للاتّفاق على عدم جواز الصلاة في أجزاء الميتة حتّى ممّن قال بطهارة الجلد بالدباغ ] من الأصحاب [ (1)،(2) خلافاً للعامّة(3) القائلين بجواز استعمالها والانتفاع بها في غير حال الصلاة، وبصحّة الصلاة فيها إذا كانت مدبوغة.
والأخبار(4) الواردة في هذه المسألة بالغة حدّ الاستفاضة، بل ربما ادّعي تواترها(5); ولأجله لا حاجة إلى ذكرها للاستدلال بها، فأصل الحكم يكون كالمسلّم بينهم، فاللاّزم التكلّم في الجهات الاُخر:
منها: أنّ اعتبار هذا الأمر في الصلاة هل هو بعنوان شرطيّة التذكية، أو على نحو مانعيّة الميتة؟ ظاهر المتن الأوّل، ولابدّ لتحقيق هذه الجهة من ملاحظة معنى المذكّى والميتة أوّلا، فنقول:
لا إشكال في أنّ التذكية عبارة عن الأمر الوجودي العارض لبعض الحيوانات حينما يزهق روحه، ولا فرق في ذلك بين أن يقال بأنّها عبارة عن مجرّد فري الأوداج الأربعة مع سائر الشرائط; من الاستقبال والتسمية وغيرهما، وبين أن يقال بأنّها عبارة عن الأمر المتحصّل من ذلك، بضميمة وجود القابليّة المتحقّقة في خصوص ما يتّصف بكونه مذكّى من الحيوانات;
- (1) من مجمع الفائدة والبرهان 2: 93.
- (2) حكى القول بالطهارة بالدبغ عن الشلمغاني وابن الجنيد في ذكرى الشيعة 1: 134.
- (3) المجموع 1: 268 ـ 280، بداية المجتهد 1: 80 ـ 81 ، المغنى لابن قدامة: 55 ـ 59، الشرح الكبير 1: 64 ـ 71، الخلاف 1: 60 ـ 61 مسألة 9، تذكرة الفقهاء 2: 232 ـ 235 مسألة 328.
- (4) وسائل الشيعة 3: 501 ـ 503، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب61، وج4: 343 ـ 344، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب1.
- (5) جامع المقاصد 2: 80 ، مصباح الفقيه 10: 196، مستمسك العروة الوثقى 5: 297.
فإنّه على كلا التقديرين تكون التذكية من الاُمور الوجوديّة بلا إشكال.
وأمّا الميتة، فلا ينبغي الإشكال في أنّ معناها بحسب اللغة هو الحيوان الذي فقد وصف الحياة بعدما كان واجداً له، وهو بهذا المعنى يشمل المذكّى أيضاً.
والظاهر أنّ قوله ـ تعالى ـ : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ى وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ... )(1) ناظر إلى هذا المعنى اللغوي، بناءً على رجوع الاستثناء إلى جميع المذكورات التي منها الميتة ما عدا الدم ولحم الخنزير، كما لعلّه الظاهر من الآية، وقد حكي عن عليّ (عليه السلام) وابن عبّاس(2).
وكيف كان، فلا ينبغي الإشكال في أنّ الميتة بحسب المعنى اللغوي مقابل الحيّ، لا المذكّى، وهذا يدلّنا على أنّ استعمالها في مقابل المذكّى في لسان الروايات إنّما هو لأجل ثبوت الحقيقة الشرعيّة لها، فانظر إلى موثّقة سماعة قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده، وأمّا الميتة فلا(3). حيث جعلت الميتة مقابلة للمذكّى; أي ما رمى وسمّى به.
وبعد ذلك يقع الكلام في أنّ الميتة هل هي عنوان وجوديّ أو عدميّ; وهو غير المذكّى؟ وتظهر الثمرة فيما لو شكّ في شيء أنّه ميتة، أم لا، فعلى تقدير كونها أمراً وجوديّاً لا يثبت باستصحاب عدم التذكية، بناءً على جريانه،
- (1) سورة المائدة 5: 3.
- (2) مجمع البيان 3: 261، التفسير الكبير للفخر الرّازي 4: 284.
- (3) تهذيب الأحكام 9: 79 ح339، وعنه وسائل الشيعة 3: 489، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب49 ح2.
ولا يترتّب عليه أحكام الميتة، بخلاف ما لو كانت أمراً عدميّاً.
والظاهر أنّ المتبادر من الميتة عند المتشرّعة عنوان وجوديّ، وهو ما مات بسبب غير شرعيّ.
ثمّ إنّه على تقدير كون الميتة أمراً عدميّاً لا مجال لاحتمال كونها مانعة; لأنّ المانعيّة من شؤون وجود المانع وأوصافه.
وأمّا على تقدير كونها أمراً وجوديّاً كما استظهرناه، يقع الكلام في أنّها هل هي مانعة، أو أنّ التذكية شرط، كما اختاره صاحب الجواهر(1)، ولا مجال لاحتمال كلا الأمرين; للزوم اللغويّة ضرورة، والظاهر اختلاف الروايات، فمن بعضها يستفاد المانعيّة، ومن البعض الشرطيّة.
أمّا الأوّل: فكصحيحة محمد بن مسلم قال: سألته عن الجلد الميّت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال: لا، ولو دبغ سبعين مرّة(2).
ومرسلة ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الميتة قال: لا تصلِّ في شيء منه ولا شسع(3).
والشِسع ـ بالكسر ـ ما يشدّ به النعل(4)، وجه الاستفادة: ظهور النهي الوارد فيهما في الإرشاد إلى المانعيّة، كما هو شأن النواهي الغيريّة
- (1) جواهر الكلام 8 : 83 ـ 84 .
- (2) تهذيب الأحكام 2: 203 ح794 و 795، الفقيه 1: 160 ح750، وعنهما وسائل الشيعة 3: 501، كتاب الطهارة أبواب النجاسات ب61 ح1، وج4: 343، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب1 ح1.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 203 ح793، وعنه وسائل الشيعة 4: 343، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب1 ح2، وص377 ب14 ح6.
- (4) لسان العرب 3: 432، مجمع البحرين 2: 950.
المتعلّقة بالموانع.
وأمّا الثاني: فكموثّقة ابن بكير المعروفة، الواردة في عدم جواز الصلاة في أجزاء ما يحرم أكل لحمه من الحيوانات، المشتمل ذيلها على قوله (عليه السلام) : فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت انّه ذكّي قد ذكّاه الذبح، إلخ(1).
ورواية عليّ بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبدالله وأبا الحسن (عليهما السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصلِّ فيها إلاّ فيما كان منه ذكيّاً. قال قلت: أو ليس الذكي ممّا ذكّي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه، الحديث(2).
فإنّهما ظاهران في شرطيّة التذكية واعتبارها، ولكن ظهور أدلّة المانعيّة فيها أقوى من ظهور أدلّة الشرطيّة فيها; وذلك لاستناد الاُولى إلى النهي الذي له ظهور قويّ في الإرشاد إلى المانعيّة فيما إذا كان غيريّاً. وأمّا الثانية، فليس لها مثل هذا الظهور، خصوصاً مع اشتمال رواية ابن أبي حمزة على النهي أيضاً.
وعليه: فالتعبير بما هو ظاهر في الشرطيّة يحمل على العرضيّة، بلحاظ ما عرفت من أنّ المذكّى والميتة من قبيل ما لا ثالث لهما، كما لا يخفى.
ومنها: أنّ مانعيّة جلد الميتة مثلا هل هي لنجاستها، فتختصّ بما إذا كانت الميتة نجسة، فيجوز الصلاة في ميتة السمك ونحوه ممّا ليس له نفس سائلة، أو لأجل كونها مانعة بعنوانها، فتعمّ ما إذا لم تكن نجسة، كما في المثال
- (1) تأتي بتمامها في ص175 ـ 176.
- (2) وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح3، وتأتي بتمامها في ص206.
المذكور؟ وجهان بل قولان، ظاهر كلام الأصحاب هو الثاني(1)، حيث لم يقيّدوا الميتة المانعة بالنجسة، ولم يتعرّضوا لاستثناء غير ذي النفس.
مضافاً إلى أنّ التعرّض لاعتبار هذا الأمر ـ بعد التعرّض لاعتبار الطهارة في لباس المصلّي ـ ممّا يؤيّد عدم ارتباطه بمسألة الطهارة، وعدم الاختصاص بالميتة النجسة، وعن البهائي ووالده التصريح بالتعميم(2).
وكيف كان، فوجه التعميم ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ إطلاق أدلّة المانعيّة، وعدم وقوع التقييد فيها بالنجسة، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بينها، وبين الطاهرة.
وأمّا وجه الفرق، فاُمور:
الأوّل: انصراف الأخبار المانعة(3) عن الصلاة في جلد الميتة عن ميتة غير ذي النفس; لأنّ مورد السؤال في أكثرها هو المصنوع منها، كالجلد والفرو والخفّ ونحوها. ومن المعلوم بحسب الارتكاز أنّ مثل ذلك إنّما يكون مأخوذاً من جلود ذي النفس; لعدم تعارف أخذ اللباس من جلد السمك ونحوه حتّى في زماننا هذا أيضاً.
مضافاً إلى أنّ الظاهر هو كونها مسوقة في مقام الردّ على العامّة القائلين بطهارة جلد الميتة بالدباغ، وجواز الانتفاع به مطلقاً معه، كما يدلّ عليه التعبير بحرمة استعمالها ولو دبغ سبعين مرّة (4) . ومن المعلوم أنّ ما هو
- (1) مفتاح الكرامة 5: 457، جواهر الكلام 8 : 83 و 104 ـ 105، ويراجع ص142 هنا.
- (2) الحبل المتين 2: 192 ـ 193.
- (3 ، 4) تقدّمت في ص145 ـ 146.
المتعارف فيه الدباغ من الجلود غير جلد الميتة التي لا نفس لها، مع أنّ التعرّض لفرض الدباغ إنّما هو بملاحظة تغيّر الحكم بسببه.
ومن الواضح: أنّ ما يجري فيه احتمال التغيير بالدباغ هي الميتة النجسة بدونه; لأنّ الميتة الطاهرة لا معنى لأن يكون الدباغ مغيّراً لحكمه أصلا.
الثاني: الإجماع المنقول عن المعتبر على ما حكاه المحقّق الثاني(1)، وإن لم يوجد ذلك في المعتبر; لعدم قدحه بعدما كان الناقل مثله، ويمكن أن يكون اشتبه في تعيين الكتاب، ولكنّه لا يشتبه في النقل عن كتاب معتبر وإن لم يكن كتاب المعتبر.
الثالث: دعوى السيرة القطعيّة على الصلاة في نحو القمّل، والبقّ، والبرغوث، كما ادّعاها صاحب الجواهر (قدس سره) (2).
أقول: هذه الوجوه وإن كانت مردودة من جهة منع دعوى الانصراف; لأنّ منشأه كثرة الاستعمال لا كثرة الوجود، فعدم تعارف أخذ اللباس من جلد مثل السمك، لا يصحّح دعوى الانصراف بالإضافة إلى المطلقات على تقدير وجودها.
والإجماع المنقول ـ مع قطع النظر عن عدم ثبوت النسبة ـ لا يكون بحجّة، والصلاة في مثل القمَّل خارجة عن محلّ البحث; لأنّ مورده ميتة غير ذي النفس من الحيوان الذي يقع عليه التذكية وتؤثّر في حلّية لحمها كالسمك، لا الحشرات التي لا تقبل التذكية; لعدم صدق كونها ذات لحم، إلاّ أنّ العمدة
- (1) جامع المقاصد 2: 77، وكذا حكى عنه أيضاً في ذكرى الشيعة 3: 36.
- (2) جواهر الكلام 8 : 104.
في المقام عدم ثبوت الإطلاق الشامل لغير ذي النفس; فإنّ ما يتوهّم فيه الإطلاق، صحيحة محمد بن مسلم، ومرسلة ابن أبي عمير، ورواية ابن أبي حمزة المتقدّمة.
ومن الواضح: عدم دلالتها على الإطلاق; لأنّ الصحيحة مسوقة لنفي كون الدباغ موجباً لجواز الصلاة في جلد الميتة، والمرسلة ظاهرة في تعميم الحكم بالإضافة إلى أجزاء الميتة دون أفرادها.
ويؤيّده الضمير المذكّر، الظاهر في كون المفروض ميّتاً خاصّاً من الحيوان مذكّراً. نعم لو كان مفادها التعميم بالنسبة إلى الأفراد، كان ظاهرها عدم الفرق بينها، ولكنّه خلاف الظاهر.
ورواية ابن أبي حمزة ـ مضافاً إلى أنّ مورد السؤال فيها هو لباس الفراء، وهو لا يتّخذ إلاّ من الحيوان ذي النفس ـ يكون ذكر التذكية فيها قرينة على الاختصاص بالحيوان ذي النفس، فالأظهر بمقتضى ما ذكرنا جواز الصلاة في ميتة غير ذي النفس وإن كان الأحوط خلافه.
ومنها: أنّه تجوز الصلاة في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة من الميتة، كالصوف والشعر والوبر، أمّا على تقدير كون علّة المنع في الميتة هي النجاسة; فلأنّ هذه الأجزاء لا تكون نجسة، كما مرّ البحث فيها في باب الميتة(1).
وأمّا على تقدير كون العلّة هي نفس عنوان الميتة ـ فمضافاً إلى إمكان دعوى عدم كون هذه الأجزاء ميتة; لعدم كونها محلاًّ للحياة حتّى يعرض لها
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 66 ـ 73.
الموت، وإن ناقشنا في هذه الدعوى سابقاً(1); نظراً إلى أنّ الحياة التي لم تحلّ في هذه الأجزاء هي الحياة الحيوانيّة، لا الحياة النباتيّة، مع أنّ العرف يطلقون عنوان الميتة على جميع أجزائها من دون فرق ـ نقول:
ظاهر النصوص الواردة في هذا الباب عدم كون هذه الأجزاء ميتة، بل بعضها يصرّح بجواز الصلاة فيها; وهي صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، إنّ الصوف ليس فيه روح(2).
ومقتضى التعليل عموميّة الحكم لكلّ ما يماثل الصوف في أنّه ليس من شأنه أن يكون فيه روح حتّى حال حياة الحيوان.
ثمّ إنّه لو شكّ في جلد أنّه من المذكّى أو الميتة، فإن قلنا بأنّ التذكية شرط في لباس المصلّي، فلا تجوز الصلاة في ذلك الجلد; لعدم إحراز الشرط، واللاّزم إحرازه في جميع الموارد، وإن قلنا بأنّ الميتة مانعة عن صحّة الصلاة وانطباق عنوانها على المأتيّ به من الأفعال المخصوصة والأقوال كذلك، فإن قلنا بأنّها أمر وجوديّ; وهو ما زهق روحه بسبب غير شرعيّ، فلا طريق لإثباته; لأنّ استصحاب عدم التذكية على تقدير جريانه لا يثبت الأمر الوجوديّ; لعدم حجّية الاُصول المثبتة على ما قرّر في محلّه(3).
وأمّا إن قلنا بأنّها أمر عدميّ، والعدم يصلح لأن يتعلّق به الحكم الشرعي
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 66 ـ 73.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1530، وعنه وسائل الشيعة 3: 513، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب68 ح1، وج4: 457، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب56 ح1.
- (3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 3: 233 ـ 244، كفاية الاُصول: 472 ـ 473، سيرى كامل در اصول فقه 15: 151 وما بعدها.
من المانعيّة وغيرها، فالمشهور(1) ظاهراً جريان استصحاب عدم التذكية وترتيب الآثار عليه، وكلام الفاضل التوني (قدس سره) (2) في الإشكال عليه معروف مذكور في رسالة الشيخ الأعظم (قدس سره) مع جوابه(3).
ولكنّ العمدة في الإشكال على هذا الاستصحاب: أنّ عدم التذكية المأخوذ في متعلّق الحكم الشرعي إن كان بنحو يصدق مع انتفاء الموصوف; وهو زهاق الروح وتحقّق الموت، فلا يعقل أن يتعلّق به الحكم الشرعي; لأنّ عدمها الصادق مع عدم الموضوع ليس بشيء حتّى يترتّب عليه أثر; من دون فرق بين أن يكون الأثر شرعيّاً أو غيره.
وإن كان بنحو لا يتحقّق إلاّ مع وجود الموصوف وفرض تحقّقه، بحيث كان المتعلّق هو زهاق الروح المتّصف بكونه بغير طريق شرعيّ، بنحو يكون الوصف أمراً عدميّاً، فهو وإن كان يعقل تعلّق الحكم به، إلاّ أنّه ليس له حالة سابقة، ضرورة أنّه لم يكن زهاق الروح مع هذا الوصف متيقّناً في زمان، فلا يجري استصحابه أصلا.
ثمّ إنّ صاحب المدارك (قدس سره) بعدما حكى عن جمع من الأصحاب(4): أنّ الصلاة كما تبطل في الجلد مع العلم بكونه ميتة، أو في يد كافر،
كذا تبطل مع الشكّ في تذكيته; لأصالة عدم التذكية، قال: وقد بيّنا فيما
- (1) الحدائق الناضرة 5: 526، فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 3: 197.
- (2) الوافية: 210.
- (3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 3: 197 ـ 202.
- (4) كالعلاّمة في تذكرة الفقهاء 2: 463 ـ 465 مسألة 117، والشهيدين في ذكرى الشيعة 3: 28، والدروس الشرعيّة 1: 149 ـ 150، وروض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 570.
سبق(1) أنّ أصالة عدم التذكية لا تفيد القطع بالعدم; لأنّ ما يثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، فلابدّ لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت ـ إلى أن قال: ـ وقد ورد في عدّة أخبار الإذن في الصلاة في الجلود التي لا يعلم كونها ميتة، وهو مؤيّد لما ذكرناه(2).
والظاهر أنّ مراده من الأخبار مثل موثّقة سماعة بن مهران، أنّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفرا والكيمخت؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة(3).
وموثّقة علي بن أبي حمزة أنّ رجلا سأل أبا عبدالله (عليه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت، قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنّه ميتة، فلا تصلِّ فيه(4).
وما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد بن يونس أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الفرو والخفّ، ألبسه واُصلّي فيه ولا أعلم أنّه ذكيّ؟ فكتب: لا بأس به(5).
- (1) مدارك الأحكام 2: 387.
- (2) مدارك الأحكام 3: 157 ـ 158.
- (3) الفقيه 1: 172 ح811 ، تهذيب الأحكام 2: 205 ح800 ، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح12.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1530، وعنه وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح4، وج4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب5 ح2.
- (5) الفقيه 1: 167 ح789، وعنه وسائل الشيعة 4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب55 ح4.
ورواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل; لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا(1).
والظاهر أنّ الروايات الدالّة على اعتبار يد المسلم أو سوق المسلمين خارجة عن محطّ نظره، وأمّا جعل هذه الأخبار مؤيّدة لا دليلا، فلأجل عدم كونها واجدة لشرائط ما هو الصحيح بنظره، وهو الصحيح الأعلائي الذي كان كلّ واحد من رواة سنده مذكّى بتذكية عدلين.
واستشكل بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ على الاستشهاد بمثل موثّقة ابن أبي حمزة; بأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ العلم بالميتة
قد اُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة، وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام، إلاّ أنّه علم طريقيّ قد اُخذ في الموضوع منجّزاً للأحكام، لا موضوعاً لها، نظير أخذ التبيّن في موضوع وجوب الصوم في قوله ـ تعالى ـ : ( كُلُوا ْ وَاشْرَبُوا ْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ
- (1) الكافي 6: 297 ح2، المحاسن 2: 239 ب48 ح1737، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح11، وج24: 90، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبح ب38 ح2، وج25: 468، كتاب اللقطة ب23 ح1.
- وفي البحار الأنوار 65: 139 ـ 140، عنهما وعن نوادر الراوندي: 219 ح443، باختلاف يسير، وفي ج104: 249 و 251 ح9 و 15، عن المحاسن والنوادر.
- ورواه في تهذيب الأحكام 9: 99 ح432 عن محمد بن يعقوب.
مِنَ الْفَجْرِ )(1). والاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي، كالبيّنة والأمارات(2).
ولا يخفى أنّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعيّة فيما إذا اُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع ودخيلا فيه، ولا مجال لدعوى كونه علماً طريقيّاً لا مدخليّة له في الموضوع، بحيث يكون ذكره كعدمه، غاية الأمر أنّ
العلم المأخوذ في الموضوع تارة: يؤخذ فيه بما أنّه صفة خاصّة من الصفات النفسانيّة، واُخرى: بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، والفرق بين الصورتين إنّما هو في قيام البيّنة والاستصحاب ونحوهما مقامه في الصورة الثانية، وعدمه في الصورة الاُولى، والمقام إنّما هو من قبيل الصورة الثانية.
وإن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في موضوعات الأحكام بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، لا يكون المراد به هو العلم الوجداني، بل الحجّة الشرعيّة وذكر العلم إنّما هو بعنوان المثال. وأمّا التبيّن في آية الصوم، فقد مرّ البحث(3) فيه، وأنّه يظهر من المحقّق الهمداني (قدس سره) ومن الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ أنّه هو الفجر الواقعي، لا أنّ الفجر شيء، والتبيّن شيء آخر.
نعم، يكون العلم أمارة لهذا التبيّن النفس الأمري، وقد تقدّم(4) منّا ما يتعلّق بهذا الكلام، فراجع.
هذا، مع أنّ استشكاله لا يجري في مثل موثّقة سماعة; لأنّه قد حكم فيها
- (1) سورة البقرة 2: 187.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 2: 449.
- (3 ، 4) في ج1: 239 ـ 240.
بنفي البأس ما لم يعلم أنّه ميتة; ضرورة أنّه على التقدير الذي أفاده لا يبقى مورد للحكم بعدم البأس; فإنّ حمله على صورة العلم بوقوع التذكية لا يناسب السؤال الظاهر في مورد الشكّ، خصوصاً مع تفسير «الكيمخت» في موثّقة ابن أبي حمزة بما يرجع إلى أنّه مشكوك; لعدم العلم بكونه ذكيّاً أو ميتة.
ولا يجري هذا الإشكال بناءً على ما ذكرنا; لعدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ، إمّا لكون الميتة أمراً وجوديّاً لا يثبت به، وإمّا لعدم جريان استصحاب عدم التذكية في نفسه; لما عرفت(1).
والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك أوّلا: إنّه كما أنّ العلم بالميتة قد اُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه، كذلك العلم بالمذكّى قد اُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه; لقوله (عليه السلام) في موثّقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح(2).
ومقتضاه عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية، فيعارض مع الروايات المتقدّمة ولا ترجيح لها عليه.
وثانياً: أنّه لا يبعد دعوى كون مورد السؤال فيها هو ما يتهيّؤ من سوق المسلمين ويشترى منه; لأنّ مورد ابتلائهم في تلك الأعصار هو المأخوذ من سوق المسلمين; لأنّ المجلوب من بلاد الكفّار ـ الذي هو مورد الابتلاء في
- (1) في ص150 ـ 151.
- (2) تأتي بتمامها في ص175 ـ 176.
هذه الأعصار ـ لم يكن محلاًّ لحاجتهم وابتلائهم في زمان السؤال، ومنشأ الشكّ لهم إمّا اختلاط أهل الذمّة بالمسلمين في السوق، أو غلبة العامّة في أسواقهم المستحلّين لذبائح أهل الكتاب، والقائلين بطهارة الجلد بالدباغ، أو عدم المبالاة في بعض من القصّابين والبائعين.
وعليه: فهذه الروايات لا إطلاق لها تشمل صورة عدم وجود أمارة شرعيّة على تحقّق التذكية.
وثالثاً: أنّه على تقدير الإطلاق لابدّ من تقييد هذه الروايات بما ورد ممّا يدلّ على أنّ المشكوك إذا اُخذ من سوق المسلمين يجوز التصرّف والصلاة فيه، وهي كثيرة:
منها: صحيحة فضيل، وزرارة، ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون؟ فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه(1).
والظاهر أنّ المراد من سوق المسلمين هو السوق الذي كان أكثر أهله مسلماً وإن كان منعقداً في بلد الكفر، لا السوق المنعقد في البلد الذي يكون تحت سلطنة الإسلام وحكومة المسلمين ولو كان جميع أهله
أو أكثره مشركاً.
وأيضاً الظاهر أنّ اعتبار السوق إنّما هو بالنسبة إلى من كان مجهول الحال، ولا يعلم أنّه مسلم أو كافر; فإنّه يبنى على إسلامه لمكان غلبة المسلمين فيه،
- (1) الكافي 6: 337 ح2، الفقيه 3: 211 ح976، تهذيب الأحكام 9: 72 ح306 و 307، وعنها وسائل الشيعة 24: 70، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح ب29 ح1.
ويكون إسلامه أمارة على وقوع التذكية الشرعيّة على الحيوان، وإلاّ فلو علم بكفر البائع والذابح، أو بكفر الأوّل فقط مع الشكّ في كفر الثاني، فلا يؤثّر في حلّية اللحم المشترى منه كون أكثر أهل السوق مسلماً.
وعليه: فيرجع اعتبار السوق إلى اعتبار يد المسلم، غاية الأمر أنّه لا فرق بين ما إذا اُحرز إسلامه بالقطع، أو بني عليه للغلبة ونحوها.
ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصلِّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه(1).
والظاهر أنّ السوق إشارة إلى المعهود; وهو سوق المدينة، الذي كان سوق المسلمين.
ومنها: صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرا لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك(2).
ومنها: صحيحته الاُخرى عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري، أيصلّي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي
- (1) تهذيب الأحكام 2: 234 ح920، الكافي 3: 403 ح28، وعنهما وسائل الشيعة 3: 490، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح2، وج4: 427، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب38 ح2.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1529، الفقيه 1: 167 ح787، وعنهما وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح3، وج4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب55 ح1.
واُصلّي فيه، وليس عليكم المسألة(1).
والظاهر اتّحاد الروايتين وإن جعلهما في الوسائل متعدّداً، والاختلاف في بعض الاُمور لا يضرّ بالوحدة.
ومنها: مرسلة الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : اعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال: صلِّ فيه. قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك. قلت: إنّي أضيق من هذا، قال: أترغب عمّا كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله؟!(2).
إذا عرفت ما ورد في السوق من الروايات المتقدّمة، فالكلام فيه يقع من جهات:
الاُولى: أنّه لا إشكال في أنّ المستفاد من روايات السوق أنّ المراد به هو سوق المسلمين بالمعنى الذي ذكرنا، الذي مرجعه إلى أنّ المراد به هو مركز التجمّع للكسب والتجارة، الذي كان أكثر أهله مسلماً.
ويشهد به إضافة السوق إليهم في رواية الفضلاء الثلاثة المتقدّمة الظاهرة في الاختصاص، خصوصاً مع ملاحظة كون مورد السؤال فيها أيضاً ذلك; فإنّ الظاهر أنّ المراد من «الأسواق» فيه هي الأسواق المعهودة الموجودة في المدينة، ومثلها من البلاد الإسلاميّة، ومع ذلك لم يكتف الإمام (عليه السلام) في الجواب
- (1) تهذيب الأحكام 2: 371 ح1545، قرب الإسناد: 385 ح1357، وعنهما وسائل الشيعة 3: 492، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح6، وفي بحار الأنوار 80 : 82 ح1.
- (2) الكافي 3: 404 ح31، تهذيب الأحكام 2: 234 ح921، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح9.
بهذا الظهور، بل صرّح بإضافة السوق إلى المسلمين وعلّق الحكم بجواز الأكل عليه.
وأمّا إطلاق «السوق» في سائر الروايات أو ترك الاستفصال، فمضافاً إلى ما عرفت من كونه إشارة إلى الأسواق المعهودة، يكون تقييده بسبب رواية الفضلاء متعيّناً، فالمستفاد من المجموع اعتبار سوق المسلمين وقد مرّ معناه.
الثانية: الظاهر أنّ المستفاد من أدلّة اعتبار السوق أنّ السوق بنفسه لا تكون أمارة على التذكية، وكاشفة عن الطهارة والحلّية، بل هو كاشف عن الأمارة الحقيقيّة; وهي يد المسلم، فالسوق أمارة على الأمارة; نظراً إلى أنّ الغالب في أسواق المسلمين إنّما هم المسلمون، وقد جعل الشارع هذه الغلبة معتبرة، وألحق من يشكّ في إسلامه في أسواقهم بالمسلمين، فالسوق إنّما هو كاشف عن كون البائع مسلماً.
وبهذا يظهر ما في كلام بعض(1) من الاكتفاء بمجرّد الأخذ من سوق المسلمين ولو أخذ من يد الكافر، في قبال الأخذ من يد المسلم، كما أنّه يظهر الخلل فيما اختاره في «المستمسك» من أنّ الظاهر منه خصوص ما لو كان البائع مسلماً، وأنّ الداعي لذكر السوق كونه الموضع المعتاد لوقوع المعاملة فيه، لا لخصوصيّة فيه في قبال الدار والصحراء ونحوهما، فالمراد من الشراء من السوق الشراء من المسلم الذي هو أحد التصرّفات الدالّة على التذكية،
- (1) كتاب الطهارة للإمام الخميني (قدس سره) 4: 247 ـ 248، وفي جواهر الكلام 8 : 90 ذكر بعنوان «التوهّم».
ولا خصوصيّة له، فهو راجع إلى الاستعمال المناسب للتذكية(1).
وجه الخلل: أنّ مقتضى ما أفاده خروج عنوان السوق عن المدخليّة رأساً، وهو خلاف ظاهر أدلّة اعتباره جدّاً.
الثالثة: أنّه لا فرق في المسلم الذي يؤخذ من يده، ويكون السوق أمارة على إسلامه، بين ما إذا كان عارفاً بالإمامة، أو لم يكن; لأنّه ـ مضافاً إلى كون أكثر المسلمين في تلك الأزمنة غير عارفين، وإلى أنّ الجمع المحلّى باللاّم في المسلمين، الذي اُضيف إليه السوق في رواية الفضلاء(2)، يقتضي العموم لكلّ مسلم على ما هو المشهور(3) ـ يدلّ عليه رواية إسماعيل بن عيسى قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن زكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(4).
وعليه: فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونه أمارة شرعيّة على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف، وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية، كاجتزائهم في الصيد بإرسال غير الكلب
- (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 302 ـ 303.
