من الأعلام(1) .
7 ـ متى خلا الرجل بامرأته خلوة تامّة ، ثمّ اختلفا في الدخول ، فادّعت المواقعة ، فأنكره ، ففي تقديم قول أحدهما وجهان : فقال قوم(2) : القول قول الرجل ، عملا بالأصل ; لأنّ الأصل العدم حتّى يثبت خلافه ، ونسب الشهيد الثاني هذا القول إلى الأشهر(3) .
وقال بعض آخر(4) : إنّ القول قولها; عملا بالظاهر من حال الصحيح في خلوته بالحلال مع عدم الموانع وحصول الدواعي ، وتؤيّده الأخبار(5): بأنّ إرخاء الستر يوجب المهر .
وبالجملة : فمرجع الكلام هنا إلى تعارض الأصل والظاهر ، فمن عمل
بظاهر الأخبار فقد رجّح البناء على الظاهر ، ويكون الحكم هنا عنده تقديم قول المرأة بيمينها ، وأمّا مع عدم العمل بها فالظاهر هو ترجيح الأصل ، وبه
صرّح في المسالك ، فقال : لكن الأقوى تقديم الأصل ; لأنّ وجود القدرة والداعي وانتفاء الصارف مظنون لا معلوم ، ومعها لابدّ لفعل القادر من ترجيح ،
والأصل عدمه(6) .
- (1) جامع الشتات 2 : 384 ، رسائل فقهية للشيخ الأنصاري : 41 .
(2) المبسوط 4 : 318 ، مختلف الشيعة 7 : 155 ـ 157 ، الجامع للشرائع : 439 ، شرائع الإسلام 2 : 333 ، المختصر النافع : 216 ، كشف الرموز 2 : 187 ـ 188 ، الروضة البهية 5 : 378 ، رياض المسائل 7 : 163 ـ 164 ، الحدائق الناضرة 24 : 584 ، جواهر الكلام 31 : 141 ، نهاية المرام 1 : 409ـ 410 ، العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 193 ، فقه القضاء : 565 ، تفصيل الشريعة، كتاب النكاح: 446 ـ 447 .
(3) تمهيد القواعد : 313 ، الروضة البهية 5 : 378 .
(4) النهاية : 471 ، المهذّب 2 : 204 ، اللمعة الدمشقية : 117 ، كشف اللثام 2 : 86 ، كتاب القضاء للمحقّق الرشتي 1 : 324 ، والمحكي عن ابن أبي عمير في الكافي 6 : 111 ذيل حديث 7 ، كفاية الأحكام : 181 .
(5) الكافي 6 : 111 ح7 ، 8 .
(6) مسالك الأفهام 8 : 303 .
8 ـ لو حاسب وكيل الحاكم اُمناء المعزول ، فادّعى واحد منهم أنّه أخذ شيئاً اُجرة قدّرها له المعزول ، لم يقبل وإن صدّقه المعزول ، لكن هل يقبل قوله في قدر اُجرة المثل؟ وجهان :
أحدهما : لا; لأنّه مدّع، والأصل عدم استحقاقه .
والثاني : نعم ; لأنّ الظاهر أنّه لايعمل مجّاناً ، وقد فاتت منافعه ، فلابدّ من عوض(1) .
القول الخامس : التوقّف في المسألة
ومن الأقوال في المسألة التوقّف ، ويستفاد ذلك من كلمات بعض
الأعلام، كالشهيدين في بعض كلماتهم وفخر المحقّقين والعلاّمة والفاضل الهندي .
قال الشهيد في القواعد : قد يعارض الأصل الظاهر ، ففي ترجيح أحدهما وجهان(2) . ثمّ ذكر صوراً وفي بعضها قدّم الظاهر، وفي بعض آخر قدّم الأصل .
قال في الدروس : ولو أقرّ المحتمل للبلوغ ، أو باع ، أو نكح ، أو طلّق ، ثمّ ادّعى الصبي ، قيل : ولا يمين عليه ، ولو كان التداعي بعد البلوغ، ففي تقديم قوله عملا بالأصل ، أو قول الآخر عملا بالظاهر من الصحّة وجهان(3) .
قال فخر المحقّقين : ومع تعارض الظاهر والأصل ، قيل : يرجّح الظاهر ،
وقيل : الأصل(4) .
قال الشهيد الثاني : إذا تعارض الأصل والظاهر ، فإن كان الظاهر حجّة يجب
- (1) تمهيد القواعد : 315 ـ 316 .
(2) القواعد والفوائد 1 : 137 ـ 140 .
(3) الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة 3 : 127 درس 222 .
(4) إيضاح الفوائد 1 : 43 .
قبولها شرعاً، كالشهادة والرواية والأخبار فهو مقدّم على الأصل بغير إشكال ، وإن لم يكن كذلك، بل كان مستنده العرف، أو العادة الغالبة، أو القرائن، أو غلبة الظنّ ونحو ذلك ، فتارةً يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى الظاهر وهو الأغلب ، وتارةً يعمل بالظاهر ولا يلتفت إلى هذا الأصل ، وتارة يخرج في المسألة خلاف(1) .
قال العلاّمة والفاضل الهندي : ولو قالت : أسلمنا معاً فالنكاح باق ، وقال : بل أسلمتِ قبلي، أو أسلمتُ قبلك إذا انقضت العدّة على كفرك، أو لم تكن مدخولا بها قدّم قوله ; لندرة التقارن في الإسلام على إشكال من تعارض الأصل والظاهر(2) . فإنّ الأصل بقاء النكاح وعدم تجدّد المفسد ، والظاهر عدم التقارن ; لأنّ اتفاق ذلك عزيز نادر ، فيقدّم قول نافيه .
- (1) تمهيد القواعد : 300 ـ 301 .
(2) قواعد الأحكام 2 : 24 ، كشف اللثام 7 : 258 .
رأي الجمهور في تعارض الأصل والظاهر
اختلفت العامّة أيضاً في تقديم الظاهر على الأصل أو العكس ، فيقدّمون الظاهر على الأصل في بعض الموارد، وبالعكس في موارد اُخر، وقالوا في الضابط :
إنّ الضابط أنّه إن كان الظاهر حجّة يجب قبولها شرعاً ، كالشهادة والرواية والإخبار واليد ، فهو مقدّم على الأصل قطعاً ، وإن لم يكن كذلك، بل كان سببه العرف، أو القرائن، أو غلبة الظنّ فهذه يتفاوت أمرها :
فتارةً: يعمل بالأصل ، واخرى: يعمل بالظاهر ، وثالثةً: تردّد في الراجح في مسائل القولين (1).
قال ابن رجب الحنبلي (م 795 ق) إذا تعارض الأصل والظاهر فإن كان الظاهر حجّة يجب قبولها كالشهادة والرواية والأخبار، فهو مقدَّم على الأصل بغير خلاف، وإن لم يكن كذلك، بل كان مستنده العرف، أو العادة الغالبة، أو القرائن، أو غلبة الظن ونحو ذلك، فتارةً يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى الظاهر، وتارةً يعمل
- (1) المنثور في الفوائد للزركشي 1: 315 .
بالظاهر ولا يلتفت إلى الأصل، وتارةً يخرج في المسألة خلاف(1).
قال الزركشي في تعارض الأصل والظاهر : فيه قولان ،
فلجريان القولين شروط :
أحدها : أن لا تطرد العادة بمخالفة الأصل ، فإن أطردت عادة بذلك، كاستعمال السرجين (خ .ل السرقين) في أواني الفخار قدّمت على الأصل قطعاً ، فيحكم بالنجاسة، قاله الماوردي ، ومثله الهارب في الحمّام لاطّراد العادة بالبول فيه .
ثانيها : أن تكثر أسباب الظاهر ، فإن ندرت لم ينظر إليه قطعاً ، ولهذا اتّفق الأصحاب على أنّه إذا تيقّن الطهارة، وغلب على ظنّه الحدث كان له الأخذ بالوضوء ولم يجروا فيه القولين(2) .
ثالثها : أن لايكون مع أحدهما مايعتضد به ، فإن كان، فالعمل بالترجيح متعيّن .
فالصواب في الضابط: أنّه عند تعارضهما يجب النظر في الترجيح، كما في تعارض الدليلين ، فإذا اجتمع في جانب أصلان، أو أصل وظاهر ، وفي جانب آخر أصل، أو ظاهر فقط، لا تعارض ; لأنّ شرطه التساوي ، ولا تساوي، ولكن يعمل بالراجح ، فإن تردّد في الراجح فهي مسائل القولين(3) .
أ ـ موارد تقديم الظاهر على الأصل عند العامّة
1 ـ البيّنة : اتّفق الناس على تقديم الغالب، وإلغاء الأصل في البيّنة إذا شهدت ، فإنّ الغالب صدقها ، والأصل براءة ذمّة المشهود عليه ، وأُلغي الأصل هنا إجماعاً .
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي: 327 القاعدة 159 .
(2) المنثور في القواعد 1 : 312 ـ 214 .
(3) المصدر 1 : 312 ـ 313 .
2 ـ اليد في الدعوى ، فإنّ الأصل عدم الملك ، والظاهر من اليد الملك، وهو ثابت بالإجماع(1) .
3 ـ إخبار الثقة بدخول الوقت(2) .
4 ـ إخبار الثقة بنجاسة الماء ، إذا كان فقيهاً موافقاً يقدّم على أصل طهارة الماء قطعاً ، وكذا إن لم يكن فقيهاً موافقاً، ولكن عيّن تلك النجاسة .
