن برق وروى از شادى.

قوله: «زعمت» الزّعم مثلّثة قد يطلق على القول الحقّ وإن كان إطلاقه على الباطل والكذب وما يشكّ فيه أكثر.

قوله: «فكيف يعلمونه» سأل عن كيفيّة حصوله وطريق تعلّمه، فأجاب بأنّهم سمعوه من الملائكة مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم إلاّ أنّه كان يراهم وهم لا يرونهم، للفرق بين النبيّ والمحدّث، ولعلّ المقصود أنّ لهم علوماً من هذا الطريق لا أنّ كلّ علومهم منه وإلاّ فجلّ علومهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم .

قوله: «وأنّه كان يفد» وفد إليه وعليه قدم وورد، وهذا فرق آخر بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم بأنّهم لا يسمعون الوحي بلا واسطة من الله‌ تعالى وهو يسمعه.

قوله: «أخبرني عن هذا العلم» سأل عن سبب عدم ظهور هذا العلم الّذي


(578)

لا اختلاف فيه مع الأوصياء حتّى لا يوجد في الدّين اختلاف، ويرجع إليهم الناس كلّهم، كما كان يظهر مع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، قوله: «فضحك أبي عليه‌السلام » سبب الضحك أمران: أحدهما: أنّه جعل هذه المسألة صعبة وليست كذلك. والآخر: أنّه سأله للإمتحان والإختبار بحسب الظاهر تجاهلاً عن حاله عليه‌السلام مع علمه عليه‌السلام بأنّه عارف بحاله.

قوله: «وقال أبى الله‌ عزّ وجلّ أن يطّلع على علمه إلاّ ممتحناً للإيمان به» حاصل الجواب: أنّ ظهور هذا العلم مع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم دائماً في محلّ المنع، فإنّه كان مدّة في أوّل البعثة مأموراً بستره واكتتامه إلاّ عن أهله، وهو الممتحن للإيمان حتّى اُمر بالإعلان والإظهار على الناس كلّهم، وكذلك الأوصياء مأمورون بستره واكتتامه إلاّ عن أهله حتّى يؤمروا بإعلانه وإظهاره، وحتّى يأتي إبّان أجله الذي يظهر فيه الدين الحقّ على كافّة الناس وهو زمان مهديّ هذه الامّة.

قوله: «فكم من اكتتام قد اكتتم به» المصدر بمعنى المفعول، وكم خبريّة لبيان الكثرة، وضمير المجرور راجع إلى الإكتتام أو إلى الأمر ويرجّح الثاني، بأنّ الإكتتام يتعدّى بنفسه، يقال: إكتتمت الشيء فهو مكتتم إذا أريد المبالغة في الكتمان يعني: أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم قد ستر كثيراً من الاُمور المستورة والأسرار الخفيّة عن غير أهلها، حتّى قيل له: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ»[1] أي: تكلّم به جهاراً «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»[2] ولا تلتفت إلى ما يقولون من الإستهزاء وغيره.

قوله: «وأيم الله‌» أي: وأيم الله‌ قسمي، وهو لفظ وضع للقسم، لو صدع بالحقّ وتكلّم به جهاراً قبل ذلك لكان آمناً في نفسه وأهله، ولكنّه إنّما نظر في طاعة الربّ وخاف خلافه أو خلاف الأمّة وعدم تأثير الصدع فيهم، فلذلك كفّ عن


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة الحجر 15: 94 .


(579)

الإجهار، ولذلك يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند فوات التأثير، والعلم بعدمه كما يسقط عند خوف النفس، وبالجملة إذا سقط الإعلان والإجهار عن النبيّ مع عدم خوف النفس لمصلحة اُخرى سقط عن الوصي مع خوف النفس بطريق أولى.

قوله: «فوددت أنّ عينك» أشار إلى أنّ الوصيّ الذي يظهر معه هذا العلم الذي لا اختلاف فيه بأمر الله‌ تعالى مهدي هذه الاُمّة الذي ينصره الله‌ تعالى بالملائكة، وزمانه زمان ظهور دين الحقّ على الأديان كلّها ولو كره المشركون.

قوله: «ثمّ أخرج سيفاً، ثمّ قال: ها» الـ «ها» حرف التنبيه أو بمعنى خذ وقد تمدّ، أي: ثمّ أخرج ذلك الرجل سيفاً من غمده، ثمّ قال: ها إنّ هذا السيف من سيوف آل داود، والمراد بها إمّا الحقيقة أو تشبيهاً بسيوف آل داود في جريانها على الأعداء والإستيلاء على أهل العالم كما استولى سليمان عليه‌السلام .

قوله: «غير أنّي أحببت أن يكون هذا الحديث قوّة لأصحابك» في مناظرة الخصم حيث يقولون: لو كان للنبيّ وصيّ عالم بعلومه كلّها لوجب عليه أن يظهر على الخلق إمامته وعلمه حتّى لا يختلف أحد، وحيث لم يظهر، علم أنّه لا وصيّ ولا عالم بعلومه كلّها.

والجواب ما أشار إليه عليه‌السلام: من أنّ الإظهار إنّما يجب لو لم يكن مأموراً بإخفائه، وأمّا مع الأمر به فلا، كما لم يظهر النبيّ.

وبالجملة وجوب الإظهار دائر مع الأمر به فعند انتفاعه لا يجب.

قوله: «فلجوا» الفالج الغالب وقد فلج أصحابه وعلى أصحابه إذا غلبهم، والإسم الفلج بالضمّ.

قوله: «قال إنّ شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا» حاصل هذا القول إلزامهم بأنّهم مخالفون لرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم في العلم والأحكام، وإنّ في الأمّة من لا يخالفه


(580)

وهو وصيّه وصاحب علومه وأسراره، وبناء الإلزام على مقدّمات كلّها مسلّمة عندهم.

الأوّل: أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم عالم بجميع الأشياء.

والثانيّة: أنّه وجب عليه إظهار علومه.

والثالثة: أنّه لا اختلاف في علمه وحكمه.

والرابعة: أنّ كلّ من حكم بحكم كان فيه اختلاف فقد خالفه.

ومن هذه المقدّمات ظهر أنّهم مخالفون له في العلم والحكم، إذ في علمهم وحكمهم اختلاف إلاّ أن يقولوا في المقدّمة الرابعة إنّ كلّ من حكم بحكم فيه اختلاف غير مخالف له، فيلزمهم أنّ هذا القول مناقض للمقدّمة الثالثة المسلّمة عندهم بالضرورة، إذ عدم مخالفتهم له مع تحقّق الإختلاف في علمهم وحكمهم إنّما يتحقّق إذا تحقّق الاختلاف في علمه وحكمه أيضاً، وهذا ممّا لم يقولوابه.

قوله: «لا يعلمه في تلك اللّيلة أو يأتيه به جبرئيل في غيرها» الظرف متعلّق بالمنفي، وقوله: أو يأتيه، عطف عليه.

قوله: «فإنّهم سيقولون لا» لاعترافهم بأنّه علم كلّ شيء في تلك اللّيلة لقوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ»[1] أو أتاه جبرئيل في غيرها، وبالجملة اعترفوا بأنّه لم يمت حتّى علم كلّ شيء.

قوله: «فهل كان لما علم بدّ» من أن يظهر، أي فراق من إظهاره، وقولهم لا بدّ من كذا، معناه لا فراق منه.

«فيقولون: لا» أي: فيقولون لا بدّ من إظهار علمه، لأنّه الغرض منه.

قوله: «فيقولون: نعم» ويلزمهم من ذلك أنّهم مخالفون لرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لوقوع الإختلاف في حكمهم.


--------------------------------------------------

1. سورة القدر 97: 4 .


(581)

قوله: «فإن قالوا: لا فقد نقضوا أوّل كلامهم» أي: فإن قالوا من حكم بحكم فيه اختلاف لم يخالف رسول الله‌ فقد نقضوا أوّل كلامهم، حيث قالوا: لا اختلاف فيما أظهر رسول الله‌ من علم الله‌ تعالى، لأنّ عدم التخالف يقتضي أن يكون في حكمه أيضاً اختلاف.

قوله: «فقل لهم» الفاء جزاء آخر للشرط، أي: فإن قالوا: لا، فقل لهم لابطال قولهم هذا بعد التناقض في كلامهم، بالدليل الدال على أنّ خليفة الرّسول مثله في جميع الصفات إلاّ النبوّة، فيجب أن يوافق قوله قوله، وحكمه حكمه، ولا يخالفه في أمر من الأمور، فمن خالفه ليس خليفة له.

قوله: «فهل بلّغ أولا» أي: فهل بلّغ الرسول ذلك العلم الذي لا اختلاف فيه إلى أحد أولا، فإن قالوا: لا، فقل... إلخ، أي: فان قالوا: لا يلزم أن يعلم الخليفة من بعده علماً ليس فيه اختلاف، فقل: إنّ هذا القول باطل بالضرورة، لأنّ خليفة الرسول مؤيّد مثله، ولا يستخلف الرسول إلاّ من يحكم بحكمه ويكون مثله في جميع الصفات إلاّ النبوّة، إذ الغرض من خلافته هو إقامة دينه وعلمه واجراء حكمه على أُمّته، ولو جاءت المخالفة بطلت الخلافة والغرض منها بالضرورة.

قوله: «وإن كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لم يستخلف في علمه أحداً... إلخ» أشار بذلك إلى إبطال احتمال آخر مقابل للإحتمال الأوّل، وهو قوله: فان قالوا: قد بلّغ يعني، وإن قالوا: إنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لم يبلّغ علمه ولم يستخلف في علمه أحداً، فيردّ عليهم أنّه قد ضيّع من في أصلاب الرجال، فمن يكون بعده إلى يوم القيامة، لأنّ تمسّكهم بشريعته موقوف على وجود حاكم عالم بعلمه ينوب منابه في إجراء أحكامه وحدوده وغيرها، فلو لم يستخلفه فقد ضيّعهم.

قوله: «فان قالوا لك» إشارة إلى ما توهّموا من منع مضمون الشرطيّة المذكورة وهو أنّ عدم تبليغ علمه وعدم استخلاف أحد فيه، موجب لتضييع من في


(582)

أصلاب الرجال، لأنّ علمه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كان من القرآن، والقرآن تبيان كلّ شيء وهو معمول بين الناس، فلا يلزم من عدم تبليغ علمه إلى أحد من الاُمّة وعدم استخلافه فيه ما ذكر، وقوله عليه‌السلام: «فقل: حـم إلى آخره» إشارة إلى دليل آخر دالّ على وجوب وجود خليفة له عالم بعلمه حاكم بين خلقه، وإنّما أعرض عن جواب المنع لكونه في غاية الضعف، مع أنّه سيشير إليه، والمراد بالكتاب المبين القرآن و وبالليلة المباركة، ليلة القدر، وبإنزاله فيها ابتداء إنزاله أو إنزال كلّه فيها إلى السماء الدنيا ثمّ إنزاله نجوماً، إلى الأرض، وبالأمر الحكيم، الأمر المحكم المشتمل على الحكمة، وبالإرسال إرسال الملائكة في ليلة القدر ما دامت الدنيا إلى من يتولّى اُمور الخلق ويحكم بينهم بالعدل.

قوله: «فإن قالوا لك» منعوا إرسال الملائكة إلى غير نبيّ، وبناء هذا المنع على أحد اُمور ثلاثة: الأوّل: اختصاص وجود ليلة القدر بعصر النبيّ وزواله بعده.