- (2) تقدّمت في ص156.
- (3) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 570، مدارك الأحكام 3: 159 ـ 160، جواهر الكلام 8 : 95، كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 132.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 371 ح1544، الفقيه 1: 167 ح788، وعنهما وسائل الشيعة 3: 492، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح7.
المعلّم(1)، وكذلك في بعض الفروع، كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ(2)، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب(3)، وغير ذلك من الموارد، فلا يكون مجرّد كونه في يده، أو مع ترتيبه آثار المذكّى عليه، أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه.
فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لاماريّتها، بل لأجل أنّ الحكم بعدم الاعتبار ـ مع أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ـ مستلزم للعسر; فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبّداً فيما إذا لم يكن بايعه مشركاً، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الجهة العاشرة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في السوق اعتبار ضمان البائع وإخباره بكون مبيعه من المذكّى، وهي:
رواية محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس(4).
ولكنّ الظاهر أنّه يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة رواية الفضلاء(5)،
- (1) بداية المجتهد 1: 477، المغني لابن قدامة 11: 10، المجموع 9: 90، الخلاف 6: 7 مسألة 3.
- (2) تقدّم تخريجه في ص143.
- (3) بداية المجتهد 1: 471، المغني لابن قدامة 11: 54، المجموع 9: 75.
- (4) الكافي 3: 398 ح7، وعنه وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح10، وج4: 463، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح3.
- (5) تقدّمت في ص156.
الدالّة على أنّ النهي عن السؤال عنه; فإنّ المراد من النهي هو عدم الوجوب; لأنّه في مقام توهّمه، فالمراد عدم وجوب السؤال، ومن الواضح: أنّ المراد من السؤال هو السؤال الذي يتعقّبه الجواب بوقوع التذكية، فمرجع ذلك إلى عدم اعتبار الإخبار بوقوعها في جواز الأكل من اللحوم.
وكذا يدلّ على عدم اعتبار السؤال صحيحتا البزنطي، ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمة، فلابدّ من حمل هذه الرواية على الاستحباب.
الخامسة: الظاهر أنّ يد المسلم التي تكون أمارة على التذكية تكون أخصّ من اليد التي تكون أمارة على الملكيّة، لا من جهة اعتبار إسلام ذي اليد هنا دونه، بل من جهة أنّه لا يعتبر في الأماريّة هناك سوى أصل ثبوت اليد، وكون المال تحت استيلاء ذي اليد وسلطته، ولا يلزم أن يتصرّف فيه تصرّفاً متوقّفاً على الملكيّة.
وأمّا في المقام، فيعتبر في اليد التي تكون أمارة على التذكية التصرّف المتوقّف عليها; وذلك لأنّ مورد أخبار الاشتراء من السوق وجود هذا التصرّف; لأنّ نفس المعرضيّة للبيع كاشفة عن التذكية; لعدم صدورها من المسلم بالإضافة إلى الميتة.
وكذلك رواية إسماعيل ظاهرة في تعليق الجواز على رؤية الصلاة فيه، فمجرّد كونه تحت يد المسلم، أو استعماله في شيء ما ـ ولو لم يكن مقتضى الدواعي النوعيّة طهارته، مثل أن يتّخذ ظرفاً للنجاسة ـ لا دليل على أماريّته على وقوع التذكية عليه.
السادسة: أنّ يد المسلم هل هي أمارة على التذكية مطلقاً حتّى فيما لو علم
بمسبوقيّتها بيد الكافر، بل وبعدم فحص المسلم لكونه ممّن لا يبالي بكونه من ميتة أو مذكّى، أو يكون أمارة فيما لم يكن كذلك; سواء علم بالمسبوقيّة بيد مسلم آخر، أم لم تعلم الحالة السابقة؟ وجهان بل قولان، اختار المحقّق النائيني (قدس سره) وجماعة الثاني(1); نظراً إلى منع الإطلاق في دليل الاعتبار، لا من جهة اللفظ، ولا من ناحية ترك الاستفصال.
أمّا الأوّل: فلكونها قضايا خارجيّة وردت في محلّ الحاجة، وهي الجواب عمّا وقع عنه السؤال من الأيدي والأسواق الخارجيّة في تلك الأزمنة، وليست من قبيل القضايا الحقيقيّة التي حكم فيها بالأفراد مطلقاً ولو كانت مقدّرة الوجود غير محقّقة. ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق لها، ولذا لا تكون متعارفة في العلوم، ولا يكون شأن العلوم هو البحث عنها; لكونها في قوّة الجزئيّة وإن كانت مسوّرة بكلمة «كلّ»، مثل كلّ من في البلد مات.
وأمّا الثاني: فلأنّ منشأ الشكّ في كون المأخوذ مذكّى هو غلبة العامّة على أسواق المسلمين، لا كون أيديهم مسبوقة بأيدي الكفّار; إذ لم يكن جلب الجلود من بلاد الشرك معمولا في ذلك الزمان، وإنّما هو أمر حدث في هذه الأعصار، فهذه الجهة مغفول عنها بالكلّية عند أذهان السائلين، وفي مثله
لا مجال لترك الاستفصال وجعله دليلا على الإطلاق; لظهور الحال.
ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى منع كون أدلّة اعتبار السوق بأجمعها قضايا خارجيّة; فإنّ مثل حكم الإمام (عليه السلام) في رواية الفضلاء
- (1) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 128، العروة الوثقى 1: 399 مسألة 1278، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 16.
المتقدّمة(1) بجواز الأكل إذا كان ذلك في سوق المسلمين، قضيّة حقيقيّة يكون موضوعها سوق المسلم أعمّ من الأفراد المحقّقة والمقدّرة، ولذا لا نحتاج في التمسّك به إلى دليل الاشتراك من ضرورة أو إجماع ـ بأنّه لو سلّم كون ذلك على نحو القضايا الخارجيّة نقول:
منشأ الشكّ في كون المأخوذ مذكّى لا ينحصر بغلبة العامّة على
أسواق المسلمين، بل كما اعترف به قبل ذلك ربما كان المنشأ اختلاط
أهل الذمّة بالمسلمين; من اليهود والنصارى وغيرهما، المقيمين
في البلاد الإسلاميّة.
ومن الواضح: أنّ هذه الجهة لا تكون بمثابة موجبة للغفلة عنها، خصوصاً مع التصريح في رواية إسماعيل المتقدّمة(2) بأنّه «إذا رأيتم المشركين يبيعون...»، حيث فرض كون البائع مشركاً، بل لو بني على كفر الخوارج والنواصب والغلاة يتحقّق منشأ آخر; لتداول ذبحهم للحيوانات وأكلهم لها
وبيع جلودها، فاحتمال سبق يد الكافر على يد المسلم من الاحتمالات العقلائيّة غير المغفول عنها في مورد الروايات. وعليه: فلا مانع من استكشاف الإطلاق من جهة ترك الاستفصال، فتدبّر.
السابعة: أنّه كما تكون يد المسلم أمارة على التذكية، فهل تكون يد الكافر أمارة تعبّديّة شرعيّة على عدم التذكية، أو أنّ عدم اعتبارها لأجل عدم وجود الأمارة على التذكية، لا ثبوت الأمارة على عدمها؟ وجهان بل قولان
- (1) في ص156.
- (2) في ص160.
أيضاً، استظهر في الجواهر الأوّل(1)، وجعل الحكم بطهارة ما في يد المسلم المسبوقة بيد الكافر من باب تقديم إحدى الأمارتين على الاُخرى; لأقوائيّتها، أو أقوائيّة دليلها.
ولكنّ الظاهر هو الثاني; لأنّ العمدة في هذه الجهة هو قوله (عليه السلام) في رواية إسماعيل المتقدّمة: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك»، ولا دلالة له على ذلك; لأنّ إيجاب السؤال والفحص لا يلازم مع كونه أمارة على العدم، بل يجتمع مع عدم الأماريّة، بل ربما يقال: ظاهر الأمر بالسؤال هو عدم كونها أمارة على شيء; لأنّ السؤال يناسب الجهل وعدم الأمارة، ولكنّه مردود بأنّ أماريّة العدم على تقديرها تكون مجعولة بنفس إيجاب السؤال، لا قبله حتّى لا يناسب السؤال مع وجود الأمارة، فتدبّر.
وبالجملة: فمثل هذه الرواية لا يستفاد منها أماريّة العدم.
ثمّ إنّه على تقدير الاستفادة وثبوت الأماريّة لكلتا اليدين، فالظاهر عدم كون دليلها بنحو يشمل صورة التعارض، بل اللاّزم تخصيص دليل أماريّة يد المسلم بما إذا لم تكن مسبوقة بيد الكافر، وكذا دليل أماريّة يد الكافر بما إذا لم تكن مسبوقة بيد المسلم، كما لا يخفى.
الثامنة: هل المصنوعيّة في أرض الإسلام أمارة على وقوع التذكية مطلقاً ولو مع العلم بكون الصانع غير مسلم، أو أنّه أمارة عليه مع عدم العلم بكفر الصانع، أو أنّه ليس أمارة في عرض يد المسلم، بل هو أمارة على الأمارة،
- (1) جواهر الكلام 8 : 90 ـ 91.
كسوق المسلمين على ما عرفت(1) من أنّه أمارة على كون البائع مسلماً، وهو أمارة على التذكية؟ وجوه واحتمالات ناشئة من الاحتمالات الجارية في الرواية الواردة في هذا الباب، وهي:
رواية إسحاق بن عمّار المعتبرة، عن العبد الصالح (عليه السلام) أنّه قال: لا بأس بالصلاة في الفرا اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس(2).
والمراد من الجواب يحتمل أن يكون ما حكي عن الشهيد الثاني (قدس سره) (3) من غلبة أفراد المسلمين وأكثريّتهم بالإضافة إلى غير أهل الإسلام، ويحتمل أن يكون غلبة المسلمين على الأرض وحكومتهم وسلطنتهم عليها، كما رجّحه سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) (4) مستظهراً ذلك من تعدية الغلبة بـ «على».
فعلى الأوّل ـ الذي مرجعه إلى أنّ الأمارة أرض الإسلام; أي ما كان تحت غلبة المسلمين ورئاستهم، بضميمة كون الغلبة العدديّة مع أفراد المسلمين ـ : تكون الأمارة هي يد المسلم، وما ذكر أمارة على الأمارة; لأنّ الأكثريّة طريق إلى استكشاف مجهول الحال، وإلاّ لا يترتّب عليها ثمرة، فعلى ما قاله الشهيد لا تكون أرض الإسلام أمارة في رديف يد المسلم أصلا.
- (1) في ص159.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1532، وعنه وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح5، وج4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب55 ح3.
- (3) مسالك الأفهام 1: 285.
- (4) نهاية التقرير 1: 334 ـ 335.
وعلى الثاني: إن كان المراد هو كون المصنوعيّة في أرض الإسلام أمارة على التذكية ولو مع العلم بكون الصانع غير مسلم، تصير المصنوعيّة أمارة مستقلّة في مقابل يد المسلم، وإن كان المراد هو أنّ المصنوعيّة فيها أمارة على كون الصانع مسلماً; لأنّه يبنى على إسلام من كان مجهول الحال في أرض الإسلام، فيرجع أيضاً إلى اعتبار يد المسلم وكونها أمارة على التذكية، غاية الأمر أنّ الأمارة على الأمارة على هذا، هو مجرّد المصنوعيّة في أرض الإسلام، وعلى ما قاله الشهيد هو ذلك بضميمة كون الغلبة مع أفراد المسلمين، كما لا يخفى.
هذا، والظاهر ما قاله الشهيد; لأنّ الظاهر دلالة الجواب على اعتبار أمر زائد على عنوان أرض الإسلام، وإذا فسّرناه بغيره ينطبق على معنى أرض الإسلام ولا يكون أمراً زائداً عليها; لأنّ معناها كما عرفت هو كون الغلبة والسلطنة عليها للمسلمين، فلا يكون الجواب دالاًّ على أمر آخر بوجه.
وبعبارة اُخرى: الضمير في قوله (عليه السلام) : «إذا كان الغالب عليها» يرجع إلى أرض الإسلام لا مطلق الأرض، ولا معنى لتقييد أرض الإسلام بما يرجع إلى تفسيرها، وحمل الجواب على التوضيح والتفسير مستبعد جدّاً، بل الظاهر كونه ناظراً إلى اعتبار أمر زائد، وهو لا ينطبق إلاّ على تفسير الشهيد، وقد عرفت أنّ مقتضاه أنّه لا أصالة للمصنوعيّة في أرض الإسلام، بل هي بضميمة الغلبة أمارة على كون الصانع مسلماً.
نعم، مقتضى ذلك اعتبار إسلام الصانع من دون فرق بين أن يكون البائع أيضاً مسلماً، وبين أن لا يكون كذلك.
التاسعة: هل المطروحيّة في أرض الإسلام أمارة على وقوع التذكية على المطروح، أو على الأمارة عليه، أو أنّها لا تكون أمارة أصلا إلاّ إذا كان عليه أثر استعمال المسلم وجريان يده عليه، ومن المعلوم أنّه حينئذ يرجع إلى اعتبار يد المسلم وأماريّتها.
والدليل في هذا البحث رواية السكوني المتقدّمة(1)، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل; لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا.
ويجري في معنى الرواية احتمالات:
أحدها: أن تكون الرواية بصدد بيان أصالة الطهارة عند الشكّ في النجاسة، ومنشأ الشكّ عدم العلم بكون السفرة لمسلم أو مجوسيّ من جهة ملاقاة المجوسي. وعليه: فالمراد بقوله (عليه السلام) : «هم في سعة حتّى يعلموا» هو التوسعة من جهة الطهارة إلى حصول العلم بالنجاسة.
ثانيها: أن تكون الرواية بصدد بيان أماريّة المطروحيّة في أرض الإسلام على وقوع التذكية على الحيوان المأخوذ منه اللحم الموجود في السفرة، ومنشأ الشكّ احتمال كونها لمجوسيّ، وهو لا يراعي شرائط التذكية المعتبرة في الإسلام، ولا يجتمع هذا الاحتمال مع ذكر مثل الخبز والبيض في رديف اللحم;
- (1) في ص153.
لعدم الشكّ فيه من هذه الجهة، كما هو ظاهر.
ثالثها: أن تكون الرواية بصدد بيان أنّ الحكم في مورد الشكّ في الحلّية مطلقاً هي الحلّية; وهو الإباحة، ومنشأ الشكّ احتمال عدم رضا المالك بالتصرّف فيها.
والاستدلال بها على الأماريّة متوقّف على كون المراد بها هو الاحتمال الثاني. ومن الواضح: عدم ظهور الرواية فيه لو لم نقل بظهورها في غيره; لما مرّ من عدم ملائمته مع ذكر مثل الخبز والبيض، إلاّ أن يقال بأنّ السؤال الثاني في الرواية لا يرتبط بما هو محطّ النظر في السؤال الأوّل، بل يمكن أن يكون من شخص آخر لا من السائل الأوّل.
وعليه: فيمكن دعوى كون الثاني ناظراً إلى خصوص اللحم من جهة التذكية وعدمها، فالحكم بالتوسعة إلى أن يعلم بكونه من مجوسيّ دليل على أماريّة المطروحيّة في أرض الإسلام.
ولكن هذه الدعوى لا توجب ظهور الرواية فيها; وإن كانت تصلح لأن يجاب بها عن الإشكال الوارد على الاحتمال الثالث; وهو: أنّه يوجب طرح الرواية; إذ لم يذهب أحد إلى الإباحة عند الشكّ فيها من هذه الجهة; فإنّ الإباحة حينئذ إنّما هي لأجل وجود الأمارة لا لمجرّد الشكّ،
كما لا يخفى.
العاشرة: المشهور(1) أنّ يد المسلم أمارة على التذكية مطلقاً، حتّى مع العلم بكونه مستحلاًّ للميتة بالدباغ، وقيل باختصاص الأماريّة بما إذا علم بكونه
- (1) تقدّم في ص160.
غير مستحلّ لها به(1)، وعن جملة من الكتب ـ كالمنتهى ونهاية الإحكام ـ التفصيل بين ما لم يعلم باستحلاله فتكون يده أمارة، وما علم بكونه مستحلاًّ فلا تكون كذلك(2)، وهنا قول رابع; وهو التفصيل بين ما إذا أخبر بالتذكية ولو كان مستحلاًّ، وبين ما إذا لم يخبر، فتكون يده أمارة في الأوّل، دون الثاني(3).
ويدلّ على المشهور المطلقات المتقدّمة(4) في السوق، الناظرة إلى هذه الجهة; وهي كون المسلم غير عارف مستحلاًّ للميتة نوعاً، وهي كالصريحة في الشمول لذلك، خصوصاً بعد ملاحظة كون منشأ الشكّ للسائل الباعث له على السؤال ذلك، ومرسلة ابن الجهم المتقدّمة(5) ناظرة إلى هذه الجهة، وأنّ الضيق الواقع فيه السائل، وحكمه (عليه السلام) بأنّه يرغب عمّا كان يفعله إمامه (عليه السلام) إنّما هو لأجل ذلك.
هذا، مضافاً إلى التصريح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة في رواية إسماعيل المتقدّمة(6)، فالإنصاف أنّه مع ملاحظة الروايات والتأمّل فيها لا يبقى ارتياب في أنّ أماريّة يد المسلم أماريّة تعبّدية مجعولة لغرض التسهيل والتوسعة،
- (1) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، كشف اللثام 4: 418.
- (2) منتهى المطلب 4: 206، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، تذكرة الفقهاء 2: 464 مسألة 117، مسالك الأفهام 1: 285، كشف اللثام 4: 419.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 29، الدروس الشرعيّة 1: 150، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101.
- (4) في ص156 ـ 158.
- (5) في ص158.
- (6) في ص160.
وعمدة النظر فيها كون البائع مسلماً غير عارف، خصوصاً في زمن الصادقين (عليهما السلام) ، الذي شاع فيه فتوى أبي حنيفة واستحلاله للميتة، وكثر متابعوه، ومع ذلك حكم في الروايات بالأماريّة والاعتبار.
وأمّا القول الثاني: فيدلّ عليه رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الفرا، فقال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلا صرداً(1) لا يدفئه فرا الحجاز; لأنّ دباغها بالقرظ(2)، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته(3).
وتقريب الاستدلال بها، أنّ موردها صورة الشكّ في كون البائع مستحلاًّ; لظهور عدم اعتماده (عليه السلام) في هذه الجهة إلى علم الغيب الثابت له، ومن الواضح: عدم كون جميع أهل العراق مستحلّين، بل كان فيهم من المسلمين العارفين أيضاً، فالرواية ناظرة إلى صورة الشكّ، وحاكمة بعدم جواز الاعتماد على يده; لأنّه (عليه السلام) كان يلقي في حال الصلاة الفرا المبعوث إليه من العراق، وكذا يلقي القميص الذي يليه، فالرواية دالّة على عدم الأماريّة مع الشكّ.
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ إجمالها من حيث
- (1) الصَرِد، بفتح الصاد وكسر الراء المهملة: من يجد البرد سريعاً، مجمع البحرين 2: 1023.
- (2) القَرَظ، بالتحريك: ورق السَلَم يُدْبَغُ به الأديم، وفي الخبر: اُتي بهديّة في أديم مقروظ; أي مدبوغ بالقرض، مجمع البحرين 3: 1467.
- (3) الكافي 3: 397 ح2، وعنه وسائل الشيعة 4: 462، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح2.
الدلالة; لأنّه (عليه السلام) كان يجمع على طبق الرواية بين اللبس والانتفاع، وبين الإلقاء المذكور، مع أنّه على تقدير عدم الأماريّة لا يجوز الانتفاع به أصلا ولو في غير حال الصلاة.
ودعوى(1) كون لبسه إنّما هو لأجل الضرورة المسوّغة له، كما يشعر به قوله (عليه السلام) : «كان رجلا صرداً»; أي شديد التألّم من البرد، وعدم كون فرا الحجاز دافئاً.
مدفوعة بوضوح عدم كون الضرورة بالغة إلى حدّ يجوز معه المحرّم.
كما أنّ دعوى(2) الفرق بين اللبس، وبين الصلاة لأجل نفس هذه الرواية، كما ربما نسب إلى إشعار بعض الكتب(3).
مدفوعة أيضاً ـ مضافاً إلى كونها خلاف الإجماع(4) ـ بأنّها توجب عدم انطباق الدليل على المدّعى، فالإنصاف إجمال الرواية من حيث الدلالة، ولا يرفعه احتمال كون الإلقاء احتياطاً من الإمام (عليه السلام) في حال الصلاة وإن كان هذا الاحتمال مخالفاً لمدّعى المستدلّ، إلاّ أنّه أيضاً لا يكون صحيحاً; لعدم انحصار احتياط الإمام (عليه السلام) بالصلاة، كما لا يخفى.
هذا كلّه، مضافاً إلى مخالفة الرواية للمطلقات المتقدّمة(5)، الدالّة على الأماريّة مع العلم بالاستحلال فضلا عن الشكّ، كما عرفت.
- (1) راجع كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 133.
- (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائينى للآملي 1: 133.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 30.
- (4) جواهر الكلام 8 : 96.
- (5) في ص156 ـ 158.
وأمّا القول الثالث: فعمدة الدليل عليه ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أدخل سوق المسلمين; أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام، فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكيّة؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة. قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلاّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
فإنّ موردها صورة العلم بكون البائع مستحلاًّ، وحينئذ فالحكم بعدم جواز البيع بشرط التذكية دليل على عدم كون يده أمارة عليها، وإلاّ فلا وجه لعدم جواز البيع كذلك، كما هو ظاهر.
ويرد عليه: أنّه لو لم تكن يده أمارة على التذكية، فلم كان الاشتراء منه جائزاً؟ كما هو المفروغ عنه عند السائل، وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على ذلك، فالحكم بالجواز دليل على وجود الأمارة. وأمّا عدم جواز الاشتراط، فليس لأجل عدم ثبوت الأمارة، بل إنّما هو لأجل كون الأمارة غير كافية في مثله; لظهوره في ثبوت التذكية وجداناً، وعدم كفاية إحرازها بحكم الأمارة، كما في سائر الشرائط.
وكما في مثل الشهادة بناءً على عدم جواز الاستناد فيها إلى الأمارة. نعم، يبقى الإشكال في أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم جواز الاشتراط ولو لم يكن البائع
- (1) الكافي 3: 398 ح5، تهذيب الأحكام 2: 204 ح798، وعنهما وسائل الشيعة 3: 503، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب61 ح4.
مستحلاًّ، مع أنّ مقتضى ذيل الرواية أنّ الموجب لعدم جواز الاشتراط استحلال البائع الأوّل للميتة، فتدبّر.
وأمّا القول الرابع: فقد استدلّ له برواية محمد بن الحسين الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس(1).
والمراد من الضمان هو الإخبار والإعلام بالتذكية، لا التعهّد المتضمّن لقبول الخسارة، والظاهر حينئذ أنّ عدم البأس مشروط بالإعلام.
والجواب: أنّه مع ظهور الروايات المتقدّمة(2)، بل صراحة بعضها في عدم لزوم السؤال والاستعلام من البائع ـ ومن الواضح: أنّ ذلك إنّما هو لأجل عدم اعتبار الجواب والإعلام، وإلاّ فلابدّ من الاستعلام ـ لا يبقى مجال للأخذ بهذه الرواية، فلابدّ من الحمل على الاستحباب، والفرق بين صورتي الإعلام وعدمه من هذه الجهة، كما لا يخفى.
- (1) الكافي 3: 398 ح7، وعنه وسائل الشيعة 4: 463، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح3.
- (2) في ص156 ـ 158.
عدم جواز الصلاة في غير المأكول
وأمّا غير المأكول، فلا تجوز الصلاة في شيء منه وإن ذكّي، من غير فرق بينما تحلّه الحياة منه أو غيره، بل تجب إزالة الفضلات الطاهرة منه، كالرطوبة والشعرات الملتصقة بلباس المصلّي وبدنه 1 .
1 ـ من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون من أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه، واعتباره فيه من متفرّدات الإماميّة(1)، خلافاً لسائر فرق المسلمين، حيث لم يتعرّضوا لهذه المسألة في كتبهم، مع كونها ممّا يعمّ به البلوى.
والأخبار الواردة في هذا المقام وإن كان أكثرها لا يخلو من علل الحديث; من ضعف أو إرسال أو غيرهما، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب الإشكال في أصل الحكم بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف في قبال سائر المسلمين إلى ثبوته، وبعد الإجماعات المنقولة في الكتب الكثيرة عليه(2).
هذا، مع وجود رواية معتبرة; وهي موثّقة ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسدة،
- (1 ، 2) الانتصار: 135، الخلاف 1: 511 مسألة 256، غنية النزوع: 66، المعتبر 2: 78، منتهى المطلب 4: 207 و 209، تذكرة الفقهاء 2: 465 مسألة 118، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، جامع المقاصد 2: 81 ، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 572، الحاشية على مدارك الأحكام 2: 344، مفتاح الكرامة 5: 466، جواهر الكلام 8 : 106.
لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله.
ثمّ قال: يا زرارة هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أو لم يذكّه(1).
والظاهر كون ابن بكير ثقة وإن ضعّفه المحقّق في محكيّ المعتبر(2); لتصريح الشيخ (قدس سره) به في الفهرست(3)، وكذا ابن شهر آشوب(4)، وقال الكشّي: هو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه(5). وقال الشيخ (قدس سره) في محكي العُدّة: عملت الطائفة بأخباره(6).
هذا مع أنّ الراوي عنه في هذه الرواية هو ابن أبي عمير، الذي اشتهر اعتبار مراسيله فضلا عن مسانيده، ومع استناد الكلّ في الفتوى بهذا الحكم المخالف للقاعدة ولسائر فرق المسلمين إليها، فلا يبقى موقع للإشكال في الرواية من حيث السند.
- (1) الكافي 3: 397 ح1، تهذيب الأحكام 2: 209 ح818 ، وعنهما وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب2 ح1.
- (2) المعتبر 2: 79.
- (3) الفهرست للشيخ الطوسي: 173، الرقم 463.
- (4) معالم العلماء: 77، الرقم 517.
- (5) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 375، الرقم 705.
- (6) العُدّة في اُصول الفقه 1: 150.
وأمّا استشكال صاحب المدارك(1) في المسألة; فإنّما هو مبنيّ على مذهبه من اختصاص حجّية الخبر الواحد بالصحيح الأعلائي، وعدم حجّية غيره وإن كان موثّقاً معتبراً عند غيره، كما أنّ التكرار الواقع في قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الصلاة...»، والحزازة الواقعة في قوله (صلى الله عليه وآله) : «لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي...»، وغير ذلك من الجهات المخالفة للفصاحة، يشعر بأنّ الرواية منقولة بالمعنى، وأنّ الراوي لم يضبط الألفاظ الصادرة من الإمام (عليه السلام) ، ولكنّه لا يوجب إشكالا في الاستدلال بها بعد معلوميّة المضمون الصادر منه (عليه السلام) .
وبالجملة: بعد ملاحظة ما ذكرنا، الاشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه أصلا.
وإنّما الإشكال في فروع المسألة، وأنّه هل يكون اعتبار هذا الأمر منحصراً بلباس المصلّي; وهو ما يلبسه المصلّي ويكون محيطاً به كالقميص وغيره، أو يشمل مثل التكّة والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس، ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له، أو يعمّ ما ذكر، وما إذا لم يكن لباساً، ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه، كما إذا كان على ثوبه رطوبة غير المأكول، أو بعض شعراته، أو يعمّ ما ذكر، وما إذا كان محمولا للمصلّي ومستصحباً له أيضاً؟ وجوه.
والمحكيّ عن ظاهر المشهور هو الأخير(2)، وعن الشهيدين(3) اختصاص
- (1) مدارك الأحكام 3: 162.
- (2) ذخيرة المعاد: 234 س13، كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 82 ، بحار الأنوار 83 : 221، مستمسك العروة 5: 309.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 52، البيان: 122، مسالك الأفهام 1: 162، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 573.
المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الذي اُلقي عليه شعراته، وجواز الصلاة فيه من المقطوع به.
ويدلّ على المشهور الموثّقة المتقدّمة; نظراً إلى صدق الصلاة في أجزاء غير المأكول في جميع الفروض.
واستشكل عليهم(1) بأنّ ظاهر كلمة «في» في قوله (صلى الله عليه وآله) : «فالصلاة في وبره...» هي الظرفيّة، كما هو الأصل في معنى الكلمة، ولازمه كون أجزاء
غير مأكول اللحم بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به، وهو لا يصدق فيما إذا اُلقي على ثوبه وبره أو شعره، فضلا عمّا إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس.
وعن البهبهاني (قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ كلمة «في» في الرواية ليست للظرفيّة; لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي، فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة، ومعه يتمّ الاستدلال، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفيّة في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما، فكأنّه قيل الصلاة في الثوب المتلطّخ بأحدهما فاسدة.
وعليه: فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي، ولا يدلّ على المنع فيه، ثمّ أجاب بأنّ ذلك المعنى مستلزم للاضمار والحذف، بخلاف ما ذكرنا في معناه; فإنّه مستلزم للمجازيّة، وقد قرّر في
- (1) كما في رياض المسائل 3: 156، وجواهر الكلام 8 : 127.
الاُصول(1) تقدّم الثاني على الأوّل فيما إذا دار الأمر بينهما(2).
وربما احتمل أن يقال بإمكان اعتبار الظرفيّة فيما إذا تلطّخ الثوب بهما بملاحظة ملابسة الثوب معهما، فكأنّهما صارا جزءين للثوب، فهو نظير ما إذا كان بعض الثوب من أجزاء غير المأكول دون البعض الآخر.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ ظهور كلمة «في» في الموثّقة في الظرفيّة ـ كما هو الأصل في معناها ـ باق على حاله من دون تصرّف فيه ولا استحالة، ولكن لابدّ من ملاحظة أنّ المظروف هل هي الصلاة أو المصلّي، والإعضال والإشكال في المقام إنّما نشأ من تخيّل الثاني، ولزوم اعتبار كون جزء غير المأكول ظرفاً للمصلّي، ولأجله حكم بالامتناع; لعدم إمكان كون مثل الروث والبول ظرفاً للمصلّي، أو باتّساع دائرة الظرفيّة وثبوت المراتب لها، كما في تقريرات المحقّق النائيني (قدس سره) (3)، مع أنّ الرواية ظاهرة في تعلّق الظرفيّة بالصلاة، حيث قال: «إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله...».