5 ـ قبول قول المرأة في حيضها، وانقضاء عدّتها بالإقراء ولو في مدّة أقلّ ما يمكن(3) .
6 ـ إذا شكّ بعد الفراغ من الصلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن منها ، فإنّه لا يلتفت إلى الشكّ وإن كان الأصل عدم الإتيان به وعدم براءة الذمّة ، لكن الظاهر من أفعال المكلّفين للعبادات أن تقع على وجه الكمال ، فيرجّح هذا الظاهر على الأصل ، ولا فرق في ذلك بين الوضوء وغيره . ومثله ما لو قرأ الفاتحة، ثمّ شكّ بعد الفراغ منها في حرف أو كلمة فلا أثر له(4) .
7 ـ وقال بعض آخر : إذا باع البائع شيئاً وسكت المتعاقدان عن بيان حمل البضاعة المبيعة إلى المشتري ، فهنا تعارض الأصل والظاهر ; فإنّ الأصل أن تكون حمولة المبيع على المشتري ، والعرف اعتبر حمولته على البائع ، فإنّ الفقهاء يقدّمون العرف على الأصل(5) .
- (1) الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 4 : 165 ، الأشباه والنظائر في الفروع: 46 ـ 47 .
(2) الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 368 ، القاعدة 159 لابن رجب الحنبلي ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 194 .
(3) المنثور في القواعد 1 : 315 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 47 .
(4) القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب 369 ، القاعدة 159 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 48ـ 49 ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 194 ـ 195 .
(5) المدخل الفقهي العام 2 : 865 ـ 866 .
8 ـ سكوت الفتيات الأبكار عن استئذان وليّها لها في تزويجها من رجل معيّن بمهر معيّن إذناً، وعدمه وجهان : الأصل عدم الإذن . والظاهر والعرف والعادة ، إذناً ، والظاهر مقدّم على الأصل، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : إذنها صُماتها(1) . وفي رواية اُخرى : رضاها صَمْتُها(2) .
9 ـ لو رُؤىَ شخص خارجاً من دار وهو مرتبك وفي يده سكّين ملوّث بالدم ، ووجد في الدار شخص ذبيح يضطرب ، فإنّ الأصل عدم كون الخارج قاتلا ، والقرينة القطعية كافية لكون الخارج هو القاتل(3) .
10 ـ إذا اختلف الزوجان في بعض أمتعة البيت أنّها ملك الرجل أو المرأة ، ولا بيّنة لأحدهما ، يترجّح قول الرجل بيمينه فيما يستعمله الرجال عادة ، كالسيف وثياب الرجال ، فيحكم له به مبدئيّاً ، ويترجّح كذلك قول المرأة فيما يستعمله النساء ، كثيابهنّ وأدواتهنّ ، وذلك بقرينة عادة الاستعمال وعرفه وإن كان من المحتمل أن يملك كلّ منهما ما هو في العادة من حوائج الآخر . وهذا حكم القضاء مع اليمين حتّى تقوم بيّنة على إثبات خلافه(4) .
11 ـ لو صلّى، ثمّ رأى عليه نجاسة، وشكّ هل لحقته قبل الصلاة أو بعدها؟ وأمكن الأمران فالصلاة صحيحة ; لأنّ الظاهر صحّة أعمال المكلّف وجريانها على الكمال وإن كان الأصل عدم انعقاد الصلاة، وبقاؤها في الذمّة حتّى يتيقّن صحّتها(5) .
- (1) المدخل الفقهي العام : 892 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 372 ، السنن الكبرى 10 : 310 ح13958 .
(2) صحيح البخاري 6 : 164 ح5137 .
(3) درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام 12 ـ 16 : 432 ذيل مادّة 1741 ، المدخل الفقهي العام 2 : 919 .
(4) المدخل الفقهي العام 2 : 920 ـ 921 .
(5) القواعد في الفقه الإسلامي : 369 قاعدة 159 .
12 ـ إذا اختلف المتبايعان بعد العقد في بعض شرائط صحّة العقد ، كما إذا ادّعى البائع أنّه كان صبيّاً، أو غير ذلك، وأنكر المشتري، فالقول قول المشتري ومدّعي الصحّة ; لأنّ الظاهر وقوع العقد على وجه الصحّة دون الفساد وإن كان الأصل عدم البلوغ والإذن(1) .
13 ـ إذا غلب على ظنّه دخول وقت الصلاة; فإنّه تصحّ صلاته، ولا يشترط أن يتيقّن دخوله في ظاهر المذهب (الحنبلي) وإن كان الأصل عدم دخول الوقت .
وهكذا الفطر في الصيام يجوز بغلبة ظنّ غروب الشمس في ظاهر المذهب (الحنبلي); لأنّ الوقت عليه أمارات تعرف بها ، فاكتفى فيها بالظنّ الغالب وإن كان الأصل عدم غروبه .
14 ـ أنّ المستحاضة المعتادة ترجع إلى عادتها، وإن لم تكن لها عادة فإلى تمييزها ، وإن لم يكن لها عادة وتمييز رجعت إلى غالب عادات النساء ، وهي ستّ أو سبع على الصحيح ; لأنّ الظاهر مساواتها لهنّ وإن كان الأصل عدم فراغ حيضها حينئذ .
15 ـ لو وجد في دار الكفر ميّت مجهول الدين ، فإن لم يكن عليه علامة الإسلام لا يصلّى عليه ولا يدفن، وإن كان عليه علامات الإسلام صلّي عليه; ترجيحاً للظاهر على الأصل هاهنا ، إذ الأصل في دار الكفر ، الكفر .
16 ـ إذا زنا من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين وادّعى الجهل بتحريم الزنا لم يقبل قوله ; لأنّ الظاهر يكذبه وإن كان الأصل عدم علمه بذلك(2) .
17 ـ ومن تقديم الظاهر على الأصل قبول قول الاُمناء ونحوهم ممّن يقبل قوله
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي : 370 قاعدة 159 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 48ـ 49 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي : 370 ـ 374 قاعدة 159 .
في تلف المال، أو ثمن عليه من مال، أو غيره ، إذ لا معنى للأمانة إلاّ انتفاء الضمان ، ومن لوازمه قبول قوله في التلف(1) .
18 ـ إذا اطّردت عادة استعمال السرجين (خ ل السرقين) في أواني الفخار ، قدّم هذا الظاهر على الأصل، فيحكم بنجاسته ، ومثله الهارب في الحمّام لاطّراد العادة بالبول فيه(2) .
19 ـ القسام ، يقبل في الدعوى قول الطالب والمدّعي; لترجّحه باللوث(3) .
20 ـ إذا جومعت المرأة غير نائمة ولا مكرهة وهي بالغ، فقضت شهوتها، ثمّ اغتسلت، ثمّ خرج منها منيّ الرجل، فالظاهر خروج منيّها معه، والأصل عدم ذلك. والأصحّ أنّه يجب غسلها; ترجيحاً لإعمال الظاهر(4).
ب ـ موارد تقديم الأصل على الظاهر عند العامّة
مسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف :
منها : لو ظنّ حدثاً، أو طلاقاً، أو عتقاً، أو صلّى ثلاثاً أو أربعاً ، فإنّه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف ، وهو البناء على الطهارة وعدم الطلاق والعتق والركعة الرابعة . وضابطه أن يعارض الأصل احتمال مجرّد(5) .
قال البعض : إذا تيقّن الطهارة أو النجاسة في ماء، أو ثوب، أو أرض، أو بدن، وشكّ في زوالها، فإنّه يبني على الأصل إلى أن تيقّن زواله ، ولا يكتفي في ذلك بغلبة
- (1) المصدر : 368 قاعدة 159 و ص62 قاعدة 44 .
(2) المنثور في القواعد 1 : 312 .
(3) الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 4 : 165 للقرافي .
(4) كتاب القواعد للحصني 1: 287.
(5) الأشباه والنظائر في الفروع : 46 ـ 47 ، المنثور في القواعد 1 : 313 و322 .
الظنّ ولا غيره ، وكذلك لو تيقّن حدثاً أو نجاسة وغلب على ظنّه زوالها; فإنّه يبني على الأصل ، وكذلك في النكاح والطلاق وغيرهما .
إذا شكّ في طلوع الفجر في رمضان; فإنّه يباح له الأكل حتّى تيقّن طلوعه ، نصّ عليه أحمد ، ولا عبرة في ذلك بغلبة الظنّ بالقرائن ونحوها ما لم يكن مستنداً إلى أخبار ثقة بالطلوع(1) .
لو توضّأ من بئر فيها دون قلتين ، ثمّ صلّى، ثمّ جاء فوجد في البئر فأرة ، فإنّه لا يعيد الصلاة ; لاحتمال وقوعها بعد الوضوء(2) .
ومنها : المتبايعان تمضي عليهما مدّة يغلب على الظنّ عدم تلازمهما، ثمّ ادّعى أحدهما التفرّق، وأنكره الآخر ، فالمصدَّق المنكر; استصحاباً للأصل في تلازمها .
ومنها : إذا ادّعت الرجعيّة امتداد الطهر مدّة طويلة ، وعدم انقضاء العدّة فتصدَّق ; لأنّ الأصل بقاء العدّة وتجب نفقتها ، وربما كان ذلك على خلاف الظاهر(3) .
ومنها : لو صلّى ورأى بعد الصلاة في ثوبه نجاسة ، احتمل وقوعها بعد سلامه من الصلاة لم يعد ، ولو وجد في ثوبه منيّاً، ولم يدر متى حصل له ، قالوا : يعيد الصلاة من آخر نومة نامها في ذلك الثوب .