الثاني: وجودها بعده أيضاً واختصاص نزول الملائكة إلى النبيّ وهو حيّ.

الثالث: كذلك واستمرار نزولهم إليه وهو ميّت، ولمّا كان كلّ هذه الاُمور خلاف إجماع الاُمّة إلاّ من لا يعتدّ به كما صرّح به جماعة من علماء العامّة أيضاً ـ وستعرفه ـ لم يتعرّض عليه‌السلام في الجواب لدفع ذلك، بل أجاب بأنّه إذا نزلت الملائكة في ليلة القدر بعده صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم من كلّ أمر حكيم بحكم الآية الكريمة، نزلت إلى أهل الأرض قطعاً، لأنّ أهل السماء لا يحتاجون إلى الزجر والنهي، إذ أحد منهم لا يرجع إلى معصية الربّ حتّى يحتاج إلى الزجر عنها، وإذا نزلت إلى أهل الأرض وجب أن يكون هناك منزل إليه، وهو إمّا حاكم الجور أو حاكم العدل، والأوّل باطل، لأنّ الجائر معزول عن الحكم بالضرورة ولقوله تعالى «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ»[1] أي التابع للهوى النفسانيّة والوساوس الشيطانيّة،


--------------------------------------------------

1. سورة البقرة 2: 257 .


(583)

فهو لا يصلح أن يكون وليّا للمؤمنين ومورداً للملائكة ومتكفّلاً لأمر الخلق بالأمر والنهي، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

قوله: «هو من الملائكة والروح» الضمير راجع إلى الأمر الحكيم، أي: الأمر المحكم المتقن المتضمّن للحكم والمصالح، والجملة خبر بمعنى الإستفهام.

قوله: «وأهل الأرض أحوج الخلق» الواو إمّا للعطف على قوله من سماء أو للحال.

قوله: «فان قالوا: فانّ الخليفة هو حكمهم» الحكم بالتحريك هو الحاكم، والمراد بالخليفة سلطان العصر وخلفاء الجور، وهذا القول مشعر بأنّ أهل الخلاف أيضاً قائلون باستمرار حكم ليلة القدر، وقد صرّح به جماعة من علمائهم وادّعوا الإجماع عليه، فما ذكروه أوّلا من أنّ الله‌ تعالى لا يرسل إلاّ إلى نبيّ كان مكابرة.

قوله: «فقل الله‌ وليّ الّذين آمنوا»، ملخّص الجواب: أنّ وليّ المؤمنين وجب أن يكون متّصفاً بإخراجهم من ظلمات الجهل إلى العلم، ووليّ الكافرين والفاسقين عكس ذلك، فكيف يكون وليّ الكافرين والفاسقين وليّ المؤمنين، وتنزّل إليه الملائكة وتجعله والياً لأمرهم ونهيهم؟ !

قوله: «ومن خذل لم يصب» فكيف يجعل من يخطأ ولا يصيب وليّاً للمؤمنين؟ !

قوله: «كما أنّ الأمر لا بدّ» دفع بذلك توهّم أنّ الملائكة تنزل لا إلى أحد.

قوله: «قولوا ما أحببتم» دلّ على أنّ قولهم لا نعرف هذا محض المحبّة النفسانيّة و الهوى الشيطانيّة من غير أن يكون له أصل يستند إليه ومأخذ يعتمد عليه.

قوله: «أبى الله‌ أن يترك بعد محمّد العباد ولا حجّة عليهم» وإنّما أبي ذلك لئلاّ


(584)

يكون للناس على الله‌ حجّة يوم القيامة، ولئلاّ يبطل الغرض من إيجادهم، وحجّته تعالى عليهم يجب أن يكون من أهل العصمة والطهارة، ليتمّ الوثوق بقوله وفعله وأمره ونهيه ووعده ووعيده.

قوله: «ثمّ وقف» لعل المراد بالوقوف القيام لتعظيمه عليه‌السلام ورعاية الأدب، والغامض من الكلام خلاف الواضح، وهذا اعتراض على قوله عليه‌السلام «أبى الله‌ أن يترك بعد محمّد العباد ولا حجّة عليهم» فكأنّه قال: هذا حقّ ولكن الحجّة هو القرآن فلا يتمّ المطلوب.

قوله: «قال إذن أقول» حاصله: أنّ القرآن ليس بحجّة إلاّ بناطق مؤيّد يعلم ظاهر القرآن وباطنه وباطن باطنه ويأمر وينهى بالحقّ، ولذلك ترى كلّ واحدة من الفرق المختلفة يتمسّك بالقرآن وتخاصم به الاخرى وتحمله على المقاصد الباطلة، فعلم من ذلك أنّ القرآن ليس بحجّة مستقلة.

قوله: «وأقول قد عرضت» عطف على أقول ووجه آخر لدفع الاعتراض المذكور.

قوله: «ما هي في السنّة» المراد بعدم كون حكم تلك المصيبة في السنة والقرآن عدم كونه فيهما بحسب علم الناس وعقولهم القاصرة، فلا ينافي ما تقرّر من أنّ كلّ شيء فيهما.

قوله: «والحكم الّذي ليس فيه اختلاف» تفسير للسنّة واحتراز عن السنة المستندة إلى الرأي والقياس، فانّها لا اعتداد بها لاختلاف آراء الناس وقياساتهم.

قوله: «وليس في حكمه رادّ لها» الحكم إمّا بالتحريك أو بضمّ الحاء وسكون الكاف والضمير راجع إلى الله‌.

قوله: «فوضع القرآن دليلاً» أي: دليلاً عليها وعلى حكمها، وهذا يؤيّد ما قلنا في تفسير أنّها ليست في القرآن، من أنّها ليست فيها بحسب عقولهم.


(585)

قوله: «دليل ما هو» سأل عن كيفيّة دلالة القرآن عليها إمّا بالإجمال أو التفصيل، فأجاب عليه‌السلام بأنّ فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحاكم العالم بمعانيه، وأراد بالجمل مقابل التفصيل، ويحتمل أن يراد بها الجميع.

قوله: «ولكن أخبرني عن تفسير لكيلا تأسوا» الغرض من هذا الإستخبار إختبار حاله عليه‌السلام في العلم بتفسير المتشابه بحسب الظاهر، وإظهار علمه به بحسب الحقيقة، حيث جعل الخطاب الثاني لغير من له الخطاب الأوّل، وإن كان الظاهر المتبادر أنّهما لطائفة واحدة كما زعمه غيره.

قوله: «ممّا خصّ به عليّ عليه‌السلام » من الخلافة والرئاسة وهذا من كلام إلياس عليه‌السلام لبيان أنّ الخطاب مع أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم يعني: لا تحزنوا على الخلافة التي فاتت عنكم بسبب تغلّب الظالمين لا من تتمّة القرآن.

قوله: «ولا تفرحوا بما آتاكم، قال في أبي فلان وأصحابه» يعني: أن لا تفرحوا، وارد في ذمّ أبي بكر وأصحابه وخطاب معهم، أي: لا تفرحوا أيّها الظالمون المتغلّبون بالرئاسة التي آتاكم الله‌ إيّاها بسبب تغلّبكم على العالم الربّاني، ولمّا كان هنا مظنّة أن يقال: أنّ هذا التفسير غير مناسب لسوق الكلام وموجب لتفكيك النظم، إذ اتّصال الآيتين يوجب إرجاع الخطاب في الموضعين إلى طائفة واحدة، أجاب عنه بقوله: واحدة مقدّمة وواحدة مؤخّرة، يعني: أنّ إحدى الآيتين في النزول والاُخرى مؤخّرة فيه، ووقع الاتّصال بينهما في عهد عثمان عند أمره بجمع القرآن، لا أنّهما نزلتا معاً حتّى يرد أنّ رجوع الخطاب الثاني إلى غير ما رجع إليه الخطاب الأوّل باطل.[1]

قال الفيض الكاشاني:

بيان: «معتجر» ذو معجر على رأسه، «قيّض» من باب التفعيل، أي: جيء به من


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 5: 394ـ405.


(586)

حيث لا يحتسب «أسبوعه» طوافه «يا أبا جعفر» تقدير الكلام، ثمّ إلفت إلى أبي فقال: يا أبا جعفر «فإنّ الله‌ تعالى أبى» فيه إشارة إلى أنّ علمه من علم الله‌. والمراد بهذا العلم علم الشرائع اُصولها وفروعها، والعلم بما كان وما سيكون، كما سيظهر من سياق الحديث «هذه مسألتي» يعني مسألتي هي أنّ الله‌ تعالى هل له علم ليس فيه اختلاف أم لا؟ ثمّ العلم الذي لا اختلاف فيه عند من هو؟

«وقد فسّرت أنت بعض ذلك» وهو السؤال الأوّل «جملة العلم» يعني كلّه «عجيرته» معجره «تهلل وجهه» تلألأ فرحاً «ما كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يرى» يعني: جبرئيل وسائر الملائكة عليهم‌السلام «وهم محدثون» يعني: يحدّثهم الملك ولا يرونه «يفد» يقدم من الوفود «فيسمع الوحي» أي: من الله‌ تعالى بلا واسطة «سأسألك مسألة» في بعض النسخ «سآتيك بمسألة» والمعنى واحد «أن يطلع» من باب الإفعال «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ»[1] أظهر واحكم بالحقّ جهاراً «عينك» في بعض النسخ «أعينك» بصيغة الجمع «بسيوف آل داود» أي: داود وأهله يعني السيوف التي أمر الله‌ سبحانه بأن يقاتل بها كما أمر الله‌ تعالى بمقاتلة داود النبيّ وأهله مع جالوت على ما حكى الله‌ عزّ وجلّ في القرآن، أو المراد بها تلك السيوف بعينها «قال» يعني: أبا عبدالله‌ عليه‌السلام .

«فقال أبي» يعني: قال بعد هذا الكلام تأكيداً له «إن خاصموا بها فلجوا» بالجيم يعني إن خاصم أصحابك بها أهل الخلاف ظفروا وفازوا بالغلبة عليهم.

وتقرير هذه الحجّة على ما يطابق عبارة الحديث مع مقدّماتها المطوية، أن يقال: قد ثبت أنّ الله‌ سبحانه أنزل القرآن في ليلة القدر على رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله .

وأنّه كان تنزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر ببيان وتأويل سنة فسنة كما


--------------------------------------------------

1. سورة الحجر 15: 94 .