والظاهر أنّ الظرفيّة للصلاة أوسع من الظرفيّة للمصلّي، الظاهرة في الاشتمال عليه; فإنّه لا يعتبر في الظرفيّة للصلاة الاشتمال والإحاطة بوجه، والشاهد على ذلك ـ مضافاً إلى وضوحه في نفسه، وثبوت الفرق بين الظرفيّتين ـ ملاحظة الروايات الواردة في الموارد المختلفة، حيث استعمل فيها كلمة «في» في الظرفيّة من دون ثبوت اشتمال أصلا.
- (1) الفوائد الحائريّة: 332.
- (2) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 348، وحكى عنه في جواهر الكلام 8 : 127.
- (3) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 147 ـ 148.
كما في الرواية الواردة في الصلاة في السيف، ما لم ير فيه دم(1); فإنّها ظاهرة في كون السيف ظرفاً للصلاة مع عدم كونه ظرفاً للمصلّي.
وكما في الرواية الواردة فيما لا تتمّ فيه الصلاة في مسألة النجاسة; وهي مرسلة عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلّي فيه وإن كان فيه قذر، مثل القلنسوة والتكّة والكمرة والنعل والخفّين وما أشبه ذلك(2).
فإنّه مع كون المفروض في الموضوع هو كلّ ما كان على الإنسان أو معه، قد عبّر في الحكم بنفي البأس عن الصلاة فيه، وجعل الكلّ ظرفاً للصلاة، فيستفاد منه سعة دائرة الظرفيّة فيما إذا كان المظروف هي الصلاة، وكذلك الروايات الاُخر.
فانقدح ممّا ذكرنا ظهور الموثّقة في مذهب المشهور، واعتبار عدم كون ما على اللباس من أجزاء غير المأكول أيضاً، وكذلك ما مع المصلّي ممّا يكون مستصحباً ومحمولا، ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضاً التعبير في الموثّقة ـ بعد الوبر والشعر والجلد والبول والروث ـ بـ «كلّ شيء منه».
ومن الواضح: شمول العموم لمثل العظم أيضاً، مع أنّ الصلاة في عظم غير المأكول لا يتصوّر إلاّ بأن يكون محمولا للمصلّي، إمّا في يده مثلا، أو في كيسه، وليس العظم مثل الروث والبول حتى يجري فيه احتمال كون تلطّخ
- (1) تقدّم تخريجها في ص106.
- (2) تهذيب الأحكام 1: 275 ح810 ، وعنه وسائل الشيعة 3: 456، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح5.
الثوب بهما موجباً لصدق الاشتمال والظرفيّة، كما لا يخفى، فالإنصاف تماميّة دلالة الموثّقة على مذهب المشهور.
ويدلّ عليه أيضاً في الجملة، ما رواه الشيخ (قدس سره) بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن عمر بن علي بن عمر بن يزيد، عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة، فكتب: لا تجوز الصلاة فيه(1).
ورواية محمد بن أحمد بن يحيى، عن عمر المذكور يكفي في وثاقته بعد عدم كونه ممّن استثناه القمّيون ممّن روى عنه محمد(2)، كما هو ظاهر.
ولا يعارض هذه الرواية صحيحة محمد بن عبد الجبّار قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل
لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب: لا تحلّ
الصلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكّياً حلّت الصلاة فيه
إن شاء الله(3).
لأنّه ليس المراد بالذكيّ الذي قيّد به الوبر، هو كون الوبر مأخوذاً من الحيوان المذكّى في مقابل الميتة; لما عرفت(4) من جواز الصلاة فيما لا تحلّه
- (1) تهذيب الأحكام 2: 209 ح819 ، الاستبصار 1: 384 ح1455، وعنهما وسائل الشيعة 4: 346، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب2 ح4.
- (2) خاتمة مستدرك الوسائل 8 : 267، جامع الرواة 2: 63 ـ 64، معجم رجال الحديث 13: 48.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 207 ح810 ، الاستبصار 1: 383 ح1453، وعنهما وسائل الشيعة 4: 377، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب14 ح4.
- (4) في ص149 ـ 150.
الحياة من أجزاء الميتة، والوبر ممّا لا تحلّ بلا إشكال.
كما أنّه ليس المراد به هي الطهارة في مقابل النجاسة; للفرق في باب مانعيّة النجاسة بين ما تتمّ الصلاة فيه وحده، وما لا تتمّ، والقلنسوة من الثاني وإن كان جميعها من الوبر على خلاف ما هو ظاهر السؤال، فاللاّزم أن يكون المراد بالذكيّ هو المذكّى المتّصف بكونه من مأكول اللحم.
ويؤيّده رواية علي بن أبي حمزة المتقدّمة(1)، المشتملة على قوله: قلت: أوليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه. بناءً على كون القيد داخلا في معنى الذكيّ، لا معتبراً زائداً على التذكية، وعلى هذا المعنى لا تكون الصحيحة معارضة للموثّقة والمكاتبة.
لكن يبعّد هذا المعنى أنّ الجواب بالحلّية فيما إذا كان الوبر من المأكول ـ مع كون السؤال عن وبر غير المأكول ـ لا يناسب السؤال، خصوصاً مع كون الجواب في الحرير إنّما هو بالنفي، إلاّ أن يقال: إنّ ذكر الأرانب في السؤال مع التصريح بالعموم قبله يشعر بعدم وضوح حكمها للسائل، ولعلّه يحتمل فيها
الكراهة دون الحرمة، فتأمّل.
وكيف كان، فعلى تقدير ظهور الصحيحة في خلاف ما تدلّ عليه الموثّقة والمكاتبة لابدّ من الأخذ بهما دونها; لموافقتهما لفتوى المشهور ومخالفتهما للعامّة، كما عرفت(2).
بقي في هذا المقام اُمور:
- (1) في ص146.
- (2) في ص175.
الأوّل: نقل العلاّمة في محكيّ المختلف عن الشيخ (قدس سره) (1) أنّه خصّ المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول بما إذا كان ما يصلّى فيه ممّا تتمّ الصلاة فيه منفرداً، خلافاً لما اختاره في النهاية(2) من التعميم وعدم الفرق بينه، وبين ما لا تتمّ فيه الصلاة كذلك، واستدلّ على التخصيص بأنّه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب; من جواز الصلاة فيهما وإن كانا نجسين أو من حرير محض، فكذا يجوز لو كانا من وبر الأرانب وغيره(3).
وظاهر كلامه وإن كان هو الاستدلال بالقياس الذي ليس من مذهب الإماميّة وأجمعوا على عدم اعتباره، إلاّ أنّه يجري فيه احتمالان آخران:
أحدهما: أن يكون مراده الاستدلال بالاستقراء، بتقريب: أنّ مراجعة الأدلّة المانعة عن الصلاة في النجس، أو في الحرير المحض الشاملة بإطلاقها لجميع الموارد، ـ بعد قيام القرينة المنفصلة على الاختصاص بما تتمّ فيه الصلاة منفرداً ـ تقتضي الحكم بأنّ مراد الشارع من المطلقات الواردة في غير النجس والحرير هو المقيّد، فلا دلالة لها على المنع في غير ما تتمّ.
والجواب: أنّ الاستقراء لا يكون حجّة ما لم يفد القطع; لافتقار الظنّ إلى قيام الدليل على حجّيته، كما حقّق في محلّه(4)، مع أنّ تحقّقه غير معلوم; لأنّ التفصيل في الميتة غير متحقّق، وفي الحرير محلّ البحث، كما سيأتي(5)
- (1) المبسوط 1: 82 ـ 83 .
- (2) النهاية: 96، 98 و 586 ـ 587.
- (3) مختلف الشيعة 2: 100 ـ 101 مسألة 41.
- (4) فرائد الاُصول 1: 125 ـ 134، كفاية الاُصول: 317 ـ 323، دراسات في الاُصول 2: 400 ـ 405.
- (5) في ص306 وما بعدها.
إن شاء الله تعالى، فأين يتحقّق الاستقراء؟
ثانيهما: أن يكون مراده الاستدلال بما ورد في الحرير، الدالّ على الفرق بينهما في الحكم، الشامل بعمومه للمقام، وهو:
ما رواه الشيخ (قدس سره) في التهذيب، عن كتاب سعد بن عبدالله الأشعري، عن موسى بن الحسن ـ وهو من أكابر أصحاب الحديث من الطبقة الثامنة(1) ـ عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم، والقلنسوة، والخفّ، والزُنّار(2) يكون في السراويل ويصلّي فيه(3).
بناءً على أن يكون قوله (عليه السلام) : «مثل التكّة الإبريسم» كما يكون مثالا لما لا تتمّ الصلاة فيه وحده، كذلك يكون مثالا للمانع، من دون أن يختصّ ذلك بالإبريسم، ففي الحقيقة يكون المراد أنّ كلّ ما يكون مانعاً من الصلاة فيما تتمّ الصلاة فيه من كونه نجساً، أو حريراً محضاً، أو من أجزاء غير المأكول، فهو لا يكون مانعاً بالإضافة إلى ما لا تتمّ، فالرواية تدلّ على قاعدة كلّية وضابطة عامّة.
ويرد على الاستدلال بالرواية أوّلا: أنّها ضعيفة من حيث السند; لاشتماله
- (1) رجال أسانيد أو طبقات رجال كتاب التهذيب للسيّد البروجردي، الموسوعة الرجاليّة 7: 1050.
- (2) الزُنّار والزُنّارة: ما يلبسه الذمّي يشدّه على وسطه، لسان العرب 3: 204.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 357 ح1478، وعنه وسائل الشيعة 4: 376، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب14 ح2.
على أحمد بن هلال، الذي ضعّفه كثير من علماء الرجال(1)، وقد ورد في مذمّته التوقيع من الناحية المقدّسة بقوله ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ : احذروا الصوفيّ المتصنّع إلخ(2)، ولا يقاوم ما ذكر وقوعه في بعض أسانيد تفسير علي بن إبراهيم(3)، الذي التزم مؤلّفه بعدم النقل فيه إلاّ عن المشايخ والثقات من الأصحاب(4); لعدم مقاومة التوثيق العامّ مع الجرح الخاصّ، فضلا عن الجروح المتعدّدة والتضعيفات المتكثّرة، فالرواية من حيث السند غير معتبرة.
وثانياً: أنّها معارضة ـ مضافاً إلى الموثّقة المتقدّمة(5)، الظاهرة بل الصريحة في المنع عن الصلاة فيما إذا كان مع المصلّي بول غير المأكول أو روثه، والقول بالمنع فيه والجواز فيما إذا كان القلنسوة بأجمعها من أجزائه ممّا لا يحتمله أحد، وكيف يحتمل الفرق بين القلنسوة الكذائيّة، وبين ما إذا كان على القلنسوة المصنوعة من أجزاء المأكول وبر من غيره، بجواز الصلاة في الاُولى دون الثانية ـ مع الروايات التي تدلّ بعضها على المنع في خصوص الحرير، وبعضها الآخر عليه في جزء غير المأكول، ولنقتصر منها على روايتين:
إحداهما: واردة في الحرير. والاُخرى في المقام.
- (1) رجال النجاشي: 83 ، الرقم 199، جامع الرواة 1: 74، معجم رجال الحديث 2: 354، الرقم 1005.
- (2) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 535، الرقم 1020، وعنه مستدرك الوسائل 12: 318، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي وما يناسبها ب37 ح14194.
- (3) كما في ج1: 320.
- (4) تفسير القُمّي 1: 4، مقدّمة المصنّف (رحمه الله) .
- (5) في ص175 ـ 176.
أمّا الاُولى: فهي رواية محمد بن عبد الجبّار قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب (عليه السلام) : لا تحلّ الصلاة في حرير محض(1).
وأمّا الثانية: فهي ما رواه علي بن مهزيار قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب، فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقيّة؟ فكتب (عليه السلام) : لا تجوز الصلاة فيها(2).
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مجال لهذا التفصيل، وأنّ المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول عامّ يشمل ما لا تتمّ أيضاً.
الثاني: أنّه لا إشكال في عدم اختصاص المنع عن الصلاة في أجزاء
غير المأكول بالأجزاء التي تحلّها الحياة; للتصريح في الموثّقة وغيرها
بالمنع عن الصلاة في الوبر والشعر وغيرهما من الأجزاء التي لا تحلّها
الحياة، بل بالمنع عن الصلاة في روثه وبوله، مع أنّهما خارجان عن الحياة النباتيّة أيضاً.
كما أنّه لا إشكال في عدم اختصاص المنع بالحيوان الذي كان له جميع المذكورات في الموثّقة; من الوبر والشعر وغيرهما، بحيث لو لم يكن لبعض ما لا يحلّ أكله وبر مثلا لم يكن هنا مانع من الصلاة في أجزائه; ضرورة أنّه
- (1) الكافي 3: 399 ح10، تهذيب الأحكام 2: 207 ح810 و 812 ، الاستبصار 1: 383 ح1453، وص385 ح1462، وعنها وسائل الشيعة 4: 368، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب11 ح2، وص376 ب14 ح1.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 206 ح806 ، الكافي 32: 399 ح9، وعنهما وسائل الشيعة 4: 356، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب7 ح3، وص377 ب14 ح3.
لا دلالة لذكرها في الموثّقة على الانحصار، بل ولا يحتمله العرف الذي هو الحاكم في بيان مفاد الخطابات الشرعيّة.
وكذا لا يختصّ المنع بالحيوان الذي قد يزهق روحه بالتذكية، وقد يزهق بغيرها، كما ربما يمكن أن يتوهّم من قول الإمام (عليه السلام) في الموثّقة: «ذكّاه الذبح أو لم يذكّه»(1); وذلك لظهورها في أنّ المناط مجرّد كونه جزءاً لغير المأكول، وصلاحيّته للتذكية لا دخالة لها في هذا المناط لو لم نقل بعدم ملائمتها له، مع أنّ صلاحيّة التذكية إنّما تتحقّق على القول بأنّ التذكية عبارة عن الاُمور المعروفة بضميمة القابليّة المتحقّقة في بعض الحيوانات، وهو غير ثابت، بل الظاهر أنّها عبارة عن نفس تلك الاُمور، ولا فرق بين الحيوانات من هذه الجهة، والتحقيق في محلّه(2).
الثالث: هل المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول يختصّ بما إذا كان له نفس سائلة، أو يعمّ ما لا نفس له أيضاً؟ وجهان: ظاهر الفتاوى هو الثاني(3)، حيث لم يتعرّضوا للاختصاص، مع كون ما لا نفس له أيضاً مورداً للابتلاء، كالحيتان المحرّمة، خصوصاً مع التعرّض له في مسألة النجاسة(4)، وكذا في مسألة الميتة وإن كانت مورداً للاختلاف على ما تقدّم(5)، ويدلّ على التعميم
- (1) تقدّمت في ص176.
- (2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصيد والذباحة: 359 ـ 388.
- (3) كشف اللثام 3: 211، جواهر الكلام 8 : 110، العروة الوثقى: 400، الأمر الرابع، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 175.
- (4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 55 ـ 59.
- (5) في ص146 ـ 149.
إطلاق موثّقة ابن بكير(1)، التي هي الأصل في هذا المانع. ودعوى انصرافها إلى خصوص ما له نفس، خالية عن الشاهد(2).
نعم، ربما يناقش في الإطلاق من جهة اُخرى مذكورة في المستمسك بقوله: وفيه: أنّ الإطلاق الذي يصحّ الاعتماد عليه غير متحصّل; إذ العمدة في
النصوص الموثّق، وما في ذيله من قوله (عليه السلام) : «ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» يصلح قرينة على اختصاصه بما له نفس; لاختصاصه بتذكية الذبح.
واحتمال كون المراد التعميم لغير ذي النفس ـ يعني سواء كانت تذكيته بالذبح أم بغيره ـ مندفع بأنّ الظاهر من مقابلة هذه الفقرة بما قبلها من قوله (عليه السلام) : «إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح» أن يكون المراد: ذبح أم لم يذبح، فظهور اختصاص هذه الفقرة بما يكون ذكاته بالذبح لا ينبغي أن ينكر، فلا يصلح ما قبلها لإثبات عموم الحكم(3).
ويدفع هذه المناقشة وضوح كون الذبح المأخوذ في ناحية المأكول مذكوراً بعنوان المثال; ضرورة جواز الصلاة في المأكول المذكّى بالنحر أو بغيره، كإخراجه من الماء حيّاً، وموته خارج الماء، وقرينة المقابلة تقتضي أن يكون المراد بالذبح في قوله (عليه السلام) : «ذكّاه الذبح أم لم يذكّه» أيضاً كذلك، فالمراد من هذا القول هو ذكّي أم لم يذكّ.
والوجه في اختيار الذبح بعنوان المثال إنّما هو غلبة كون التذكية به وكونه
- (1) تقدّم في ص175 ـ 176.
- (2) كما في المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 175 ـ 176.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 311 ـ 312.
مورداً للابتلاء، فإطلاق الموثّقة باق على حاله، وليس فيها ما يوجب التزلزل فيه أصلا.
ويؤيّد التعميم استثناء الخزّ ممّا لا يؤكل لحمه، مع أنّه من الحيوانات البحريّة التي ليس لها نفس سائلة; لما نقله الشهيد الثاني (قدس سره) (1) من أنّ الحيوانات المائيّة كلّها ممّا لا نفس لها إلاّ التمساح، فاستثناء الخزّ دليل على شمول المستثنى منه لما لا نفس له أيضاً; لظهوره في كونه على سبيل الاستثناء
المتصل، فالإنصاف أنّه لا مجال للتشكيك في التعميم.
الرابع: هل المنع المذكور يختصّ بذوات اللحم من غير المأكول، أو يشمل ما لا لحم له أصلا، كالبقّ والقمّل والذباب والبرغوث ونحوها؟ وجهان: من ثبوت الإطلاق في الموثّقة المتقدّمة وعدمه(2).
ودعوى أنّه لا إطلاق لها; لقوله (عليه السلام) فيها: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه»; فإنّه يصلح قرينة على اختصاص قوله (عليه السلام) : «حرام أكله»، وقوله (عليه السلام) : «ممّا قد نهيت عن أكله» بما كان له لحم(3).
مدفوعة بأنّ الموثّقة متضمّنة لنقل كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) على ما في كتابه، ولكلام الإمام (عليه السلام) عقيبه بصورة التفريع بكلمة فاء التفريعيّة، ومن المعلوم ثبوت الإطلاق في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في كلتا الجهتين: المأكول، وغيره.
- (1) لم نعثر عليه في كتب الشهيد الثاني عاجلاً، لكن حكى عن الشهيد في العروة الوثقى 1: 41 مسألة 164، وكتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني الكاظمي 1: 238.
- (2) في ص175 ـ 176.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 312.
ومفاده أنّ المناط في إحدى الجهتين حرمة أكل الحيوان; سواء كان ذا لحم، أم لم يكن. وفي الجهة الاُخرى حلّيته كذلك، ولا وجه لتقييده بالأوّل بعد تعارف أكل الثاني أيضاً، كما في الجراد وغيره.
وأمّا كلام الإمام (عليه السلام) ، فقد تضمّن ذكر اللحم في خصوص محلّل الأكل، وهو لا يصلح لرفع اليد عن الإطلاق ولا يوجب تقييده; لعدم وجود قرينة على كون بيان الإمام (عليه السلام) ناظراً إلى جميع ما تضمّنه كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والتفريع لا يستلزم ذلك، خصوصاً مع عدم التعرّض فيما هو محلّ الكلام لذكر اللحم، فالإطلاق من هذه الناحية لا مجال للمناقشة فيه، بل من الناحية الاُخرى أيضاً، وذكر اللحم إنّما هو لأجل الغلبة لا للاختصاص.
ومن وضوح جواز الصلاة في موارد كثيرة ممّا لا لحم له، والالتزام بكون الجواز فيها على خلاف القاعدة مشكل جدّاً، فقد قامت السيرة القطعيّة(1)على الصلاة في القمّل ونحوه من هوامّ البدن، وعلى عدم الاجتناب فيها عن دم البقّ والبرغوث، وعلى عدم المواظبة على أن لا يجلس عليه الذباب في حال الصلاة، وعلى عدم الاجتناب فيها عن العسل، مع أنّه جزء من حيوان غير مأكول ليس له لحم.
وقد دلّ الدليل على جواز صلاة الرجال في الحرير الممتزج(2)،
- (1) جواهر الكلام 8: 104 و 111، مصباح الفقيه 10: 233، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 92، مستمسك العروة الوثقى 5: 299، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 176، شرح مسألة 1282.
- (2) وسائل الشيعة 4: 373 ـ 375، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب13.
والنساء فيه وإن كان خالصاً(1)، مع أنّه هو الإبريسم الذي يكون جزءاً
من حيوانه. ومن المعلوم أنّه لا فرق في المقام بين الرجل والمرأة، كما أنّه
لا فرق فيه بين الخالص والممتزج، وقد ورد في بعض الاُمور المذكورة
النصّ أيضاً.
ففي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، وإن كثر إلخ(2).
وفي صحيحة علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الصلاة في القرمز، وأنّ أصحابنا يتوقّفون عن الصلاة فيه، فكتب: لا بأس به، مطلق والحمد لله. وقال الصدوق بعد نقل الرواية: وذلك إذا لم يكن القرمز من إبريسم محض، والذي نهي عنه ما كان من إبريسم محض(3).
وبالجملة: فالالتزام بأنّ الجواز في مثل الاُمور المذكورة إنّما هو لقيام الدليل على خلاف القاعدة في غاية الإشكال، فالإنصاف عدم كون الحكم ثابتاً بنحو الإطلاق من الأوّل، وأنّ الحكم يختصّ بذوات اللحم من غير المأكول.
الخامس: لا إشكال في جواز الصلاة مع الفضلات الطاهرة من الإنسان فيما إذا كان لنفس المصلّي، كشعره المنفصل عنه، وظفره وسنّه ولعابه كذلك،
- (1) وسائل الشيعة 4: 379 ـ 380، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب16.
- (2) الكافي 3: 59 ح8 ، تهذيب الأحكام 1: 259 ح753، وعنهما وسائل الشيعة 3: 431، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب20 ح7.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 363 ح1502، الفقيه 1: 171 ح806 ، وعنهما وسائل الشيعة 4: 375، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب13 ح7، وص435 ب44 ح1.
إمّا لثبوت الانصراف في مثل الموثّقة(1) من الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، بدعوى أنّ موضوعها الحيوان وهو يغاير الإنسان عرفاً وإن كان نوعاً منه عقلا.
وإمّا للسيرة القطعيّة(2) القائمة على عدم اجتناب المصلّي عن أجزاء نفسه المنفصلة عنه.
وإمّا لما رواه الصدوق بإسناده عن عليّ بن الريان بن الصلت أنّه سأل أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره، ثمّ يقوم إلى الصلاة من غير أن ينفضه من ثوبه؟ فقال: لا بأس(3).
وبالجملة: فالإشكال في هذا الفرض ممّا ليس له مجال.
وأمّا إذا كان من غير المصلّي، فالظاهر فيه الجواز أيضاً; لجريان الانصراف المذكور فيه، وثبوت السيرة على مباشرة النساء لفضلات الأطفال بالرضاع وغيره، والصلاة في الثوب المستعار مع عدم انفكاكه غالباً من عرق لابسه أو لعابه ونحوه، خصوصاً في الصيف، والروايات الواردة في موارد مختلفة، الدالّة على عدم البأس.
مثل ما ورد في البزاق يصيب الثوب، قال: لا بأس به(4).
بناءً على اقتضاء إطلاقه للشمول لبزاق الغير أيضاً.
- (1) تقدّمت في ص175 ـ 176.
- (2) جواهر الكلام 8 : 113 ـ 116، مستمسك العروة الوثقى 5: 314، المستند في الشرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 178 شرح مسألة 1283.
- (3) الفقيه 1: 172 ح812 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 382، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب18 ح1.
- (4) قرب الإسناد: 86 ح282، وعنه وسائل الشيعة 3: 427، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب17 ح6.
وما دلّ على أنّه لا بأس أن تحمل المرأة صبيّها وهي تصلّي، أو ترضعه وهي تتشهّد(1).
وما دلّ على جواز أخذ سنّ الميّت وجعله مكان سنّه(2).
وما ورد في القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهنّ يصلنه بشعورهنّ; من أنّه لا بأس به على المرأة بما تزيّنت به لزوجها(3).
وفي خبر آخر: يكره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها(4).
وفي ثالث: إن كان صوفاً فلا بأس، وإن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة والموصولة(5).
والعمدة في الروايات ما رواه الشيخ (قدس سره) بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن الريان، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) : هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان وأظفاره من قبل أن ينفضه ويلقيه
عنه؟ فوقّع: يجوز(6).
- (1) تهذيب الأحكام 2: 330 ح1355، وعنه وسائل الشيعة 7: 280، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة ب24 ح1.
- (2) مكارم الأخلاق 1: 214 ح636، وعنه وسائل الشيعة 4: 417، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب31 ح4.
- (3) الكافي 5: 119 و 520 ح3 و 4، المحاسن 1: 204 ح354، تهذيب الأحكام 6: 360 ح1032، وعنها وسائل الشيعة 20: 188، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب101 ح2.
- (4) الكافي 5: 520 ح3، وعنهوسائل الشيعة 20: 187، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاحوآدابه ب101ح1.
- (5) تهذيب الأحكام 6: 361 ح1036، وعنه وسائل الشيعة 17: 132، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب19 ح5.
- (6) تهذيب الأحكام 2: 367 ح1526، وعنه وسائل الشيعة 4: 382، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب18 ح2.
حيث إنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين المصلّي وغيره من سائر أفراد الإنسان.
ولكن حيث إنّ الظاهر اتّحاد هذه الرواية مع الرواية المتقدّمة التي رواها الصدوق; بمعنى عدم كون السؤال والجواب متعدّداً، بل الظاهر أنّ علي بن الريان سأل عن حكم المسألة مرّة واحدة واُجيب بجواب واحد، وحينئذ فيشكل التعميم لما إذا كان مع المصلّي شعر غيره; لأنّه لا يعلم أنّ الحكم بالجواز كان جواباً عن السؤال بهذا النحو; لاحتمال كونه جواباً عن السؤال بالنحو الآخر المتضمّن لما إذا كان مع المصلّي شعر نفسه أو ظفره، ولكن في بقيّة الأدلّة خصوصاً الانصراف كفاية.
بقي الكلام في الفرع الذي ذكره في الجواهر وحكم فيه بالمنع مع تسليم الانصراف، وهو: ما لو عمل من شعر الإنسان ما يصدق عليه اللباس عرفاً، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين شعر المصلّي وغيره، وقد ذكر في وجهه: أنّ المنع ليس لأجل وجود المانع، بل لانتفاء الشرط; لاعتبار المأكوليّة
فيما يصلّى فيه(1).
ويرد عليه ـ بعد توضيحه بأنّ المراد من اعتبار المأكوليّة هو اعتبارها فيما إذا كان اللباس من أجزاء الحيوان; ضرورة أنّه لا مانع من الصلاة في غير أجزاء الحيوان، كاللباس المأخوذ من القطن مثلا ـ : ظهور الأدلّة في المانعيّة، كما مرّت(2) الإشارة إليه وسيمرّ عليك تفصيلا، ولا يكاد تجتمع المانعيّة مع
- (1) جواهر الكلام 8 : 115 ـ 116.
- (2) في ص145 ـ 146.
الشرطيّة بحيث كان هناك اعتباران وجعلان من الشارع; للزوم اللغويّة وعدم الفائدة في أحد الاعتبارين، مع أنّه على تقدير تسليم إمكان الاجتماع ودلالة الدليل على تحقّقه، لا وجه للتفكيك بين الأمرين من جهة الانصراف.
فإنّه إذا كان المراد من الحيوان في ناحية غير المأكول هو ما عدا الإنسان، يكون المراد من الحيوان في ناحية المأكول أيضاً ذلك; بمعنى أنّ الإنسان خارج عن المقسم رأساً، فعلى تقدير اشتراط المأكوليّة أيضاً لا مانع من الصلاة في أجزاء الإنسان، إلاّ أن يكون مراده اشتراط المأكوليّة مطلقاً، لا في خصوص ما إذا كان من أجزاء الحيوان، ويدفعه حينئذ الضرورة على خلافه; لجواز الصلاة في مثل القطن على ما عرفت(1).
وكيف كان، فالظاهر جواز الصلاة في هذه الصورة أيضاً(2).
- (1) في ص95 ـ 97.
- (2) هذا تمام الكلام في هذا الجزء، وكان الفراغ عنه في اليوم الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1398 من الهجرة النبويّة على هاجرها آلاف الثناء والتحيّة، ونسأل من الله التوفيق لإتمام باقي الأجزاء; فإنّه وليّ التوفيق.
قم ـ الحوزة العلميّة
محمّد الفاضل اللنكراني عفي عنه
[في
اللباس المشكوك
]نعم، لو شكّ في اللباس أو فيما عليه في أنّه من المأكول أو غيره، أو من الحيوان أو غيره، صحّت الصلاة فيه، بخلاف ما لو شكّ فيما تحلّه الحياة من الحيوان أنّه مذكّى أو ميتة; فإنّه لا يصلّى فيه حتّى يُحرز التذكية. نعم، ما يؤخذ من يد المسلم، أو سوق المسلمين مع عدم العلم بسبق يد الكافر عليه، أو مع سبق يده مع احتمال أنّ المسلم الذي بيده تفحّص عن حاله بشرط معاملته معه معاملة المذكّى، على الأحوط محكوم بالتذكية، فتجوز الصلاة فيه 1 .