ومنها : لو شكّ في صلاة يوم من الأيّام الماضية ، هل صلاّها أم لا؟ وكانت عادته مواظبة الصلاة إن كان مع بُعد الزمان لم يعد ; لأنّ الإنسان لا يقدر على ضبط ما وقع منه في الماضي ، وإن كان مع قرب الزمان، كمن شكّ في آخر الاُسبوع في
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي : 369 قاعدة 159 .
(2) المنثور في القواعد 1 : 325 .
(3) المصدر 1 : 325 ـ 321 .
صلاة يوم من أوّله وجبت الإعادة(1) .
ومنها : أجمعت الاُمّة على اعتبار الأصل، وإلغاء الغالب في دعوى الدين ونحوه ، فالقول قول المدّعى عليه وإن كان فاجراً شقيّاً، وكان الطالب أصلح الناس وأتقاهم لله تعالى ، ومن الغالب عليه أن لا يدّعي إلاّ ما له ، فهذا الغالب ملغى إجماعاً(2) .
ما يصنعه المسلمون الذين لا يصلّون ، ولا يستنجون بالماء ولا يتحرّزون من النجاسات من الأطعمة الغالب نجاستها ، والنادر سلامتها، فألغى الشارع حكم الغالب، وجوّز أكلها توسعةً ورحمةً على العباد .
ما ينسجه المسلمون المتقدّم ذكرهم الغالب عليه النجاسة ، وقد أثبت الشرع حكم النادر ، وألغى حكم الغالب ، وجوّز الصلاة فيه لطفاً بالعباد(3) .
فذكروا موارد كثيرة ، ويكون ذلك غالباً عند تقادم الظاهر والأصل وتساويهما .
منها : المقبرة القديمة المشكوك في نبشها في تحريم الصلاة فيها قولان : أحدهما : التحريم ; لأنّ الغالب على القبور النبش ، والثاني : يجوز ; لأنّ الأصل الطهارة .
ومنها : في الصلاة في ثياب من يغلب عليه النجاسة بمخامرة النجاسة من المسلمين والمشركين ، قولان : أحدهما : لا يجوز; لغلبة النجاسة عليها . والثاني : يجوز; لأنّ الأصل الطهارة .
ومنها : إذا اختلف الزوجان في النفقة، مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة والأشربة ، فالشافعي يجعل القول قول
- (1) المصدر 1 : 326 .
(2) الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 4 : 165 و 244 .
(3) المصدر 4 : 242 ـ 243 .
المرأة ; لأنّ الأصل عدم قبضها، كسائر الديون ، ومالك يجعل القول قول الزوج ; لأنّه الغالب في العادة ، وقوله ظاهر .
ومنها : ما إذا ادّعى الجاني شلل عضو المجنيّ عليه ، وادّعى المجنيّ عليه سلامته فقولان : أحدهما : القول قول الجاني ; لأنّ الأصل براءة ذمّته . والثاني : القول قول المجنيّ عليه ; لأنّ الظاهر الغالب من أعضاء الناس السلامة .
وكذلك إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في وجود عضو من أعضاء المجنيّ عليه ، فإنّ الظاهر وجوده للغلبة ، والأصل براءة ذمّة الجاني في ذمّة ذلك العضو المختلف فيه ، ومن قصاصه .
ومنها : طين الشوارع في البلدان في نجاسته قولان : أحدهما : أنّه نجس; لغلبة النجاسة عليه ، والثاني : أنّه طاهر; لأنّ الأصل طهارته ، نصَّ عليه أحمد في مواضع ، ترجيحاً للأصل وهو الطهارة في الأعيان كلّها ، وفي رواية له ثانية : أنّه نجس ترجيحاً للظاهر(1) .
ومنها : الشيء والنعال الذي لا يتيقّن نجاسته، ولكن الغالب في مثله النجاسة يستصحب طهارته أم يؤخذ بنجاسته، قولان : أحدهما : يستصحب طهارته تمسّكاً بالأصل المتيقّن إلى أن يزول بيقين بعده، كما في الأحداث . ثانيهما : يؤخذ [بنجاسته] عملا بالظنّ المستفاد من الغلبة بخلاف الأحداث ، فإنّ عروضها أكثر ، مخفّف الأمر فيها بطرح الظنّ، كالشكّ .
ويشهد هذان القولان لقولي تعارض الأصل والظاهر ، وللمسألة نظائر كثيرة .
- (1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 ، القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب : 369ـ 373 قاعدة 159 ، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 4 : 241 ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 194 ـ 195 .
منها : ثياب مدمني الخمر وأوانيهم وثياب القصّابين والصبيان الذين لا احتراز لهم عن النجاسات . . .(1) .
ومنها : إذا اختلف الزوجان في قبض الصداق ، فقالت الزوجة لم أقبض، وقال الزوج قد قبضت ، فقال الجمهور : القول قول المرأة ، الشافعي(2) والثوري وأحمد وأبو ثور . وقال مالك وابن عابدين: القول قولها قبل الدخول ، والقول قوله بعد الدخول ، وقال بعض أصحابه : إنّما قال ذلك مالك; لأنّ العرف بالمدينة كان عندهم أن لا يدخل الزوج حتّى يدفع الصداق ، فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبداً ، والقول بأنّ القول قولها أبداً أحسن; لأنّها مدّعى عليها(3) .
ومنها : إذا تنحنح الإمام وظهر منه حرفان ، فهل يلزم المأموم المفارقة إعمالا للظاهر الغالب المقتضي لبطلان الصلاة ; أو لأنّ الأصل بقاء صلاته، ولعلّه معذور في التنحنح فلا يزال الأصل، إلاّ بيقين؟ قولان : أصحّهما الثاني .
ومنها : لو امتشط المحرم فانتسلت من لحيته شعرات ففيه وجهان : أصحّهما عدم الفدية لأنّ النتف لم يتحقّق، والأصل براءة الذمّة . والثاني يجب; لأنّ المشط سبب ظاهر فيضاف إليه، كإضافة الإجهاض إلى الضرب(4) .
ومنها : إذا اختلف الزوجان في قدر المهر ، فقال الزوج : ألف، وقالت المرأة : ألفان ، ومهر المثل ألفان ، ففي قول أبي حنيفة ومحمّد يحكم مهر مثلها ; لأنّ الظاهر موافق لقولها . وفي قول أبو يوسف وابن أبي ليلى القول قول الزوج ; لأنّه منكر
- (1) العزيز في شرح الوجيز 1 : 74 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ـ 48 ، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 4 : 241 ـ 242 .
(2) الأمّ 5 : 77 ـ 78 .
(3) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة 2 : 124 ، المدخل الفقهي العام 2 : 914 ـ 915 ، بداية المجتهد 2 : 31 .
(4) الأشباه والنظائر في الفروع : 47 . المنثور في القواعد 1 : 317 .
وغارم، والأصل براءة ذمّته من القدر الزائد على ما يقرّر به(1) .
ومنها : في كراهة استعمال ثياب الكفّار وأوانيهم للصلاة بدون الغسل وجهان : قيل : الإباحة ترجيحاً للأصل; وهو الطهارة ، والثانية : الكراهيّة; لخشية إصابة النجاسة لها إذ هو الظاهر(2) .
ومنها : إذا شكّ المصلّي المنفرد في عدد الركعات ، وفيه وجهان : أحدهما : أنّه يبني على الأقلّ وهو المتيقّن ; لأنّ الأصل عدم الزيادة المشكوك فيها ، وثانيهما : يبني على غالب ظنّه للحديث الوارد في ذلك(3) .
ومنها : إذا شكّ في عدد الطواف ، وفيه روايتان : إحداهما يرجع إلى الأصل وهو المتيقّن ; وثانيهما : يرجع إلى غالب ظنّه، كالصلاة(4) .
ومنها : إذا أسلم الزوجان قبل الدخول ، وقال الزوج أسلمنا معاً، فنحن على نكاحنا . وقالت الزوجة : بل على التعاقب فلا نكاح ، فوجهان : أحدهما : القول قول الزوج; لأنّ الأصل معه ; والثاني : القول قول الزوجة; لأنّ الظاهر معها ، إذ وقوع الإسلام معاً في آن واحد نادر ، والظاهر خلافه(5) .
ومنها : لو وجد في دار الإسلام ميّت مجهول الدين ، فإن لم يكن عليه علامة الإسلام ولا الكفر ، أو تعارض فيه علامة الإسلام والكفر صلّي عليه ، نصّ عليه ، فإن كان عليه الكفر خاصّة فقولان : أحدهما : يصلّى عليه ، إذ الأصل في دار
- (1) المبسوط للسرخسي 5 : 66 ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 : 131 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 374 قاعدة 159 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب : 373 قاعدة 159 .
(3) الأشباه والنظائر لإبن نجيم : 324 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 373 قاعدة 159 ، المنثور في القواعد 1 : 313 .
(4 و 3) القواعد في الفقه الإسلامي : 374 قاعدة 159 ، الأشباه والنظائر في الفروع: 47.
الإسلام الإسلام . وثانيهما : أنّه لا يصلّى عليه ويدفن ، فهذا قول أحمد ; لأنّ الظاهر في هذا الكفر(1) .
ومنها : لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء، وشكّ هل ولغ فيه أم لا؟ وكان فمه رطباً ، ففي نجاسة الماء وطهارته وجهان : أحدهما : نجس; لأنّ الظاهر ولوغه . والثاني : طاهر; لأصالة الطهارة(2) .