(587)

يدلّ عليه فعل المستقبل الدالّ على التجدّد في الاستقبال فنقول: هل كان لرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله طريق إلى العلم الذي يحتاج إليه الاُمّة سوى ما يأتيه من السماء من عند الله‌ سبحانه إمّا في ليلة القدر أو في غيرها أم لا؟ والأوّل باطل لما اُجمع عليه الاُمّة من أنّ علمه ليس إلاّ من عند الله‌ سبحانه، كما قال تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى»[1] فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل يجوز أن لا يظهر هذا العلم الذي يحتاج إليه الاُمّة أم لابدّ من ظهوره لهم؟ والأوّل باطل، لأنّه إنّما يوحى إليه ليبلغ إليهم ويهديهم إلى الله‌ عزّ وجلّ، فثبت الثاني. ثمّ نقول: فهل في ذلك العلم النازل من السماء من عند الله‌ جلّ وعلا إلى الرسول اختلاف بأن يحكم في أمر في زمان بحكم، ثمّ يحكم في ذلك الأمر بعينه في ذلك الزمان بعينه بحكم آخر يخالفه أم لا؟ والأوّل باطل، لأنّ الحكم إنّما هو من عند الله‌ جلّ وعزّ وهو متعال عن ذلك كما قال: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله‌ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً».[2]

ثمّ نقول: فمن حكم بحكم فيه اختلاف كالذي يجتهد في الحكم الشرعي بتأويله المتشابه برأيه، ثمّ ينقض ذلك الحكم راجعاً عن ذلك الرأي لزعمه أنّه قد أخطأ فيه، هل وافق رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في فعله ذلك وحكمه أم خالفه؟ والأوّل باطل، لأنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لم يكن في حكمه اختلاف، فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فمن لم يكن في حكمه اختلاف فهل له طريق إلى ذلك الحكم من غير جهة الله‌ سبحانه إمّا بواسطة أو بغير واسطة ومن دون أن يعلم تأويل المتشابه الذي بسببه يقع الاختلاف أم لا؟ والأوّل باطل، فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل يعلم تأويل المتشابه الذي بسببه يقع الاختلاف إلاّ الله‌


--------------------------------------------------

1. سورة النجم 53: 4 .

2. سورة النساء 4: 82 .


(588)

والراسخون في العلم الذين ليس في علمهم اختلاف أم لا؟ والأوّل باطل، لأنّ الله‌ سبحانه يقول: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‌ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»[1] ثمّ نقول: فرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله الذي هو من الراسخين في العلم هل مات وذهب بعلمه ذلك ولم يبلّغ طريق علمه بالمتشابه إلى خليفته من بعده أم بلّغه؟ والأوّل باطل، لأنّه لو فعل ذلك فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممّن يكون بعده، فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل خليفته من بعده كسائر آحاد الناس يجوز عليه الخطأ والاختلاف في العلم أم هو مؤيّد من عند الله‌ يحكم بحكم رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بأن يأتيه المَلك ويحدّثه من غير وحيّ ورؤية أو ما يجري مجرى ذلك وهو مثله إلاّ في النبوّة؟ والأوّل باطل لعدم إغنائه حينئذٍ، لأنّ من يجوز عليه الخطأ لا يؤمن عليه الاختلاف في الحكم ويلزم التضييع من ذلك أيضاً، فثبت الثاني، فلابدّ من خليفة بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله راسخ في العلم، عالم بتأويل المتشابه، مؤيّد من عند الله‌ لا يجوز عليه الخطأ ولا الاختلاف في العلم، يكون حجّة على العباد وهو المطلوب.

«فإن قالوا لك» هذا إيراد سؤال على الحجّة، تقريره: أنّ علم رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لعلّه كان من القرآن فحسب، ليس ممّا يتجدّد في ليلة القدر في شيء؟ فأجاب: بأنّ الله‌ سبحانه يقول: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»[2] فهذه الآية تدلّ على تجدّد الفرق والإرسال في تلك الليلة المباركة، بإنزال الملائكة والروح فيها من السماء إلى الأرض دائماً، فلابدّ من وجود من يرسل إليه الأمر دائماً.

«فإن قالوا لك» هذا سؤال آخر تقريره: أنّه يلزم ممّا ذكرتم جواز إرسال الملائكة إلى غير النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله مع أنّه لا يجوز ذلك، فأجاب عنه: ـ بالمعارضة


--------------------------------------------------

1. سورة آل عمران 3: 7 .

2. سورة الدخان 44: 4 و5 .


(589)

بمدلول الآية الذي لا مردّ له ولا استبعاد ـ في أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله خليفة تقرّب مرتبته من مرتبته في التأييد من عند الله‌ وتحديث الملك، وإن لم يكن نبيّاً يوحى إليه، فإنّ المخالفين أيضاً يروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «إن في اُمّتي محدّثين» يعني يحدّثهم الملك ويسدّدهم.

«فإن قالوا فإنّ الخليفة هو حَكَمَهم» بفتح الكاف يعني: هو السيّد المتحاكم إليه، «فقل» إذا لم يكن الخليفة مؤيّداً محفوظاً من الخطأ، فكيف يخرجه الله‌ ويخرج به عباده من الظلمات إلى النور، وقد قال الله‌ سبحانه: «الله‌ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ»[1] «ثمّ وقف» يعني: أبا جعفر عليه‌السلام .

«فقال» يعني: إلياس «مصيبة» أي: قضية مشكلة ومسألة معضلة «ما هي في السنّة والحكم الذي ليس فيه اختلاف» يعني: ليس حكمها يوجد في السنّة ولا في الحكم الذي ليس فيه اختلاف، ولا في القرآن «أن تظهر» يعني: تلك الفتنة وهو مفعول «أبى» مع الجملة الحاليّة التي بعده، والعائد في حكمه راجع إلى الله‌ «إنّ الله‌ قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة في الأرض» أي: في الخارج من أنفسهم كالمال «أو في أنفسهم» كالدّين فيه إشارة إلى قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَ لاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله‌ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»[2].

«جمل الحدود» أي: مجملاتها و«تفسيرها عند الحكم» بفتح الكاف يعني: الحجّة ولفظة «من» في من حكمه: إمّا إسم موصول، فتكون إسم ليس، أو حرف جرّ، فتكون صلة للخروج الذي يتضمّنه معنى القضاء في «قاض» أي: قاض


--------------------------------------------------

1. سورة البقرة 2: 257 .

2. سورة الحديد 57: 22 و23 .


(590)

خارج من حكمه بالصواب «ممّا خصّ عليّ عليه‌السلام به» هذا من كلام أبي جعفر عليه‌السلام، ففي الكلام حذف يعني: قال: ممّا خصّ عليّ عليه‌السلام به يعني الخلافة والإمامة وكأنّه سقط من قلم النسّاخ.

ويحتمل أن يكون من كلام الرجل «بِمَا آتَاكُمْ»[1] يعني: خلافة أبي بكر «وأبي فلان» كناية عنه «وأصحابه» يعني عمر وعثمان «واحدة مقدمة» يعني: تخصيص عليّ بالخلافة والإمامة، قد تقدّم من رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وفاتكم «وواحدة مؤخرة» يعني: فتنة خلافة أبي بكر قد تأخّرت عن ذلك «وقد أتتكم» فقوله ثانياً «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا»[2] إلى آخره بيان للأمرين والمخاطب بإحداهما الشيعة وبالاخرى مخالفوهم.

وقد تبيّن من هذا الحديث معنى إنزال القرآن في ليلة القدر مع ما ثبت أنّه أُنزل نجوماً في نحو من عشرين سنة، وقد تكلّف المفسّرون في تفسيره بتكلّفات بعيدة مثل قولهم: إنّه أنزل إلى السماء الدنيا جملة في ليلة القدر، ثمّ أنزل منه إلى الأرض نجوماً في تلك المدّة، ومثل قولهم: إنّ ابتداء نزوله كان في ليلة القدر، ومثل قولهم: إنّا أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر وهو قوله تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»[3] إلى غير ذلك، ويأتي ما يقرب من الأوّل عن الصادق عليه‌السلام في باب متى نزل القرآن من أبواب القرآن وفضائله من كتاب الصلاة، إن شاء الله‌ تعالى.

والمستفاد من هذا الحديث أنّ معنى إنزاله في ليلة القدر إنزال بيانه بتفصيل مجمله، وتأويل متشابهه، وتقييد مطلقه وتفريق محكمه من متشابهه.

وبالجملة تتميم إنزاله بحيث يكون هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان كما قال سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»[4] يعني في ليلة القدر


--------------------------------------------------

1 ، 2 سورة الحديد 57: 23 .

3. سورة القدر 97: 3 .

4. سورة البقرة 2: 185 .


(591)

منه: «هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»[1] تثنية لقوله عزّ وجلّ: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»[2] أي محكم «أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»[3] فقوله: «فيها يفرق» وقوله: «والفرقان» معناهما واحد.

وروي في معاني الأخبار بإسناده عن الصادق عليه‌السلام أنّ القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به، انتهى.

ويأتي هذا الحديث مسنداً في آخر كتاب الصلاة إن شاء الله‌، وقد قال تعالى: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ»[4] أي: حين أنزلناه نجوماً «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ»[5] عليك حينئذٍ «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»[6] أي: جملته «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ»[7] في ليلة القدر بإنزال الملائكة والروح فيها عليك وعلى أهل بيتك من بعدك، بتفريق المحكم من المتشابه وبتقدير الأشياء وتبيين أحكام خصوص الوقائع التي تصيب الخلق في تلك السنة إلى ليلة القدر الآتية.

هذا ما استفدته من مجموع هذا الحديث مع ما يأتي من الأخبار في هذا الباب، وفي باب ليلة القدر من كتاب الصيام وفي بعض أخبار ذلك الباب أنّه لم ينزّل القرآن إلاّ في ليلة القدر وأنّه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وقال في «الفقيه» تكامل نزول القرآن ليلة القدر وهو مؤيّد لما قلنا.[8]


--------------------------------------------------

1. سورة البقرة 2: 185 .

2. سورة الدخان 44: 3ـ4 .

3. سورة الدخان 44: 5 .

4. سورة القيامة 75: 17 .

5 ، 6. سورة القيامة 75: 18 .

7. سورة القيامة 75: 19 .

8. كتاب الوافي 2: 37ـ43 .


(592)

وقال العلاّمة المجلسي:

الحديث ضعيف. على المشهور بالحسن بن العبّاس، لكن يظهر من كتب الرجال أنّه لم يكن لتضعيفه سبب إلاّ رواية هذه الأخبار العالية الغامضة التي لا يصل إليها عقول أكثر الخلق، والكتاب كان مشهوراً عند المحدّثين، وأحمد بن محمّد روى هذا الكتاب، مع أنّه أُخرج البرقي عن قم بسبب أنّه كان يروي عن الضعفاء، فلو لم يكن هذا الكتاب معتبراً عنده لما تصدّى لروايته والشواهد على صحّته عندي كثيرة.

«والاعتجار» التنقّب ببعض العمامة، ويقال: قيّض الله‌ فلاناً لفلان، أي: جاء به وأتاحه له «فقطع عليه أسبوعه» أي: طوافه.

«فقال مرحباً» أي: لقيت رحباً وسعة، وقيل: أي رحّب الله‌ بك مرحباً، فجعل المرحب موضع الترحيب، وقيل: أتيت سعة.

«بارك الله‌ فيك» أي: زاد الله‌ في علمك وكمالك.

قوله عليه‌السلام: «يا أبا جعفر» أي: ثمّ إلتفت إلى أبي وقال يا أبا جعفر.

قوله: «بأمر تضمر لي غيره» أي: لا تخبرنى بشيء يكون في علمك شيء آخر يلزمك لأجله القول بخلاف ما أخبرت، كما في أكثر علوم أهل الضلال، فإنّه يلزمهم أشياء لا يقولون بها، أو المعنى أخبرني بعلم يقينيّ لا يكون عندك إحتمال خلافه، فقوله: «علمان» أي: إحتمالان متناقضان أو أراد به لا تكتم عنّي شيئاً من الأسرار، فقوله عليه‌السلام: «إنّما يفعل ذلك) أي: في غير مقام التقيّة، وقيل: إشارة إلى بطلان طريقة أهل الاجتهاد، فإنّهم يقولون ظنّ المجتهد يفضي به إلى علم، وظنيّة الطريق لا ينافي علميّة الحكم، فيضمرون في جميع أحكامهم الاجتهاديّة أنّه إذا تعلّق ظنّهم بخلاف ما حكموا به رجعوا عن ذلك الحكم وحكموا بخلافه، وادّعوا العلم في كلتا الصورتين.