1 ـ أقول: تقدّم(1) البحث في مشكوك التذكية في ذيل البحث عن اعتبارها، وكذا تقدّم(2) الكلام في اعتبار يد المسلم وسوق المسلمين هناك، فالمهمّ الآن هو البحث عن المشكوك في أنّه من غير المأكول، الذي اشتهر التعبير عنه باللباس المشكوك، وقد صار معركة للبحث والنظر، واُلّف فيه الرسائل والكتب; لشدّة الابتلاء به من جهة تداول الألبسة المصنوعة في
البلاد غير الإسلاميّة، المحمولة منها إلى البلاد الإسلاميّة، فاللاّزم هو البحث فيه تفصيلاً، اقتداءً بهم واقتفاءً لأثرهم، ولاشتماله على المباحث العلميّة المتكثّرة، فنقول وعلى الله الاتكال:
ينبغي قبل بيان الأدلّة والنظر فيها تقديم اُمور:
الأوّل: أنّه لم يرد في هذه المسألة نصّ بالخصوص عن الأئـمّة (عليهم السلام) ، وفتاوى الأصحاب ليس على نحو يكشف عن وجوده; لأنّ أكثر المتقدّمين
- (1) في ص150 ـ 156.
- (2) في ص156 ـ 174.
لم يتعرّضوا لها في كتبهم على الظاهر، وعلى تقدير التعرّض فقد ذكرت في الكتب الموضوعة لإيراد المسائل التفريعيّة، لا الكتب المعدّة لنقل فتاويهم (عليهم السلام) بعين الألفاظ الصادرة عنهم، حتّى يكون ذكرها فيها كاشفاً عن وجود النصّ، كما هو الشأن في المسائل المذكورة فيها.
ويؤيّد ما ذكر أنّه لم يتخيّل أحد من أصحاب الأقوال وجود النصّ فيها حتّى يجعله دليلاً لمذهبه، أو يردّ به دليل خصمه، فالمستند في المسألة إنّما هو الاُصول والقواعد الشرعيّة.
الثاني: أنّه لا اختصاص لمورد النزاع بما يشكّ كونه من أجزاء الحيوان المأكول، أو من أجزاء غيره، بل يعمّ ما إذا احتمل كونه من غير أجزاء الحيوان، بل من القطن والكتان; لأنّ ما هو محطّ البحث إنّما هو احتمال كونه من أجزاء غير المأكول، وسيأتي في نقل الأقوال قول بالتفصيل بين الفرضين.
الثالث: الظاهر أنّه لا اختصاص لمورد البحث أيضاً بما إذا شكّ في ثبوت هذا المانع، بل يعمّ ما إذا شكّ في ثبوت سائر الموانع، ككونه حريراً محضاً للرجال، أو ذهباً خالصاً لهم، أو غيرهما من الموانع. نعم، في خصوص الميتة والشكّ فيها حكم تقدّم تفصيله(1).
الرابع: أنّ المراد من جواز الصلاة في اللباس المشكوك وعدمه هو الجواز الذي يكون حكماً ظاهريّاً ثابتاً في مورد الشبهة، والشكّ في الحكم الواقعي، كما في سائر الشبهات الموضوعيّة التي تكون أحكامها الواقعيّة الثابتة لموضوعاتها متيقّنة غير مشكوكة، فالبحث في المقام إنّما هو بعد الفراغ عن
- (1) في ص142 ـ 174.
ثبوت المانعيّة لأجزاء غير المأكول واقعاً وإن لم يعلم بكونها أجزاءً له.
فالاستدلال للجواز بعدم دلالة أدلّة المانعيّة على ثبوتها في صورة الشكّ ـ لظهورها أو انصرافها إلى خصوص صورة العلم، بحيث كان العلم بالموضوع دخيلاً في ثبوت الحكم الواقعي ـ خارج عمّا هو محطّ البحث، فالمراد من الحكم في المقام هو الحكم الظاهريّ الثابت في موارد الشبهة، بحيث لو قلنا بالجواز ثمّ انكشف الخلاف لكان الإجزاء وعدمه مبتنياً على مسألة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كما لا يخفى.
وأيضاً المراد بالجواز في المقام هو الجواز بالمعنى الوضعيّ المساوق للصحّة والاكتفاء به في مقام الامتثال، لا الجواز بمعنى الحلّية في مقابل الحرمة، كما أنّ المراد بعدم الجواز هو عدمه بالمعنى المساوق للبطلان، وعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال.
الخامس: المشهور بين الأصحاب(1) إلى زمان المقدّس الورع الأردبيلي (قدس سره) هو البطلان، وأوّل من تأمّل فيه المقدّس المذكور في شرح الإرشاد(2)، وتبعه
على ذلك تلميذه السيّد صاحب المدارك(3)، وقد اختار الصحّة المحقّق القمّي، والفاضل النراقي، وشيخنا البهائي، والمحدِّث المجلسي، والمحقّق الخوانساري،
- (1) الرسالة الفشاركيّة: 386، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 7، مستمسك العروة الوثقى 5: 326 ـ 327، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 202 ـ 203، وفي مدارك الأحكام 4: 214، أنّه مقطوع به عند الأصحاب، ويلاحظ مفتاح الكرامة 5: 489 ـ 490، وجواهر الكلام 8 : 130 ـ 131.
- (2) مجمع الفائدة والبرهان 2: 95 ـ 96.
- (3) مدارك الأحكام 3: 167، وج4: 214.
والفاضل السبزواري، إلى أن انتهى الأمر إلى السيّد المجدّد الشيرازي (قدس سره) (1)، فاختار الصحّة في أواخر عمره، وشيّد أركانها وانقلبت الشهرة(2) إليها.
وفصّل في الجواهر بين اللباس، وبين ماعليه من الفضلات والشعرات الملقاة والمحمول، فحكم بالمنع في الأوّل دون الثاني، بعد كون مختاره بالنظر إلى الحكم الواقعي هو عموم المنع، وعدم الاختصاص باللباس، واختاره في نجاة العباد أيضاً(3).
وهنا تفصيل آخر محكيّ عن جماعة من المتأخّرين عنه(4); وهو المنع فيما إذا كان من أجزاء الحيوان وتردّد بين المأكول وغيره، والجواز فيما إذا احتمل كونه من غير أجزاء الحيوان أيضاً، كما إذا احتمل كونه من القطن والكتّان، وقد أشرنا إلى هذا التفصيل في الأمر الثاني، فالأقوال في المسألة أربعة على ما عرفت.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) ابتناء القول بالجواز في المسألة على مانعيّة غير المأكول، والقول بالعدم على شرطيّة المأكول، والأصل في هذا الأمر ما ذكره العلاّمة في محكّي المنتهى من أنّه
- (1) جامع الشتات 2: 776 س22 (ط.ق)، معتمد الشيعة: 123، مستند الشيعة 4: 315 ـ 317، الحبل المتين 2: 195، بحار الأنوار 83 : 221 ـ 222، الحواشي على شرح اللمعة الدمشقيّة: 187 س21، ذخيرة المعاد: 234 س20، الحاشية على نجاة العباد في يوم المعاد: 80 س17 طبع 1313، وراجع تقريرات المجدّد الشيرازي 4: 101 ـ 102، وحكى عن المجدّد الشيرازي في رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 7.
- (2) كما في رسالة الصلاة في المشكوك، للمحقّق النائيني: 7، ومستمسك العروة الوثقى 5: 326 ـ 327.
- (3) جواهر الكلام 8 : 130 ـ 136، نجاة العباد: 91.
- (4) حكى عنهم في رسالة الصلاة في المشكوك، للمحقّق النائيني: 8 .
لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر من مأكول اللحم لم تجز الصلاة فيه; لأنّها مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه، والشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط(1).
وقد أورد عليه صاحب المدارك بما حاصله: أنّ المستفاد من الأدلّة هو مانعيّة غير المأكول، لا شرطيّة المأكول(2).
وأجاب عن هذا الإيراد الوحيد البهبهاني (قدس سره) في حاشية المدارك بما يرجع إلى أنّه لا فرق بين الشرطيّة والمانعيّة في المقام من جهة اقتضاء البطلان; لأنّه كما أنّ وجود الأوّل يحتاج إلى الإحراز، فكذا عدم الثاني; لأنّه مع الشكّ فيه لا يتحقّق القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال(3).
وأورد على هذا الجواب صاحب الجواهر (قدس سره) بأنّ عدم المانع يمكن إحرازه بالأصل ولو لم يكن له حالة سابقة، والظاهر أنّ مراده أنّ أصالة العدم أصل عقلائيّ مستقلّ في مقابل الاستصحاب، ولا يحتاج إلى حالة سابقة متيقّنة.
ثمّ اختار نفسه أنّ المستفاد من الأدلّة ثبوت كلا الأمرين في المقام: المانعيّة والشرطيّة معاً، غاية الأمر اختصاص الشرطيّة بخصوص اللباس، وعموميّة دائرة المانعيّة لما على اللباس والمحمول أيضاً، فاللباس محلّ اجتماع الشرطيّة والمانعيّة معاً، ولذا اختار فيه عدم الجواز في صورة الشكّ. وأمّا غيره، فحكم فيه بالجواز لثبوت المانعيّة فقط، وعدم المانع محرز بالأصل(4).
- (1) منتهى المطلب 4: 236.
- (2) مدارك الأحكام 3: 167، وج4: 214.
- (3) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 353، وج3: 277، وكذا في مصابيح الظلام 6: 289 ـ 291.
- (4) جواهر الكلام 8 : 132 ـ 136.
والتحقيق في هذا الباب يقتضي البحث من جهات:
الجهة الاُولى: في أنّ المستفاد من الأدلّة المانعة عن الصلاة في غير المأكول هل هي المانعيّة، أو الشرطيّة، أو هما معاً؟ فنقول:
أمّا ما يستفاد منه المانعيّة فعدّة تعبيرات واقعة في تلك الأدلّة:
منها: التعبير بفساد الصلاة في أجزاء غير المأكول، كما في موثقة ابن بكير، حيث إنّه وقع التعبير فيها في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله: فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسد، وفي كلام الإمام (عليه السلام) بقوله: وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة... (1); فإنّ معنى الفساد يرجع إلى عدم تحقّق المأمور به، وعدم انطباقه على ما أتى به بقصد حصوله، وترتّب الأثر المترقّب منه، فهو أمر عدميّ مستند إلى أمر وجوديّ; وهي ظرفيّة أجزاء غير المأكول للصلاة; ضرورة أنّ الظرفيّة أمر متحقّق.
ومن الواضح: أنّ استناد العدم إلى أمر وجوديّ لا ينطبق إلاّ على المانع; لأنّه هو الذي بوجوده يمنع عن تحقّق المأمور به، فالتعبير بالفساد مستنداً إلى الظرفيّة التي هي أمر وجوديّ لا يجتمع إلاّ مع المانعيّة.
ومنها: التعبير بعدم جواز الصلاة فيه، كما في مكاتبة إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة، فكتب: لا تجوز الصلاة فيه(2).
- (1) تقدّمت في ص175 ـ 176.
- (2) تقدّمت في ص181.
فإنّ معنى عدم الجواز ـ بعد كون المراد منه هو عدم الجواز وضعاً لا تكليفاً ـ هو عدم الصحّة. ومن الظاهر أنّ المؤثّر فيه هو ثبوت الظرفيّة للصلاة بالإضافة إلى غير المأكول، فالأمر الوجودي صار موجباً للعدم، وهو شأن المانع كما عرفت.
ومنها: التعبير بالنهي عن الصلاة فيه، كما فيما رواه الصدوق بإسناده، عن حماد بن عمرو، وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) قال: يا عليّ لا تصلِّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه(1).
فإنّ النهي في مثله إنّما هو للإرشاد إلى المانعيّة، كما أنّ الأمر فيه للإرشاد إلى الجزئيّة والشرطيّة، والسرّ أنّ النهي إنّما هو للزجر عن الوجود، وهو لا يجتمع إلاّ مع المانعيّة، والأمر إنّما هو للبعث إلى الإيجاد، وهو لا يلائم إلاّ مع الشرطيّة أو الجزئيّة.
فانقدح ظهور هذه التعبيرات في المانعيّة، كما هو ظاهر المشهور(2) في هذا المقام.
وأمّا ما استند إليه للشرطيّة فروايات، أظهرها روايتان:
إحداهما: موثقة ابن بكير(3) بلحاظ قوله (صلى الله عليه وآله) فيها: «لا تقبل تلك الصلاة
- (1) الفقيه 4: 265 ح824 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 346، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب2 ح6.
- (2) اُنظر مصباح الفقيه 10: 248، ورسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 120، ومستمسك العروة الوثقى 5: 332، والمستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 224.
- (3) تقدّمت في ص175 ـ 176.
حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله»; لظهوره في إناطة القبول
ـ الذي هو بمعنى الصحّة ـ بوقوع ظرفيّة وجوده، وهي الصلاة فيما أحلَّ الله أكله. ومن المعلوم أنّ تعليق الصحّة على أمر وجوديّ ظاهر في شرطيّة ذلك الأمر الوجودي.
وأظهر منه التعليق الواقع في كلام الإمام (عليه السلام) تفريعاً على كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله (عليه السلام) : «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح...»; فإنّ تعليق الجواز المساوق للصحّة على تحقّق الظرفيّة الوجوديّة، ووقوع الصلاة في أجزاء المأكول بصورة القضيّة الشرطيّة ظاهر جدّاً في مدخليّة الشرط في ترتّب الجزاء، وشرطيّة تلك الظرفيّة للجواز والصحّة، كما لا يخفى.
فالموثّقة بلحاظ التعبيرين ظاهرة الدلالة على الشرطيّة.
وقد نوقش في هذا الاستدلال بوجهين:
أحدهما: ما أفاده في المستمسك من أنّ الظاهر من قوله (صلى الله عليه وآله) : «لا تقبل تلك...» أنّه خبر للصلاة بعد خبر، ويكون بياناً لمضمون الخبر الأوّل; أعني قوله (صلى الله عليه وآله) : «فاسدة» بقرينة كون موضوعه اسم الإشارة، الراجع إلى الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، فكأنّه قال (صلى الله عليه وآله) : الصلاة فيما لا يؤكل لحمه فاسدة غير مقبولة، وأين هو من الدلالة على الشرطيّة، وإنّما تتمّ الدلالة لو قيل ابتداء: لا تقبل الصلاة إلاّ فيما يؤكل لحمه. وحينئذ يكون الظاهر من قوله (صلى الله عليه وآله) : «حتّى يصلّي في غيره» أنّ الوجه في القبول انتفاء المانع.
وأمّا قول الإمام (عليه السلام) في الذيل: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه...» فالظاهر أنّه
إنّما سيق تمهيداً لبيان اعتبار التذكية وإناطة الجواز بها، فيكون شرطاً لإناطة الجواز بالتذكية، لا شرطاً للجواز كالتذكية، ويكون مقيّداً للإطلاق المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله) : «حتّى يصلّي في غيره»، فهو أجنبيّ عن الدلالة على الشرطيّة(1).
أقول: أمّا ما أفاده بالإضافة إلى الذيل المشتمل على كلام الإمام (عليه السلام) فهو تامّ لا خدشة فيه; لظهوره في أنّه لم يكن غرض الإمام (عليه السلام) مجرّد تكرار كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو توضيحه بأمر لا حاجة إلى التوضيح به، بل غرضه بيان الحكم وتفسير مراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ الحكم بالجواز فيما يحلّ له قيد آخر وهو التذكية، والحكم بعدم الجواز فيما لا يحلّ عامّ ثابت لصورة التذكية وعدمها.
فالذيل إنّما هو مسوق لإفادة إناطة الجواز بالتذكية التي لا يستفاد من كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لإطلاقه، كما أنّه مسوق لإثبات الإطلاق في ناحية غير المأكول.
وأمّا ما أفاده بالإضافة إلى الصدر، فيمكن المناقشة فيه بأنّ جعل الغاية هي الصلاة في غيره، مع التصريح بقوله (صلى الله عليه وآله) : «ممّا أحلّ الله أكله» ظاهر في الشرطيّة; ضرورة أنّه بدونه لم تكن حاجة إلى التصريح بهذا القول، خصوصاً مع كونه موهماً للخلاف. وأمّا كون الموضوع اسم الإشارة، الراجع إلى الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، فلا دلالة له على المانعيّة; ضرورة أنّ تلك الصلاة مع وصف كونها واقعة فيما لا يؤكل لا يمكن أن تقع صحيحة، من دون فرق بين المانعيّة والشرطيّة.
فاللاّزم الالتزام بكون مرجع الضمير هي الصلاة التي أراد المكلّف إتيانها
- (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 330 ـ 331.
في الخارج امتثالاً للأمر المتعلّق بها، وعليه: فلا فرق بين هذا التعبير، وبين التعبير الذي اعترف بدلالته على الشرطيّة، فتدبّر.
ثانيهما: ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) على ما في تقريرات بحث صلاته; من أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) في الموثقة: «لا تقبل تلك الصلاة...» مسوق لبيان حكم تأسيسيّ; وهو عدم الإجزاء إذا وقعت الصلاة في غير المأكول نسياناً أو جهلاً; نظراً إلى أنّ المشهور أفتوا بذلك في النسيان، مع أنّ حديث «لا تعاد»(1) يقتضي الصحّة; وليس لهم دليل ظاهر إلاّ هذا القول في الموثّقة.
ووجه دلالته عليه ـ مضافاً إلى أنّ التأسيس خير من التأكيد ـ : كلمة «تلك» الواقعة فيه; لأنّ الظاهر كونها إشارة إلى الصلاة الواقعة في الخارج في غير المأكول، خصوصاً بقرينة قوله (صلى الله عليه وآله) : «حتّى يصلّي في غيره»; إذ لو لم تكن صلاة في الخارج لما كان للتعبير بالإشارة وجه، ولما كان الحكم بعدم القبول مغيّى بوقوعها في غير المأكول، بل الحكم بعدم القبول أبدي ما لم ينسخ.
فالتعبير بـ «تلك»، وجعل الوقوع في غير المأكول غايةً لعدم القبول، قرينتان على أنّه (عليه السلام) في مقام بيان حكم آخر; وهو عدم إجزاء ما وقع في غير المأكول، فالعموم المستفاد من حديث «لا تعاد» مخصّص بصورة النسيان في المقام(2).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ تفسير الرواية بذلك مخالف لما هو ظاهرها ـ : أنّ فرض وقوع الصلاة في أجزاء غير المأكول نسياناً أو جهلاً، إنّما يصحّ
- (1) تقدّم في ص83 ، 87 ، 104 و 132.
- (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 167 ـ 168.
لو كان دليل المانعيّة واقعاً قبل ذلك، بحيث كانت المانعيّة معلومة للمكلّف، مبيّنة في برهة من الزمان، وقد وقع التخلّف بعده للنسيان أو الجهل. أمّا لو كان دليل المانعيّة متّصلاً بهذا، ولم يقع بينهما فصل زمانيّ، لا مجال لهذا الفرض أصلاً، كما لا يخفى.
مع أنّ الصلاة في المأكول لا تصحّ أن تجعل غاية لعدم القبول للصلاة في غيره; لأنّها على هذا التقدير فاسدة مطلقاً; سواء أتى بصلاة صحيحة أم لا، فالإنصاف أنّ هذا التفسير ممّا لا يمكن الالتزام به، بل الظاهر أنّ هذا القول بيان للخبر الأوّل، غاية الأمر أنّ تفسير الصلاة في الغير بالصلاة فيما أحلّ الله أكله، مشعر بل ظاهر في الشرطيّة، كما عرفت.
ثانيتهما: رواية علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبدالله وأبا الحسن (عليهما السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصلِّ فيها إلاّ فيما كان منه ذكيّاً. قال: قلت: أوليس الذكيّ ممّا (ما ـ ظ) ذكّي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه، قلت: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال: لا بأس بالسنجاب; فإنّه
دابّة لا تأكل اللحم، وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب(1).
وتقريب دلالتها على الشرطيّة بوجهين:
أحدهما: أن يقال: إنّ قوله (عليه السلام) في ذيل الجواب الثاني: «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» راجع إلى الجواب الأوّل، ويكون تتمّة له حقيقة، غاية الأمر أنّ
- (1) الكافي 3: 397 ح3، تهذيب الأحكام 2: 203 ح797، وعنهما وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح3.
مبادرة الراوي إلى السؤال الثاني، وعدم إمهاله الإمام (عليه السلام) لإتمام الجواب الأوّل، أوجب وقوعه عقيب الجواب الثاني، الذي هي كلمة «بلى» فقط. وعليه: فكما أنّ الجواب الأوّل ظاهر في اشتراط التذكية التي هي أمر وجوديّ، كذلك ظاهر في اشتراط المأكوليّة; لعدم الفرق بينها، وبين التذكية من هذه الجهة.
ثانيهما: أن يقال: إنّ ذلك القول تتمّة للجواب الثاني وظاهر في اعتبار المأكوليّة في مفهوم التذكية، كاعتبار كونها بالحديد. وعليه: فكلّما له دخل في حقيقة التذكية تكون دخالته في الصلاة بنحو الشرطيّة; لأنّ مدخليّة التذكية تكون بهذه الصورة على ما دلّ عليه صدر الرواية.
ويرد على الوجه الأوّل: وضوح كونه مخالفاً للظاهر; لأنّ الظاهر كونه تتمّة للجواب الثاني، مضافاً إلى أنّه على تقدير كونه مرتبطاً بالجواب الأوّل، لكان اللاّزم ذكر كلمة العطف بدل «إذا»، كما لا يخفى.
وعلى الوجه الثاني: أنّ لازمه عدم جريان التذكية في غير ما يحلّ أكل لحمه بوجه، مع أنّه مخالف للفتاوى(1) والنصوص(2) الدالّة على ثبوت القابليّة في غيره أيضاً، اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المراد هو مدخليّة المأكوليّة في التذكية التي يترتّب عليها جواز الصلاة. وأمّا سائر الآثار، فلا دخل لها فيما تترتّب عليه، ولكنّه أيضاً ارتكاب خلاف الظاهر، مضافاً إلى أنّ المأكوليّة قد تكفي
- (1) الخلاف 1: 63 ـ 65 مسألة 11، المعتبر 1: 466، تذكرة الفقهاء 2: 237 مسألة 330، ذخيرة المعاد: 175 س4، رياض المسائل 2: 428، مستند الشيعة 1: 357 ـ 358، جواهر الكلام 6: 544 ـ 545.
- (2) وسائل الشيعة 4: 352، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب5.
بمجرّدها من دون افتقار إلى التذكية، كما في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة.
ثمّ لو قلنا بدلالة الرواية على الشرطيّة، فذيلها المشتمل على تعليل عدم البأس بالصلاة في السنجاب ظاهر في المانعيّة; لأنّ تعليل الصحّة بأمر عدميّ ـ وهو عدم كون السنجاب آكلاً للّحم، وممّا نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ ظاهر في مانعيّة وجود ذلك الأمر، وإلاّ لكان اللاّزم التعليل بثبوت أمر وجوديّ، كما هو شأن الشرائط.
وقد انقدح ممّا ذكرنا في هذه الجهة إشعار بعض الروايات بل دلالته على الشرطيّة، ودلالة أكثرها على المانعيّة.
الجهة الثانية: في إمكان الالتزام بالشرطيّة وعدمه، وتفصيله: أنّ القائل بالشرطيّة إن كان مراده أنّه يعتبر في صحّة الصلاة أن يكون اللباس من أجزاء ما يؤكل لحمه، بحيث كان اللاّزم تحصيل هذا الشرط، فيدفعه قيام الإجماع بل الضرورة(1) على جواز الصلاة في مثل القطن والكتّان ممّا لا يكون من أجزاء الحيوان رأساً.
وإن كان مراده أنّ المأكوليّة كناية عن أحد الأضداد الوجوديّة; بمعنى أنّه يشترط في لباس المصلّي أن يكون إمّا من أجزاء ما يحلّ أكله من الحيوان، وإمّا من أجزاء غير الحيوان كالقطن والكتّان، فالشرطيّة هي الشرطيّة التخييريّة، والدليل على ثبوتها أدلّة الشرطيّة بضميمة الإجماع
- (1) منتهى المطلب 4: 263، تذكرة الفقهاء 2: 463 مسألة 117، تحرير الأحكام 1: 201، الرقم 646، جواهر الكلام 8 : 313 ـ 314، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 154، كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للكاظمي 1: 257، مستمسك العروة الوثقى 5: 332.
والضرورة المذكورة.
فيرد عليه: أنّ غاية مفاد الإجماع والضرورة ثبوت الجواز في القطن والكتّان، لا كونه عدلاً وطرفاً للشرطيّة التخييريّة، ومن المعلوم أنّ الجواز أمر، والشرطيّة أمر آخر، فالصلاة في الألبسة المتعدّدة جائزة، ولكنّ الشرط هو وجود الساتر.
وإن كان مراده هي الشرطيّة المعلّقة; بمعنى أنّه يعتبر في اللباس أن يكون من أجزاء المأكول إذا كان حيواناً، كما حكي عن العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في منظومته، ومن تبعه(1)، فيرد عليه: أنّ التقييد إنّما يصحّ في مورد يصحّ فيه الإطلاق وكذا العكس.
ومن الواضح: عدم إمكان فرض الإطلاق في المقام; ضرورة أنّه لا يعقل تحقّق هذا الأمر مع عدم كونه من أجزاء الحيوان، فلا يصحّ أن يقال باعتباره; سواء كان من أجزاء الحيوان أم لم يكن، ومع عدم إمكان الإطلاق لا معنى للتقييد، فيرجع اعتباره إلى اعتبار أمر خال عن التعليق. ويرد عليه حينئذ ما ذكر; من كونه مخالفاً للإجماع والضرورة كما مرّ، فانقدح أنّه لا يصحّ الالتزام بالشرطيّة في المقام.
الجهة الثالثة: في أنّه على تقدير إمكان الالتزام بالشرطيّة أيضاً، فهل يمكن الجمع بينها وبين المانعيّة، كما عرفت الالتزام به من صاحب الجواهر (قدس سره) (2)، أو لا؟ والظاهر هو الثاني.
- (1) الدرّة النجفيّة: 105، وراجع مصباح الفقيه 10: 248 ـ 249، ومستمسك العروة الوثقى 5: 332 ـ 334.
- (2) في ص200.
أمّا أوّلاً: فلأنّ رتبة الشرط إنّما تكون متقدّمة على رتبة المانع; لأنّ الشرط له دخل في تأثير المقتضي والسبب، والمانع ما يمنع ويحول بين المقتضي وأثره، ففي مورد عدم تحقّق المقتضى ـ بالفتح ـ مع وجود المقتضي ـ بالكسر ـ يلاحظ أوّلاً: أنّ الشرط هل يكون موجوداً؟ فإذا لم يكن موجوداً يكون العدم مستنداً إلى عدم تحقّق الشرط، وإذا كان موجوداً تصل النوبة إلى وجود المانع واستناد العدم إليه، فاستناد العدم إلى عدم الشرط ووجود المانع ليس في رتبة واحدة.
وعليه: فمع فرض كون الاعتبار في المقام بنحو الشرطيّة ـ ولازمه انتفاء المشروط مع انتفاء الشرط ـ لا تصل النوبة إلى استناد العدم إلى وجود المانع أصلاً، فجعل المانعيّة لا يترتّب عليه فائدة بوجه.
وأمّا ثانياً: فلأنّه على تقدير اتّحاد الرتبة وعدم ثبوت التقدّم والتأخّر، لا معنى أيضاً للجمع بين الاعتبارين; لاستلزامه اللغويّة وعدم ترتّب الأثر; لأنّه مع أحد الاعتبارين يتحقّق ما هو المقصود في البين، ولا يبقى حاجة إلى الاعتبار الآخر وتشريعه، فالجمع بين الشرطيّة والمانعيّة ممّا لا سبيل إليه.
الجهة الرابعة: في أنّه بعد عدم إمكان الجمع بين الشرطيّة والمانعيّة، ولزوم الالتزام بأحد الاعتبارين، لابدّ من ملاحظة أنّ الروايات الواردة هل يكون ظهورها في المانعيّة أقوى، أو العكس، أو لا تكون أقوائيّة في البين؟ والظاهر بعد ملاحظة ما عرفت(1) هو الأوّل; لأنّه ظهر لك أنّ ظهور الروايات في المانعيّة غير قابل للإنكار. وأمّا ظهورها في الشرطيّة، فقابل للمناقشة
- (1) في ص201 ـ 208.
بل المنع، وبذلك تصير أدلّة المانعيّة أظهر من أدلّة الشرطيّة، ولابدّ من الالتزام بالمانعيّة.
الجهة الخامسة: في أنّه بعد ثبوت المانعيّة لابدّ من ملاحظة أنّ أدلّتها هل تكون ظاهرة في المانعيّة الواقعيّة مطلقاً، من دون أن تكون مقيّدة بصورة العلم بالمانع، وكون الشيء من أجزاء غير المأكول، أو أنّها تكون مقيّدة بذلك؟
وقد ذكرنا(1) في بعض المقدّمات أنّ البحث المعروف في اللباس المشكوك إنّما يبتني على كون المانعيّة على تقديرها ثابتة بوصف الإطلاق; لما مرّ(2) من أنّ النزاع فيه إنّما هو في الحكم الظاهري، وأنّه هل هو الجواز أو العدم، بعد الفراغ عن ثبوت الحكم الواقعي مطلقاً، إلاّ أنّه حيث يظهر من جماعة، منهم: المحقّق القمّي، والفاضل النراقي إنكار المانعيّة المطلقة(3)، واختصاصها واقعاً بصورة العلم، لابدّ لنا من البحث في هذه الجهة أيضاً، فنقول:
عمدة الوجوه التي استند إليها لهذا القول ثلاثة:
الأوّل: ما عن المحقّق القمّي (قدس سره) من أنّ الأدلّة الدالّة على مانعيّة غير المأكول وإن لم تكن مقيّدة بصورة العلم من جهة دعوى الوضع أو الانصراف، إلاّ أنّ المستفاد من صحيحة عبد الرحمن ـ الدالّة على عدم لزوم الإعادة على من صلّى في أجزاء غير المأكول جهلاً ـ هو اختصاص المانعيّة بصورة العلم; لعدم
- (1 ، 2) في ص197 ـ 198.
- (3) جامع الشتات 2: 776 (ط.ق)، مستند الشيعة 4: 315 ـ 317، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 120 ـ 154، مستمسك العروة الوثقى 5: 327 ـ 333.
إمكان اجتماع المانعيّة المطلقة، والإجزاء والصحّة في صورة الجهل، فالصحيحة تقيّد دائرة المانعيّة بغير صورة الإجزاء، وتصير النتيجة اختصاصها بصورة العلم، وهو المدّعى(1).
أقول: مراده من الصحيحة ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنوّر أو كلب، أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد(2).