ومنها : إذا دخل بيت الخلاء وجلس للاستراحة، وشكّ هل خرج منه شيء أو لا؟ قال محمّد بن شيبان : كان محدثاً عملا بالغالب ، وقال غيره : مطهّر إذا كان حالته السابقة الطهارة، للأصل .
ومنها : قال محمّد : من تيقّن الحدث وجلس للوضوء ومعه ماء، ثمّ شكّ هل توضّأ أم لا؟ كان متوضّأً عملا بالغالب ، وقال غيره : إنّه محدث; للأصل(3) .
ومنها : لو ادّعت الزوجة التسمية في الصداق، وكانت العادة النوعية التسمية ، فأنكر الزوج أصل التسمية ، ففيه يتعارض الأصل والظاهر ; لأنّ الأصل عدم التسمية، والظاهر والعادة التسمية .
قال البعض : لو ادّعت الزوجة التسمية في الصداق فأنكر الزوج ، فالقول قوله، إلاّ أن تكون العادة خلاف قوله(4) .
ومنها : إذا فتح الصبيّ باباً ، وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول ، أو أوصل هديّة وأخبر عن إهداء مهديها ، وضمّت إلى ذلك قرائن تحصل العلم بذلك، جاز الدخول وقبول الهديّة ، وهو في الحقيقة عمل بالعلم لا بمجرّد قوله ، وإن لم ينضمّ
- (1) القواعد فى الفقه الإسلامى: 374 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي : 372، قاعدة 159 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ، المنثور فى القواعـد 1: 324 .
(4) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة 2 : 124 .
نظر ، إن كان غير مأمون القول لم يجز اعتماد قوله بلا خلاف ، وإلاّ فطريقان ، أصحّهما : جواز الاعتماد; لحصول الظنّ بصدقه في العادة ، ولانطباق المسلمين على فعل ذلك في جميع الأعصار من غير إنكار(1) . والثاني : عدم جواز الاعتماد; للأصل .
ومنها : لو جرت خلوة بين الزوجين ، وادّعت الإصابة وأنكر الزوج ، ففي تقديم قول الزوج أو الزوجة قولان : أحدهما : تقديم قول الزوج; لأنّ الأصل عدمها ، ثانيهما : تصديق مدّعيها; لأنّ الظاهر من الخلوة الإصابة غالباً(2) .
ومنها : إذا اختلف الزوجان قبل الدخول في قبض معجّل الصداق ، فإن استقرّت العادة صير إليها ، وإن لم يكن فالقول قولها(3) .
ومنها : إذا جومعت، فقضت شهوتها، ثمّ اغتسلت، ثمّ خرج منها منيّ الرجل ، ففي وجوب الغسل وعدمه وجهان ، فالأصحّ وجوب إعادة الغسل ; لأنّ الظاهر خروج منيّها معه ، والثاني : لا ; لأنّ الأصل عدم خروجه .
ومنها : قال المالك : أجرتك الدابّة ، وقال الراكب : بل أعرتني ، في قول يصدَّق الراكب; لأنّ الأصل براءة ذمّته من الاُجرة ، والأصحّ تصديق المالك إذا مضت مدّة لمثلها أُجرة، والدابة باقية ; لأنّ الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن ، فكذلك صفته(4) .
ومنها : رأى حيواناً يبول في ماء ، ثمّ جاء فوجده متغيّراً ، لكنّه بعد التغيّر احتمل أن يكون بالمكث وإن يكون بذلك البول ، ففي نجاسته وجهان : الوجه الأوّل : إحالته على البول المتيقّن، وهو الأصحّ ، والثاني : إحالته على حلول المكث .
- (1) المجموع شرح المهذّب 9 : 149 .
(2) الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ، المغني 8 : 61ـ 62 .
(3) عقد الجواهر الثمينة 2 : 124 .
(4) الأشباه والنظائر في الفروع : 49 ، كتاب القواعد للحصنى 1: 287 .
ومنها : لو وكّل بتزويج ابنته ، ثمّ مات الموكّل ولم يعلم هل مات قبل العقد، أو بعده؟ فيه قولان : القول الأوّل : الأصل عدم النكاح. والقول الثاني : الظاهر بقاء الحياة، والأصحّ أنّ العقد صحيح .
ومنها : إذا رأت المرأة الدم لوقت يجوز أن يكون حيضاً أمسكت عمّا تمسّك عنه الحائض ; لأنّ الظاهر أنّه حيض ، وقيل : لا يجب الإمساك عملا بالأصل ، بل تصلّي مع رؤية الدم ، فإن انقطع لدون يوم وليلة أجزأها ما صلّت، وإن دام تركت ; لأنّه يجوز أن يكون دم حيض وإن يكون دم فساد ، فلا يجوز ترك الصلاة بالشكّ ، واقتضى كلام الماوردي: أنّ الخلاف مخصوص بالمبتدأة ، وأنّ المعتادة تترك بمجرّد رؤية الدم قطعاً; وهو ظاهر ، والظاهر أنّه وجه مفصّل .
ومنها : لو غلب على ظنّه دخول وقت الصلاة صحّت صلاته ، ولا يشترط تيقّن دخوله ، ولا الصبر إلى أن يتيقّن دخوله على الأصحّ ، وكذلك في الاجتهاد في الأواني والفطر والصيام .
ومنها : النوم غير(ممكن) مقعدته ناقض للوضوء ; لأنّه مظنّة خروج الحدث وإن كان الأصل عدم خروجه وبقاء الطهارة(1) .
ومنها : لو اختلفا في شرط يفسد العقد فقولان : أحدهما : أنّ القول قول مدّعيه ; لأنّ الأصل عدم لزوم الثمن، وبقاء ملك البائع، وعدم العقد الصحيح . والثاني : أنّ القول قول مدّعي الصحّة عملا بالظاهر ، وأنّ الظاهر في العقود الصحّة وعدم الشرط المذكور ، وهو الصحيح .
ومنها : لو اختلفا بعد البيع في رؤية المبيع ، فأنكرها المشتري وأثبتها البائع ، فقال بعضهم : القول قول البائع، والظاهر صحّة العقد ; لأنّ المشتري له أهليّة
- (1) المنثور في القواعد 1 : 318 ـ 319 .
الشراء وقد أقدم عليه ; وقال الآخر : القول قول المشتري; لأنّ الأصل عدم الرؤية .
ومنها : أنّه لو قدَّ بطن امرأة ميّتة ، فوصل السيف إلى ولد في جوفها فانقطع ، فهل تجب الغرّة؟(1) قال بعض : نعم; لأنّ الأصل بقاء حياته . والأصحّ عدم وجوب الغرّة; لأنّ الظاهر هلاكه بموت الاُمّ .
ومنها : لو ألقاه في ماء أو نار فمات ، قال الملقي : كان يمكنه الخروج . وقال الوليّ : لم يمكنه . فأيّهما يصدّقان؟ فيه قولان ، ويقال وجهان ; أحدهما : يصدّق الملقي ; لأنّ الأصل براءة ذمّته ، والثاني : تصديق الولي; لأنّ الظاهر أنّه لو تمكّن لخرج .
ومنها : إذا قذف مجهولا وادّعى رقّه وأنكر المقذوف ، فقولان : أصحّهما أنّ القول قول القاذف ; لأنّ الأصل براءة ذمّته ، والثاني : قول المقذوف ; لأنّ الظاهر الحريّة ، فإنّها الغالب في الناس .
ومنها : إذا ارتدّت المنكوحة بعد الدخول ، ثمّ قالت في مدّة العدّة : أسلمت في وقت كذا، فلي النفقة ، وأنكر الزوج ، فقولان : أحدهما : أنّ القول قول الزوج ; لأنّ الأصل عدم الرجوع إلى الإسلام، وعدم وجوب النفقة ، والثاني : قول الزوج ; لأنّ الظاهر يقتضي الرجوع إليها في وقت الإسلام .
ومنها : لو اختلفا بعد التفرّق ، فقال أحدهما : فسخت البيع قبل التفرّق ، وأنكر الآخر ، فالأصحّ أنّ القول قوله; لأنّ الأصل عدم الفسخ . وقال بعض : القول قول مدّعي الفسخ; لأنّه أعلم بتصرّفه ، فالظاهر الرجوع إليه .
ومنها : الدّم الذي تراه الحامل هل هو حيض؟ قولان : قال بعض : إنّه
- (1) الغرّة هنا : عبد أو أَمَة .
دم حيض وهو الأصحّ ; لأنّ الأمر متردّد بين كونه دم علّة(1) أو دم جبلّة ، والأصل السلامة . وقال بعض آخر : إنّه دم علّة; لأنّ الغالب في الحامل عدم الحيض(2) .
ومنها : إذا قال لمدخول بها أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق، ولم يقصد بالثانية والثالثة تأكيداً، ولا استئنافاً ، بل أطلق النيّة ، ففيه قولان :
القول الأوّل : تطلَّق ثلاثاً; لأنّه موضوع للإيقاع، كاللّفظ الأوّل ، ولهذا يقال: إذا دار الأمر بين التأسيس والتأكيد فالتأسيس أولى ، وهذا يرجع إلى الحمل على الظاهر .
القول الثاني : أنّه لا يلزمه أكثر من واحدة; لأنّ الأصل المتيقّن عدم ذلك(3) . إلى غير ذلك من الأمثلة .
- (1) دم علّة أي مرض . دم جبلّة أي طبيعية وحيض .
(2) كتاب القواعد للحصني 1: 288 ـ 296 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ـ 49 .