(593)

«ففتح الرجل عجيرته» أي: اعتجاره أو طرف العمامة الذي اعتجر به، والتهلّل الإضاءة والتلألؤبالسرور «إنّ علم ما لا اختلاف فيه» مصدر مضاف إلى المفعول «من العلم» من، إمّا للبيان، والعلم بمعنى المعلوم، أو للتبعيض، أي: من جملة العلوم.

قوله عليه‌السلام: «كما كان رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يعلمه» أي: بعض علومهم كذلك، وإلاّ فجلّ علومهم كان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أو يعلمون على هذا الوجه أيضاً وإن كانوا سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، ويقال: وفد إليه أي: قدم وورد.

«فضحك أبي» لعلّ ضحكه عليه‌السلام كان لهذا النوع من السؤال الذي ظاهره الامتحان، تجاهلاً مع علمه بأنّه عارف بحاله، أو لعدّه المسألة صعبة وليست عنده عليه‌السلام كذلك.

وحاصل الجواب: أنّ ظهور هذا العلم مع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله دائماً في محلّ المنع، فإنّه كان في سنين من أوّل بعثته مكتتماً إلاّ عن أهله، لخوف عدم قبول الخلق منه حتّى أمر بإعلانه، وكذلك الأئمّة عليهم‌السلام يكتمون عمّن لا يقبل منهم حتّى يؤمروا بإعلانه في زمن القائم عليه‌السلام .

«فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ»[1] أي: تكلّم به جهاراً «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»[2] ولا تلتفت إلى ما يقولون من الاستهزاء وغيره «وأيم» مخفّف أيمن جمع يمين، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: أيمن الله‌ يميني، «إنّما نظر في الطاعة» أي: طاعة الاُمّة أو طاعته «أو خاف الخلاف» أي: مخالفة الاُمّة.

قوله: «تعذّب أرواح الكفرة» قيل: إشارة إلى الذين أحياهم في الرجعة «ثمّ أخرج» أي: إلياس عليه‌السلام سيفاً ثمّ قال: «ها» وهو حرف تنبيه، أو بمعنى خُذ «إنّ هذا


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة الحجر 15: 94 .


(594)

منها» أي: من تلك السيوف الشاهرة في زمانه عليه‌السلام، لأنّ إلياس من أعوانه عليهماالسلام ولعلّ ردّ الاعتجار، لأنّه مأمور بأن لا يراه أحد بعد المعرفة الظاهرة.

وقوله: «قوّة لأصحابك» أي: بعد أن تخبرهم به أنت وأولادك المعصومون عليهم‌السلام

«إن خاصموا بها» أي: أصحابك أهل الخلاف «فلجوا» أي: ظفروا وغلبوا.

ثمّ اعلم أنّ حاصل هذا الاستدلال هو أنّه قد ثبت أنّ الله‌ سبحانه أنزل القرآن في ليلة القدر على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وأنّه كان ينزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر ببيان وتأويل سنة فسنة، كما يدلّ عليه فعل المستقبل الدالّ على التجدّد الاستمراري، فنقول: هل كان لرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله طريق إلى العلم الذي يحتاج إليه الاُمّة سوى ما يأتيه من السماء من عند الله‌ سبحانه إمّا ليلة القدر أو في غيرها أم لا؟ والأوّل باطل لقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى»[1] فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل يجوز أن لا يظهر هذا العلم الذي يحتاج إليه الاُمّة أم لابدّ من ظهوره لهم؟ والأوّل باطل، لأنّه إنّما يوحى إليه ليبلّغ إليهم ويهديهم الله‌ عزّ وجلّ، فثبت الثاني. ثمّ نقول: فهل لذلك العلم النازل من السّماء من عند الله‌ إلى الرسول اختلاف بأن يحكم في زمان بحكم ثمّ يحكم في ذلك الأمر بعينه في ذلك الزمان بعينه بحكم آخر أم لا؟ والأوّل باطل، لأنّ الحكم إنّما هو من عند الله‌ عزّ وجلّ، وهو متعالى عن ذلك كما قال تعالى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله‌ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً»[2].

ثمّ نقول: فمن حكم بحكم فيه اختلاف كالاجتهادات المتناقضة هل وافق رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهفي فعله ذلك أم خالفه؟ والأوّل باطل، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لم يكن في حكمه اختلاف، فثبت الثاني.


--------------------------------------------------

1. سورة النجم 53: 4 .

2. سورة النساء 4: 82 .


(595)

ثمّ نقول: فمن لم يكن في حكمه اختلاف فهل له طريق إلى ذلك الحكم من غير جهة الله‌ إمّا بغيير واسطة أو بواسطة، ومن دون أن يعلم تأويل المتشابه الذي يقع بسببه الاختلاف أم لا؟ والأوّل باطل، فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل يعلم تأويل المتشابه إلاّ الله‌ والراسخون في العلم الذين ليس في علمهم اختلاف أم لا؟ والأوّل باطل، لقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله‌ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ»[1].

ثمّ نقول: فرسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله الذي هو من الراسخين هل مات صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وذهب بعلمه ذلك ولم يبلّغ طريق علمه بالمتشابه إلى خليفته أم بلّغه؟ والأوّل باطل، لأنّه لو فعل ذلك فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممّن يكون بعده، فثبت الثاني.

ثمّ نقول: فهل خليفته من بعده كسائر آحاد الناس يجوز عليه الخطأ والاختلاف في العلم أم هو مؤيّد من عند الله‌ بحكم رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بأن يأتيه المَلك فيحدّثه من غير وحيّ ورؤية أو ما يجري مجرى ذلك وهو مثله إلاّ في النبوّة؟ والأوّل باطل لعدم إغنائه حينئذٍ، لأنّ من يجوز عليه الاختلاف لايؤمن عليه الاختلاف في الحكم، ويلزم التضييع من ذلك أيضاً، فثبت الثاني.

فلابدّ من خليفة بعد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله راسخ في العلم عالم بتأويل المتشابه مؤيّد من عند الله‌ لا يجوز عليه الخطأ ولا الاختلاف في العلم، يكون حجّة على العباد وهو المطلوب.

هذا إن جعلنا الكلّ دليلاً واحداً، ويحتمل أن يكون دلائل كما سنشير إليه ولعلّه أظهر.

قوله عليه‌السلام: «أو يأتيه» معطوف على «لا يعلمه» فينسحب عليه النفي، والمعنى:


--------------------------------------------------

1. سورة آل عمران 3: 7 .


(596)

هل له علم من غير تينك الجهتين كما عرفت «فقد نقضوا أول كلامهم» حيث قالوا: لا اختلاف فيما أظهر رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله من علم الله‌، فهذا يقتضي أن لا يكون في علم من لا يخالفه في العلم أيضاً اختلاف.

وبهذا يتمّ دليل على وجود الإمام، لأنّ من ليس في علمه إختلاف ليس إلاّ المعصوم المؤيّد من عند الله‌ تعالى.

قوله: «فقل لهم ما يعلم تأويله» هذا إمّا دليل آخر سوى مناقضة كلامهم على أنّهم خالفوا رسول الله‌ أو على أصل المدّعى، وهو إثبات الإمام.

قوله عليه‌السلام: «فقل من لا يختلف في علمه» لعلّه استدلّ عليه على ذلك بمدلول لفظة الرسوخ، فإنّه بمعنى الثبوت، والمتزلزل في علمه عنه إلى غيره ليس بثابت فيه.

قوله عليه‌السلام: «فإنّ قالوا لك إنّ علم رسول الله‌ كان من القرآن» لعلّ هذا إيراد على الحجّة، وتقريره: أنّ علم رسول الله‌ لعلّه كان من القرآن فقط وليس ممّا يتجدّد في ليلة القدر شيء؟ فأجاب عليه‌السلام: بأنّ الله‌ عزّ وجلّ يقول: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»[1] فهذه الآية تدلّ على تجدّد الفرق والإرسال في تلك الليلة المباركة بإنزال الملائكة والروح فيها من السماء إلى الأرض دائماً، ولابدّ من وجود من يرسل إليه الأمر دائماً.

ثمّ قوله: «فإنّ قالوا لك» سؤال آخر، تقريره: أنّه يلزم ممّا ذكرتم جواز إرسال الملائكة إلى غير النبيّ مع أنّه لا يجوز ذلك، فأجاب عنه بمدلول الآية التي لا مردّ لها، وقوله: «وأهل الأرض» جملة حالية.

قوله: «فهل لهم بدّ» لعلّه مؤيّد للدليل السابق، بأنّه كما أنّه لابدّ من مؤيّد ينزل


--------------------------------------------------

1. سورة الدخان 44: 4.


(597)

إليه في ليلة القدر، فكذلك لابدّ من سيّد يتحاكم العباد إليه، فإنّ العقل يحكم بأنّ الفساد والنزاع بين الخلق لا يرتفع إلاّ به، فهذا مؤيّد لنزول الملائكة والروح على رجل ليعلم ما يفصل به بين العباد، ويحتمل أن يكون استئناف دليل آخر على وجود الإمام. «فإن قالوا فإنّ الخليفة التي في كلّ عصر هو حكمهم» بالتحريك «فقل» إذا لم يكن الخليفة مؤيّداً معصوماً محفوظاً من الخطأ فكيف يخرجه الله‌ ويخرج به عباده من الظلمات إلى النور، وقد قال سبحانه: «الله‌ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا»[1] الآية.

والحاصل أنّ من لم يكن عالماً بجيمع الأحكام وكان ممّن يجوز عليه الخطأ فهو أيضاً محتاج إلى خليفة آخر لرفع جهله، والنزاع الناشى‌ء بينه وبين غيره.

وأقول: يمكن أن يكون الاستدلال بالآية من جهة أنّه تعالى نسب إخراج المؤمنين من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم إلى نفسه، فلابدّ من أن يكون من يهديهم منصوباً من قبل الله‌ تعالى مؤيّداً من عنده، والمنصوب من قبل الناس طاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات.

«لعمري» بالفتح قسم بالحياة «إلاّ وهو مؤيّد» لقوله: «يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»[2] ولما قلنا: من أنّه لو لم يكن كذلك لكان محتاجاً إلى إمام آخر «كذلك لابدّ من وال» أي: من يلي الأمر ويتلقّاه من الملائكة والروح، ويدلّ الناس على الأمر الحكيم.

«فإن قالوا لا نعرف هذا» أي: الوالي أو الاستدلال المذكور ونفى معرفتهم إيّاه نظير قوله تعالى: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ»[3].


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة البقرة 2: 257 .

3. سورة هود 11: 91 .


(598)

«وقولوا ما أحببتم» نظير قوله تعالى: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ»[1] وقوله: «كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُجْرِمُونَ»[2] وهذا الكلام متعارف بعد مكابرة الخصم.

«قال ثمّ وقف» أي: ترك أبي الكلام «فقال» أي: إلياس، وقيل: ضمير وقف أيضاً لإلياس، أي: قام تعظيماً والأوّل أظهر.

«باب غامض» أي: شبهة مشكلة إستشكلها المخالفون لقول عمر عند إرادة النبيّ الوصيّة: حسبنا كتاب الله‌، وقيل: الغامض بمعنى السائر المشهور من قولهم: غمض في الأرض إذا ذهب وسار.