وتقريب دلالتها أنّ محطّ السؤال وإن كان هي حيثيّة النجاسة الثابتة في العذرة المشتركة بين عذرات الإنسان والسنوّر والكلب، لا حيثيّة غير المأكوليّة الثابتة في الأخيرين فقط; لما عرفت(3) من خروج الإنسان عن أدلّة مانعيّة غير المأكول نصّاً وانصرافاً، إلاّ أنّه بعد ملاحظة أمرين يستفاد من الصحيحة حكم الحيثيّة الثانية أيضاً.
الأوّل: كون السؤال بلحاظ التعبير بالإعادة ظاهراً في أنّ المفروض وقوع صلاة في الخارج في شيء من العذرات المذكورة في الصحيحة. ومن المعلوم أنّ الصلاة الخارجية الواقعة في عذرة واحد من الأخيرين يكون الخلل فيها من كلتا الحيثيّتين.
الأمر الثاني: أنّ الجواب دالّ على عدم وجوب الإعادة في صورة الجهل
- (1) حكى عنه في كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 170.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 359 ح1487، الاستبصار 1: 180 ح630، الكافي 3: 404 ح2، وص406 ح11، وعنها وسائل الشيعة 3: 475، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب40 ح5.
- (3) في ص191 ـ 194.
وعدم العلم، والظاهر أنّ الحكم بعدم الوجوب مرجعه إلى صحّة الصلاة الخارجية التي يكون الخلل فيها من جهتين; وإن كان الخلل من إحداهما لا يكون مورداً لنظر السائل أصلاً، لكنّه لا يستلزم عدم دلالة الرواية على حكم كلتيهما.
نعم، لو كان الجواب دالاًّ على وجوب الإعادة، لا يستفاد من الرواية مدخليّة كلتا الجهتين في إيجابها، بل يمكن أن يقال بظهور مدخليّة الحيثيّة التي هي مورد لنظر السائل. وأمّا الحكم بعدم الوجوب الراجع إلى الإجتزاء بالصلاة الواقعة في الخارج، المتّصفة بما ذكر من الخلل من جهتين، فلا يكاد يتمّ إلاّ على تقدير عدم كون شيء منهما مؤثِّراً في وجوب الإعادة، كما لا يخفى.
ويرد على هذا الوجه: أنّه لا دلالة للصحيحة على عدم ثبوت المانعيّة مع الجهل الذي هو مورد البحث في اللباس المشكوك; لأنّ موردها إمّا الجهل المركّب، أو الجهل البسيط مع الغفلة أو كليهما، والتقييد بالغفلة إنّما هو لكون السؤال إنّما هو عن حكم الإعادة وجوباً.
ومن الظاهر أنّ السؤال مع الالتفات لابدّ وأن يكون عن جواز الدخول في الصلاة ومشروعيّته، فالسؤال عن الإعادة ظاهر في الغفلة، فلا دلالة للرواية على عدم المانعيّة في المقام، والحكم بعدم الإعادة في مورد الرواية لا يلازم عدم المانعيّة الواقعيّة فيه أيضاً، وتحقيق هذه الجهة موكول إلى البحث عن حديث «لا تعاد»(1) المعروف.
وبالجملة: فالصحيحة أجنبية عن المقام بعد وضوح أنّه لا مجال للتعدّي
- (1) تقدّم في ص83 ، 87 ، 104، 132 و 205.
عن موردها إلى مثله، فهذا الوجه غير تامّ.
الوجه الثاني: ما عنه (قدس سره) أيضاً من دعوى الفرق بين ما إذا استفيدت المانعيّة من لسان الوضع، وبين ما إذا استفيدت من لسان التكليف، وأنّه يختصّ الثاني بصورة العلم، والأوّل يعمّ صورة الجهل أيضاً(1).
ومنشأ هذا التفصيل ما أفاده اُستاذه ـ اُستاذ الكلّ ـ الوحيد البهبهاني (قدس سره) في مسألة القدرة التي هي إحدى الشرائط العامّة، فقال: كلّ جزء استفيدت جزئيّته من خطاب الوضع ـ مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2) ـ فهو جزء مطلقاً، من غير اختصاص بحال التمكّن، ولازمه سقوط وجوب الكلّ بالعجز عن إتيانه، وكلّ جزء استفيدت جزئيّته من خطاب تكليفيّ غيريّ، فجزئيّته مختصّة بحال القدرة; لكونها من الشرائط العامّة، ولازمه عدم سقوط وجوب الكلّ بالعجز عن إتيانه . وقد قاس تلميذه العلم بالقدرة; لكونه أيضاً من الشرائط العامّة، ومقتضاه عدم ثبوت المانعيّة في المقام في صورة الشكّ والجهل واقعاً; لاستفادتها من لسان التكليف(3).
ويرد عليه أوّلاً: أنّه لو سلّم ما أفاده من ثبوت الفرق في المقام نقول:
إنّ المانعيّة فيه قد اُستفيدت من لسان الوضع; لأنّ قوله (صلى الله عليه وآله) في موثّقة
- (1) جامع الشتات 2: 776 س26 (ط.ق)، غنائم الأيّام 2: 312 ـ 313.
- (2) المعتبر 2: 166، عوالي اللئالي 1: 196 ح2، وعنه مستدرك الوسائل 4: 158 ح4365، واُنظر وسائل الشيعة 6: 87 ـ 89 ، كتاب الصلاة، أبواب القراء في الصلاة ب27 و 28.
- (3) حكى عنهما في كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 172 ـ 173، وانظر فوائد الاُصول 4: 251 ـ 252، ولم نعثر عليه في كتبهما التي لدينا عاجلاً.
ابن بكير المتقدّمة(1): «إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره... وكلّ شيء منه فاسد...» ظاهر بل صريح في خطاب الوضع.
ودعوى وجود خطاب التكليف أيضاً، مثل قوله (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) في بعض الروايات المتقدّمة(2): «لا تصلِّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه».
مدفوعة بعدم المنافاة بين الخطابين، ولا مجال لحمل الأوّل على الثاني; فإنّ خطاب التكليف لا دلالة له على الانحصار، غايته عدم الدلالة على
التعميم وهو لا ينافي ما يدلّ عليه كما هو ظاهر. وعليه: فالمانعيّة في المقام لا تختصّ بصورة العلم.
وثانياً: أنّ قياس العلم في المقام بالقدرة غير صحيح; لأنّ العلم الذي يكون مثل القدرة من الشرائط العامّة للتكليف، هو العلم بأصل التكليف، لا العلم بالمكلّف به، الذي هو ثبوت المانع فيما نحن فيه، وأنّ اللباس من أجزاء غير المأكول، وقد وقع الخلط بين العلمين.
وأمّا ما أفاده اُستاذه، فهو أيضاً مخدوش; لعدم كون القدرة شرطاً لمطلق التكليف، بل العجز يكون عذراً للمخالفة، وعدم كون الخطاب التكليفي في المقام دالاًّ على التكليف; لكونه إرشاداً إلى المانعيّة، كما أنّ في الأوامر تكون إرشاداً إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، وعدم كون التكليف الغيري مشروطاً بالقدرة على خصوص متعلّقه بعد عدم استقلال متعلّقه، فتدبّر.
- (1) في ص175 ـ 176.
- (2) في ص201.
الوجه الثالث: ما عن الفاضل النراقي (قدس سره) (1) من دعوى اختصاص الحرام الذي لا تجوز الصلاة في أجزائه بالمعلوم.
واُجيب عنه بأنّه إن كان وجه الاختصاص هو دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة، أو انصرافها إليها، فهو واضح الفساد، وإن كان دعوى ظهور الحرام في الحرمة المنجّزة التي تتوقّف على العلم، ففيه: أنّه خلاف الظاهر; إذ الظاهر من الموثّقة هو ابتناء الفساد واقعاً على الحرام الواقعي; لأنّها مسوقة لبيان الحكم الواقعي الوضعي، مع أنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان المشتبه هو الحيوان الخارجي الذي لم يعلم أنّه من الحلال أو الحرام، لا في المقام الذي علم بحرمة حيوان معيّن كالأرنب، وحلّية آخر كالشاة، وشكّ في وبر معيّن أنّه من الأرنب أو الشاة; لثبوت العلم والتنجّز فيه، كما هو واضح(2).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذه الجهة عدم مدخليّة العلم في ثبوت المانعيّة الواقعيّة، وأنّ الحكم بالجواز في اللباس المشكوك على تقديره حكم ظاهريّ ثابت في مورد الشبهة.
الجهة السادسة: أنّه قد عرفت(3) من الجواهر أنّ المسألة مبتنية على القول بالشرطيّة والمانعيّة، وأنّ الجواز متفرّع على الثاني، والعدم على الأوّل.
ونحن نقول:
أمّا القول بالشرطية، فإن كان المراد به هي الشرطيّة المنجّزة المعيّنة; بأن
- (1) مستند الشيعة 4: 316 ـ 317.
- (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 173 ـ 174.
- (3) في ص198 ـ 199.
كان من شرائط لباس المصلّي أن يكون من أجزاء الحيوان الذي يحلّ أكل لحمه، وهو الذي قد عرفت(1) قيام الإجماع والضرورة على خلافه، فاللاّزم هو الاحتياط ولزوم إحراز تحقّق الشرط كسائر الشرائط التي تكون كذلك.
وإن كان المراد به هي الشرطيّة المعلّقة; بأن كان من شرائط اللباس إذا كان حيواناً أن يكون مأكول اللحم، كما حكي عن منظومة الطباطبائي ومن تبعه(2)، فإن كانت الجزئيّة للحيوان معلومة، والمأكوليّة مشكوكة، فاللاّزم هو الاحتياط أيضاً; لأنّه بعد ثبوت المعلّق عليه لابدّ من إحراز تحقّق الشرط المعلّق عليه، وإن لم تكن الجزئيّة للحيوان معلومة، بل احتمل كونه من القطن أو الكتّان، تجري أصالة البراءة; لأنّه بعد عدم ثبوت المعلّق عليه يشكّ في ثبوت الشرطيّة، والأصل المذكور ينفيها، وهذا هو الوجه في التفصيل الذي نقلناه(3) آخر الأقوال.
وإن كان المراد به هي الشرطيّة التخييريّة; بأن كان الشرط إمّا كون اللباس من أجزاء غير الحيوان، وإمّا كونه من أجزاء الحيوان الذي يحلّ أكل لحمه، فاللاّزم هو الاحتياط; للزوم إحراز أحد الطرفين، وعدم جواز الاكتفاء بمجرّد الاحتمال، كما هو ظاهر.
وأمّا القول بالمانعيّة، فربما يقال(4) بأنّه لو كان موضوع المانعيّة ملحوظاً
- (1) في ص208.
- (2) تقدّم تخريجهما في ص209.
- (3) في ص208 ـ 209.
- (4) راجع كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 57 ـ 58، ودرر الفوائد له: 483 ـ 484.
بنحو الطبيعة السارية، بحيث يكون كلّ جزء من أجزاء كلّ حيوان لا يؤكل لحمه مانعاً مستقلاًّ في قبال غيره من الأجزاء، وغيره من الحيوانات الاُخر التي تكون كذلك، فالمرجع هي أصالة البراءة; لانحلال التكليف فيه إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد أفراد الحيوان الذي يحرم أكل لحمه، وأجزاء كلّ فرد، ومن المعلوم أنّ تعلّقه في المقام مشكوك، فتجري البراءة.
وأمّا لو كان موضوع المانعيّة ملحوظاً بنحو صرف الوجود، فلا يكون شكّ في المانعيّة; لأنّ جعل مانعيّة واحدة لصرف الوجود الصادق على القليل والكثير معلوم، والشكّ إنّما هو في انطباق المانع عليه، فلا مجال لأصل البراءة; لاختصاص مجراه بالشكّ في التكليف وهو مفقود.
ولا مجال لأن يقال: إنّ عدم صرف الوجود من غير المأكول الذي تقيّدت به الصلاة، عبارة عن أعدام متعدّدة بعدد وجودات خاصّة لعنوان غير المأكول، وما هو معلوم كونه مصداقاً لغير المأكول يعلم اعتبار عدمه في الصلاة، والمشكوك لا يعلم اعتباره، فيكون من مصاديق تردّد الأمر بين الأقلّ المتيقّن، والأكثر المشكوك.
وذلك لما عرفت من أنّ الشكّ في هذا الفرض إنّما هو في انطباق المكلّف به على الخارج، ومجرى البراءة ما إذا كان الشكّ في أصل التكليف.
هذا، والظاهر أنّ المانعيّة في المقام إنّما كان موضوعها ملحوظاً بالنحو الأوّل; لأنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعناوين التي لها أفراد في الخارج، تعلّقها بها على نحو السريان الاستغراقي; بمعنى كون كلّ جزئيّ خارجيّ يصدق عليه عنوان المنهيّ عنه مورداً للنهي استقلالاً; من دون فرق بين
النواهي النفسيّة والغيريّة، فكما أنّ معنى «لا تشرب الخمر» يرجع إلى استقلال كلّ خمر في تعلّق النهي بشربه; لقيام المفسدة الباعثة عليه به، فكذلك معنى «لا تصلِّ في جلد ما لا يؤكل لحمه» يرجع إلى استقلال كلّ جلد من غير المأكول في تعلّق النهي الغيري به، وثبوت وصف المانعيّة له، ومن ثمراته لزوم الاقتصار في موارد الضرورة على مقدارها، كما هو الحال في المحرّمات النفسيّة.
إذا عرفت ما ذكرناه من الجهات فاعلم: أنّ الالتزام بجريان أصالة البراءة العقليّة في المقام بناءً على المانعيّة، كما أنّه يتوقّف على كون موضوعها ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية على ما عرفت، كذلك يتوقّف أوّلاً: على الالتزام بجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة في التكاليف النفسيّة; ضرورة أنّه مع عدم جريان البراءة هناك مع كون التكليف نفسيّاً لا يبقى مجال لدعوى جريانها في المقام بعد كون التكليف فيه غيريّاً.
وثانياً: على الالتزام بجريانها في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بالإضافة إلى الشبهة الحكميّة; لأنّه مع عدم جريانها في تلك المسألة لا مجال لدعوى جريانها هنا بعد كونه شبهة موضوعيّة لتلك المسألة.
وبعبارة اُخرى: المقام من موارد الشبهة الموضوعيّة لمسألة الأقلّ والأكثر المذكورة، ودعوى جريان البراءة فيها تتوقّف على جريانها في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة النفسيّة، وفي الشبهة الحكميّة في مسألة الأقلّ والأكثر، ولأجله لابدّ لنا هنا من البحث في كلا المقامين على سبيل الإجمال، والتفصيل موكول إلى علم الاُصول، فنقول:
جريان البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة
المقام الأوّل: في جريان البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة في التكاليف النفسيّة، وعدمه. صريح الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في الرسالة هو الجريان، كجريانها في الشبهة الحكميّة; فانّه (قدس سره) بعد استناده إلى الأخبار الكثيرة التي تدلّ على جريان البراءة الشرعيّة في الشبهة الموضوعيّة قال:
ولكن في الأخبار المتقدّمة بل في جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية. ثمّ دفع توهّم عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان; نظراً إلى تماميّة البيان من قبل الشارع، فيجب الاجتناب عن الأفراد المحتملة; بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً، والمعلومة إجمالاً المتردّدة بين محصورين، والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة، والثاني يتوقّف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير.
وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجماليّ، فلم يعلم من النهي تحريمه، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم معلوم، فلا فرق بينها، وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه، وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضاً; لأنّ العمومات
الدالّة على حرمة الخبائث(1) والفواحش(2)، ( وَ مَا نَهَـل ـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ْ )(3)تدلّ على حرمة اُمور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها(4).
- (1) سورة الأعراف 7: 157.
- (2) سورة الأعراف 7: 33.
- (3) سورة الحشر 59: 7.
- (4) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 121 ـ 122.
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) بأنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهتين في غير محلّه; لأنّ العقل يحكم في المقام بأنّ المخالفة في الاُولى مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبوديّة، وكونه طاغياً على مولاه دون المخالفة في الثانية، والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الأفراد المعلومة، كما هو ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) بل صريحه، مدفوع بأنّ المفروض مع قطع النظر عن الأخبار الدالّة على حلّية المشتبه، أنّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه، كيف؟ ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه; لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه، وهو ممّا يقطع بخلافه، فالنهي عامّ والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل(1).
أقول: ويمكن الجواب عن نقضه الأخير بأنّ وجوب الانتهاء في قوله ـ تعالى ـ : ( وَ مَا نَهَـل ـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ْ ) وجوب إرشاديّ، كوجوب الإطاعة في آية ( وَأَطِيعُوا ْ اللَّهَ... )(2). وكذا التحريم الثابت في الخبائث والفواحش
بنحو العموم يكون إرشاديّاً، بناءً على ثبوت العنوانين في كلّ محرّم، كما هو ظاهر النقض.
ضرورة أنّ العناوين الخاصّة المتعلّقة للتحريم لا تكون محكومة بالحرمة من جهة نفسها، ومن جهة كونها مصداقاً للخبيث والفاحشة، بحيث يكون المرتكب لشيء منها آتياً بمحرّمين، ومستحقّاً لعقوبتين، فالنقض المذكور في
- (1) نهاية التقرير 1: 360.
- (2) سورة النساء 4: 59.
غير محلّه.
ولبعض الأعلام من المعاصرين كلام طويل في وجه جريان البراءة في المقام في الرسالة التي صنّفها في حكم الصلاة في الألبسة المشكوكة، وقد لخّصناه في كتاب «نهاية التقرير»، الذي هو تقرير بحث الاُستاذ المذكور; وهو: أنّه لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلّق التكليف عنواناً اختياريّاً للمكلّف قابلاً لأن يتعلّق به الإرادة، إمّا بنفسه أو بالتوسيط، وذلك العنوان على أربعة أقسام:
الأوّل: العنوان الذي يكون متعلّقاً للتكليف ـ بلا تعلّق له بموضوع خارجيّ ـ خارج عن تحت القدرة والاختيار، كالتكلّم والضحك ونحوهما.
الثاني: العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي، وكان ذلك الموضوع أمراً جزئيّاً متحقّقاً في الخارج، كاستقبال القبلة واستدبارها.
الثالث: أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي اُخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم. وبعبارة اُخرى: موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للإيجاب الجزئي، كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب.
الرابع: أن يتعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي يكون عنواناً كلّياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدّرته، ولوحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدّرة، كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على نحو القضايا الحقيقية.
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع
وكثرته، فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة; فانّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ، ففي الحقيقة يصير معنى «لا تشرب الخمر» أنّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج، أو يوجد بعد.
وبملاحظة ما ذكره المنطقيّون(1); من انحلال القضايا الحقيقيّة إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها عقد الوضع فيها، وتاليها عقد الحمل، يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا: كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه، وهذه القضيّة كما ترى تكون الحرمة فيها مترتّبة على وجود الخمر، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائيّاً، وفعليّتها وكونها زجراً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج.
ومن المعلوم أنّ المنجّز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي، لا العلم بالحكم الإنشائي، وقد عرفت أنّ فعليّته متوقّفة على وجود موضوعه، فتنجّز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقّف على وجود موضوعه، فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف.
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ (قدس سره) في الرسالة(2)، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو لعدم
- (1) تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة: 253 ـ 260، الحاشية على تهذيب المنطق لملاّ عبد الله: 101 ـ 102، شرح المنظومة للسبزواري 1: 248 ـ 249.
- (2) تقدّم في ص220.
كونها مقدّمة علميّة حتّى تجب بوجوب ذيها، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام، وعدم جوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف.
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودهاً، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها، بخلاف هذا القسم الذي يتوقّف على أمر زائد أيضاً، وهو العلم بوجود الموضوع، كما عرفت(1)، انتهى.
أقول: محلّ البحث من هذه الأقسام الأربعة هو القسم الرابع، ويظهر منه (قدس سره) أنّ جريان البراءة العقليّة فيه مبنيّ على أمرين: وهما: الانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد الموضوع الذي يكون المتعلّق مضافاً إليه، ورجوع القضيّة الحقيقيّة إلى الشرطيّة الظاهرة في ترتّب الجزاء على وجود الشرط.
وقد أنكر الأمر الأوّل سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ، وملخّص ما أفاده في توضيحه: أنّ المشهور(2) ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك، واختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) (3). وعليه: فيشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب، غاية الأمر انّ الطلب في الأمر متعلّق بوجود الطبيعة، وفي النهي
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 188 ـ 260، وعنه نهاية التقرير 1: 360 ـ 362.
- (2) معارج الاُصول للمحقّق الحلّى: 116، معالم الدين: 90 ـ 91، هداية المسترشدين 3: 17 ـ 18; تعليقة على معالم الاُصول 4: 496.
- (3) كفاية الاُصول: 182.
بتركها، ولازم ما ذكره المشهور سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة، فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة; لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً، غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها واحدة ولا متكثّرة يعتبره أمراً واحداً.
و حينئذ يتحقّق اللزوم المذكور; لأنّ المعصية عندهم مسقطة للتكليف كالامتثال، فلا تستحقّ العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا، وكذا يلزم عدم الفرق بين الارتكاب قليلاً أو كثيراً، وكذا عدم القدرة على الامتثال مع المخالفة ولو مرّة، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح.
فالتحقيق أن يقال: إنّ معنى النهي ليس هو طلب الترك، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة للنهي.
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد; لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف.
مدفوع بمنع ذلك; إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ، ولم يؤت به في وقته، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يوجب سلب القدرة على الامتثال، وهذا بخلاف الامتثال; فإنّه لكونه موجباً لحصول الغرض ـ ولامعنى لثبوت الأمر مع حصول الغرض ـ يوجب سقوط التكليف.
فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثرة، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة، فالقول بانحلال النهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع ممّا لا سبيل إليه، انتهى(1).
وما أفاده (قدس سره) في الإشكال على المشهور في باب معنى النهي ـ من عدم كون المطلوب في هذا الباب; وهو عدم الطبيعة وتركها، متعدّداً; لأنّه ليس عدم الطبيعة كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة ـ وإن كان محلّ نظر بل منع; لأنّه كما أنّ للطبيعة وجودات متكثّرة، كذلك لها أعدام متعدّدة; لأنّه كما أنّ وجود فرد ما يكفي في تحقّق الطبيعة; لكونه تمام تلك الطبيعة، وليست النسبة بينه، وبينها هي النسبة بين المركّب وأجزائه; لعدم كون الفرد حصّة من الطبيعة بل تمامها.
كذلك يكفي عدمه في اتّصاف الطبيعة بالعدم; لأنّه لا يعقل أن يكون وجوده كافياً في وجودها، ولا يكون عدمه موجباً لعدمها، ولا مانع من اتّصاف الطبيعة في آن واحد بالوجود والعدم بلحاظ اختلاف أفرادها، كما لا مانع من اتّصافها بالبياض والسواد، والطول والقصر، والحركة والسكون، وأمثالها، فوجودات الطبيعة إذا كانت متّصفة بالتكثّر يكون أعدامها أيضاً كذلك.
إلاّ أنّ ما أفاده في الإشكال على المحقّق النائيني (قدس سره) ـ من إبطال الانحلال، وعدم كون النواهي المتعلّقة بالطبايع راجعة إلى القضايا الحقيقيّة ـ في كمال
المتانة والسداد; لأنّه لا وجه لإرجاعها إليها المستلزم للانحلال، وثبوت
- (1) نهاية التقرير 1: 360 ـ 364.
تكاليف متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات.
والظاهر أنّ منشأ الإرجاع ملاحظة عدم ارتفاع النهي بالمخالفة وثبوته بعدها أيضاً، مع أنّه لو كان تكليفاً واحداً غير منحلّ إلى تكاليف متعدّدة لكان اللاّزم سقوطه بالمرّة بالمخالفة ولو مرّة; لأنّ العصيان يوجب ارتفاع التكليف، فاللاّزم هو الالتزام بالانحلال حتّى تكون المخالفة في كلّ فرد من أفراد الموضوع موجبة لسقوط التكليف الخاصّ المتعلّق به مع بقاء التكليف بالإضافة إلى الأفراد الاُخر بحاله.
والحقّ أنّ بقاء النهي بعد المخالفة لا يلازم الانحلال والإرجاع إلى القضايا الحقيقيّة، بل حيث إنّ الزجر متعلّق بوجود الطبيعة ـ وهو متعدّد ـ يكون لازمه بقاؤه بعد المخالفة أيضاً; لأنّه لم يقم دليل على أنّ التكليف الواحد لابدّ وأن لا يكون له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة، كما أنّك عرفت أنّه لا وجه لدعوى كون المعصية مسقطة للتكليف، فالإنصاف تماميّة ما أفاده الاُستاذ (قدس سره) في مقام الإشكال على المحقّق المزبور.
نعم، يرد على المشهور أنّ العدم ليس بشيء حتّى يتعلّق به الطلب، وهذا من دون فرق بين ما إذا كان مطلقاً أو مضافاً، وما اشتهر من أنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود والتحقّق، فلا ينبغى الاغترار بظاهره بعد وضوح أنّ الإضافة لا توجب خروجه عن ماهيّة المقابلة للوجود.
وأمّا الأمر الثاني: فقد أنكره سيّدنا الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في مباحثه الاُصوليّة، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّ القضايا الحقيقيّة قضايا بتيّة كالقضايا الخارجيّة; من دون فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً، غاية الأمر أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة إنّما يكون على الطبيعة بوجودها الساري
أعمّ من الأفراد المحقّقة والمقدّرة، وفي القضايا الخارجيّة يكون مقصوراً على خصوص الأفراد الموجودة، فقولنا: «كلّ نار حارّة» يكون الحكم بالحرارة فيه حكماً بتيّاً ثابتاً لجميع أفراد طبيعة النار، ولا يكون حكماً مشروطاً بوجوده.
كيف؟ ولو كان الحكم في مثله مشروطاً بوجود الموضوع، لكان اللاّزم في مثل ما إذا كان المحمول من لوازم ماهيّة الموضوع ـ كقولنا: «الأربعة زوج» ـ أن يكون ترتّب الزوجيّة على الأربعة مشروطاً بوجودها، مع أنّ المفروض كونها من لوازم الماهيّة التي مرجعها إلى ثبوتها لنفس الماهيّة مع قطع النظر عن الوجودين، بحيث لو فرض لها تقرّر وثبوت في غير عالم الوجودين لكانت تلزمها.
وبالجملة: معنى القضيّة الشرطيّة هو كون الشرط فيها دخيلاً في ثبوت المحمول وترتّبه على الموضوع، مع أنّ القضايا الحقيقيّة لا يكون كلّها كذلك، فالحقّ أنّها قضايا بتيّة غير مشروطة، ولذا جعلها المنطقيّون(1) من الحمليّات التي تكون قسيماً للشرطيّات.
نعم، لا شبهة في أنّ الحكم ما لم يتحقّق موضوعه لا يثبت، وليس ذلك لأجل اشتراطه بوجود الموضوع، بل لأنّ الموضوع ما لم يوجد لا يكون موضوعاً; فإنّ النار ما لم تتحقّق في الخارج لا تكون ناراً، والحكم بالحرارة معلّق على النار، وحينئذ فمع الشكّ في وجود الموضوع لا يكون الحكم مترتّباً ولايكون حجة على العبد; لأنّ العلم بالكبرى بمجرّده لايكون حجّة مالم ينضمّ إليه العلم بالصغرى، لا لأجل الشكّ في وجود الشرط المستلزم للشكّ في
- (1) تقدّم تخريجهم في ص223.
المشروط; وهو فعليّة الحكم، بل لأجل ما عرفت(1). فالأمر الثاني ممنوع أيضاً.
هذا، وعلى تقدير إنكار الأمر الأوّل كما عرفت أنّه الحقّ، فهل لازمه إنكار البراءة العقليّة; نظراً إلى ثبوت تكليف واحد معلوم، فيجب الخروج عن عهدته، وتلزم رعايته بالاجتناب عن الفرد المشكوك أيضاً، أو أنّه تجري بناءً عليه أيضاً؟
والظاهر هو الثاني; لأنّ وحدة التكليف مع ثبوت الإطاعات المتعدّدة والعصيانات المتكثّرة لا توجب تماميّة الحجّة على العبد من دون العلم بموضوعه، وليس المراد من البيان في قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» هو البيان
الجائي من قبل المولى اللاّزم على عهدته، حتّى يقال بأنّ البيان من قبله تامّ لا نقص فيه; لأنّه ليس من شأنه بيان الصغريات وتشخيص المصاديق، بل المراد به هي الحجّة على التكليف، وما يصحّ للمولى الاحتجاج به.
والظاهر عدم تماميّتها بمجرّد العلم بالكبرى; لأنّه لا يكفي في ترتّب النتيجة وثبوتها، بل لابدّ من ثبوت الصغرى والعلم بها، فكما أنّ ثبوت الكبرى واقعاً من دون العلم بها لا يصحّح الاحتجاج ولا يسوّغ المؤاخذة، فكذلك ثبوت الصغرى كذلك لا يوجب ذلك، بل لابدّ من إحرازها وتعلّق العلم بها. فالإنصاف جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف النفسيّة.
جريان البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر
المقام الثاني: في جريان البراءة العقليّة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وقد قرّبه الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل; بأنّ العلم الإجمالي
- (1) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 2: 144 ـ 146.
بوجوب الأقلّ أو الأكثر ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، والشكّ البدوي في وجوب الأكثر; وذلك لوجوب الأقلّ على التقديرين; لأنّه إن كان الأكثر واجباً واقعاً يكون الأقلّ أيضاً واجباً، غاية الأمر أنّ وجوبه وجوب تبعيّ، وإن لم يكن كذلك يكون الأقلّ واجباً بالوجوب النفسي، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري معلوم تفصيلاً، وهذا بخلاف الأكثر; فإنّ وجوبه مشكوك، فتجري فيه البراءة(1).