(3) المنثور في القواعد 1 : 320 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 375 .
رأي المختار في تعارض الأصل والظاهر
أقول : إنّ الظاهر إن كان ممّا قام الدليل على اعتباره ، فإنّه لا ريب في تقدّمه على الأصل ولزوم اتباعه ، كالبيّنة، والإقرار في الموضوعات، والسنّة في الأحكام ، وعليه الفقهاء من الخاصة(1) والعامّة(2) ، وهذا الظاهر مقدّم على الأصل ; لأنّ الشكّ اُخذ في موضوع الأصل، ولو اُحرز بقاء الموضوع، أو ارتفاعه فلا شك، من غير فرق بين الإحراز الوجداني الحاصل من العلم ، وبين الإحراز التعبّدي الحاصل من الطرق والأمارات .
وإن كان الظاهر يستفاد من العرف والعادة، أو الشيوع والغلبة، أو ظاهر الحال، أو القرائن ، ودلّ الدليل من الإجماع والرواية على تقديمه على الأصل فلاكلام ولا بحث ، واتفق الفقهاء على تقدّمه على الأصل كما سنذكر إن شاء الله في موارد الأمانات وغيرها ، فإن لم يكن في البين إجماع أو دليل، ولكن حصل العلم من الظاهر والعادة ويبنى عليها وهي حجّة تقدّم على الأصل أيضاً ، كما صرّح
- (1) تمهيد القواعد : 300 ـ 301 قاعدة 99 ، العناوين 2 : 597 ، جامع الشتات 2 : 384 .
(2) الأشباه والنظائر في الفروع : 47 ، القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب : 327 قاعدة 159 ، المنثور في القواعد 1 : 315 ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 194 .
بذلك عدّة من الأعلام(1) .
وإن لم يحصل العلم، وحصل الظنّ من الظهور، وكان الظاهر عرف الأعصار والأمصار ، وكان من أعراف العامّة والعادة القديمة التي تتّصل بعصر المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين فهو أيضاً مقدّم على الأصل(2) .
ويكون هذا إمضاءً من الشارع ; لأنّه قد التقى مع العرف في هذا المورد بالذات ، وعليه لا يكون هذا عملا بالعرف، بل أخذاً بالسنّة التي تشمل قول الشارع، وفعله، وتقريره ، وسيرة المتشرّعة، وسيرة العقلاء من هذا القبيل ، وأمّا لوفرضنا عدم إمضاء الشارع لها، فلا عبرة بها ولا يمكن الاعتماد عليها مع قطع النظر عن كونها ممضاة للشارع(3) .
فإن حصل الظنّ من الظاهر كالغلبة وغير ذلك ، فإنّ الظاهر لا يعارض الأصل ، ولا يلتفت إليه في مقابل الأصل(4) ; لعدم ثبوت حجّية الظاهر المزبور(5) . وإذا لم تثبت حجيّته ، فلا معنى للتعارض بين أصل ثبتت حجّيته، وبين ظاهر لم تثبت حجّيته .
والإشكال حقيقة في اعتبار هذا الظن الذي يستفاد من الظاهر(6) ; لأنّ العمل
- (1) إيضاح الفوائد 1 : 43 ، مجمع الفائدة والبرهان 1 : 121 ، جامع المقاصد 1 : 238 .
(2) مختلف الشيعة 7 : 322 ، القواعد والفوائد 1 : 222 ، كشف اللثام 2 : 93 .
(3) مختلف الشيعة 7 : 322 ، تحرير اُصول الفقه : 194 ، فقه الإمام جعفر الصادق 6 : 123 ، منابع اجتهاد : 397 .
(4) العناوين 1 : 158 ، وج 2 : 600 ، بلغة الفقيه 3 : 147 .
(5) رسائل المحقّق الكركي 2 : 238 ، جواهر الكلام 34 : 22 ، حاشية المكاسب للسيد اليزدي 2 : 3 ، إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب 4 : 19 .
(6) كشف اللثام 1 : 588 الطبع الجديد .
بمطلق الظنّ ليس بمطّرد ، بل المعتبر: الظن الذي أقامه الشارع مقام العلم(1) . ولاخلاف بين علمائنا في أنّ الأصل الابتدائي، والقاعدة الأوّلية في الظن عدم حجّيته مطلقاً ، ولا يجوز أن يعوّل عليه في إثبات الواقع لقوله تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَيُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً}(2).
وقد ذمّ الله [تعالى] من يتّبع الظنّ بما هو ظنّ ، فقال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(3) ، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(4) . ولكن لوثبت
أنّ الشارع قد جعل ظنّاً خاصّاً، من سبب مخصوص، طريقاً لأحكامه، واعتبره أمارة ، وجوّز الأخذ بذلك السبب ، فإنّ هذا الظنّ يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأوّلية، إذ لا يكون خرصاً وتخميناً . وخروجه من القاعدة يكون تخصيصاً بالنسبة إلى آية النهي عن اتّباع الظنّ(5) . فالخروج عن الأصل الابتدائي والقاعدة الأوّلية يحتاج إلى دليل ، ولم أجد على حجّية هذه الظواهر، كالعادة والعرف والغلبة ونحوها دليلا حتّى يعارض مع الأصل .
ولو فرضنا أنّ أنفسنا واقفة عند الله سبحانه في يوم الحشر، ثمّ نسئل أنّكم لِمَ عملتم بأصل البراءة ، وما حكمتم باشتغال الذمّة؟ فنجيب : بأنّا بذلنا جهدنا ، وسعينا غاية السعي ، ولم يحصل لنا العلم باشتغال ذمّتنا وإن حصل لنا الظنّ .
كما سعينا وبذلنا جهدنا فلم يحصل لنا العلم بوجوب العمل بهذا الظنّ ، وكونه دليلا وحجّة لنا ، وكنّا عالمين في حقّك أنّك لا تكلّف بما لا يعلم ، ولا بشيء لم تنصب
- (1) جامع المقاصد 1 : 238 .
(2) يونس : 36 .
(3) الأنعام : 116 .
(4) الإسراء : 36 .
(5) قوانين الاُصول : 440 و 452 ، عوائد الأيّام : 356 ـ 358 ، تحرير اُصول الفقه : 142 .
عليه دليلا ، ومنه العمل بالظنون . هذا ، مضافاً إلى ما وصل إلينا من كتابك الكريم، والأخبار المنسوبة إلى حججك ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من ذمّ العمل بالظنّ ، والنهي عن التديّن بما لا يعلم ، فلهذا عملنا بالأصل .
فمن الأخبار الذامّة على العمل بالظنّ : ما رواه المفضّل بن عمر : سمعت الصادق (عليه السلام) يقول : من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة(1) .
وأمّا لو قال لك : أيّها الرجل لِمَ اتّبعت ظنّك، وجعلت ديني تابعاً لظنّك من دون حجّة وبرهان؟ مع أنّي لم أكلّف بمتابعة نبيّ، أو إمام، إلاّ مع معجزة، أو كرامة وبراهين ساطعة ، وأنت اتّبعت ظنّك بلا حجّة وسبب ، مع احتمال كونه مخالفاً لديني ، ومع كثرة الإشارات في كلامي على ذمّه ، فما جوابك له سبحانه؟
فإن قلت : اُجيب بأنّي أتيت وعملت بكلّ ما ظننت أنّه مطلوبك ، وتركت كلّ ما ظننت أنّه مبغوضك ، وهذا كان ديني ، ولا شكّ أنّه تقبح المؤاخذة حينئذ .
قلنا : فإن قال لك : كيف لم يحصل لك من الآيات الكثيرة في كتابي، والأخبار المتعدّدة في كلام حججي ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ومن تصريح جماعة بالإجماع على حرمة العمل بالظنّ، أو بغير العلم ، ظنّ بعدم جواز متابعة الظنّ، وحصل لك ظنّ بحكمي من إلحاق الشيء بالأغلب ، أو فتوى واحد مع عدم ظهور الخلاف ، أو إجماع منقول واحد وغير ذلك ؟
ألا ترى أنّ من لا يقول بحجّية الإجماع المنقول أو الشهرة ، لو وجد أحدهما في مورد يعمل بالأصل ، فالعمل بالأصل ـ ولو مع وجود الظنّ على خلافه لمن لم يثبت
- (1) الكافي 2 : 397 ح8 ، وسائل الشيعة 18 : 25 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح8 .
عنده حجية هذا الظن ـ إجماعي(1) . ولإيضاح المطلب وتأييد كلامنا نذكر سؤالا وجواباً سئل عنه المحقّق الثاني (رحمه الله) .
كلام المحقّق الثاني
سئل : من ركب البحر في مركب معلوم إلى البصرة مثلا ، ثمّ يعرض غرق في البحر ، ويعلم بالشياع أو القرائن بأن تلقى إلى بعض السواحل بعض ألواح المركب وآلاته ، أو بعض الغرقى ، ويسلم البعض ويفقد البعض ، والذي يقتضيه الظاهر حصول الهلاك ، والذي يقتضيه الأصل الحياة ، فهل يرجّح الظاهر مع قوّة أمارته؟ أو الأصل مع ضعف أمارته؟ فما يقول به مولانا من أحد القولين، وما يفتي به بما تقويه; مستدلاًّ معلّلا بما يزيل الشكّ ويذهب الريب .