«إن القرآن ليس بناطق» أي: ليس القرآن بحيث يفهم منه الأحكام كلّ من نظر فيه، فإنّ كثيراً من الأحكام ليست في ظاهر القرآن، وما فيه أيضاً تختلف فيه الاُمّة وكلّ منهم يستدلّ بالقرآن على مذهبه، فظهر أنّ القرآن إنّما يفهمه الإمام، وهو دليل له على معرفة الأحكام، والمراد أنّ القرآن لا يكفي بسياسة الاُمّة وإن سلّم أنّهم يفهمون معانيه، بل لابدّ من آمر وناه وزاجر يدعوهم إلى العمل بالقرآن، ويحملهم عليه، ويكون هو معصوماً عاملاً بجميع ما أمر به فيه منزجراً عن كلّ ما نهي عنه فيه.

فقوله: «وأقول قد عرضت» مشيراً إلى ما ذكرنا أوّلاً دليل آخر «والحكم الذي ليس فيه اختلاف» أي: الضروريات أو السنّة المتواترة أو ما أجمعت عليه الاُمّة «وليست في القرآن» أي: في ظاهر القرآن وما يفهمه منه علماء الاُمّة إذ جميع الأحكام في القرآن، ولكن لا يمكن استنباطه إلاّ للإمام «أن تظهر» أي: الفتنة وهو مفعول «أبى» وقوله: «وليس في حكمه» جملة حاليّة والضمير في حكمه راجع إلى الله‌ «في الأرض» أي: في غير أنفسهم كالمال «أو في أنفسهم» كالدين أو


--------------------------------------------------

1. سورة فصّلت 41: 40 .

2. سورة المرسلات 77: 46 .


(599)

القصاص، إشارة إلى قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَ لاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله‌ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَآ آتَاكُمْ»[1].

قال البيضاوي: في الأرض كجدب وعاهة «ولا في أنفسكم» كمرض وآفة «إلاّ في كتاب» أي: إلاّ مكتوبة في اللوح، مثبتة في علم الله‌ «من قبل أن نبرأها» أي: نخلقها، والضمير للمصيبة أو للأرض أو للأنفس، «إنّ ذلك» أي: إن ثبته في كتاب «على الله‌ يسير» لاستغنائه فيه عن العدّة والمدّة «لكيلا تأسوا» أي: أثبت وكتب «لئلا تحزنوا على ما فاتكم» من نعم الدنيا «ولا تفرحوا بما آتاكم» بما أعطاكم الله‌ منها، فإنّ من علم أنّ الكلّ مقدّر هان عليه الأمر.

ولعلّ حاصل كلامه عليه‌السلام أنّه كثيراً ما يعرض للناس شبهة في أمر من اُمور الدين ممّا يتعلّق بأنفسهم وأموالهم، وليس في ظاهر الكتاب والسنّة ما يزيل تلك الشبهة، وهذه مصيبة عرضت لهم، ولابدّ أن تكون تلك المصيبة في علمه سبحانه قبل وقوعها، لأنّ المصيبة الواقعة في الآية نكرة في سياق النفي يفيد العموم، والمصيبة أعمّ من أن تكون في اُمور الدين أو الدنيا، فلا يختصّ بالبلايا والأمراض والآفات، بل يعمّ المصائب الدينيّة وما أشكل عليهم من الأحكام، وإليه أشار عليه‌السلام بقوله: «من الدين أو غيره» وإذا ثبت علمه تعالى بعروض تلك الشبهة لهم فلابدّ في حكمته ولطفه أن يرفع تلك الشبهة عنهم إمّا بصريح الكتاب والسنّة أو بإمام علّتهم ويكون عالماً بحكم جميع ما يعرض لهم، والأوّلان مفقودان فتعيّن الثالث.

«فوضع القرآن دليلاً» أي: للإمام فإنّه يمكنه أن يستنبط منه تفاصيل الأحكام، أو لسائر الخلق إلى جمل الأحكام ولابدّ في علمهم بتفاصيلها من الرجوع إلى


--------------------------------------------------

1. سورة الحديد 57: 22 و23 .


(600)

الإمام، ويمكن أن يكون عليه‌السلام فسّر الكتاب في الآية بالقرآن، وأفاد أنّه لا يعلم ذلك من القرآن إلاّ الإمام، فثبت الاحتياج إليه، والأوّل أظهر.

قوله: «من حكم» بالتحريك وفي أكثر النسخ من حكمه، فربما يقرأ بالفتح اسم موصول فحكمه مبتدأ وقاض خبره، والجملة صلة للموصول، والمجموع إسم ليس، ونسبة القضاء إلى الحكم على المبالغة نحو جدّ جدّه، أو بالكسر فيكون صلة للخروج الذي يتضمّنه معنى القضاء في قاض، أي: قاض خارج من حكمه بالصواب، والمراد بالفلج بالحجّة إمّا إتمام الحجّة فالاستثناء منقطع، أو إلزام المخالفين وإسكانهم فالاستثناء متّصل.

«إلاّ أن يفتري خصمكم على الله‌» أي: يكابر ويعاند بعد إتمام الحجّة «ويقول ليس للّه‌ جلّ ذكره حجّة» أي: إمام ليعيد مدّعاه بعد إتمام الحجّة على نقيضه، أو ينكر وجوب اللطف على الله‌ واشتراط التكليف بالعلم.

قوله: «ممّا خصّ به عليّ عليه‌السلام »، هذا من كلام أبي جعفر عليه‌السلام، ففي الكلام حذف يعني قال: ممّا خصّ عليّ به، يعني الخلافة والإمامة، وكأنّه سقط من النسّاخ، ويحتمل أن يكون من كلام إلياس عليه‌السلام .

قوله: «قال في أبي فلان وأصحابه» أقول: هذا الكلام يحتمل وجوهاً من التأويل:

الأوّل: ما خطر ببالي القاصر، وهو أنّ الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه يعني: عمر وعثمان. والخطاب معهم، فقوله: «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ»[1] أي: لا تحزنوا على ما لكم من النصّ والتعيين للخلافة والإمامة، وخصّ عليّ عليه‌السلام به حيث نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بالخلافة عليه وحرّمكم عنها «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»[2] من الخلافة الظاهرية بعد الرسول عليه‌السلام أي: خلاّكم وإرادتكم ولم يجبركم على


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة الحديد 57: 23 .


(601)

تركها، ومكّنكم من غصبها من مستحقّها «واحدة مقدمة» أي: قوله «لا تأسوا» إشارة إلى قضية متقدّمة وهي النصّ بالخلافة في حياة الرسول عليه‌السلام «وواحدة مؤخّرة» أي: قوله: «وَلاَ تَفْرَحُوا»[1] إشارة إلى واقعة مؤخّرة وهي غصب الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، ولا يخفى شدّة انطباق هذا التأويل على الآية، فإنّه يصير حاصلها هكذا: ما تحدث مصيبة وقضيّة في الأرض وفي أنفسكم إلاّ وقد كتبناها والحكم المتعلّق بها في كتاب من قبل أن تخلق المصيبة أو الأنفس لكيلا تأسوا على ما فاتكم من الخلافة وتعلموا أنّ الخلافة لا يستحقّها إلاّ من تنزّل عليه الملائكة والروح بالوقائع والأحكام المكتوبة في ذلك الكتاب، ولا تفرحوا بما يتيسّر لكم من الخلافة وتعلموا أنّكم لا تستحقّونه وأنّه غصب، وسيصيبكم وباله، فظهر أنّ ما ذكره الباقر عليه‌السلام قبل ذلك السؤال أيضاً كان إشارة إلى تأويل صدر تلك الآية، فلذا سأل إلياس عليه‌السلام عن تتمّة الآية، ويحتمل وجهاً آخر مع قطع النظر عمّا أشار إليه أوّلاً: بأنّا قدّرنا المصائب الواردة على الأنفس قبل خلقها، وقدّرنا الثواب على من وقعت عليه، والعقاب على من تسبّب لها، لكيلا تأسوا على ما فاتكم وتعلموا أنّها لم تكن مقدّرة لكم، فلذا لم يعطكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌و‌آله «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ» للعقاب المترتّب عليه.

الثاني: ما أفاده والدي العلاّمة قدّس الله‌ روحه وهو: أنّ السؤال عن هذه الآية، لبيان أنّه لا يعلم علم القرآن غير الحكم، إذ كلّ من يسمع تلك الآية يتبادر إلى ذهنه أن الخطابين لواحد، لاجتماعهما في محلّ واحد، والحال أنّ الخطاب في قوله: «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا»[2] لعليّ عليه‌السلام لما فاته من الخلافة، وفي قوله: «وَلاَ تَفْرَحُوا»[3] لأبي بكر وأصحابه لما غصبوا الخلافة فقوله: «واحدة مقدمة وواحدة مؤخّرة» لبيان إتّصالهما وإنتظامهما في آية واحدة، فلذا قال الرجل: أشهد أنّكم


--------------------------------------------------

1 ـ 3. سورة الحديد 57: 23 .


(602)

أصحاب الحكم الذي لا اختلاف فيه، حيث تعلمون بطون الآيات وتأويلاتها وأسرارها وموارد نزولها.

الثالث: ما ذكره الفاضل الأسترآبادي حيث قال: لا تأسوا، خطاب مع أهل البيت عليهم‌السلام، ولا تحزنوا على مصيبتكم للذي فات عنكم، ولا تفرحوا خطاب مع المخالفين، أي: لا تفرحوا بالخلافة التي أعطاكم الله‌ إيّاها بسبب سوء اختياركم، وإحدى الآيتين مقدّمة والاُخرى مؤخّرة فاجتمعتا في مكان واحد في تأليف عثمان.

الرابع: ما قيل إنّ قوله «لِكَيْلاَ تَأسُوا»[1] خطاب للشيعة حيث فاتهم خلافة عليّ عليه‌السلام، «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم»[2] خطاب لمخالفيهم حيث أصابتهم الخلافة المغصوبة وإحدى القضيّتين مقدّمة على الاُخرى.

الخامس: ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال: «ممّا» للتبعيض، والظرف حال تفسير وما عبارة عن التفسير الذي خصّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عليّاً عليه‌السلام به، «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم»[3] بتقدير. وعن تفسير ولا تفرحوا بما آتاكم، والمقصود السؤال عن تفسيرهما الذي خصّ رسول الله‌ عليّاً عليه‌السلام به، قال: في أبي فلان أي: في أبي بكر، وهذا تفسير الكلمة الثانية وهي ولا تفرحوا بما آتاكم، قدّمه للاهتمام به وهو مبنيّ على أنّ المخاطبين بالثانية غير المخاطبين بالاُولى، نظير «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ»[4] وعلى أنّه أهل دولة الباطل إن علموا أنّ أهل الحقّ لا ييأسون على ما فاتهم لعلمهم بكلّ مصيبة قبل وقوعه وكرامتهم عند الله‌ تكدّرت عليهم دولتهم وما آتاهم، وكثرت آلامهم في أنفسهم، وتأنيث «واحدة» باعتبار الكلمة أو الفقرة «مقدّمة» بشدّ المهملة المكسورة وصف الاُولى بأنّها


--------------------------------------------------

1 ـ 3. سورة الحديد 57: 23 .

4. سورة يوسف 12: 29 .