وأورد عليه تلميذه المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية; بأنّ الانحلال مستلزم للخلف، أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمه:
أمّا الخلف، فلأنّه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلاً ـ إمّا لنفسه أو لغيره ـ
على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر; ضرورة أنّه لو لم
يتنجّز على تقدير تعلّقه به لم يكن الأقلّ واجباً بالوجوب الغيري;
لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة، ومع عدمه لا مجال له، كما أنّه لو لم يتنجّز
على تقدير تعلّقه بالأقلّ لا يكون واجباً بالوجوب النفسي، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّف على تنجّز التكليف على أيّ تقدير، فلو كان لزومه كذلك موجباً لعدم تنجّز التكليف إلاّ على تقدير تعلّقه بالأقلّ
يلزم الخلف.
وأمّا استلزام وجوده للعدم; فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال، وهو يستلزم عدم لزوم الأقلّ مطلقاً، وهو يستلزم عدم الانحلال، فلزم من وجود الانحلال عدمه، وما يلزم من وجوده
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 322 ـ 323.
عدمه فهو محال(1).
أقول: وهنا تقريب ثالث زائد على التقريبين المذكورين; وهو: أنّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولاً له ومسبّباً عنه، لا يعقل أن يؤثّر في انحلال ذاك العلم الإجمالي; لأنّه لا يمكن أن يؤثّر المعلول في رفع علّته وإعدامها مع بقائه.
والمقام من هذا القبيل; فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ ـ إمّا لنفسه أو لغيره ـ إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء مثلاً بين أن يكون وجوبه نفسيّاً، أو غيرياً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما هو مقدّمة له، ولكن كان وجوب ذي المقدّمة مشكوكاً; فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أيّ تقدير موجباً لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً، أو بوجوب ما يكون هو مقدّمة له; لأنّه مع الانحلال وإجراء أصالة البراءة بالإضافة إلى وجوب ذي المقدّمة لا يكون العلم التفصيلي باقياً بحاله، فالعلم التفصيلي المسبّب
عن العلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله واضمحلاله، كما هو ظاهر.
هذا، والاستدلال والإشكال بتقريباته الثلاثة كلاهما مبتنيان على أمرين: ثبوت المقدّميّة للأجزاء، واتّصافها بالوجوب الغيري، كالمقدّمات الخارجيّة، والأوّل وإن كان يمكن توجيهه، كما قرّر في محلّه(2)، إلاّ أنّ الثاني لا مجال له
- (1) كفاية الاُصول: 413.
- (2) كفاية الاُصول: 114 ـ 115، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 263 ـ 268، مناهج الوصول 1: 329 ـ 335، اُصول فقه شيعة 4: 206.
بوجه; لأنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير القول به، وثبوت الملازمة العقليّة بينه، وبين الوجوب النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة ـ إنّما هو لأجل أنّ الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة لا يكاد يدعو إلى المقدّمة; لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه.
فالالتزام بالوجوب الغيري إنّما هو لأن يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة لأجل تحقّق ذيها، وبدونه لا يكون هنا ما يدعو إليه بعد عدم كون الأمر بذي المقدّمة صالحاً للدعوة إلى غير المتعلّق.
ومن الواضح: أنّ هذا المناط موجود في المقدّمات الخارجيّة; لكونها مغايرة لذي المقدّمة ماهيّة ووجوداً، فالأمر الداعي إليها لابدّ وأن يكون غير الأمر المتعلّق بذيها.
وأمّا المقدّمات الداخليّة، فلا حاجة فيها إلى الأمر الغيري بعد كون الأمر المتعلّق بذيها داعياً إليها; لعدم كون المركّب مغايراً لها; لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانيّة، وتلك تفصيله وتحليله، وهو لا ينافي مقدّميّة الأجزاء; لأنّ المقدّمة إنّما هو كلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء،فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الأجزاء، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه; لأنّ الاجزاء هي نفس المركّب، والفرق إنّما هو بالإجمال والتفصيل، والبساطة والتحليل.
وتقريب البراءة على ما ذكرنا أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب، ويترتّب على ذلك أنّ الحجّة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب، لكن مع قيام الحجّة على الأجزاء التي ينحلّ إليها. وأمّا مع عدم
قيامها على جزئيّة بعض ما تحتمل الجزئيّة فيه، فلا يكون الأمر بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً; لعدم العلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليه.
ومن المعلوم أنّ تماميّة الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، ومع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميّتها المصحّحة للعقاب; لعدم كونه عقاباً من دون بيان، ومؤاخذة بلا برهان، فاللاّزم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليليّة أيضاً، وبدون ذلك تجري البراءة العقليّة الراجعة إلى قبح العقاب المذكور، وثبوت الارتباط بين الأجزاء على ما هو المفروض لا يقدح في جريان البراءة عقلاً بعد عدم تماميّة الحجّة بالإضافة إلى مشكوك الجزئيّة.
ولا يتفاوت في جريان البراءة بين القول بكون مدلول ألفاظ العبادات خصوص الصحيح منها، وبين القول بالأعمّ من الفاسد; لما حقّقناه في الاُصول(1) من أنّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين مسألة مستقلّة لا يبتني جريان البراءة فيها وعدمه على مسألة الصحيح والأعمّ; وإن ذهب جماعة كالمحقّق النائيني (قدس سره) (2) إلى أنّ الصحيحي لابدّ وأن يقول بجريان قاعدة الاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر، ولكنّه ممنوع.
نعم، على تقدير تصوير الجامع على بعض الوجوه، كالتصوير على النحو الذي اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية(3)، لا محيص عن الالتزام بقاعدة
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 12: 350 ـ 351.
- (2) فوائد الاُصول 1 ـ 2: 66 ـ 67، هداية المسترشدين 1: 484، نهاية النهاية في شرح الكفاية 1: 41.
- (3) كفاية الاُصول: 39 ـ 44.
الاشتغال، كما أوضحناه في محلّه(1).
ثمّ إنّه لسيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) تقريب آخر لجريان البراءة تبعاً لبعض الأعلام(2); وهو: أنّ الأمر مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ واحد منها بجزء من أجزاء متعلّقه; وذلك لأنّ المركّبات الشرعيّة مركّبات اعتباريّة، والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة، المتكثّرة في الوجود، مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها، وكونها معنونة بعنوان حسن، بخلاف المركّبات الحقيقيّة.
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء، فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة، فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالإضافة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة.
ولا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقة، وكونه ذا أبعاض كثيرة; إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجيّة، الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة، كالماء الواقع في الحوض مثلاً; فإنّه مع كونه واحداً; لمساوقة الاتّصال
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 2: 138 وما بعدها، اُصول فقه شيعه 2: 57 وما بعدها.
- (2) انظر فوائد الاُصول 4: 226، ورسالة الصلاة في المشكوك للنائينى: 293 ـ 303، وكتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 193 ـ 194، ويأتي الإشارة إليه حكايةً عن المحقّق النائيني في ص250 ـ 252.
مع الوحدة على ما قرّر في محلّه(1)، يعدّ له أبعاض، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة، وبعضه الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلاً فلا منافاة بينهما أصلاً(2).
فانقدح من البحث في المقامين أنّ الأقوى جريان البراءة العقليّة في كليهما، وهل يكفي ذلك في الذهاب إلى جريانها في مسألة اللباس المشكوك، أو أنّه لا يكفي ذلك; لوجود عنوان ثالث في المقام مانع عن التمسّك بالبراءة، وهو الشكّ في المحصّل، كما اختاره سيّدنا الاُستاذ المذكور (قدس سره) ؟ حيث إنّه بعد الحكاية عن الشيخ الأعظم (قدس سره) (3) القول بالبطلان في المقام، مع ذهابه إلى البراءة في المسألتين المذكورتين(4)، وبعد نقل اعتراض بعض من أجلاّء تلامذة الميرزا الشيرازي (قدس سره) عليه(5); بأنّه لا مجال للبطلان مع اختيار البراءة فيهما، قال ما ملخّصه: إنّ ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، أنّ المعتبر في الصلاة أن لا تقع في شيء من أجزاء كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل لحمه.
وبعبارة اُخرى: المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقّف على عدم وجود شيء من أفراده، وينتزع منه مانعيّة كلّ فرد لا بنحو يكون كلّ فرد مانعاً مستقلاًّ حتّى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال، بحيث
- (1) الشفاء (الالهيّات): 98 ـ 99، الحكمة المتعالية 2: 95 ـ 97، موسوعة كشّاف اصطلحات الفنون والعلوم 2: 1774، كفاية الاُصول: 463، حقائق الاُصول 2: 454.
- (2) نهاية التقرير 1: 368 ـ 370.
- (3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 319 و 352 ـ 353.
- (4) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 121 ـ 122 و 322 ـ 323، المتقدّمتين في ص220 و 230.
- (5) فوائد الاُصول 4: 165 ـ 181، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني 261 ـ 272.
كانت هناك قيود متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المانعة، بل بمعنى أنّه حيث كان القيد هو عدم تحقّق الطبيعة، فوجودها مانع عنه.
ومن المعلوم أنّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كلّ فرد منها، فمانعيّة
وبر الأرانب إنّما هي لتحقّق الطبيعة به، وكذا مانعيّة وبر الثعالب
وغيره ممّا لا يؤكل لحمه. وهذا بخلاف عدم الطبيعة; إذ هو ليس شيئاً حتّى يكون له مصاديق وأفراد، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته
إلى طبيعة خاصّة.
ومن الواضح: لزوم إحراز هذا القيد; وهو عدم تحقّق الطبيعة المذكورة، ومع الإتيان بالصلاة في اللباس المشكوك لا يعلم بحصول الشرط، فلا يعلم بتحقّق المشروط، وهذا من دون فرق بين أن نقول برجوع الشرائط
الشرعيّة إلى الشرائط العقليّة، كما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) ، وبين أن نقول بأنّ الشرطيّة والمانعيّة إنّما تنتزعان من تقييد المأمور به بوجود شيء، أو بعدمه; فإنّه على كلا المذهبين لابدّ من إحراز وجود القيد بعد كونه أمراً واحداً مبيّناً مفهوماً(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت(2) من أنّ عدم الطبيعة لا يكون إلاّ كوجودها، فكما أنّ وجودات الطبيعة متعدّدة متكثّرة، كذلك أعدام الطبيعة; فإنّها أيضاً متعدّدة، فعدم الطبيعة بعدم زيد يغاير عدمها بعدم عمرو، وهكذا، ولا مانع من اتّصاف الطبيعة في آن واحد بالوجود والعدم معاً، كاتّصافها
- (1) نهاية التقرير 1: 370 ـ 372.
- (2) في ص226.
بالسواد والبياض، وبالطول والقصر، وغيرهما من المتضادّين.
وإلى أنّ التقيّد بالعدم الراجع إلى شرطيّة العدم غير معقول; فإنّ الشرطيّة من الأوصاف الوجوديّة المفتقرة إلى موصوف متحقّق، والعدم ليس بشيء حتّى يتصف بالشرطيّة، ويؤثّر في تأثير السبب والمقتضي ـ :
أنّه على تقدير إمكانه خلاف ظاهر الأدلّة الواردة في الصلاة في أجزاء غير المأكول; فإنّ ظاهرها ـ كما عرفت(1) في بعض الجهات المتقدّمة ـ ثبوت المانعيّة التي هي أيضاً أمر وجوديّ معروضها وجود المانع، ومرجعها إلى كونه حائلاً بين الطبيعة المأمور بها، وبين وجودها، ويمنع عن تحقّقها في الخارج، والتعبيرات التي يستفاد منها المانعيّة، بين ما ظاهره النهي عن الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه، وبين ما ظاهره الحكم بالفساد في الصلاة في أجزائه، وبين ما ظاهره نفي الجواز الظاهر في الحكم الوضعيّ الراجع إلى الفساد.
أمّا ما يدلّ على النهي، فحكمه حكم النواهي الواردة في التكاليف النفسيّة، من جهة جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، فكما أنّ قوله: «لا تشرب الخمر» مع كونه حكماً واحداً; وهو الزجر عن وجودات الطبيعة ـ غاية الأمر له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة ـ لا ينافيه جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة; لعدم تماميّة الحجّة المتوقّفة على ثبوت الكبرى والصغرى معاً، وليس المراد من البيان في القاعدة هو خصوص البيان الذي يكون من وظيفة المولى، بل الحجّة المتوقّفة على ما ذكر.
- (1) في ص201 ـ 202.
كذلك قوله (عليه السلام) : «لا تصلّ في جلد ما لا يؤكل لحمه»(1) زجر واحد عن وجودات الطبيعة، ويجري فيه جميع ما ذكر، والفرق إنّما هو في النفسيّة والغيريّة، وأنّ الزجر عن وجود الشرب إنّما هو لجهة في نفسه، وعن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو لجهة فيها، كما لا يخفى، فلا فرق في جريان البراءة العقليّة بينهما أصلاً.
وأمّا ما يدلّ على الفساد، فحكمه حكم النهي، بل أظهر; لاحتمال كونه من القضايا الحقيقيّة الموجبة للانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد وجودات الموضوع. وعليه: فيصير جريان البراءة في مورد الشكّ أوضح; لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في حكم مستقلّ على ما هو المفروض.
ثمّ إنّه على تقدير تسليم كون المانعيّة منتزعة من تقييد المأمور به بعدم شيء، فهل تجري البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة للمانع، أم لا؟ صريح المحقّق النائيني (قدس سره) الأوّل، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيديّة العدم في المقام تتصوّر على وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة.
ثانيها: أن يكون من باب سلب المحصّل، لكن بنحو يكون السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً.
ثالثها: أن يكون من هذا الباب، لكن بنحو يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كلّ فرد، وكان القيد آحاد ذلك العدم، قال ـ بعد استظهار الوجه الثالث من الأدلّة الواردة في الباب ـ ما ملخّصه:
- (1) تقدّم في ص202.
إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعيّة الخمر لحرمة شربه، وبين موضوعيّة المانع لتقيّد الصلاة بعدم وقوعها فيه؟ فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) ـ بعد حمل الوجه الثاني على خلاف ظاهره، والدالّ على أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلاً، وكذا صحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده، وأنّ المراد منه هو كون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ـ بأنّ المستفاد من الأدلّة المانعة أنّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة في شيء من أجزاء غير المأكول، والعدم أمر واحد عند اعتبار العقل بخلاف الوجود; فإنّ الطبيعة توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فالقيد أمر واحد لابدّ من العلم بتحقّقه، وحصول اليقين بوجوده، فلا مجال لجريان البراءة في صورة الشكّ(2).
أقول: قد ذكرنا(3) أنّ الأعدام تتكثّر حسب تكثّر الوجودات، وأنّ كون القيد أمراً واحداً لا يقدح في جريان البراءة العقليّة أصلاً، مضافاً إلى ظهور بعض الروايات(4) في كون الحكم ثابتاً في المقام على نحو القضيّة الحقيقيّة، مع أنّ حمل الوجه الثاني في كلامه (قدس سره) على خلاف ظاهره لا وجه له بعد كونه في
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للنائيني: 268 ـ 272.
- (2) نهاية التقرير 1: 373 ـ 374.
- (3) في ص226 و 236.
- (4) تقدّمت في ص237.
مقام التصوير بحسب الثبوت، لا مقام الاستظهار من الأدلّة والإثبات، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بجريان البراءة العقلية في المقام.
جريان البراءة الشرعيّة في المقام
من الأخبار الدالّة عليها حديث «الرفع»(1) المعروف، واشتهاره بين الأصحاب يغني عن التكلّم في سنده، مع أنّه ظاهراً من الصحاح، وتقريب الاستدلال به للمقام من وجوه:
الأوّل: ما احتمله الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسالة من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون» إشارة إلى خصوص الموضوعات الخارجيّة التي تعلّق الجهل بها بعناوينها التي
تكون بها متعلّقات للأحكام اللزوميّة الشرعيّة، فيختصّ بالشبهات الموضوعيّة، ولا يعمّ الشبهات الحكميّة، فكلّ موضوع كان عنوانه المتعلّق للحكم مجهولاً فهو مرفوع.
وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي» في الرفع التشريعي، وعدم معقوليّة إسناده إلى الموضوعات الخارجيّة، إنّما هو باعتبار الأثر المترتّب عليه، المرفوع في صورة الجهل(2).
- (1) تقدّم في ج1: 406، وفي هذا الجلد ص128.
- (2) فرائد الاُصول 2: 28.
وفي المقام نقول: مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس، فتصحّ الصلاة فيه; لعدم كونه مانعاً ومبطلاً لها، وهذا من دون فرق بين أن نقول بانحلال المانعيّة المجعولة في المقام إلى مانعيّات متعدّدة حسب تعدّد أجزاء غير المأكول وأفراده، كما اختاره بعض الأعلام(1)، واستظهرناه من بعض أدلّة الباب على ما مرّ(2).
وبين أن نقول بعدم الانحلال بلحاظ كون بعض الروايات بصورة النهي(3); وهو تكليف واحد له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة; من دون فرق بين أن يكون نفسيّاً أو غيريّاً; وذلك لأنّه على تقدير عدم الانحلال، يكون
مرجع رفع الموضوع الذي يكون عنوانه مجهولاً إلى رفع أثره، وعدم كونه عصياناً لذلك النهي، فتدبّر.
الثاني: تعميم الموصول لكلتا الشبهتين: الموضوعيّة والحكميّة; نظراً إلى أنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما ثبتت له الصلة، فكلّ شيء كان مجهولاً بنفسه أو بعنوانه الموضوع للحكم، فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعيّة يصحّ الاستدلال بالحديث; لرفع المانعيّة في المقام بالتقريب المتقدّم في الوجه الأوّل.
ومبنى هذا الوجه عدم كون وحدة السياق مقتضية للاختصاص
- (1) تقدّم تخريجه في ص222 ـ 224 و 238 ـ 239.
- (2) في ص236 ـ 237 و 239.
- (3) تقدّم في ص202 و 238.
بالشبهات الموضوعيّة، بل كون وحدته موجبة للحمل على العموم;
لأنّ عدم تحقّق الاضطرار في الأحكام وكذا الإكراه ومثله لا يوجب تخصيص «ما لا يعلمون»، بل مقتضى السياق إرادة العموم من هذا الموصول كإرادته من اخواته. غاية الأمر أنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظة
سعة متعلّقه وضيقه، فقوله (صلى الله عليه وآله) «ما اضطرّوا إليه» اُريد منه كلّ ما اضطرّ إليه في الخارج.
غاية الأمر أنّه لا يتحقّق الاضطرار بالإضافة إلى الحكم بوجه، فمقتضى اتّحاد السياق أن يراد من قوله (صلى الله عليه وآله) : «ما لا يعلمون» أيضاً كلّ فرد من أفراد هذا العنوان، ألا ترى أنّه لو قيل: «ما يرى وما يؤكل» في قضيّة واحدة، لا يوجب انحصار أفراد الثاني في الخارج ببعض الأشياء وتضيّق دائرته، تخصيص الأوّل أيضاً بذلك البعض، كما هو ظاهر.
الثالث: دعوى اختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولاً، غاية الأمر تعميم الحكم بالإضافة إلى الأحكام الكلّية المجعولة، المجهولة في الشبهات الحكمية، والأحكام الجزئيّة المجهولة في الشبهات الموضوعيّة.
ومبنى هذه الدعوى ـ مضافاً إلى أنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له، والحديث ظاهر في الإسناد إلى نفس الموصول ـ : أنّ حمل الموصول على الموضوع الخارجي بلحاظ اتّحاد السياق يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة اُخرى; فإنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» هو ما كان بنفسه معروضاً لوصف عدم العلم، كما في غيره من العناوين، كعنواني الاضطرار والإكراه; فإنّهما يتعلّقان بنفس الفعل ويوجبان
اتّصافه بوصفي المضطرّ إليه والمكره عليه، مع أنّ تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور; لعدم كون الفعل بنفسه معروضاً للجهل، وإنّما المعروض له هو عنوانه.
وحينئذ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول فيما لا يعلم على الحكم المشتبه، وبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادة الفعل، ولا ريب أنّ الترجيح مع الأوّل بنظر العرف.
وعلى هذا الوجه يصحّ الاستدلال بالحديث للمقام، بلحاظ كون المانعيّة الجزئيّة الثابتة لهذا اللباس على تقديرها مرفوعة; لأجل كونها
بنفسها مجهولة، وهذا إنّما يتمّ على تقدير الانحلال. وأمّا على تقدير
عدمه، فليس لنا أحكام جزئيّة مجهولة حتّى يتعلّق بها الرفع، بل الثابت
إنّما هو الأحكام الكلّية، والمفروض في الشبهات الموضوعيّة كونها معلومة غير مجهولة.
وقد ناقش سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في شمول الحديث لمثل المقام من الشبهات الموضوعيّة; نظراً إلى أنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها، لا رفع الأحكام الجزئيّة، أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع.
وبعبارة اُخرى: أنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي، المقتضي لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة، وكذا المشكوكة; لعدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، فقد علم بما يوجب التضييق عليه،
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي، نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1)، وما يدلّ على طهارة المياه(2)، أو جميع الأشياء إلى أن يعلم أنّها قذر(3) أو نجس(4)، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعيّة.
وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي. وبالجملة: فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئيّة المشكوكة في الشبهات الموضوعيّة(5).
وتندفع المناقشة ـ مضافاً إلى ما مرّ(6) من جريان البراءة العقليّة، وقاعدة قبح العقاب من دون حجّة ـ بأنّه ما الفرق بين قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع ما لا يعلمون»، وبين مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع ما اضطروا إليه»، فكما أنّ الثاني حاكم على الأدلّة الأوّليّة، كذلك الأوّل; فإنّ مفاده عدم ثبوت الحرمة الواقعيّة في مورد الشكّ والجهل، فالإنصاف تماميّة الاستدلال بحديث «الرفع» للمقام.
- (1) تأتي في الصفحة الآتية.
- (2) وسائل الشيعة 1: 133 ـ 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب1.
- (3) تهذيب الأحكام 1: 284 ح832 ، وعنه وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح4.
- (4) الخلاف 1: 201 مسألة 161.
- (5) نهاية التقرير 1: 375 ـ 376.
- (6) في ص229 ـ 240.
جريان أصالة الحليّة في المقام
ومن الاُصول التي اعتمد عليها في المقام لإثبات الصحّة والجواز أصالة الحلّية التي تدلّ عليها روايات كثيرة:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1).
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك، أو رضيعتك،
والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة(2).
ومنها: غير ذلك من الروايات(3) الدالّة عليها، والظاهر عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة; لشمول مثل الموثّقة للشبهات الحكميّة، وامتيازها عن أصالة البراءة الشرعيّة إنّما هو في اختصاصها بالشبهات التحريميّة، وعدم شمولها للشبهات الوجوبية دون البراءة الشرعيّة.
- (1) الكافي 5: 313 ح39، الفقيه 3: 216 ح1002، تهذيب الأحكام 7: 226 ح988، وج9: 79 ح337، مستطرفات السرائر: 84 ح27، وعنها وسائل الشيعة 17: 88 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 ح1، وج24: 236، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب64 ح2.
- (2) الكافي 5: 313 ح40، تهذيب الأحكام 7: 226 ح989، وعنهما وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 ح4.
- (3) وسائل الشيعة 17: 88 ـ 91 و 218 ـ 220، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 و 52.
ودعوى رجوع الثانية إلى الاُولى; لأنّ ترك الواجب حرام. مدفوعة بمنع حرمة ترك الواجب بحيث كان هناك تكليفان: تعلّق أحدهما بالفعل، والآخر بالترك، بل الواجب ما تعلّق البعث بإيجاده، والحرام ما تعلّق الزجر به، من دون أن يرجع أحدهما إلى الآخر بوجه. وكذا تمتاز أصالة الحلّية; بأنّ مفادها جعل الحكم الإثباتي في مرحلة الظاهر، فيترتّب على الحلّية جميع الآثار المترتّبة عليها.
وأمّا البراءة الشرعيّة المدلول عليها بحديث «الرفع»(1)، فمرجعها إلى رفع الحكم الواقعيّ المجهول في الظاهر، من دون أن يكون مفادها وجود حكم إثباتيّ ولو في مرحلة الظاهر، فتدبّر.
وكيف كان، فالمنقول عن صاحب المدارك (قدس سره) التمسّك بأصالة الحلّية في المقام(2)، وتبعه على ذلك المحقّق القمّي (قدس سره) (3)، واختار جريانها أيضاً السيّد المجدّد الشيرازي (قدس سره) (4)، وتقريب الاستدلال بها من وجوه:
الأوّل: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة هي التكليفيّة منهما، كما هو الظاهر من إطلاقهما، وجريانه في المقام مع أنّ الشكّ فيه إنّما هو في الحلّية والحرمة الوضعيّتين، إنّما هو بأن يقال: إنّ الشكّ في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشكّ في حلّية لحم الحيوان المأخوذ
- (1) تقدّم في ج1: 406; وفي هذا الجلد ص128 و 240.
- (2) مدارك الأحكام 3: 167.
- (3) جامع الشتات 2: 776 ـ 777.
- (4) تقريرات المجدّد الشيرازي لعليّ الروزدري 4: 101.
منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها، تترتّب عليها صحّة الصلاة فيه، كما لا يخفى.
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) (1):
أوّلاً: أنّ الشكّ في كون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس محرّم الأكل أو غيره، تارة: بنحو يكون الحيوان المزبور مشخصاً معلوماً، والشبهة في حكمه شبهة حكميّة راجعة إلى ثبوت الجهل بالحكم الكلّي الإلهي.
واُخرى: بنحو يكون كذلك، لكنّ الشبهة موضوعيّة، والشكّ والترديد إنّما كان لأجل اشتباه الأمر الخارجي، من دون أن يكون راجعاً إلى الحكم الكلّي.
وثالثة: بنحو لا يكون الحيوان المزبور مشخصاً أصلاً; بمعنى أنّه لم يعلم
أنّ اللباس من أيّ حيوان اُخذ، هل اُخذ من الشاة أو من الثعلب مثلاً، ولا يكون في الخارج حيوان مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة
أو الموضوعيّة أصلاً.
ففي الأوّلين وإن كان لا مانع من جريان أصالة الحلّية بناءً على عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة، إلاّ أنّهما من الفروض النادرة في محلّ البحث. وفي الأخير الذي هو محلّ الابتلاء نوعاً; لكثرة وقوعه وتحقّقه، لا مجال لإجراء أصالة الحلّية في لحم الحيوان بعدما لم يكن هنا حيوان مشكوك اللحم أصلاً، ولا يكون لحمه على تقديره مورداً للابتلاء بوجه.
وبعبارة اُخرى: ليس في الخارج حيوان شكّ في حلّية لحمه بإحدى
- (1) نهاية التقرير 1: 381 ـ 383.
الشبهتين حتّى يجري فيه أصالة الحلّية، فتدبّر.
وثانياً: أنّ ظاهر الأدلّة أنّ الحكم ببطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول إنّما يكون مترتّباً على الحيوان المحرّم بعنوانه الأوّلي، كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها، لا على الحيوان بوصف كونه محرّم الأكل، والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذوات الموصوفات مع قطع النظر عن الوصف، ويؤيّده ما في بعض الروايات(1) من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة، فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم فيه أصلاً.
وبالجملة: بطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرّمة ليس حكماً مترتّباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتّب وطوليّة بينهما أصلاً.
ودعوى أنّه لا مجال للعدول عن ظاهر العنوان المأخوذ في الدليل; فإنّ جعل وصف التحريم في الموضوع في مثل موثقة ابن بكير المتقدّمة(2) ظاهرة في المدخليّة والترتّب بحيث يكون الحكم بالفساد مترتّباً على وصف التحريم، ولا وجه للحمل على الإشارة إلى الذوات بعناوينها الأوّلية بعد كونها خلاف الظاهر.
مدفوعة بأنّه إذا كان التعرّض للذوات بتلك العناوين ـ مع أنّه موجب للتطويل بلا طائل; لعدم ترتّب فائدة عليه ـ فالطريق يكون منحصراً في
- (1) وسائل الشيعة 4: 355 ـ 358، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب7.
- (2) في ص175 ـ 176.
الإشارة إليها بعنوان جامع لا دخالة له في الحكم أصلاً، مضافاً إلى ما عرفت من التعبير في هذا الحكم بنفس العناوين الأوّليّة في بعض الروايات، وإلى اشتمال بعضها على التعليل بكون أكثرها مسوخاً(1)، أو كونها دابّة لا تأكل اللحم(2)، ومع الحمل على موضوعيّة عنوان الحرمة يلزم رفع اليد عن التعليل، فتدبّر.
فالظاهر حينئذ ما ذكر. وعليه: فالأصل الجاري في أثر الحليّة لا يثبت الأثر الآخر المشكوك إلاّ على القول بالأصل المثبت، وهو خلاف التحقيق.
وثالثاً: سلّمنا الترتّب وكون الحرمة واسطة في ثبوت البطلان والفساد، لكنّ المراد منها ومن الحلّية المترتّبة عليها الصحّة ليست الحرمة والحليّة الفعليّتين، وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحلّ أكله فعلاً; للاضطرار ونحوه ولو كان محرّماً ذاتاً، وعدم جوازه في أجزاء ما لا يحلّ أكله كذلك، كما إذا كان مغصوباً ولم يرض المالك بالتصرّف في خصوص لحمه; فإنّ وبره حينئذ يصير من أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه وإن كان محلّلاً ذاتاً.
ومن المعلوم أنّه لا يمكن الالتزام بذلك، فالمراد منهما هي الحرمة والحليّة المتعلّقتان بذوات الحيوانات بعناوينها الأوّلية، مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أوّلاً، كالاضطرار والغصب ونحوهما. ومن
- (1) علل الشرائع: 342 ب43 ح1، وعنه وسائل الشيعة 4: 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب4 ح7.
- (2) الكافي 3: 401 ح16، وص397 ح3، تهذيب الأحكام 2: 203 ح797، الاستبصار 1: 384 ح1456، وعنها وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح2 و 3، ويلاحظ حاشية شرائع الإسلام للشهيد الثاني: 78 وغيرها.
المعلوم أنّ أصالة الحلّية لا تجدي في إثبات الحلّية الواقعيّة، كما هو الشأن في غيرها من الاُصول الشرعيّة(1).