فأجاب : إنّ ما أشار إليه من أنّ الظاهر دليل ، وحقّه إذا عضدته المرجّحات والشواهد ، وضعف الأصل حدّاً أن يرجّح ، وما نقله عن المحقّقين من علماء الاُصول في ذلك: هو كلام صحيح لاشكّ فيه ، لكن لابدّ من تمهيد مقدّمة ، هي :
إنّ العمل بالظاهر في الحقيقة رجوع إلى قرائن الأحوال ، وما اُستفيد من العادات المتكرّرة ، فينبغي لذلك أن يكون بينه وبين جنس الحكم الذي يطلب جعله دليلا عليه ملائمة ، فلو ندر ثبوته معه لم نعوّل عليه .
مثلا لمّا لم يعتبر الشارع الظاهر بالنسبة إلى النجاسات في غالب الأحوال، حكم بطهارة ثياب مدمني الخمر ، وسؤر الحائض المتّهمة ، وطهارة أواني المشركين وما بأيديهم ، وطين الطريق ، واستحباب إزالته بعد ثلاثة أيّام من انقطاع المطر ، والحكم بنجاسة البئر بالجيفة حين الوجدان لا قبله ، وطهارة ما تناله أيدي الناس
- (1) عوائد الأيّام : 380 ـ 382 .
على اختلاف فرقهم، وتباين آرائهم في الطهارات والنجاسات ، وطهارة ما لا يكاد ينفكّ من النجاسات ، كحافّات البئر والرشا وحافّات العين ، وغير ذلك من الأُمور التي تقتضي الظاهر ، بل يكاد يحصل اليقين عادة بعدم انفكاكها من النجاسة .
وإنّما اعتبره في بعض المواضع على سبيل الندرة ، كغسالة الحمّام على القول بنجاستها على ما فيه من الكلام ، لم يلتفت إليه في المواضع الجليّة، وإنّما نتمسّك [به] حتّى أنّا لو وجدنا حيواناً غير مأكول اللحم قد بال في ماء كثير ، ووجدناه متغيّراً ولم نقطع بإسناد التغيّر إلى هذه النجاسة، لا نحكم بالنجاسة ، ولا نلتفت إلى الظاهر ، بل يستصحب أصل الطهارة .
وكذا لو وجدنا كلباً خارجاً من مكان فيه إناء، وهو يضطرب، ورشراش الماء حوله، لا نحكم بالنجاسة ، ولا نلتفت إلى الظاهر، ولا ننجِّسه ، أن يقول قائل : إنّ الظاهر أرجح فلِمَ تركتم العمل بالأرجح؟ لأنّا نجيب : إنّ عدم الملائمة أخلّ بالأرجحيّة ، ولا شكّ أن يشترط في التمسّك بالظاهر خلوّ الموضع; الذي جعله متمسّكاً فيه عريض قاطع الدلالة على الحكم، أو ظاهر فيها ، فإن وجد لم يلتفت إلى الظاهر أصلا .
إذا تقرّر هذا فينبغي أن يعلم أنّ الأمر في الفروج عند الشارع مبنيّ على الاحتياط التامّ ، فليس حيث وجد الظاهر وجب ترجيحه والتمسّك به ، لاسيّما الطلاق .
وأقوال أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين في زوجة المفقود إذا انقطع خبره ـ فإنّها إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أجّلها أربع سنين للبحث عنه ـ ظاهره عدم الفرق بين من شهدت القرائن بموت، أو غيره ، ويكون إجماعاً ، بل الرواية الواردة في ذلك: وهي رواية بريد بن معاوية العجلي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) ،
وقد سأله عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ قال : «ما سكتت عنه وصبرت يخلّي عنها ، فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجّلها أربع سنين . . .»(1) .
الرواية دالّة بعمومها على عدم الفرق في الحكم المذكور بين وجود الظاهر الدالّ على موته وعدمه ; لأنّه ترك الاستفصال في حكاية الحال على الاحتمال ، فإنّما حكاه السائل: وهو فقدان الزوج وطلب الحكم فيه يحتمل هذا الفرد ، فإذا أجاب ولم يستفصل كان ذلك دليل العموم .
فإن قيل : فإنّ في الرواية : «أنفق عليها حتّى تعلم حياته من موته» فقد علم الموت بالقرائن .
قلنا : ما ذكر في السؤال إنّما يفيد الظنّ القويّ .
فإن قيل : الظنّ مناط الشرعيّات .
قلنا : ليس هو كلّ ظنّ ، بل هو ظنّ مخصوص ، ولم يثبت أنّ هذا الظنّ من القسم المعتبر ، خصوصاً وقد عنى في الحديث بالعلم ، والمتبادر العلم عن موجب قطعيّ . . . فكيف كان عدم ثبوت الموت بمثل هذا القدر من القرائن(2) . انتهى كلامه رفع مقامه .
إذن لم يثبت دليل على حجّية الظاهر من العادة والغلبة وغيرهما حتّى يعمل به ، ويقدّمه في مقام التعارض على الأصل .
وأمّا الأصل قام الدليل على حجّيته ، وثبت حجّيته، كما مرّ ، بل أُمرنا في بعض الروايات أن تفرّعنا عليها :
منها : ما روى هشام بن سالم صحيحاً عن الصادق (عليه السلام) قال : إنّما علينا أن نلقي
- (1) الكافي 6 : 148 باب المفقود ح2 .
(2) رسائل المحقّق الكركي 2 : 236 ـ 238 .
إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا(1) .
ومنها : ما رواه البزنطي ، عن الرضا (عليه السلام) قال : علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع(2) .
قال الشيخ الحرّ العاملي : هذان الخبران تضمّنا جواز التفريع على الاُصول المسموعة منهم، والقواعد الكلّية المأخوذة عنهم (عليهم السلام) لا على غيرها . وبهذا المضمون قال المحقّق الثاني(3) والمحدِّث البحراني(4) .
- (1) وسائل الشيعة 18 : 41 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح51 ، بحار الأنوار 2 : 245 ح54 .
(2) وسائل الشيعة 18 : 41 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح52 .
(3) رسائل المحقّق الكركي 3 : 49 .
(4) الحدائق الناضرة 1 : 133 ـ 134 .
المبحث الثالث :
تقديم الظاهر على الأصل في اللوث والأمانات
أقول : موارد اللوث والأمانات وإن كانا خارجين من موضوع تعارض الأصل والظاهر ، لأنّ الإجماع والدليل قائم على تقديم قول الأمين في الأمانات ، والمدّعي في موارد اللوث بالقسامة ، وقلنا فيما سبق : إن قام الدليل على تقديم أحدهما فلا كلام ولا مجال للبحث ، ولكن لمّا كان ذكرهما مفيداً للفائدة، أو يمكن أن يُقال بإلغاء الخصوصيّة فيهما، ذكرناهما. و كيف كان ففيه مطلبان:
المطلب الأول:
تقديم الظاهر على الأصل فى اللوث
ومن موارد تقديم الظاهر على الأصل دعوى الدم في موارد اللوث بالقسامة(1) . إذا ادّعى الرجل دماً على قوم، لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يكون معه ما يدلّ على صدق ما يدّعيه ، أو لا يكون ، فإن لم يكن معه ذلك فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه ، وإن حلف برئ ، وإن لم يحلف رددنا اليمين على المدّعي
- (1) القواعد والفوائد 2 : 188 .
فيحلف ويستحقّ ما ادّعاه ، وإن كان معه ما يدلّ على دعواه : إمّا أن تكون البيّنة
فتثبت دعواه بها، كما في الروايات(1) ، وإمّا أن تكون في موارد اللوث فتثبت دعواه بالقسامة(2) وإن كان الأصل براءة ذمّة المدّعى عليه من القتل . ولا قسامة مع ارتفاع التهمة واللوث ، وهو أمارة يغلب معها ظنّ الحاكم على صدق المدّعي فيما يدّعيه، كالشاهد الواحد ، أو الشاهدين مع عدم استجماع الشرائط ، أو كما وجدا المدّعى عليه عند المقتول، ومعه سلاح عليه الدم ، أو في دار قوم، أو في محلّة منفردة عن البلد لا يدخلها غير أهلها ، أو في صفّ مقابل للخصم بعد المراماة ، فلوث فالظاهر أنّهم قتلوه(3) .
فيحلف المدّعي، ومن يعرف من أقاربه على أنّ فلاناً قتله ، خمسين يميناً كلّ واحد يميناً واحدة على تقدير كونهم عارفين، وإلاّ يقسم الموجودون العارفون ،
- (1) وسائل الشيعة 19 : 114 ـ 115 باب 9 من أبواب دعوى القتل ح3 و6 .
(2) قال الفيومي : القسامة بالفتح، الأيمان تُقسم على أولياء القتيل إذا ادَّعوُا الدّم، يقال قتل فلان (بالقسامة) إذا اجتمعت جماعة من اولياء القتيل فادّعوا على رجل أنّه قتل صاحبهم و معهم دليل دون البيّنة فحلفوا خمسين يميناً انّ المدّعى عليه قتل صاحبهم فهولاء الّذين يقسمون على دعواهم يسمّون «قسامة»، المصباح المنير : 503 . قال الجوهري : القسامة هي الأيمان ، تقسم على الأولياء في الدم . الصحاح 2 : 1482 . قال ابن الأثير : القسامة : اليمين ، كالقسم . النهاية 4 : 62 .