(603)

لإعزاز المخالفين بها «مؤخّرة» بشدّ المعجمة المكسورة وصف للثانية بأنّها للإذلال المخاطبين فيها «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ»[1] مبدأ خبره «ممّا خصّ به عليّ عليه‌السلام » والجملة استيناف بيانيّ، والمراد أنّه ممّا نزل في عليّ عليه‌السلام وأوصيائه، وهذا تفسير للكلمة الاُولى، وتغيير الاُسلوب في «وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم»[2] من الفتنة إلى آخره، لأنّ كونها آخره، لأنّ كونها ممّا خصّ به أبوبكر وأصحابه معلوم ممّا مرّ، ولا يحسن إعادته، فمن في قوله «من الفتنة» لبيان «ما آتاكم» والمراد بالفتنة الإمتحان بدولة الدنيا كما في قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً»[3] ولا يخفى بعد تلك الوجوه وظهور ما ذكرنا أوّلاً على المتدبّر.[4]

الحديث 1577: عليّ بن محمّد، ومحمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن القاسم ابن الرّبيع، عن عبيد بن عبد الله‌ بن أبي هاشم الصيرفي، عن عمرو بن مصعب، عن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول: إنّ من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغيير الزّمان وحدثانه إذا أراد الله‌ بقوم خيراً أسمعهم ولو أسمع من لم يسمع[5] لولّى معرضاً كأن لم يسمع، ثمّ أمسك هنيئة، ثمّ قال: ولو وجدنا أوعية أو مستراحاً لقلنا والله‌ المستعان.

المصادر: الكافي 1: 229، كتاب الحجّة، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم‌السلام وأنّهم يعلمون علمه كلّه، ح3، وسائل الشيعة 27: 181، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب13 ح13، صدر الحديث، جامع أحاديث الشيعة 1: 248، أبواب المقدّمات، ب4 باب حجّية فتوى الأئمّة المعصومين من العترة الطاهرة عليهم‌السلام بعد الفحص، ح 109.


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة الحديد 57: 23 .

3. سورة الأنفال 8: 25 .

4. مرآة العقول 3: 6174 .

5. في الجامع: «من لا يسمع».


(604)

الشرح: قال المازندراني:

قوله: «إنّ من علم ما اُوتينا تفسير القرآن» أشار بلفظ «من» إلى أنّ علومهم متكثّرة، وأنّ ما ذكره بعض من أنواعه، والتفسير هنا يعمّ التأويل أيضاً، والمراد بالأحكام جميع الأحكام الخمسة المعروفة كلّها كما هو الظاهر من الجمع المضاف، وبتعبير الزمان إنتقالاته من حال إلى حال وانقلاباته من وصف إلى وصف، ومنه تعبير المعبّر، لأنّه ينتقل من حال إلى حال ويعبّر من مناسب إلى آخر، أو نطقه بالأمور الحادثة وعبارته بلسان الحال، لأنّ الأمور الحادثة تتولّد من الزّمان والزّمان ينطق بها، وبحدثان الزّمان بكسر الحاء المهملة أوّله وابتداؤه.

قوله: «إذا أراد الله‌ بقوم خيراً أسمعهم» إسماعاً نافعاً، ولعلّ المراد بالإرادة العلم وقد فسّر إرادته بالعلم جمع من المحقّقين أو المراد بها إرادة توفيق الخير بحذف المضاف أو بدونه، بأن يراد بالخير التوفيق لحسن استعدادهم لقبوله، وعلى التقديرين لا يراد أنّ الإرادة الحتميّة منتفية، والتخيير به ثابتة لكلّ، فلا وجه لتخصيصيها بقوم.

قوله: «ولو أسمع من لم يسمع» أي: من لم يقبل السماع وهذا على طريق «نعم العبد صهيب» يعني: أنّ الإعراض لازم على تقدير الإسماع فكيف على تقدير عدمه، فهو دائم الوجود، وليس المقصود بيان أنّ انتفاء الإعراض لانتفاء الإسماع كما هو قاعدة اللّغة، إذ إسماع الخير متحقّق بالنظر إلى الجميع.

قوله: «ثمّ أمسك هنيئة» أي: ثمّ أمسك عن الكلام ساعة يسيرة، قال في المُغرِب: الهن كناية عن كلّ اسم جنس، وللمؤنّث هنة ولامه ذات وجهين، فمن قال: واو قال الجمع هنوات، وفي التصغير هنيئة ومن قال: هاء قال هينهة، ومنها قوله: مكث هنيئة، أي ساعة يسيرة.

قوله: «ثمّ قال: لو وجدنا أوعية أو مستراحاً لقلنا» الأوعية جمع الوعاء، وهو


(605)

ما يجعل فيه الزاد والمتاع ليحفظهما، والمراد به هنا القلوب المتّسعة الحافظة للمعارف الحقيقيّة والحقائق اليقينيّة على سبيل الحقيقة أو الإستعارة، والمستراح إسم مكان من الرّاحة، ولعلّ المراد هنا القلب الخالي عن الشواغل المانعة من إدراك الحقّ وقبوله وحفظه، وإنّما حذف مفعول القول للدّلالة على التعميم أو التفخيم.

قوله: «والله‌ المستعان» على سوء صنيع الخلق وانحراف قلوبهم وعوج عقولهم وتركهم الإمام العالم المؤيّد المرشد إلى الحقّ.[1]

وقال الفيض الكاشاني:

بيان: «أسمعهم» أي: بمسامعهم الباطنية «ولو أسمع» ظاهراً «من لم يسمع» باطناً «لولىّ معرضاً كأن لم يسمع» ظاهراً «أوعية» حفظة لأسرارنا «أو مستراحاً» من نستريح إليه بإيداع شيء من أسرارنا لديه.[2]

وقال العلاّمة المجلسي:

«إنّ من علم ما اُوتينا» أي: ممّا اُوتينا من العلم، ويحتمل أن يكون المراد ممّا اُوتينا الإمامة، أي: إنّ من العلوم اللازمة للإمامة «وأحكامه» بالفتح تخصيص بعد التعميم، والمراد الأحكام الخمسة أو بالكسر، أي: ضبطه وإتقانه، وفي القاموس: حدثان، الأمر بالكسر: أوّله وابتداؤه، ومن الدهر: نوبة وأحداثه، إنتهى، أي: حوادث الدهر ونوازله.

«أسمعهم» أي: بمسامعهم الباطنة، ولو أسمع ظاهراً من لم يسمع باطناً لولّى معرضاً كأن لم يسمع ظاهراً، وقد مرّ تمام القول فيه في باب فضل الإمام وصفاته «ثمّ أمسك» أي: عن الكلام «هنيئة» أي: ساعة يسيرة كما في المُغرب، والأوعية:


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 5: 361 .

2. كتاب الوافي 3: 561 .


(606)

جمع وعاء بالكسر والمدّ، أي: قلوباً كاتمة للأسرار، حافظة لها «أو مستراحاً» أي: من لم يكن قابلاً لفهم الأسرار وحفظها كما ينبغي، لكن لا يغشّيها ولا يذيعها ولا يترتّب ضرر على اطّلاعه عليها فيستريح النفس بذلك.[1]

الحديث 1578: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعاً، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، (عن أبي عبيدة)[2] قال: سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله‌ عزّ وجلّ: «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الْأَرْضِ».[3]

قال: فقال: يا أبا عبيدة إنّ لهذا تأويلاً لا يعلمه إلاّ الله‌ والرّاسخون في العلم من آل محمّد صلوات الله‌ عليهم، إنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم لمّا هاجر إلى المدينة و[أ]ظهر الإسلام كتب إلى ملك الرّوم كتاباً وبعث به مع رسول يدعوه إلى الإسلام، وكتب إلى ملك فارس كتاباً يدعوه إلى الإسلام وبعثه إليه مع رسوله، فأمّا ملك الرّوم فعظّم كتاب رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وأكرم رسوله وأمّا ملك فارس فإنّه استخفّ بكتاب رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم ومزّقه واستخفّ برسوله، وكان ملك فارس يومئذٍ يقاتل ملك الرّوم، وكان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الرّوم ملك فارس، وكانوا لناحيته أرجى منهم لملك فارس، فلمّا غلب ملك فارس ملك الرّوم كره ذلك المسلمون واغتمّوا به، فأنزل الله‌ عزّ وجلّ بذلك كتاباً قرآناً «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الْأَرْضِ»[4] يعني غلبتها فارس «فِى أَدْنَى الْأَرْضِ»[5]، وهي الشّامات وما حولها، «وَهُم»[6] يعني: وفارس «مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ»[7] الرّوم «سَيَغْلِبُونَ»[8] يعني


--------------------------------------------------

1. مرآة العقول 3: 32.

2. ليس في الوسائل: «عن أبي عبيدة».

3 ، 4. سورة الروم 30: 1 ـ 3 .

5 ـ 8. سورة الروم 30: 3 .


(607)

يغلبهم المسلمون «فِى بِضْعِ سِنِينَ للّه‌ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِن بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله‌ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ»[1] عزّ وجلّ فلمّا غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله‌ عزّ وجلّ قال: قلت: أليس الله‌ عزّ وجلّ يقول: «فِى بِضْعِ سِنِينَ»[2] وقد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم وفي إمارة أبي بكر وإنّما غلب المؤمنون فارس في إمارة عمر فقال: أ لم أقل لكم[3] إنّ لهذا تأويلاً وتفسيراً والقرآن يا أبا عبيدة[4] ناسخ ومنسوخ أما تسمع لقول الله‌ عزّ وجلّ: «لله‌ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِن بَعْدُ»[5] يعني إليه المشيئة في القول أن يؤخّر ما قدّم ويقدّم ما أخّر في القول إلى يوم يحتم القضاء بنزول النّصر فيه على المؤمنين فذلك قوله عزّ وجلّ «وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله‌ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ»[6] أي: يوم يحتم القضاء بالنّصر.

المصادر: الكافي 8: 269، كتاب الروضة، في تفسير غلبت الروم...، ح 397، وسائل الشيعة 27: 184، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ب13 ح24، إلى قوله: والقرآن ناسخ ومنسوخ.

الشرح: قال المازندراني:

«وكتب إلى ملك فارس كتاباً» فارس كصاحب الفرس، أو بلادهم، ينصرف ولا ينصرف للعجمة، وقد نقل أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أرسل في السنة السادسة من الهجرة كتاباً إلى السلاطين والحكّام يدعوهم إلى دينه، فأرسل إلى برويز خسرو وسلطان


--------------------------------------------------

1. سورة الروم 30: 4 و5 .

2. سورة الروم 30: 4.

3. في الوسائل: «لك» بدل «لكم».

4. ليس في الوسائل: «يا أبا عبيدة».

5. سورة الروم 30: 4 .

6. الروم 30: 4 و 5 .


(608)

فارس بيد عبدالله‌ بن حذافة السهمي، فلمّا قرأ كتابه مزّقه، فدعا عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أن يمزّق الله‌ ملكه، فعجّل قتله ومزّق ملكه كلّ ممزّق، فأرسل كتاباً بيد دحيّة الكلبي إلى هرقل قيصر روم، وكتاباً بيد عمرو بن اُميّة الضمري إلى نجاشي ملك الحبشة، وكتاباً بيد حاطب بن أبي بلتعة إلى حاكم اسكندرية، وكتاباً بيد وهب الأسدي إلى الحارث الغسّاني وإلى الشام، وكتاباً بيد سليط بن مرّة العامري إلى هودة صاحب اليمامة، وكتاباً بيد العلاء الحضرمي إلى منذر بن ساوى، ولم يؤمن من هؤلاء إلاّ النجاشي ومنذر.