فهذا الوجه من التقريب غير تامّ.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) ممّا ملخّصه: أنّ الشرطيّة إنّما تنتزع من تقييد المأمور به بوجود شيء، والمانعيّة منتزعة من تقيّده بعدمه، وكلا التقيّدين يكونان من أجزاء المأمور به، فكما أنّ الصلاة مثلاً لها أجزاء من الأفعال والأقوال المخصوصة، كذلك لها أجزاء هي مجموع التقيّدات; بمعنى أنّ كلّ تقيّد جزء مستقلّ.
غاية الأمر أنّه جزء اعتباريّ، ولكنّه يشترك مع الأجزاء الحقيقيّة في الجهات والأحكام، فكما أنّ الأمر المتعلّق بمثل الصلاة من المركّبات الاعتباريّة ـ مع كونه واحداً حقيقة ـ له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منه
بجزء من أجزاء متعلّقه، كذلك يتعلّق بعضه بالتقيّد الذي هو جزء للمأمور به على ما عرفت(2)، وحيث إنّه لا وجود للتقيّد إلاّ بوجود القيد، بل هو عينه، فيكون نفس الشرط وعدم المانع معروضاً لذلك البعض.
فظهر أنّ عدم المانع ـ الذي هو محلّ البحث والكلام في هذا المقام ـ يكون كسائر الأجزاء متعلّقاً لبعض الأمر بالكلّ، وحيث إنّ النهي ليس إلاّ طلب الترك، فيكون وجود المانع منهيّاً عنه; لأنّ المفروض كون عدمه متعلقاً للطلب، غاية الأمر أنّ النهي المتعلّق بوجود المانع نهي ضمنيّ لا استقلاليّ،
- (1) نهاية التقرير 1: 381 ـ 383.
- (2) في ص234.
ولكن ذلك لا يقدح في اتّصاف المانع بالحرمة بعد تعلّق النهي به، فاللباس له أفراد: فرد حلال حقيقة; وهو ما علم عدم كونه من أجزاء محرّم الأكل، وفرد حرام حقيقة; وهو ما علم كونه كذلك، وفرد مشكوك يجري فيه قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء فيه حلال وحرام...»(1).
ودعوى أنّ الظاهر منه لزوم كون المنع المشكوك حكماً مستقلاًّ ناشئاً عن المبغوضيّة الذاتيّة، فيختصّ اعتبار هذا الأصل بالشبهات التحريميّة النفسيّة، واضحة الفساد; إذ لا دليل على صرف لفظ الحلال والحرام إلى بعض أفرادهما.
ويشهد لذلك ـ أي لعموميّة لفظ «الحلال والحرام»، وعدم اختصاصهما بالنفسيّين ـ الاستعمالات الكثيرة في ألسنة الرواة وأجوبة الأئمـّة (عليهم السلام) :
منها: مكاتبة محمد بن عبد الجبّار قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء الله(2).
ومنها: مرسلة موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الحديد: أنّه حلية أهل النار، والذهب إنّه حلية أهل الجنّة، وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه، الحديث(3).
- (1) تقدم في ص245.
- (2) تقدّمت في ص181.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 227 ح894 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 414، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح5.
ومنها: غير ذلك من الروايات الواردة في الموارد الكثيرة(1)، التي يستفاد منها عموم لفظ الحلال والحرام، انتهى(2).
ويرد عليه أوّلاً: أنّ انتزاع المانعيّة من التقيّد بالعدم ممنوع; لأنّ العدم ليس بشيء حتى يمكن تقيّد المأموربه به، بل المانعيّة حكم شرعيّ مجعول مستفاد من دليلها وموضوعها الوجود; لتضادّه مع المأمور به.
وثانياً: أنّ الحكم بتبعّض الأمر وانبساطه، واختصاص كلّ جزء من أجزاء المأمور به ببعضه، أمر لا يساعده العرف والعقلاء، ولعلّ منشأ الالتزام به ملاحظة أنّ الأمر بالكلّ يكفي في الداعويّة إلى الأجزاء من دون افتقار
إلى شيء آخر، مع أنّ الكفاية لا تستلزم التبعّض; فإنّ الداعي إلى الأجزاء كما عرفت هو الأمر المتعلّق بالكلّ بعين داعويّته إليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه; لأنّ الأجزاء هي نفس الكلّ، فالتبعّض ممّا لا يساعده العقلاء، وعلى تقديره، فتوسعة دائرة الانبساط بحيث تشمل الأجزاء الاعتباريّة العقليّة ممنوعة، فتدبّر.
وثالثاً: أنّه على تقدير التبعّض في المقام أيضاً، فالأمر المتعلّق بالتقيّد لا يكاد يسري من متعلّقه إلى غيره، ومجرّد كون وجود التقيّد عين وجود القيد لا يسوّغ التسرية ـ لعدم كون الأمر متعلّقاً بالوجود، بل بالمفهوم والماهيّة والعينيّة في الوجود ـ فضلاً عن الاتّحاد، والملازمة والمقارنة لا توجب سراية الأمر من متعلّقه إلى غيره ممّا هو عينه، أو متّحد معه،
- (1) تقدّمت في ص244 ـ 245.
- (2) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 315 ـ 374.
أو مقارن أو ملازم له، مع أنّ لازم ذلك كون الشرائط متعلّقة لبعض الأمر النفسي، فلا يبقى مجال للاتّصاف بالوجوب الغيري فيها أيضاً، كما لا يخفى.
ورابعاً: أنّ تعلّق الأمر بالتقيّد بالعدم في باب الموانع لا يستلزم تعلّق النهي بها; لعدم كون حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك، بل هي كما عرفت(1)عبارة عن الزجر عن الوجود، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، وكما أنّ تعلّق بعض الأمر إلى وجود الشرط لا يقتضي تعلّق النهي
بعدمه، كذلك تعلّقه إلى عدم المانع لا يوجب تعلّق النهي بوجوده.
وخامساً: أنّه على تقدير صحّة دعوى تعلّق النهي بالمانع نقول:
إنّ مناط جريان أصالة الحلّية في المقام هو تحقّق عنواني الحلال والحرام، لا ثبوت النهي وعدمه، ولا ملازمة بين تعلّق النهي بالمانع، وثبوت عنوان التحريم بالإضافة إليه.
واستعمال العنوانين في الروايات في الموارد الكثيرة(2) في باب الشروط والموانع وإن كان ممّا لا مجال لإنكاره، إلاّ أنّ كون الوجه فيه هو ثبوت الأمر والنهي التكليفيّين بالنحو الذي أفاده لم يقم عليه دليل; لاحتمال أن يكون الوجه فيه هو كون المراد بالحليّة والحرمة فيها هي الحليّة والحرمة الوضعيّتين، كما عليه يبتني الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بأصالة الحلّية على ما يأتي، فلا دلالة لتلك الروايات على ما أفاده (قدس سره) ، وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ.
- (1) في ص224 ـ 226.
- (2) تقدّمت في ص244 ـ 245.
الوجه الثالث: ما يظهر من المحقّق القمّي (قدس سره) من أنّ المراد من الحليّة والحرمة في قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال...»(1) ليس خصوص الحلّية والحرمة التكليفيّتين; أي ما يكون مبغوضاً بنفسه لأجل المفسدة الملزمة الباعثة على الزجر عنه لنفسه، أو غير مبغوض كذلك، بل يعمّ الحلّية والحرمة الوضعيّتين; أي ما يكون مبغوضاً; لكونه مانعاً مثلاً عن حصول مطلوب المولى، أو غير مبغوض كذلك.
فكما أنّه إذا تردّد مائع بين كونه خمراً أو ماءً، يكون مقتضى الرواية جواز شربه وعدم وجوب الاجتناب عنه، فكذا إذا تردّد أمر الثوب بين صحّة الصلاة الواقعة فيه; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وبين بطلانها فيه;
لكونه من أجزائه، يكون مدلول الرواية حليّة الصلاة فيه; لكون الثوب أيضاً شيئاً فيه حلال باعتبار عدم كونه مانعاً عنها، وحرام باعتبار كونه مانعاً، فالصلاة فيه حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعها(2).
ونفى البعد عن الاعتماد على هذا الوجه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) مع تتميمه; بأن يقال: إنّ التتبّع والاستقراء في كلمات العرب واستعمالاتهم لفظي الحلال والحرام في النثر والنظم، يقضي بأنّ هذه المادّة ـ أي مادّة «حرم» في ضمن أيّة صيغة كانت ـ يراد منها الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة للشيء بتمام الجهات أو بعضها، كما يظهر بالتدبّر في قولهم: «حرم الرجل» أو «حريم البيت»، أو القرية، أو البلد، أو المسجد الحرام، أو الشهر الحرام، أو محروميّة الرجل في مقابل
- (1) تقدّمت في ص245.
- (2) جامع الشتات 2: 776 ـ 777.
مرزوقيّته مثلاً، أو كونه محترماً وصالحاً للاحترام، أو المحرم في مقابل المحلّ.
وفي الشرعيّات كثير، كقوله ـ تعالى ـ : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا ْ )(1). وقوله (صلى الله عليه وآله) : المسلم محرّم عن المسلم(2). والتعبير عن تكبيرة الافتتاح بـ «تبكيرة الإحرام»، وعن التسليم الذي هو آخر أفعال الصلاة بـ «التحليل»(3); فإنّ المراد في جميع هذه الموارد هو نحو من الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة للشيء ببعض الجهات، أو الآتية من قبله، وفي مقابلها: الحلال، والحلّ، والمحلّ، وأشباهها ممّا اُخذت فيه مادّة هذه الصيغ; فإنّ معناها هو الإطلاق والإرسال وعدم المحدوديّة الثابت له.
ويؤيّده الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة، الدالّة على حرمة الصلاة في الحرير(4)، أو فيما لا يؤكل لحمه(5)، أو في الذهب(6)، وقد تقدّم(7) نقل بعضها في كلام المحقّق النائيني (قدس سره) ، وحينئذ فلا يبعد التمسّك بقوله (عليه السلام) : «كلّ شيء فيه حلال وحرام...»; لأنّ اللباس أيضاً شيء فيه حلال باعتبار عدم محدوديّته وإطلاقه بالنسبة إلى الصلاة فيه، وحرام باعتبار خلافه، والمشكوك منه يكون كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ.
- (1) سورة البقرة 2: 275.
- (2) المسند لابن حنبل 7: 238 ح2005، سنن النسائي 5: 83 ، المعجم الكبير للطبراني 19: 407 ح969، وفيها: «كلّ مسلم على مسلم محرّم».
- (3) الكافي 3: 69 ح2، الفقيه 1: 33 ح68، وعنهما وسائل الشيعة 6: 11، كتاب الصلاة، أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح ب1 ح10.
- (4 ـ 6) وسائل الشيعة 4: 367 ـ 371، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب11، وص345 ـ 347 ب2، وص412ـ416 ب30.
- (7) في ص251 ـ 252.
ودعوى أنّ إطلاق الحلال والحرام على الثوب باعتبار صحّة الصلاة فيه وبطلانها خلاف المتعارف; إذ إطلاقهما على اللباس ينصرف إلى جواز لبسه وعدمه، ولا يفهم منه جواز الصلاة فيه وعدمه.
مدفوعة بأنّه وإن كان خلاف المتعارف، لكن اختصاص الحكم في أدلّة أصالة الحليّة بما لا يكون كذلك ممنوع; لأنّ المتفاهم منها عرفاً إثبات الحلّية الظاهريّة في المشتبه، من دون فرق بين مورد تعارف الإطلاق وعدمه أصلاً(1).
ويؤيّد ما أفاده سيّدنا الاُستاذ وضوح عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة للّفظين، وأنّ إطلاقهما في الشريعة إنّما هو على طبق ما هو معناهما بحسب اللغة والعرف، غاية الأمر أنّ المحدوديّة في لسان الدليل الشرعي ظاهرة في المحدوديّة الشرعيّة، من دون أن يكون هذا الوصف داخلاً في المعنى بوجه، وقد عرفت أنّ اللغة والعرف متطابقان على كون معناهما نحواً من المحدوديّة وعدمه.
والظاهر أنّ الأخبار المذكورة ناظرة إلى هذا الوجه، لا إلى الوجه الذي اختاره المحقّق المزبور، وإلاّ لكان المناسب جعل الحرمة متعلّقة فيها باللباس، مع أنّها ظاهرة في تعلّقها بالصلاة فيه، فتدبّر.
في التمسّك بأصالة العدم في المقام
قد تقدّم(2) أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بنى الحكم بالصحّة وعدمها في مسألة اللباس المشكوك على الشرطيّة والمانعيّة; نظراً إلى أنّه على تقدير الشرطيّة
- (1) نهاية التقرير 1: 383 ـ 385.
- (2) في ص199 ـ 200.
لابدّ من إحراز الشرط، ولا يكفي احتماله في مقام الامتثال. وأمّا على تقدير المانعيّة فيكفي أصالة عدم المانع ولو لم يكن له حالة سابقة.
أقول: لابدّ من ملاحظة الدليل على اعتبار هذا الأصل، وما يمكن أن يستدلّ به أحد اُمور:
الأوّل: استمرار سيرة العقلاء عليه، وأنّ بناءهم على العدم عند الشكّ من دون لحاظ الحالة السابقة.
والجواب عنه: منع الصغرى والكبرى معاً; لعدم ثبوت السيرة على ما ذكر وإن قيل بثبوتها في بعض الموارد النادرة، كما في باب الأنساب، وعدم حجّيتها على تقدير ثبوتها; لاحتياجها إلى دليل الإمضاء، وهو لم يثبت.
الثاني: كون العدم أولى بالماهيّة من الوجود; لأنّه يكفي في استمراره وعدم انقطاعه عدم حدوث علّة الوجود، فالعدم أولى.
والجواب عنه واضح; لأنّ تساوي نسبة الممكن وماهيّته إلى طرفي الوجود والعدم، وعدم ثبوت مزيّة لأحدهما بوجه، تمنع عن ثبوت الأولويّة، ومجرّد كون علّة العدم هي عدم علّة الوجود لا توجب ثبوتها، كما هو ظاهر.
الثالث: تنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا الأصل لا عليه، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشكّ في قوله (عليه السلام) : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت»(1) ليس الشكّ الذي تعلّق بما تعلّق به اليقين; وهي الطهارة، بل المراد هو الشكّ في وجود الحدث الناقض لها، فالمعنى حينئذ أنّه لا يضرّ
- (1) تهذيب الأحكام 1: 421 ح1335، الاستبصار 1: 183 ح641، علل الشرائع: 361 ب80 ح1، وعنها وسائل الشيعة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح1.
الشكّ في وجود الحدث; لأنّه يبنى على عدمه فيؤخذ بمقتضى اليقين السابق، فهو ـ أي اليقين السابق ـ ليس له دخل في جريانه، بل الرجوع إليه من باب أنّه إذا وجب البناء على عدم حدوث الحادث، فالواجب الرجوع إلى الحالة السابقة.
والجواب عنه: ما حقّق في محلّه(1) من ظهور النهي عن نقض اليقين بالشكّ في مدخليّة اليقين وركنيّته في الحكم، وهو لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا، أنّ أصالة العدم لا تكون أصلاً مستقلاًّ معتبراً، بل المعتبر في جريانها وجود شرائط الاستصحاب، وعمدتها ثبوت الحالة السابقة المتيقّنة، فالحكم بابتناء المسألة على الشرطيّة والمانعيّة كما عرفت من الجواهر(2) غير تامّ.
وأمّا الاستصحاب، فلابدّ قبل البحث عن جريانه من ملاحظة مقدّمة; وهي: أنّ المانعيّة الشرعيّة المجعولة بالإضافة إلى أجزاء غير المأكول ـ وهي كما عرفت(3) أمر وجوديّ ووصف ثبوتيّ، من دون أن يرجع إلى قيديّة العدم ومدخليّته في المأمور به، كمدخليّة وجود الشرائط فيه ـ هل يكون موضوعها ثبوت حالة للمصلّي في ظرف الصلاة; وهو كونه لابساً لأجزاء غير المأكول، فالمانع وصف المصلّي في ظرفها، كاعتبار كون المصلّي طاهراً من الحدث والخبث في مسألة شرطيّة الطهارة.
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 14: 190 ـ 196.
- (2) في ص199 ـ 200 و 256.
- (3) في ص201 ـ 202 و 237.
أو أنّ موضوعها ثبوت وصف للّباس; بمعنى أنّ اتّصاف اللباس بكونه من أجزاء غير المأكول مانع شرعاً عن الصلاة وصحّتها، نظير الشرائط المعتبرة فيها من جهة الزمان والمكان، الراجعة إلى كون ما يصلّى فيه أو عليه يلزم فيه كذا وكذا.
أو أنّ موضوعها ثبوت وصف لنفس الصلاة; بمعنى أنّ اتّصاف الصلاة بكونها واقعة في غير المأكول ـ بحيث كان غير المأكول ظرفاً لها ـ مانع عن تحقّقها واتّصافها بالصحّة؟
فإن كانت المانعيّة المجعولة في المقام بالنحو الأوّل، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه; لأنّ المصلّي قبل لبسه لهذا اللباس المشكوك كان غير لابس لأجزاء غير المأكول قطعاً، وبعد لبسه له يشكّ في انتفاء هذه الصفة، ومقتضى الاستصحاب بقاؤها، فالآن كما كان من عدم كونه لابساً لشيء من أجزائها.
نعم، يعتبر في جريان هذا الاستصحاب ـ مضافاً إلى القول بجريان الاستصحاب في الأحكام العدميّة، كجريانها في الأحكام الثبوتيّة; لأنّ مجرّد كون الحكم بالثبوت باختيار الشارع وبيده يكفي في جريانه بالإضافة إلى العدم ـ عدم اختصاص جريانه بما إذا كان المستصحب موضوعاً للأثر مستقلاًّ، بل يجري فيما إذا كان جزءاً لموضوعه، أو دخيلاً فيه ولو بنحو المانعيّة، فالاستصحاب على هذا النحو ممّا لا مانع منه.
وإن كانت المانعيّة بالنحو الثاني; وهو ما كان موضوعها خصوصيّة في اللباس، فلا مجال لجريان الاستصحاب; لعدم ثبوت الحالة السابقة المتيقّنة;
فإنّ اللباس من أوّل وجوده كان مشكوكاً فيه. نعم، يجري الاستصحاب بناءً على هذا الوجه في بعض فروض المسألة، وهو ما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطّخ بها، كما قوّيناه سابقاً(1); فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطّخ وعدم المصاحبة، كما لا يخفى.
وإن كانت المانعيّة بالنحو الثالث، فلا مجال أيضاً لجريان الاستصحاب فيه; لما ذكر من عدم ثبوت الحالة السابقة المتيقّنة، والظاهر أنّ المستفاد من أدلّة المانعيّة في المقام هو هذا النحو; فإنّ موثّقة ابن بكير المتقدّمة(2)، الدالّة على فساد الصلاة في وبر كلّ ما يحرم أكله، وكذا في سائر أجزائه، ظاهرة في أنّ الفساد ناش من وقوع الجزء المذكور ظرفاً للصلاة، فاتّصافها بكون ظرفها وبر غير المأكول موجب للفساد ومانع عن الصحّة.
وكذا ما يدلّ على النهي عن الصلاة في جلد غير المأكول ظاهر في أنّ المانع هو اتّصاف الصلاة بوقوعها في جلده، فالمانع بحسب ظاهر الأدلّة هو الوصف والخصوصيّة المتحقّقة في الصلاة، وهو ليس له حالة سابقة; لعدم العلم بهذا الوصف بالإضافة إلى الصلاة المشكوكة في زمن من الأزمنة. نعم، ربما يقرّر الاستصحاب بناءً على هذا الوجه بوجوه:
الأوّل: أن يقال: إنّ الصلاة حينما لم تكن موجودة، لم تكن في أجزاء غير المأكول، فهذه القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع ـ المستلزم لانتفاء المحمول ـ
- (1) في ص177 ـ 182.
- (2) في ص175 ـ 176.
كانت متيقّنة قد شكّ في بقائها بعد تحقّق الموضوع، فلا مانع من استصحابها، ويترتّب عليه انتفاء المحمول، وهو المطلوب.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا تبعد دعوى أنّ القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع مغايرة عرفاً للقضيّة السالبة بانتفاء المحمول، ومجرّد اتّحادهما لفظاً وصورة لا يوجب اتّحادهما حقيقة، ومع المغايرة لا مجال للاستصحاب; للزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة ـ : أنّ استصحاب الحالة السابقة مع انتفاء الموضوع وإن كان صحيحاً من حيث وجود الحالة السابقة، إلاّ أنّ تطبيق تلك الحالة على الحالة اللاّحقة المشروطة بوجود الموضوع يكون بحكم العقل، فيصير حينئذ من الاُصول المثبتة التي لا نقول بها.
الثاني: أنّ العدم النعتي وإن كان موضوعاً في أدلّة غير المأكول، إلاّ أنّه لا ينافي جريان الاستصحاب بالنسبة إلى العدم الأزلي، وتوضيحه يتوقّف على بيان مقدّمتين:
الاُولى: أنّ معنى أخذ العامّ موضوعاً للحكم هو ملاحظته مع جميع الحالات الطارئة، فمرجع قوله: «أكرم العلماء» إلى قوله: «أكرم العلماء; سواء كانوا عدولاً، أم لا، وسواء كانوا هاشميّين، أم لا، وسواء كانوا كذا وكذا، أم لا»، فكلّ واحدة من هذه الصفات ملحوظة مع نقيضها في مقام الحكم.
الثانية: أنّه إذا دلّ الدليل على خروج بعض تلك العوارض عن حكم العامّ تكون بقيّة العوارض والعناوين داخلة فيه، بلا لزوم تعنونه بعنوان كونه غير ذلك العنوان الخاصّ الخارج عنه، فإذا شكّ في صدق عنوان الخاصّ على فرد، ولم تكن له حالة سابقة، وكان لبعض العناوين الباقية حالة سابقة،
يستصحب ذلك العنوان ويحكم عليه بحكم العامّ.
ففي مثل قوله: «كلّ امرأة ترى دم الحيض إلى خمسين»(1) يكون مفاده ثبوت هذا الحكم على جميع العناوين; سواء كانت المرأة قرشيّة، أو كانت غير قرشيّة، على نحو مفاد كان الناقصة، أو كانت المرأة التي لم توجد بينها، وبين قريش نسبة، أو لم توجد بينها، وبين غير قريش نسبة على نحو مفاد ليس التامّة; فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه، ورفع مفاد كان الناقصة ليس خصوص ليس الناقصة، بل أعمّ منها ومن ليس التامّة.
فإذا دلّ الدليل على خروج القرشيّة، وأنّها ترى الدم إلى ستّين، لم يكن خروجها موجباً لتعنون العامّ، بل مقتضاه خروج هذا العنوان وبقاء البقيّة تحت العامّ، فإذا شكّ في كون المرأة قرشيّة أم لا; فإنّه وإن لم تكن له حالة سابقة على نحو مفاد كان الناقصة، إلاّ أنّه لا ينافي إحراز عدم القرشيّة على نحو «ليس التامّة» باستصحاب العدم الأزلي، والمفروض بقاء هذا العنوان تحت العامّ، فيشمله حكمه، وهكذا الكلام في المقام.
ويرد على هذا الوجه ـ مضافاً إلى إمكان منع كلتي المقدّمتين; لأنّ مرجع العموم إلى ملاحظة جميع الأفراد بعنوان كونها من مصاديق العامّ فقط، لا إلى ملاحظة جميع العناوين والحالات الطارئة، فالعالم العادل ملحوظ بما أنّه عالم، وكذا العالم الهاشمي، لا بما أنّهما عالم عادل وعالم هاشميّ، بل يمكن دعوى عدم معقوليّة ملاحظة الحالات المتضادّة في موضوع الحكم، بحيث كان لكلّ حالة مدخليّة في ترتّب الحكم وثبوت الأثر.
- (1) وسائل الشيعة 2: 335، كتاب الطهارة، أبواب الحيض ب31.
وكذا مرجع التخصيص إلى تعنون العامّ بعنوان كونه غير ذلك العنوان الخاصّ; فإنّه وإن لا يكون مستلزماً للمجازيّة الموجبة لاستعمال العامّ من الأوّل في غير عنوان المخصّص، إلاّ أنّ تصرّفه في الإرادة الجدّية وقصرها فيما عدا ذلك العنوان ممّا لا مجال لإنكاره، فالإرادة الجدّية متعلّقة بعنوان كونه غيره ـ :
أنّه على تقدير تسليم كلتي المقدّمتين نقول: إنّ عدم تحقّق النسبة بنحو ليس التامّة لا يكون له حالة سابقة; لأنّ النسبة من الاُمور ذات الإضافة، ومتقوّمة بالمنتسبين.
وحينئذ نقول: إنّ عدم تحقّق النسبة إن كان المراد به هو عدم تحقّقها بنحو كلّي، لا مضافة إلى مرأة خاصّة، فهو وإن كان له حالة سابقة، إلاّ أنّ انتقاض تلك الحالة مسلّم ولا شكّ فيه أصلاً، وإن كان المراد به هو عدم تحقّقها بالإضافة إلى مرأة خاصّة وقع الشكّ في قرشيّتها، فهو ليس له حالة سابقة بوجه، فهذا الوجه أيضاً غير تامّ.
الثالث: الاستصحاب التعليقي; بأن يقال: إنّ المصلّي كان قبل لبس المشكوك بحيث لو صلّى لم تكن صلاته واقعة في غير المأكول، وبعد لبسه يشكّ في بقاء هذه القضيّة التعليقيّة، فتستصحب ويحكم ببقائها.
والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب التعليقي محلّ خلاف وإشكال ـ : أنّ مورده ما إذا كان التعليق واقعاً في لسان الدليل الشرعي، مثل قوله: «العنب إذا غلا يحرم»(1); سواء قلنا بأنّ مفاده جعل الحرمة على نحو
- (1) وسائل الشيعة 25: 287، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب3.
الواجب المشروط; بأن يكون المجعول هو الحكم على تقدير تحقّق المعلّق عليه، أو قلنا بأنّ مفاده جعل الملازمة بين الغليان والحرمة، أو سببيّة الأوّل للثّاني.
وأمّا إذا كان التعليق غير واقع في لسان الدليل الشرعي، كالتعليق الاختراعي في مثل هذا الوجه، فلا مجال لدعوى جريان استصحابه أصلاً، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه ربما يقال بأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب، بناءً على الوجه الأخير الذي عرفت(1) أنّه هو الظاهر من أدلّة المانعيّة في المقام، لكن لا في
جميع فروض المسألة، بل في خصوص ما إذا شرع في الصلاة في اللباس مع العلم بعدم كونه من أجزاء غير المأكول، ثمّ اُلقي عليه بعد الشروع ما يشكّ في كونه من أجزائه; فإنّه يصدق أنّ الصلاة لم تكن في أجزاء غير المأكول قبل إلقاء المشكوك عليه، والآن تكون كما كانت.
فالحالة السابقة المتيقّنة موجودة في هذه الصورة، بناءً على أن تكون الصلاة عبارة عن الحالة الخاصّة العباديّة المتحقّقة بأوّل جزء منها، والمستمرّة إلى آخر أجزائها، والأفعال والأقوال المخصوصة إنّما هي الاُمور التي يجب أن يشتغل بها في حالها.
ويؤيّده التعبير بالفراغ عنها بعد تحقّق الجزء الآخر، وكذا توصيفها بأنّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وغير ذلك من التعبيرات(2) الظاهرة في عدم
- (1) في ص260.
- (2) وسائل الشيعة 6: 415 ـ 418، كتاب الصلاة، أبواب التسليم ب1.
توقّف تحقّق عنوانها على تحقّق الجزء الآخر أيضاً، كما هو الشأن في المركّبات، حيث إنّه لا تحقّق لها بوجه قبل تحقّق أجزائها بأسرها.
فبناءً على الوجه الأوّل: يصدق أنّ الصلاة لم تكن في أجزاء غير المأكول، ولا مانع من استصحاب هذه الخصوصيّة، والحكم ببقائها من دون لزوم إحراز كون اللباس من غير المأكول حتّى يصير مثبتاً; لأنّ المفروض هو الوجه الثالث. نعم، لو كانت الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأقوال المخصوصة، بحيث كان تحقّقها متوقّفاً على الإتيان بالجزء الآخر أيضاً، لما كانت الحالة السابقة المتيقّنة متحقّقة، كما هو ظاهر.
وأورد على ذلك سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ; بأنّه على هذا التقدير أيضاً لا مجال لجريان الاستصحاب; لأنّها وإن كانت متحقّقة بمجرّد الشروع، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك، إلاّ أنّ المستفاد من أدلّة المانعيّة أنّه يعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من أجزاء غير المأكول، والمفروض الشكّ في ذلك، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف، كما في غير هذه الصورة(1).
ويمكن دفع الإيراد بأنّا لا ننكر أنّ المستفاد من أدلّة المانعيّة ما أفاده (قدس سره) ، وإلاّ لم تكن حاجة إلى الاستصحاب، بل كان وقوع ركعة منها مثلاً في المأكول كافياً وإن لم تكن البقيّة كذلك، بل نقول:
إنّ مفاد تلك الأدلّة قادحيّة الوقوع في غير المأكول; ولو كان ذلك بالإضافة إلى لحظة منها، فالمانع هذه الخصوصيّة، ونحن لا ننكرها، ولكنّه
- (1) نهاية التقرير 1: 378 ـ 379.
لا يمنع عن جريان الاستصحاب; فإنّ الصلاة كانت واقعة في المأكول قطعاً، وبضميمة الاستصحاب يثبت وقوع باقيها فيه أيضاً، وبذلك يتحقّق ما هو المعتبر فيها; وهو أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في أجزاء غير المأكول.
وبعبارة اُخرى: وقوع الصلاة بحسب الاستدامة في اللباس المشكوك لا يمنع عن وقوعها حقيقة خالية عن المانع، كما أنّه لو فرض العلم بوقوع جزء منها في غير المأكول لا يمنع ذلك عن العلم بوقوعها حقيقة بلا مانع; فإنّ الصلاة على هذا التقدير تصير كالطبيعة المتّصفة بالوجود والعدم معاً في آن واحد بلحاظ وجود بعض الأفراد وعدم البعض الآخر.