وعلى التقديرين فهي اسم اُقيم مقام المصدر ، يقال : أقسم إقساماً وقسامة وهي الاسم ، كما يقال : أكرم إكراماً وكرامة . ولا اختصاص لها بأيمان الدماء لغةً ، لكن الفقهاء خصّوها بها . مسالك الأفهام 15 : 197 ـ 198 ، تفصيل الشريعة كتاب القصاص : 171 . وأمّا القسامة في اصطلاح الفقهاء فهي اسم للأيمان المقرّرة عندهم لمدّعي الدم وأقاربه ، مثل أن يوجد قتيل في موضع لا يعرف من قتله من حصن أو قرية ونحوهما ويدّعي الولي على واحد أو جماعة يعرفون أنّه من قتله ، ويظهر المدّعي ما يظنّ به الحاكم صدقه . مجمع الفائدة والبرهان 14 : 180 .
(3) المبسوط 7 : 212 ، الخلاف 5 : 310 مسألة 8 ، شرائع الإسلام 4 : 222 ، إرشاد الأذهان 2 : 218 ، القواعد والفوائد 1 : 222 ، مسالك الأفهام 15 : 196 ، جواهر الكلام 42 : 232 ، تحرير الوسيلة 2 : 475 ، تفصيل الشريعة كتاب القصاص : 172 .
الخمسين بالتكرار على البعض، أو الكلّ .
ولو لم يحلف هؤلاء خلف المدّعى عليه وأقاربه ، إنّه بريء من قتل من يدّعي قتله عليه ممّن يعرفون ذلك ، مثل أقارب المدّعي(1) .
ولا فرق بين كون القوم ممّن يرث القصاص والدية وكانوا هم المدّعين ، أو غير وارثين ، أو بالتفريق(2) .
ودليل ثبوت الدعوى في موارد اللوث بالقسامة إجماع الفرقة وأخبارهم كما في الخلاف والغنية(3) . بل عليه إجماع المسلمين إلاّ من شذّ(4) .
والأصل فيه ما روي : أنّ عبدالله بن سهل ومحيّصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرّقا لحاجتهما ، فقتل عبدالله ، فقال محيّصة لليهود : أنتم قتلتموه . فقالوا : ما قتلناه .
فانطلق هو وأخوه حويّصة وعبد الرحمن بن سهل أخ المقتول إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فذكروا له قتل عبدالله بن سهل ، فقال : تحلفون خمسين يميناً ، وتستحقّون دم صاحبكم .
فقالوا : يارسول الله : لم نشهد ولم نحضر .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فتحلف لكم اليهود ، فقالوا : كيف نقبل الأيمان من قوم كفّار؟ فودّاه النبيّ (صلى الله عليه وآله) من عنده ، فبعث إليهم بمائة ناقة ، فقال سهل : لقد ركضتني منهم ناقة حمراء(5) .
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 14 : 180 .
(2) مسالك الأفهام 15 : 206 .
(3) الخلاف 5 : 303 مسألة 1 ، الغنية : 441 .
(4) مجمع الفائدة والبرهان 14 : 180 .
(5) السنن الكبرى 8 : 117 ، المبسوط 7 : 212 ، مسالك الأفهام 15 : 198 .
والأخبار من طرق الخاصّة كثيرة، مثل:
صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : سألته عن القسامة كيف كانت؟ فقال : هي حقّ، وهي مكتوبة عندنا ، ولولا ذلك لقتل الناس بعضهم بعضاً، ثمّ لم يكن شيء ، وإنّما القسامة نجاة للناس(1) .
وصحيحة زرارة قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن القسامة فقال : هي حقّ ، إنّ رجلا من الأنصار وجد قتيلا في قليب من قُلب اليهود فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا : يارسول الله إنّا وجدنا رجلا منّا قتيلا في قليب من قلب اليهود ، فقال : ائتوني بشاهدين من غيركم ، قالوا : يارسول الله ما لنا شاهدان من غيرنا ، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فليقسم خمسون رجلا منكم على رجل ندفعه إليكم ، قالوا : يارسول الله كيف نقسم على ما لم نر؟
قال : فيقسم اليهود ، قالوا : يارسول الله كيف نرضى وما فيهم من الشرك أعظم ، فودّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال زرارة : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إنّما جعلت القسامة احتياطاً لدماء الناس كي ما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلا، أو يغتال رجلا حيث لا يراه أحد خاف ذلك فامتنع من القتل(2) .
إلى غير ذلك من الروايات، كرواية أبي بصير ، وحنان بن سدير ، وصحيحة عبدالله بن سنان ، وسليمان بن خالد(3) ، وبريد بن معاوية(4) .
ثمّ اعلم أنّ القسامة مخالفة لغيرها من الأيمان في الدعاوى باُمور ، منها : كون
- (1) الكافي 7 : 356 ، وسائل الشيعة 19 : 114 باب 9 من أبواب دعوى القتل ح 2.
(2) الكافي 7 : 357 ح5 ، وسائل الشيعة 19 : 117 باب 10 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ح3 .
(3) الكافي 7 : 356 ـ 358 ح2 و3 و4 و7 و8 ، وسائل الشيعة 19 : 117 ـ 118 باب 10 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ح1 و2 و4 و5 .
(4) الكافى 7: 357 ح 4، وسائل الشيعة 19 : 114 باب 9 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ح3 .
اليمين ابتداءً على المدّعي . وتعدّد الأيمان فيها . وجواز حلف الإنسان لإثبات حقّ غيره . ولنفي الدعوى عن غيره . وعدم سقوط الدعوى بنكول من توجّه إليه اليمين، إجماعاً، بل تردّ اليمين على غيره . فلا يصار إليها إلاّ فيما وجد شرائطها(1) .
وأمّا الجمهور فإنّهم أيضاً قالوا : بتقديم الظاهر على الأصل في موارد اللوث ـ وهو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه يغلب على الظنّ أنّه قتله ـ كأن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلاّ رجل معه سيف، أو سكّين ملطّخ بالدم ، ولا يوجد غيره ممّن يغلب على الظنّ أنّه قتله ، فادّعى أولياء المقتول على واحد أنّه قتله ، يستحلف الأولياء خمسين يميناً ، فإذا حلفوا يقتصّ من المدّعى عليه إذا كان الدعوى عمداً ، فإن لم يحلفوا استحلف المدّعى عليه خمسين يميناً وبرىء ، وبهذا قال أحمد ومالك والشافعي(2) .
لحديث سهل بن أبي حَثْمَة قال : وُجِدَ عبدالله بن سهل قتيلا في قليب من قُلُب خيبر، فجاء أخوه عبد الرّحمن بن سهل وعمّاه حويّصة ومحيّصة ، فذهب عبد الرحمن يتكلّم عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الكُبْر اَلكُبْرَ» فتكلّم أحد عمّيه الكبير منهما ، إمّا حويّصة و إمّا محيّصة ، فقال : يارسول الله إنّا وجدنا عبدالله قتيلا في قليب من قُلُب خيبر، فذكر يهود وعداوتهم وشرّهم ، قال : «أفتبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون أنّهم لم يقتلوه» ، قالوا : وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون ، قال : «فيقسم منكم خمسون أنّهم قتلوه» ، قالوا : وكيف نقسم على ما لم نره ، قال : فودّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عنده(3) .
- (1) مسالك الأفهام 15 : 199 ، مجمع الفائدة والبرهان 14 : 184 .
(2) المغني 10 : 18 ، روضة الطالبين 8 : 339 ـ 354 .
(3) صحيح البخاري 7 : 138 ح6142 ـ 6143 ، سنن أبي داود 4 : 426 ح4520 ، السنن الكبرى 8 : 119 .
وقال الحنفيّة : وجوب القسامة على المدّعى عليهم ، لا على المدّعي ، فإذا حلفوا يعرفون الدية(1) .
لما روى عن ابن عبّاس أنّه قال : وُجِدَ رجل من الأنصار قتيلا في دالية ناس من اليهود ، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، فأخذ منهم خمسين رجلا من خيارهم فاستحلفهم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، وجعل عليهم الدية ، فقالوا : لقد قضى بما قضى فينا نبيّنا موسى (عليه السلام) (2) .
المطلب الثاني :
تقديم الظاهر على الأصل في الأمانات
ومن موارد تقديم الظاهر على الأصل: قبول قول الاُمناء ممّن يقبل قوله في تلف ما اؤتمن عليه من مال وغيره(3) ، مثلا إذا ادّعى المستودع تلف الوديعة ، أو حدوث العيب فيها، وأنكر مالك الوديعة التلف ، أو حدوث العيب فيها ، فالقول قول المستودع مع يمين، من دون حاجة إلى البيّنة ، مع أنّ الأصل عدم التلف وعدم حدوث العيب فيها(4) .
أو اختلف الموكّل والوكيل في التلف، فادّعى الوكيل تلف المال ـ الذي سلّمه الموكّل إليه ـ أو تلف الثمن الذي قبضه ، فكذّبه الموكّل ، قدّم قول الوكيل مع اليمين; لأنّه أمين، مع أنّ الأصل عدم تلفه(5) .
- (1) البدائع والصنائع 6 : 352 ـ 353 .
(2) السنن الكبرى 8 : 123 .
(3) القواعد والفوائد 2 : 188 ، تمهيد القواعد : 303 ، العناوين 2 : 612 .
(4) المهذب لابن البرّاج 1 : 422 ـ 425 ، نضد القواعد الفقهيّة : 497 ـ 498 .
(5) المبسوط 2 : 372 ، قواعد الأحكام 1 : 261 .
وهنا جهات من البحث : الأُولى : معنى الأمين . الثانية : تقسيم الأمانة ، الثالثة : تنقيح الكبرى ; وهي عدم استتباع اليد الأمانية للضمان ، الرابعة : تنقيح صغريات الباب ; وهي ثبوت الأمانة وتشخيص حقيقتها .