«وكان المسلمون يهوون» أي: يحبّون، يقال: هويه كرضيه إذا أحبّه. «وكانوا لناحيته أرجى منهم لملك فارس» أي: كانوا لجانب ملك الروم أو ملكه أرجى للإسلام أو دخوله في تصرّف أهله.

«الم * غُلِبَتِ الرُّومُ»[1] جيل من ولد روم بن عيصو، وهي الشامات وما حولها، وهي أدنى الأرض من العرب.

«يعني وفارس من بعد غلبهم الروم سيغلبون» بناءً هذا التأويل، على أنّ غلبت بالضمّ وأنّ ضمير «هم» لفارس كما أشار إليه عليه‌السلام بقوله: «يعني وإن غلبهم، مصدر مضاف إلى الفاعل، وأنّ سيغلبون بالضمّ «يعني يغلبهم المسلمون في بضع سنين» وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ ملك فارس غلب ملك الروم، ثمّ عكس الأمر، فغلب ملك الروم ملك فارس يوم الحديبية، والضمير عندهم للروم، والإضافة إلى المفعول، وسيغلبون بالفتح، وذهب بعضهم إلى أنّ الروم غلبوا على ريف الشام، ثمّ المسلمون غلبوهم في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وبناؤه على قراءة غلبت بالفتح، وسيغلبون بالضمّ والضمير بحاله والإضافة إلى الفاعل،


--------------------------------------------------

1. سورة الروم 30: 1 و2 .


(609)

فكلّ وافقوه عليه‌السلام من وجه وخالفوه من وجه آخر، ولمّا كان هذا التأويل ينافيه ظاهراً لفظ البضع «قال» السائل «قلت: أليس الله‌ عزّ وجلّ يقول: «فِى بِضْعِ سِنِينَ»[1] سائلاً عن وجه صحّته، وذلك لأنّ البصغ في العدد بالكسر، وقد يفتح ما بين الثلث إلى التسع، وقال الأخفش: ما بين الواحد إلى العشرة، وقال الفرّاء: ما دون العشرة، وبالجملة، نهايته العشرة أو ما دونها لغة، وقد كان فتح المسلمين بعد نزولها أكثر منها، فنبّه عليه‌السلام على أنّ السؤال غير متوجه بعد قبوله أوّلاً، أنّ لهذا تأويلاً لا يعلمه إلاّ الله‌ والراسخون في العلم «فقال: ألم أقل لك إنّ لهذا تأويلاً وتفسيراً» والفرق بينهما ما ذكره بعض المحقّقين من أنّ التأويل صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى الأخفى منه، والتفسير كشف معناه وإظهاره وبيان المراد منه، ثمّ أشار إلى التأويل، وتوضيحه على وجه يندفع عنه السؤال بقوله: «والقرآن يا أباعبيدة ناسخ ومنسوخ أما تسمع لقول الله‌ عزّ وجلّ: «لله‌ الأَمرُ»[2] أي: الحكم «مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ»[3] أي: قبلاً وبعداً، يعني أوّلاً وآخراً «يعني إليه المشيئة في القول» إن شاء أخّره وإن شاء قدّمه بلا مانع ولا دافع فقوله: «أن يؤخّر» بدل أو بيان للقول يعني إليه المشيئة في «أن يؤخّر ما قدّم ويقدّم ما أخّر إلى يوم تحتمّ القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين».

توضيحه: أنّ وعد النصر في البضع منسوخ إلى الأزيد منه بدليل ما بعده، ويمكن أيضاً أن يراد به أنّ حقيقة البضع وهي قطعة معيّنة من العدد نسخت واُزيلت بإرادة المجاز منه وهو قطعة اُريد منه وقعه القضاء والحتم فيها والقرينة عليه ما بعده، وهذا بناءً على ما ذهب إليه جميع المحقّقين من أنّ الكلام لا يصرف إلى الحقيقة ولا إلى المجاز ولا يستقرّ شيء منهما إلاّ بعد تمامه والفراغ من


--------------------------------------------------

1 ـ 3. سورة الروم 30: 4 .


(610)

متعلّقاته، فإن ذكرت قرينة المجاز حمل عليه، وإلاّ فعلى الحقيقة هذا من باب الاحتمال، والله‌ سبحانه يعلم حقيقة كلامه وكلام وليّه.[1]

قال العلاّمة المجلسي:

الحديث صحيح. قوله تعالى: «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الْأَرْضِ»[2] قال البيضاوي: أي، أرض العرب منهم، لأنّها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب، واللام بدل من الإضافة «وَ هُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ»[3] من إضافة المصدر إلى المفعول «سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ»[4] روي أنّ فارس غزوا الروم فوافوهم باذرعات وبصري، وقيل: بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس، فغلبوا عليهم فبلغ الخبر مكّة، ففرح المشركون وشمّتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أمّيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرنّ عليكم، فنزلت فقال: لهم أبو بكر لا يقرّنّ الله‌ أعينكم فو الله‌ ليظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبيّ بن خلف: كذبت إجعل بيننا أجلاً أناحبك[5] عليه فناحبه على عشر قلائص من كلّ واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزائده في الخطر، ومادّه في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم بعد قفوله من اُحد، فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبيّ وجاء به إلى رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم، فقال: تصدّق به، والآية من دلائل النبوّة، لأنّها إخبار عن الغيب، وقرئ


--------------------------------------------------

1. شرح اُصول الكافي 12: 356 ـ 358 .

2. سورة الروم 30: 1 ـ 3 .

3. سورة الروم 30: 3 .

4. سورة الروم 30: 3 و4.

5. ناحبه: حاكمه، وفاخره، وراهنه (القاموس المحيط 1: 174، اُنظر باب الباء فصل النون، مادة «النحب»)


(611)

غلبت بالفتح، وسيغلبون بالضمّ، ومعناه: إنّ الروم غلبوا على ريف الشام، والمسلمون سيغلبونهم، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلب إلى الفاعل.

«لله‌ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِن بَعْدُ»[1] من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين، وهو وقت كونهم: غالبين، أي له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون، ليس شيء منهما إلاّ بقضائه «وَيَومَئِذٍ»[2] ويوم يغلب الروم «يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله‌»[3] من له كتاب على من لا كتاب له، لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم، فيما أخبروا به المشركين، وغلبتهم في رهانهم، وإزدياد يقينهم وثباتهم في دينهم، وقيل: بنصر الله‌ المؤمنين بإظهار صدقهم، أو بأنّ وليّ بعض أعدائهم بعضاً، فقاتلوا حتّى تفانوا «يَنصُرُ مَن يَشَاءُ»[4] فينصر هؤلاء تارة، وهؤلاء أخرى إنتهى كلام البيضاوي.

وقال البغوي: كان سبب غلبة الروم فارس على ما قال عكرمة: أنّ شهريراز رئيس جيش كسرى بعد ما غلبت الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم، حتّى بلغ الخليج، فبينما أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب، فقال فرخان لأصحابه: لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهريراز إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان، فكتب إليه أيّها الملك إنّك لن تجد مثل فرخان إنّ له قوّة وصوتا في العدوّ فلا تغفل، فكتب إليه: إنّ في رجال فارس أعلى منه فعجّل عليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريداً إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز، واستعملت عليكم فرخان، ثمّ دفع إلى


--------------------------------------------------

1 ، 2. سورة الروم 30: 4 .

3. سورة الروم 30: 4 و5 .

4. سورة الروم 30: 5 .


(612)

البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز، فقال: إذا ولي فرخان الملك، فأعطه، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ونزل عن سريره وجلس فرخان، ودفع إليه الصحيفة، فقال: ائتوني بشهريراز، فقدّمه ليضرب عنقه، فقال: لا تعجل وأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد، فردّ الملك إلى أخيه، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إنّ لي إليك حاجة لا تحملها البريد، ولا تبلغها الصحف، فألقني في خمسين روميّاً فإنّي ألقاك في خمسين فارسيّاً، فالتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، ومع كلّ واحد منهما سكّين، فدعيا بترجمان بينهما، فقال: شهريراز إنّ الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ثمّ أمر أخي أن يقتلني فقد خلعناه جميعاً، فنحن نقاتله معك، قال: قد أصبتما، ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ إذا جاز اثنين فشا، فقتلا الترجمان معاً بسكّينهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك فاتبعوهم فقتلوهم ومات كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله‌ يوم الحديبيّة، ففرح من معه بذلك.

قوله عليه‌السلام: «كتب إلى ملك الروم» وكان اسمه هرقل، بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم إليه دحية الكلبي وأمره أن يأتي حاكم بصرى ويسأل منه أن يبعث معه من يوصله إلى هرقل، وقال: هرقل أتى لزيارة بيت المقدس إلى الشام، فأرسل معه رجلاً حتّى أوصله إلى هرقل.

و قال قطب الدين الراوندي: روي أنّ دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف فأخبره بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وكتابه، فقال: هذا النبيّ الذي كنّا ننتظره بشّرنا به عيسى بن مريم عليه‌السلام، وقال الأسقف: أمّا أنا فمصدّقه ومتّبعه، فقال قيصر: أمّا أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي.

ثمّ قال قيصر: إلتمسوا من قومه هاهنا أحداً أسأله عنه، وكان أبو سفيان


(613)

وجماعته من قريش دخلوا الشام تجّاراً فأحضرهم، وقال: ليدن منّي أقربكم نسباً به فأتاه أبو سفيان، فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول إنّه نبيّ، ثمّ قال لأصحابه: إن كذب، فكذّبوه، قال أبو سفيان: لو لا حيائي أن يأثر أصحابي عنّي الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه. فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب، قال: هل قال هذا القول فيكم أحد؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتّبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون، قال: يرتدّ أحد منهم سخطاً لدينه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر، قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال مرّة له، ومرّة عليه، قال: هذه آية النبوّة.

قال فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله‌ وحده ولا نشرك به شيئاً، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد، قال هذه صفة نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه يخرج لم أظنّ أنّه منكم، فإنّه يوشك أن يملك ما تحت قدميّ هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشّمت[1] لقاءه، ولو كنت عنده لقبّلت قدميه، وإنّ النصارى إجتمعوا على الأسقف ليقتلوه، فقال: اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي وأخبره أنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله‌، وأنّ محمّداً رسول الله‌، وأنّ النصارى أنكروا ذلك عليّ، ثمّ خرج إليهم فقتلوه.

قال: وروي أنّ هرقل بعث رجلاً من غسّان، وأمره أن يأتيه بخبر محمّد، وقال له: احفظ لي من أمره ثلاثة أنظر على أيّ شيء تجده جالساً، ومن على يمينه، فإن استطعت أن تنظر إلى خاتم النبوّة فافعل، فخرج الغسّاني حتّى أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم فوجده جالساً على الأرض، ووجد عليّ بن أبي طالب على يمينه، وجعل رجليه في ماء يفور، فقال: من هذا على يمينه قيل ابن عمّه، فكتب ذلك،


--------------------------------------------------

1. جَشِمتُ الأمر بالكسر، وتجشّمته: إذا تكلّفته. النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 274، اُنظر مادة «جشم»


(614)

ونسي الغساني الثالثة، فقال له رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: تعال فانظر إلى ما أمرك به صاحبك، فنظر إلى خاتم النبوّة، فانصرف الرجل إلى هرقل ثمّ قال: ما صنعت؟ قال: وجدته جالساً على الأرض والماء يفور تحت قدميه، ووجدت عليّاً ابن عمّه عن يمينه، وأنسيت ما قلت لي في الخاتم، فدعاني فقال: هلّم إلى ما أمرك به صاحبك، فنظرت إلى خاتم النبوّة.