الفرع الأوّل :
معنى الأمين
الأمين في اللغة : مؤتمن القوم; وهو الذي يثقون إليه ويتّخذونه أميناً حافظاً . يقال : أؤْتُمِنَ الرجل فهو مُؤْتَمَن(1) . وفي اصطلاح الفقهاء : هو أن يكون مال الغير في يده بتسليط من المالك، أو بإذن من الله من غير خيانة له بالنسبة إلى ذلك المال ، آتياً بما يلزم عليه الإتيان به ، تاركاً لما يجب عليه الاجتناب عنه ، يوجب تلفه أو نقصاً فيه .
فالأمين: هو الموثوق به عرفاً في إعطاء ماله له ، بحيث يكون عنده محفوظاً إلى أن يردّه إلى صاحبه ، ولذلك كانوا في الجاهليّة يخاطبون نبيّنا (صلى الله عليه وآله) بالأمين قبل بعثته، ويودعون عنده الودائع .
وهذا الإعطاء قد يكون لمصلحة المالك ، وقد يكون لمصلحة الآخذ ، فالأوّل كالوديعة وما يشبهها ، والثاني كالعارية .
فعدم التعدّي والتفريط مأخوذان في حقيقة الأمين ، فإذا صدر عنه التعدّي أو التفريط فهو خائن، وليس بأمين ، فإنّهما ضدّان(2) .
- (1) النهاية لابن الأثير 1 : 71 .
(2) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 2 : 7 ـ 8 .
الفرع الثاني :
اقسام الأمانة
ثمّ إنّ الأمانة قد تكون من قبل المالك ، فتسمّى بـ«الأمانة المالكيّة » وقد تكون من الشرع ، فتسمّى بـ«الأمانة الشرعيّة ».
1 ـ الأمانة المالكيّة
أمّا الأمانة المالكيّة : فهي عبارة عمّا كان بإذن المالك وتسليطه في إثبات اليد عليه . فمورد الأمانة المالكيّة جميع المعاملات التي تصدر من المالك ، أو وكيله الواقعة على ماله ، بدون نقل عين ماله إلى من يعطي ماله بيده ; سواء كان من جهة تمليك منفعة له، ويعطى العين له لاستيفاء تلك المنفعة ، كباب الإجارة ، أو تمليك الانتفاع مجّاناً كباب العارية ، أو يعطيه للحفظ من دون تمليك منفعة أو الانتفاع به كباب الوديعة .
أو يعطى بالوثيقة على ماله برضاه بصاحب الدين كباب الرهانة ، أو يعطيه لأن يعامل معه بحصّة من الربح كباب المضاربة ، أو لأن يزرع فيه بحصّة من الحاصل كباب المزارعة ، أو لأن يسقيه بحصّة من الثمرة كباب المساقاة ، أو يعطي ماله لأن يحمل من مكان إلى مكان باُجرة ، كالحمّالين والمكّارين .
أو يعطي المستأجر العين إلى الأجير ليعمل فيها من خياطة، أو قصارة، أو صياغة في باب الأجير ، أو جعل المالك الموصي في حياته وليّاً ووصيّاً، فيكون الوصيّ مأذوناً من قبل الموصي .
أو أرسل رجلٌ ماله إلى شخص في باب الأمانة ، أو كان متولّياً على المال من قبل مالكه، أو من كان بمنزلة المالك ، كمتولّي الوقف والناظر فيه في باب الوقف ، أو
كان ممّن عليه الحقّ إذا امتنع صاحبه من قبضه ، ولم يمكن الوصول إلى الحاكم ، كباب الدين ، أو كان دلاّلا والمال عنده في باب المعاملات .
أو كان شريكاً والمال عنده ، أو عند شريكه أو في يد كلّ واحد من الشريكين في باب الشركة ، أو يعطي ماله لكونه وكيله في أنواع المعاملات من بيع، أو صلح، أو اجارة ، أو الأخذ بالشفعة ، أو رهن ، أو أداء دين ، أو إعطاء قرض ، أو مضاربة ، أو مزارعة ، أو مساقاة ، أو في شراء حاجة من اُمور معاشه ، أو في شراء ملك أو دار أو بستان ، ففي جميع هذه الموارد، سواء صدرت المعاملة من نفسه، أو من وكيله يكون المال عند ذي اليد أمانة مالكيّة ، ولا يوجب تلفه الضمان، إلاّ مع التعدّي والتفريط .
2 ـ الأمانة الشرعيّة
فهي عبارة عمّا كان ذلك بإذن من الشارع في إثبات اليد عليه من دون اطّلاع المالك ، وموردها كالمعاملات التي تقع على أموال الغُيَّب والقُصّر، بدون أن يكون فيها نقل العين ، وذلك كجميع ما ذكرنا في الأمانة المالكيّة كباب الإجارة ، والعارية ، والوديعة ، والرهانة ، والمضاربة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والوصاية ، والشركة ، والوكالة وغير ذلك .
وكيد الأولياء على أموال المولّى عليهم ـ من حاكم، أو وصيّ، أو أب، أو جدّ، أو أمين لأحدهم ـ فإنّه استئمان من الشرع ، فلو آجر الحاكم الشرعي، أو من يكون وكيلا، أو وصيّاً، أو مأذوناً من قبله أموال الغيّب والقصّر ، أو أودع عند أمين ، أو أعار فيما إذا كان فيها مصلحة للغيّب أو القصّر ، أو أعطى أموالهم للحمّالين أو المكّارين ، أو سائر التصرّفات التي يطول المقام بذكرها فتلف ذلك المال في يد المأذون من قبلهم ، فلا يكون من وقع في يده التلف ضامناً ; لأنّه أمين .
وكيد صاحب المال الذي تعلّق به الخمس، أو الزكاة إلى حصول المستحقّ ووجدان الفقير وإمكان الإيصال بهم عرفاً ، أو المال الذي أنقذه من الغرق ، أو الحرق ، أو السيل ، أو أطارته الريح ، أو أخذه من يد السارق بدون اطّلاع المالك ، بقصد حفظه وإيصاله إلى مالكه ، واليد على مجهول المالك .
وكذلك الأمر في اللقطة ، فإنّ الواجد والملتقط ليس ضامناً لو تلف ما
وجده في يده، ما دام مشغولا بالتعريف ; لأنّه مأذون في أن يكون هذا المال الذي وجده عنده إلى أن يتمّ التعريف سنة كاملة ، أو يحصل اليأس من معرفة صاحبه فيتصدّق به عن قبل صاحبه، بعد حصول شرائط التصدّق من وجود الفقير ومعرفته(1) .
انقسام الأمانة المالكيّة
تنقسم الأمانة المالكيّة إلى قسمين :
الأمانة بالمعنى الأخصّ .
والأمانة بالمعنى الأعمّ .
أمّا الأمانة بالمعنى الأخصّ: فإنّ الطرفين يتعهّدان على أن يكون المال أمانة عنده ، كالوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ ، ومقتضى العقد عدم الضمان .
وأمّا الأمانة بالمعنى الأعمّ : وهو التأمين بالتسليط على ماله برضاه ، لأجل مصلحة له ، كما في باب الإجارة ، أو لأجل مصلحة ذلك الغير كباب العارية ، أو لأجل مصلحتهما كباب المضاربة، والمزارعة، والمساقاة وغيرها . وفي هذا القسم أيضاً لا توجب الضمان، ولكن لا يكون الضمان على خلاف مقتضى العقد .
- (1) نضد القواعد الفقهيّة : 384 ، العناوين 2 : 482 ، القواعد الفقهيّة للبجنوردي 2 : 9 ـ 16 ، و6 : 289 .
والفرق بينهما أنّ الأمانة بالمعنى الأخصّ أن يقال بعدم جواز شرط الضمان فيه ; لأنّه خلاف مقتضى العقد ، بل وخلاف الكتاب لقوله تعالى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل}(1). ولا شكّ في أنّ الودعي محسن ، وأيّ سبيل أعظم من الضمان بدون تعدّ وتفريط ، مضافاً إلى ما ورد من عدم ضمان صاحب الوديعة بدون التفريط ، كصحيحة الحلبي ، عن الصادق (عليه السلام) قال : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان»(2) .
وأمّا الأمانة بالمعنى الأعمّ لا يكون شرط الضمان على خلاف مقتضى الضمان ، وإذا شرط الضمان فنفس الشرط موجب له(3) .
وقال المشهور من العامّة : إنّ الأمانة المحضة تبطل بالتعدّي، ووجب الردّ على الفور ، وأمّا الأمانة الغير محضة لا تنفسخ بالتعدّي، بل تزول أمانته ويصير ضامناً(4) .
الفرع الثالث :
عدم ضمان الأمين
وأمّا تنقيح الكبرى ـ وهي عدم ضمان الأمين ـ فالظاهر أنّه لا ينبغي المناقشة فيها ، فإنّها (أي عدم ضمان الأمين) من القواعد الفقهيّة المشهورة ، بل المجمع عليها ، إذ لم ينقل من أحد الخلاف ، ولا حاجة في إثباتها إلى إقامة الدليل ، بل يكفي عدم ثبوت الدليل على الضمان ; لأنّ مجرّد عدم ثبوت الضمان كاف في عدمه ، كما هو
- (1) سورة التوبة : 92 .
(2) وسائل الشيعة 13 : 227 باب 4 من أحكام الوديعة ح1 .
(3) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 7 : 71 ـ 72 ، تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 377 .
(4) القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب الحنبلي : 64 القاعدة الخامسة و الأربعون.