فقال: هرقل هذا الذي بشّر به عيسى بن مريم عليه‌السلام أنّه يركب البعير فاتّبعوه وصدّقوه، ثمّ قال للرسول اخرج إلى أخي فأعرض عليه، فإنّه شريكي في الملك فقال له: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه.

قوله عليه‌السلام: «وكتب إلى ملك فارس» بعث به مع عبد الله‌ بن حذاقة إليه.

قال ابن شهرآشوب: ذكر ابن مهدي المامطيري في مجالسه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم كتب إلى كسرى: من محمّد رسول الله‌ إلى كسرى بن هرمز، أمّا بعد فأسلم تسلم، وإلاّ فأذن بحرب من الله‌ ورسوله، والسلام على من اتّبع الهدى، فلمّا وصل إليه الكتاب مزّقه واستخفّ به، وقال: من هذا الذي يدعوني إلى دينه، ويبدأ باسمه قبل اسمي وبعث إليه بتراب فقال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: مزّق الله‌ ملكه كما مزّق كتابي، أما إنّه ستمزّقون ملكه، وبعث إلىّ بتراب أما إنّكم ستملكون أرضه، فكان كما قال.

وقال الماوردي في إعلام النبوّة: أنّ كسرى بعث في الوقت إلى عامله باليمن بأذان ويكنّى أبا مهران أن احمل إلى هذا الذي يذكر أنّه نبيّ، وبدأ باسمه قبل اسمي ودعاني إلى غير ديني، فبعث إليه فيروز الديلميّ في جماعة مع كتاب يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه، فقال له: إنّ كسرى أمرني أن أحملك إليه فاستنظره ليلة، فلمّا كان من الغد حضر فيروز مستحثّا فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله‌وسلم: أخبرني ربّي أنّه قتل ربّك البارحة، سلّط الله‌ عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل، فأمسك حتّى يأتيك الخبر، فراع ذلك فيروز وهاله وعاد إلى باذان فأخبره، فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت عليه؟ فقال: والله‌ ما هبت


(615)

أحداً كهيبة هذا الرجل، فوصل الخبر بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة، فأسلما جميعاً وظهر العبسي وما افتراه من الكذب، فأرسل رسول الله‌ إلى فيروز اقتله، قتله الله‌ فقتله.

وروي عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الله‌، عن عبد الرحمن بن عوف قال: بعث الله‌ إلى كسرى ملكاً وقت الهاجرة، وقال: يا كسرى تسلم أو اكسر هذه العصا، فقال: بهل بهل فانصرف عنه، فدعا حرّاسة وقال: من أدخل هذا الرجل عليّ؟ فقالوا: ما رأيناه، ثمّ أتاه في العام المقبل ووقته، فكان كما كان أوّلا، ثمّ أتاه في العام الثالث، فقال تسلم أو اكسر هذه العصا، فقال: بهل بهل فكسر العصا ثمّ خرج، فلم يلبث أن وثب عليه ابنه، فقتله.

قوله عليه‌السلام: «قراناً» إمّا صفة للكتاب، أي: كتاباً مقرؤاً أو بدل منه، ليظهر منه أنّ المراد بعض الكتاب.

قوله عليه‌السلام: «يعني غلبتها فارس» الظاهر أن إضافة الغلبة إلى الضمير إضافة إلى المفعول، أي: مغلوبيّة روم من فارس، ويمكن أن يقرأ على فعل الماضي.

قوله عليه‌السلام: «يعني وفارس» تفسير لضمير ـ هم ـ فالظاهر أنّه كان في قراءتهم عليهم‌السلام غلبت وسيغلبون كلاهما على المجهول، وهي مركّبة من القراءة المشهورة، والشاذّة التي رواها البيضاويّ، ويحتمل أن يكون قراءتهم عليهم‌السلام على وفق الأخيرة، بأن يكون إضافة الغلبة إلى الضمير إضافة إلى الفاعل، وإضافة غلبهم في الآية إلى المفعول، أي: بعد مغلوبيّة فارس عن الروم، سيغلبون عن المسلمين أيضاً، أو إلى الفاعل ليكون في الآية إشارة إلى غلبة فارس ومغلوبيّتهم عن الروم وعن المسلمين جميعا، ولكنّه يحتاج إلى تكلّف كما لا يخفى، تمام الغلبة على فارس في السابع عشر، أو آخر السابع عشر.

قوله: «أليس الله‌ يقول: «فِى بِضْعِ سِنِينَ»»[1] لمّا كان البضع ـ بكسر الباء ـ


--------------------------------------------------

1. سورة الروم 30: 4 .


(616)

بحسب اللّغة إنّما يطلق على ما بين الثلاث إلى التسع، وكان تمام الغلبة على فارس في السابع عشر، أو أواخر السادس عشر من الهجرة، فعلى المشهور بين المفسّرين من نزول الآية في مكّة قبل الهجرة، لا بدّ من أن يكون بين نزول الآية وبين الفتح ستّ عشرة سنة، وعلى ما هو الظاهر من الخبر من كون نزول الآية بعد مراسلة قيصر وكسرى وكانت على الأشهر في السنة السادسة، فيزيد على البضع أيضاً بقليل، فلذا اعترض السائل عليه بذلك، فأجاب عليه‌السلام بأنّ الآية مشعرة باحتمال وقوع البداء، حيث قال: «لله‌ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِن بَعْدُ»[1] أي: للّه‌ أن يقدّم الأمر قبل البضع، ويؤخّره بعده كما هو الظاهر من تفسيره عليه‌السلام.[2]

أبواب آداب القاضى

الحديث 1579: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة الثّمالي، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: كان في بني إسرائيل قاض كان[3] يقضي بالحقّ فيهم، فلمّا حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني، وكفّنيني، وضعيني على سريري، وغطّي وجهي، فإنّك لا ترينّ سوءاً، فلمّا مات فعلت ذلك، ثمّ مكثت بذلك حيناً، ثمّ إنّها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت من ذلك، فلمّا كان اللّيل أتاها في منامها، فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ قالت: أجل، لقد فزعت، فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الّذي رأيت إلاّ في أخيك فلان، أتاني ومعه خصم له، فلمّا جلسا إليّ قلت: اللّهمّ اجعل الحقّ له، ووجّه القضاء على صاحبه، فلمّا اختصما إليّ كان الحقّ له، ورأيت ذلك بيّناً في القضاء فوجّهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحقّ.

المصادر: الكافي 7: 410، كتاب القضاء والأحكام، باب من حاف في الحكم، ح 2، وسائل


--------------------------------------------------

1. سورة الروم 30: 4 .

2. مرآة العقول 26: 267 .

3. في الوسائل: «وكان».


(617)

الشيعة 27: 225، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، ب9 ح2، جامع أحاديث‌الشيعة 30: 70، كتاب القضاء، أبواب القضاء ومن له الحكم و...، ب6 باب أنّ القاضي عليه أن يواسي بين الخصوم و...، ح14 .

أبواب كيفية الحكم وأحکام الدعوى

الحديث 1580: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه‌السلام، عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل، وامرأة ادّعى الرّجل أنّها مملوكة له، وادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: قد قضى في هذا عليّ عليه‌السلام قلت: وما قضى في هذا عليّ عليه‌السلام [1]؟ قال: كان يقول: النّاس كلّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالرّقّ وهو مدرك، ومن أقام بيّنة على من ادّعى من عبد أو أمة، فإنّه يدفع إليه يكون[2] له رقّاً، قلت: فما ترى أنت؟ قال: أرى أن أسأل الّذي ادّعى أنّها مملوكة له[3] على ما ادّعى، فإن أحضر شهوداً يشهدون (أنّها مملوكة له)[4] لا يعلمونه باع ولا وهب، دفعت الجارية إليه حتّى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها فلتدفع[5] إليها، وتخرج من يد الرّجل، قلت: فإن لم يقم الرّجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: تخرج من يده[6]، فإن أقامت المرأة البيّنة على أنّها ابنتها دفعت إليها وإن لم يقم الرّجل البيّنة على ما ادّعاه[7] ولم تقم المرأة البيّنة على ما ادّعت خلّي سبيل الجارية تذهب حيث شاءت.


--------------------------------------------------

1. ليس في التهذيب والوسائل: «عليّ عليه‏السلام».

2. في التهذيب والوسائل: «ويكون».

3. في التهذيب والوسائل زيادة: «بيّنة».

4. في التهذيب: «أنّها مملوكته» وفي الوسائل: «أنّها مملوكة» بدل أنّها مملوكة له».

5. في التهذيب: «فتدفع».

6. في التهذيب: «من بيته» بدل «من يده».

7. في التهذيب والوسائل: «ما ادّعى».


(618)

المصادر: الكافي 7: 420، كتاب القضاء والأحكام، باب آخر منه، ح 1، ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد في تهذيب الأحكام 6: 235، كتاب القضايا والأحكام، ب90 باب البيّـنتين يتقابلان أو يترجّح بعضها على بعض وحكم القرعة، ح11، وسائل الشيعة 27: 252، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، ب12 ح9، جامع أحاديث الشيعة 30: 114، كتاب القضاء، أبواب القضاء ومن له الحكم و...، ب30 باب حكم تعارض البيّـنتين وماترجّح به أحدهما و...، ح 15.

الشرح: قال العلاّمة المجلسي:

قال الوالد العلاّمة طاب ثراه: يدلّ على أنّ الأصل الحرّية، إلاّ أن تثبت رقّيتها، فإن أثبتت المرأة أنّها حرّة تدفع إليها، أثبت النسب والحضانة وإلاّ فحرّة، وليس لهما عليها تسلّط، فيضبطها الحاكم إلى البلوغ.

ويظهر منه أنّه مع تعارض البيّنتين يرجّح جانب الحرّية، لموافقتها للأصل والمرأة بإقرارها مؤاخذة، ترث الصبيّة منها ولا ترث من الصبيّة، ولم يذكره صلوات الله‌ عليه، لأنّ الغرض بيان رفع تسلّطها، إنتهى.

وقال في المسالك: لو اشترى عبداً ثابت العبوديّة ـ بأن وجده يباع في الأسواق ـ فإنّ ظاهر اليد والتصرّف يقتضي الملك. فلو ادّعى الحرّية لا يقبل بالبيّنة. أمّا لو وجد في يده وادّعى رقيّته ولم يعلم شراؤه ولا بيعه، فإن كان كبيراً وصدّقه فكذلك، وإن كذّبه لم يقبل دعواه إلاّ بالبيّنة، عملاً بأصالة الحرّية. وإن سكت أو كان صغيراً فوجهان، واستقرب في التذكرة العمل بأصالة الحرّيّة، وفي التحرير بظاهر اليد، وهو أجود.

قوله عليه‌السلام: «تخرج من بيته» في بعض النسخ «من يد» وفي بعضها والكافي «من يديه».[1]


--------------------------------------------------

1. ملاذ الأخيار10: 60، وراجع مرآة العقول 24: 290 .