غاية الأمر أنّ اتّصافها بعدم الوقوع في غير المأكول لا يجدي، بل اللاّزم إحراز عدم القادح; وهو الوقوع في غير المأكول، واستصحاب الحالة السابقة المتيقّنة يكفي في إحرازه، والحكم بعدم تحقّق الصلاة في جزء غير المأكول، الموجب لفسادها بمقتضى الموثّقة(1) ونحوها، فالإنصاف تماميّة الاستصحاب في هذه الصورة، كما اختاره المحقّق النائيني (قدس سره) (2) أيضاً.
نعم، فيما إذا كان الشكّ في أصل الوجود، كما إذا شكّ في أنّه هل بال الخفّاش محاذياً للمصلّي بحيث لو بال لوقع عليه أو على ثوبه قطعاً؟ ربما يقال بجريان استصحاب عدم الوجود وعدم البول في المثال، ولكنّ الظاهر أنّه
- (1) أي موثّقة ابن بكير المتقدّمة في ص175 ـ 176.
- (2) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 397 وما بعدها، كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 240 وما بعدها.
مثبت; لأنّ استصحاب عدم البول لا يثبت الخصوصيّة في الصلاة المعتبرة بحسب ما هو المفروض; فإنّ ثبوت الخصوصيّة لازم عقليّ لعدم الوجود، فتدبّر.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا في مسألة اللباس المشكوك أنّ الأظهر فيها هو القول بالجواز في جميع فروض المسألة; لجريان البراءة العقليّة والنقليّة، وأصالة الحلّية، مضافاً إلى جريان الاستصحاب في بعض الفروض، فلا مانع من الصلاة فيه، وإن كان الترك مقتضى الاحتياط الذي يحسن على كلّ حال.
كما أنّ القائل بالاحتياط اللزومي ـ كسيّدنا الاُستاذ (قدس سره) ـ قد نفى البعد عن جواز الاعتماد على إخبار البائع المسلم بعدم كونه من أجزاء غير المأكول; لبناء العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد فيما يتعلّق بما في يده من الطهارة
والنجاسة، والحلّية والحرمة، والقلّة والكثرة، وغير ذلك من الاُمور المتعلّقة به، مع تأييد هذا البناء بما ورد في الأخبار(1); من بيان حكم الصلاة في وبر الأرانب والثعالب والفنك ونحوها; لأنّ من المعلوم أنّ أكثر أهل العرف لا يميّزون وبر الأرانب مثلاً عن غيره إلاّ بإخبار صاحبه، فالعمدة في تشخيصه هو قول ذي اليد، فيجب ترتيب الآثار عليه.
وكذا نفى البعد عن القول بجواز الصلاة في الثوب الذي يحتمل وقوع شعرات غير المأكول أو رطوباته عليه; لاستقرار السيرة على الصلاة في مثله من دون تفحّص وتتبّع عن وجودها، وهذا بخلاف الصلاة في الثوب الذي علم بوجود الشعر فيه، ولكن احتمل أن يكون من غير المأكول; لعدم ثبوت
- (1) وسائل الشيعة 4: 347 ـ 358، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ـ 7.
السيرة في هذه الصورة(1).
أقول: الظاهر أنّ الاعتماد على قول ذي اليد لا يتوقّف على كونه مسلماً; فإنّه لا فرق في بناء العقلاء على الاعتماد عليه بين المسلم والكافر. نعم، الاختلاف بينهما إنّما هو بالإضافة إلى نفس اليد في بعض الموارد، كالميتة والمذكّى على ما عرفت(2) مفصّلاً.
كما أنّ الظاهر أنّ استقرار السيرة على الصلاة في الفرض الأوّل ليس لخصوصيّة فيه، بل لأجل عدم كون الاحتمال بمجرّده مانعاً عن جواز الصلاة فيه، فلا فرق بينها وبين الصورة الثانية أصلاً.
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بحكم الصلاة في اللباس المشكوك فيه، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
جواز الصلاة في بعض الموارد
- (1) نهاية التقرير 1: 388 ـ 389.
- (2) في ص156 ـ 159.
[عدم البأس بمثل الشمع والعسل والحرير الممتزج]
مسألة 11: لا بأس بالشمع والعسل والحرير الممتزج، وأجزاء مثل البقّ والبرغوث والزنبور ونحوها ممّا لا لحم لها، وكذلك الصدف 1 .
جواز الصلاة في بعض الموارد
1 ـ أمّا أجزاء الحيوانات التي لا لحم لها، فمن هذه الحيثيّة الكلّية، قد تقدّم(1) البحث عنها في أصل البحث عن مانعيّة غير المأكول، فراجع. وأمّا من غير هذه الجهة، فقد تحقّق الإجماع في الحرير المحض(2) ودم البقّ والبراغيث والقمّل(3)، مضافاً إلى صحيحة الحلبي، قال:
سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، وإن كثر فلا بأس أيضاً بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله(4).
ورواية محمّد بن ريّان قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) : هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البقّ على البراغيث فيصلّي فيه؟ وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع (عليه السلام) : تجوز الصلاة،
- (1) في ص189 ـ 191.
- (2) الانتصار: 134، الخلاف 1: 504 مسألة 245، المعتبر 2: 87 ، تذكرة الفقهاء 2: 470 مسألة 124، منتهى المطلب 4: 219 ـ 221، مدارك الأحكام 3: 173، كشف اللثام 3: 215، مفتاح الكرامة 5: 497 ـ 498، جواهر الكلام 8 : 187 ـ 188.
- (3) الخلاف 1: 476 ـ 477 مسألة 219 و 220، السرائر 1: 174، المعتبر 1: 421، مختلف الشيعة 1: 314 مسألة 232، تذكرة الفقهاء 1: 56 مسألة 56، ذكرى الشيعة 1: 112، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 1: 435.
- (4) تقدّمت في ص191.
والطهر منه أفضل(1).
وصحيحة علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) أسأله عن الصلاة في القرمز، وأنّ أصحابنا يتوقّفون عن الصلاة فيه، فكتب: لا بأس به، مطلق والحمد لله. وذكر الصدوق ـ عليه الرحمة ـ بعد نقل الرواية: قال الصدوق: وذلك إذا لم يكن القرمز من إبريسم محض، والذي نهي عنه ما كان من إبريسم(2) محض.
وغير ذلك من الروايات(3) الدالّة على ذلك.
وأمّا الصدف، فقد علّل الجواز فيه في العروة بعدم معلوميّة كونه جزءاً من الحيوان، وعلى تقديره لم يعلم كونه ذا لحم(4).
وفي صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: لا يحلّ أكل الجرّي، ولا السلحفاة، ولا السرطان. قال: وسألته عن اللحم الذي يكون في أصداف البحر والفرات أيؤكل؟ قال: ذلك لحم الضفادع، لا يحلّ أكله(5).
ولا منافاة بينها وبين التعليل المذكور; لأنّ مجرّد انعقاد اللحم في الصدف،
- (1) الكافي 3: 60 ح9، تهذيب الأحكام 1: 260 ح754، وعنهما وسائل الشيعة 3: 436، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب23 ح3.
- (2) تقدّمت في ص191.
- (3) وسائل الشيعة 3: 435 ـ 437، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب23.
- (4) العروة الوثقى 1: 400 مسألة 1282.
- (5) الكافي 6: 221 ح11، تهذيب الأحكام 9: 12 ح46، مسائل علي بن جعفر: 131 ح191، قرب الإسناد: 279 ح1108 و 1109، وعنها وسائل الشيعة 24: 146، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب16 ح1.
وكونه ظرفاً له، لا يوجب أن يكون الصدف جزءاً من اللحم، أو من الحيوان، كما لا يخفى.
وتظهر من الرواية ظرفيّة الصدف للحم الضفادع. وعليه: فالظاهر أنّ الصدف الذي هو ظرف للّؤلؤ ـ الذي نفى الإشكال في العروة عن الصلاة فيه، معلّلاً بعدم كونه جزءاً من الحيوان ـ غير الصدف الذي هو ظرف للّلحم المذكور، كما أنّه لو فرض الإشكال في الصدف، فلا يلازم ذلك الإشكال في اللؤلؤ أصلاً.
[جواز الصلاة في الخزّ والسنجاب]
مسألة 12: استثني ممّا لا يؤكل الخزّ، وكذا السنجاب على الأقوى، ولكن لاينبغي ترك الاحتياط في الثاني، وما يسمّونه الآن بالخزّ ولم يُعلم أنّه منه واشتبه حاله، لا بأس به وإن كان الأحوط الاجتناب عنه 1 .
1 ـ أمّا الكلام في الخزّ، فنقول:
قد تطابقت الفتاوى(1) والنصوص(2) على استثنائه عن عموم الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، وعلى صحّة الصلاة فيه، ولكن مورد تطابقهما هو وبر الخزّ الخالص، ولفظ الوبر وإن لم يكن مذكوراً في عبارات القدماء من الأصحاب، بل المذكور فيها هو الخز الخالص، إلاّ أنّ ما يتصوّر فيه هذا الوصف ومقابله إنّما هو الوبر دون الجلد; ضرورة أنّه لا يتصوّر فيه المغشوشيّة بوجه، فهذاالوصف راجع إلى خصوص الوبر، والغرض منه الاحتراز عمّا إذا كان له خليط، مثل وبر الأرانب والثعالب، واحتمال كون المستثنى شاملاً للجلد أيضاً، والوصف راجعاً إلى خصوص الوبر، في كمال البعد.
وكيف كان، فاستثناء الوبر ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف(3). وأمّا الجلد،
- (1) المقنعة: 150، النهاية: 97، المبسوط 1: 82 ، المهذّب 1: 74، المعتبر 2: 84 ، الجامع للشرائع: 66، تذكرة الفقهاء 2: 468 ـ 469 مسألة 122، ذكرى الشيعة 3: 35، جامع المقاصد 2: 78، المقاصد العليّة: 484، مفتاح الكرامة 5: 432 ـ 433، مستند الشيعة 4: 320 ـ 322.
- (2) وسائل الشيعة 4: 359 ـ 360، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب8 .
- (3) التنقيح الرائع 1: 129، حاشية شرائع الإسلام، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 10: 129، مجمع الفائدة والبرهان 2: 82 ، مفاتيح الشرائع 1: 109، الحدائق الناضرة 7: 60، جواهر الكلام 8 : 141، المستند في شرح العروة الوثقى 12: 180.
فالمعروف خصوصاً بين المتأخّرين استثناؤه أيضاً(1)، لكنّ المحكيّ عن ابن إدريس والعلاّمة في كتابي التحرير والمنتهى التفصيل بين الوبر والجلد(2).
ولابدّ أوّلاً: من بيان الموضوع وتنقيح معنى الخزّ; لكثرة الاختلاف في ذلك بين الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ فنقول:
قال في لسان العرب: الخُزز: ولد الأرنب، وقيل: هو الذكر من الأرانب، والجمع أخِزَّة، وخِزّان، مثل صُرَد وصِردان، وأرض مخَزَّة: كثيرة الخِزّان.
والخزّ: معروف من الثياب مشتق منه، عربيّ صحيح، وهو من الجواهر الموصوف بها، حكى سيبويه: مررت بسَرج خزّ صفته، قال: والرفع الوجه، يذهب إلى أنّ كونه جوهراً هو الأصل.
قال ابن جني: وهذا ممّا سمّى فيه البعض باسم الجملة، كما ذهب إليه في قولهم: هذا خاتم حديد ونحوه. والجمع خُزُوز، ومنه قول بعضهم: فإذا أعرابي يَرفُل في الخُزُوز، وبائعه خَزّاز.
وفي حديث علي (عليه السلام) : نهى عن ركوب الخَزِّ والجلوس عليه.
قال ابن الأثير: الخزّ المعروف أوّلاً: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، وهي مباحة، قال: وقد لبسها الصحابة والتابعون، فيكون النهي عنها لأجل التشبّه بالعجم وزيّ المُترَفين، قال: وإن اُريد بالخزّ النوع الآخر; وهو المعروف الآن، فهو حرام; لأنّه كلّه معمول من الإبريسم، قال: وعليه يحمل
- (1) ذكرى الشيعة 3: 36، بحار الأنوار 83 : 219، الحدائق الناضرة 7: 60، مفتاح الكرامة 5: 437 ـ 438، مستمسك العروة الوثقى 5: 316.
- (2) السرائر 1: 261 ـ 262، تحرير الأحكام 1: 198، الرقم 627، منتهى المطلب 4: 240.
الحديث الآخر، قوم يستحلّون الخزّ والحرير(1)،(2).
وليس في كلامه وكذا كلام ابن الأثير ـ الذي حكاه ـ إشعار بكون الخزّ حيواناً، أو أنّه الثوب المأخوذ من حيوان خاصّ أصلاً.
ونظيره كلام «المنجد»، حيث قال: الخزّ: الحرير، ما نسج من صوف وحرير، جمع خُزُوز، والخزز: ذكر الأرانب، جمع خِزَّان وأخِزَّة، والخَزَّاز: بائع الخَزّ، والمخزّة: موضع الأرانب(3).
نعم ذكر في معنى «القندس والقُندُر» ـ الذي حكى المحقّق في المعتبر عن جماعة من التجّار أنّه هو الخزّ، وإن لم يثبت عنده(4) ـ أنّه نوع من الحيوانات المائيّة، له ذنب مفلطح قويّ، ولون أحمر قاتم، يتّخذ منه الفراء(5).
وقال الفيّومي في المصباح: الخزّ اسم دابّة، ثمّ اُطلق على الثوب المتّخذ من وبرها، والجمع: خُزُوز، مثل فَلْس وفُلُوس، والخُزَزُ: الذكر من الأرانب، والجمع: خُزَّان، كصُرَد وصِردان(6).
وقال في ترجمة قاموس: «خزّ» از جامه ها بفتح اول معروف است، و جمع آن خُزُوز بر وزن سرور مى آيد، مترجم گويد كه خزّ جانوريست مانند ثمور، كه از پوست آن پوستين وغير آن ساخته مى شود، و ممكن است كه
- (1) سنن أبي داود: 613 ح4039.
- (2) لسان العرب 2: 249 ـ 250، النهاية لابن الأثير 2: 28.
- (3) المنجد: 177.
- (4) المعتبر 2: 84 .
- (5) المنجد: 657.
- (6) المصباح المنير: 168.
مراد از جامه خزّ همين باشد، يا آنكه از موى آن جامه مى بافند، يا آنكه خزّ جامه ابريشمين را مى گويند ـ إلى أن قال: ـ وخُزَز بر وزن صُرد، يعنى نر خرگوشان، و جمع آن خِزَّان و أخِزَّة مى آيد، و جاى خرگوشها مخزَّه است، و از اين اشتقاق شده است «خزّ»، و آن حيوانى شبيه به نر خرگوش است، كه از پوست آن پوستين مى بافند كه مذكور شد(1).
وقال في منتهى الإرب: «خزّ» بالفتح جانوريست، و جامه از پشم آن، جمع خُزُوز، و خُزَز، كصرد خرگوش نر، جمع خِزَّان و أخِزّة، ومنه اشتقّ الخزّ(2).
وقال في برهان قاطع: «خزّ» با تشديد ثانى، در عربى جانوريست معروف، كه از پوست آن پوستين سازند، و جامه ابريشمى را نيز گفته اند(3).
والمستفاد من المصباح ومن بعده أنّه حيوان يؤخذ من صوفه أو وبره أو شعره الثوب، وأنّ إطلاقه على الثوب إنّما هو بلحاظه، ولكن ليس في شيء منها إشعار بكونه من الحيوانات المائيّة، بل ظاهرها عدم كونه منها. نعم، قد عرفت من «المنجد» في تفسير «القندس» أنّه نوع من الحيوانات المائيّة.
ويدلّ على ذلك أيضاً روايات:
منها: ما رواه الكليني عن علي بن محمّد، عن عبدالله بن إسحاق العلوي،
- (1) ترجمان اللّغة في ترجمة قاموس اللغة 1: 408، مادّة «خزز».
- (2) منتهى الإرب 1: 314.
- (3) برهان قاطع 1: 744.
عن الحسن بن علي، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن قريب، عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الخزّازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخزّ؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل: جعلت فداك إنّه ميّت وهو علاجي وأنا أعرفه، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : أنا أعرَف به منك، فقال له الرجل: إنّه علاجي، وليس أحد أعرف به منّي، فتبسّم أبو عبدالله (عليه السلام) ثمّ قال له:
أتقول: إنّه دابّة تخرج من الماء، أو تصاد من الماء فتخرج، فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : فإنّك تقول: إنّه دابّة تمشي على أربع وليس هو في حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء؟ فقال له الرجل: أي والله هكذا أقول، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : فإنّ الله ـ تعالى ـ أحلّه وجعل ذكاته موته، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها(1).
والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) في الذيل: «فإنّ الله ـ تعالى ـ أحلّه» هي حلّية استعمال جلده ووبره، والانتفاع بهما في الصلاة واللبس، لا حلّية أكل لحمه كحلّية لحم الحيتان، وذلك ـ مضافاً إلى تحقّق الإجماع(2) على حرمة الحيوانات المائيّة عدا السمك الذي له فلس ـ يكون نفس استثناء الخزّ في
- (1) الكافي 3: 399 ح11، تهذيب الأحكام 2: 211 ح828 ، وعنهما وسائل الشيعة 4: 359، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب8 ح4.
- (2) الانتصار: 400 ـ 401، الخلاف 6: 29 ـ 31 مسألة 31، غنية النزوع: 398 ـ 401، السرائر 3: 99، المعتبر 2: 84 ، جواهر الكلام 36: 241 (ط.ق).
الفتاوي عن عموم الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول دليلاً على كون الخزّ محرّم الأكل، وإلاّ يصير الاستثناء منقطعاً، ولا مجال له في مثل المقام ممّا كان المقصود بيان الأحكام، كما لا يخفى.
هذا، ولكنّ الرواية ضعيفة السند جدّاً; لأنّه ـ مضافاً إلى انحصار النقل عن قريب بهذه الرواية، وعدم وجوده في شيء من روايات العامّة والخاصّة ـ يكون بعض رواتها مجهولاً، وبعضها غير موثّق، والبعض الثالث مرميّاً بالغلوّ، فلا مجال للاعتماد عليها بوجه.
ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سأل أبا عبدالله (عليه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال: ليس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنّها علاجي (في بلادي خ ل)، وإنّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال: ليس به بأس(1).
فإنّ ظهورهما في كونه حيواناً مائيّاً يكون خروجه من الماء موجباً لانقطاع حياته وزوال تعيّشه كالحيتان لا خفاء فيه، كما أنّ ظاهرهما انحصار الخزّ بذلك، وعدم وجود مصداق آخر له غير مائيّ. وعليه: فيشكل الأمر في الخزّ المشهور في هذا الزمان; لشهادة التجّار بأنّه حيوان برّي يقع عليه الذبح.
قال العلاّمة المجلسي (قدس سره) في محكيّ البحار: واعلم أنّ في جواز الصلاة في الجلد المشهور في هذا الزمان بالخزّ وشعره ووبره إشكالاً; للشكّ في أنّه هل
- (1) الكافي 6: 451 ح3، علل الشرائع: 357 ب71 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 4: 362، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب10 ح1.
هو الخزّ المحكوم عليه بالجواز في عصر الأئـمّة (عليهم السلام) ، أم لا، بل الظاهر أنّه غيره; لأنّه يظهر من الأخبار أنّه مثل السمك يموت بخروجه من الماء، وذكاته إخراجه منه.
والمعروف بين التجّار أنّ الخزّ المعروف الآن دابّة تعيش في البرّ ولا تموت بالخروج من الماء، إلاّ أن يقال: إنّهما صنفان بّريّ وبحريّ، وكلاهما تجوز الصلاة فيه، وهو بعيد، ويشكل التمسّك بعدم النقل واتّصال العرف من زماننا إلى زمانهم (عليهم السلام) ; إذ اتّصال العرف غير معلوم; إذ وقع الخلاف في حقيقته في أعصار علمائنا السالفين أيضاً رضوان الله عليهم، وكون أصل عدم النقل في مثل ذلك حجّة غير معلوم(1).
هذا، والظاهر أنّ أصالة عدم النقل على تقدير حجّيتها لا تجدي في المقام بعد ظهور الروايات في بيان موضوع الخزّ المستثنى، ودلالتها على أنّه حيوان مائيّ كالحوت; فإنّ هذا التعريف لو لم يكن تعريفاً للخزّ مطلقاً، فلا أقلّ من دلالته على أنّه الموضوع للحكم بجواز الصلاة، كما هو ظاهر.
مع أنّ اختصاص الخزّ في هذا الزمان بالحيوان البرّي ممنوع; لشهادة بعض الفضلاء من البحث بأنّه الآن حيوان بحريّ يصطاد من الماء، ويؤخذ من جلده الثوب الثمين الذي يرغب فيه المتنعّمون، وقد ادّعى أنّه بنفسه قد باشر لصيده، وأنّ خصوصيّاته هي المذكورة في رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة.
نعم، ذكر أنّ وبره بمجرّده لا يمكن أخذ الثوب منه; لأنّ لصوقه بالجلد
- (1) بحار الأنوار 83 : 220.
وقصره مانع عن قطعه، وهذا لا ينافي ما يدلّ عليه بعض الروايات من إمكان أخذ الثوب من وبره أيضاً.
كرواية سعد بن سعد، عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن جلود الخزّ؟ فقال: هوذا نحن نلبس، فقلت: ذاك الوبر جعلت فداك؟ قال: إذا حلّ وبره حلّ جلده(1).
فالحيوان البريّ الذي يطلق عليه الخزّ إن كان غير مأكول اللحم لا دليل على جواز الصلاة في أجزائه، وإن كان مشكوكاً فالحكم فيه هو حكم الصلاة في اللباس المشكوك على تقدير عدم جريان أصالة الحلّية بالإضافة إلى لحمه.
وكيف كان، فقد عرفت(2) أنّ جواز الصلاة في وبر الخزّ ممّا تطابق عليه النصّ والفتوى. وأمّا جلده، فمحلّ خلاف(3)، والمنسوب إلى المشهور هو الجواز(4)، ولابدّ من ملاحظة الروايات، فنقول:
أمّا رواية ابن أبي يعفور، فهي وإن كانت ظاهرة في جواز الصلاة في جلد الخزّ أيضاً باعتبار الإطلاق وترك الاستفصال، بل السؤال الثاني الظاهر في الاعتراض يوجب انحصار محطّ السؤال في السؤال الأوّل بالجلد; لأنّ الوبر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة بخلاف الجلد، فكون الخزّ ميّتاً إنّما يوجب
- (1) تهذيب الأحكام 2: 372 ح1547، الكافي 6: 452 ح7، وعنهما وسائل الشيعة 4: 366، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب10 ح14.
- (2) في ص272.
- (3 ، 4) تقدّم تخريجهما في ص272 ـ 273.
المنع عن الصلاة في الثاني دون الأوّل.
وبالجملة: دلالة الرواية على جواز الصلاة في جلد الخزّ وإن كانت ظاهرة، إلاّ أنّ ضعف سندها كما عرفت يقدح في الاعتماد عليها.
وأمّا صحيحة ابن الحجّاج، فظاهرة في السؤال عن جلود الخزّ لا عن الصلاة فيها، ومن المعلوم انصرافه إلى السؤال عن جواز استعمالها في اللبس والانتفاع بها فيه، وهو لا يستلزم جواز الصلاة فيها، ومنشأ الشبهة الموجبة للسؤال إمّا كون الخزّ ميتة بنظر السائل، والمنع عن استعمال جلود الميتة واضح.
وإمّا النهي عن ركوب الخزّ والجلوس عليه، كما عرفت(1) في محكيّ كلام ابن المنظور، وقد رواه عن علي (عليه السلام) .
ويؤيّده استشهاد الإمام (عليه السلام) في بعض الروايات ـ بعد شرائه ثوب الخزّ ـ بقوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ى )(2) الآية(3)، فلا دلالة لمثل هذا السؤال على كون مورده حكم الصلاة أيضاً.
ومنه يظهر عدم دلالة رواية سعد المتقدّمة أيضاً على ذلك; لظهور سؤالها أيضاً في اللبس وجواز الانتفاع بها فيه.
ودعوى كون كلمة «هوذا» كلمة واحدة مفادها الاستمرار والدوام،
وظاهرها الشمول لحال الصلاة أيضاً(4).
- (1) أي في لسان العرب عن ابن الأثير.
- (2) سورة الأعراف 7: 32.
- (3) مجمع البيان 4: 230، وعنه وسائل الشيعة 4: 367، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب10 ح16.
- (4) جواهر الكلام 8 : 145.
مدفوعة بأنّه على تقدير ظهور الكلمة فيما ذكر، يكون موردها الوبر دون الجلد، والملازمة بين الحليّتين ـ كما في ذيل الرواية ـ لا إطلاق لها يشمل الصلاة بعد كون السؤال ظاهراً بنفسه في السؤال عن الحكم التكليفي، وظهور قوله (عليه السلام) في الجواب: «نحن نلبس» في هذا الحكم أيضاً، فالملازمة أيضاً تنطبق على ذلك.
نعم، يدلّ على شمول الحكم بالجواز للجلد أيضاً إطلاق رواية معمّر بن خلاّد قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الصلاة في الخزّ؟ فقال: صلِّ فيه(1); فإنّ إطلاق السؤال وترك الاستفصال ظاهر في كون مورده الصلاة في جلد الخزّ أيضاً.
والإشكال فيه بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المراد من الخزّ فيه الحيوان، وهو غير ظاهر، بل من المحتمل إرادة المنسوج من وبره; فإنّه من معانيه أيضاً، كما يظهر من مكاتبة جعفر بن عيسى إلى الرضا (عليه السلام) ، يسأله عن الدوابّ التي يعمل الخزّ من وبرها...(2)،(3).
مندفع بوضوح أنّ إطلاق الخزّ على المنسوج من وبر الحيوان الخاصّ المسمّى بالخزّ ليس في عرض إطلاقه على نفس الحيوان بحيث كان له معنيان، بل الإطلاق عليه إنّما هو بلحاظه وكون المنسوج منه وبره، مع أنّه
- (1) تهذيب الأحكام 2: 212 ح829 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 360، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب8 ح5.
- (2) الكافي 6: 452 ح8 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 364، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب10 ح4.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 317.
على تقديره يكفي الإطلاق في رفع هذا الاحتمال أيضاً، فتدبّر.
ثمّ إنّه ربما يقال: إنّ الشبهة في جواز الصلاة في جلد الخزّ إن كانت من جهة كونه من أجزاء غير المأكول، فلا يبعد أن يقال بأنّه بعد قيام الدليل من النصّ(1) والإجماع(2) على استثناء الوبر تكون خصوصيّة الوبريّة ملغاة بنظر العرف; لأنّ الظاهر أنّ أهل العرف لا يفهمون من استثناء الوبر إلاّ استثناء الحيوان المسمّى بالخزّ، وأنّه تصحّ الصلاة في أجزائه، وبراً كان أو جلداً أو غيرهما.
وإن كانت من جهة كونه ميتة، إمّا لأجل أنّه لم يعلم وقوع التذكية وثبوتها فيما عدا السمك من الحيوانات المائيّة. وإمّا لأجل احتمال عدم كون خروجه من الماء علّة لموته، كما يظهر من بعض الروايات، حيث إنّه أجاب الإمام (عليه السلام) فيه عن السؤال عن الخزّ، بأنّه سبع يرعى في البرّ، ويأوي الماء(3).
فالحكم بجواز الصلاة في جلده محلّ إشكال، ولا ينفع في ذلك إطلاق رواية معمّر بن خلاّد المتقدّمة; لأنّ النسبة بينها، وبين ما يدلّ على المنع عن الصلاة في الميتة عموم من وجه، ولا دليل على ترجيحها عليه في مورد الاجتماع; وهي الصلاة في جلد الخزّ(4).
أقول: أمّا إلغاء الخصوصيّة في الفرض الأوّل، فمحلّ نظر بل منع; لأنّ
- (1 ، 2) تقدّم تخريجهما في ص272.
- (3) تهذيب الأحكام 9: 49 ذ ح205، وعنه وسائل الشيعة 24: 191، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب39 ح2.
- (4) نهاية التقرير 1: 402 ـ 403.
استثناء الوبر لا دلالة له بوجه على استثناء الحيوان بجميع أجزائه، حتّى عظمه ولحمه وروثه وأشباهه. نعم، لو كان الوبر متّصلاً بالجلد وملصقاً به نوعاً، يكون استثناؤه دالاًّ بالملازمة العرفيّة على استثناء الجلد أيضاً. وأمّا مع استقلاله وجواز أخذ الثوب من خصوصه ـ كما عرفت أنّه يستفاد ذلك من رواية سعد المتقدّمة ـ فلا ملازمة بين الاستثناءين.
وأمّا احتمال كونه ميتة، فعلى تقدير كونه حيواناً مائيّاً لا يعيش في خارج الماء، فالظاهر أنّه حينئذ لا يكون ممّا له نفس سائلة، وقد مرّ(1) في مبحث مانعيّة الميتة استظهار عدم كون الميتة من غير ذي النفس مانعة وإن احتاط فيها الماتن دام ظلّه.
وعلى تقدير احتمال تعيّشه في خارج الماء نقول: يدفع هذا الاحتمال صريح رواية ابن الحجّاج المتقدّمة(2)، ولا يبقى مجال له معها، والجمع بينها، وبين الرواية المذكورة ـ كما في الجواهر(3) ـ بحملها على إرادة أنّه لا يعيش خارج الماء زماناً طويلاً على تقدير صحّته، والغضّ عن عدم الشاهد عليه، لا ينافي
كون هذا المقدار الذي يعيش في خارج الماء غير قادح في ثبوت التذكية فيه، وموته خارج الماء وإن كان متأخّراً عن الخروج بمقدار قصير، كما لا يخفى.
مع أنّ تعارض الدليلين في مورد الاجتماع وإن كان يمنع عن الأخذ بأحدهما فيه بعد عدم ثبوت المرجّح، إلاّ أنّ تساقطهما فيه يوجب جواز
- (1) في 187 ـ 189.
- (2) في ص277.
- (3) جواهر الكلام 8 : 150.
الرجوع إلى الأصل العملي، وهو يقتضي البراءة عن المانعيّة في جلد الخزّ، فيصير الحكم هو جواز الصلاة فيه.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى استثناء الجلد كالوبر وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.
ثمّ إنّك عرفت(1) أنّ ظاهر عبارة القدماء من الأصحاب تقييد الخزّ المستثنى بكونه خالصاً في مقابل المغشوش بوبر الأرانب والثعالب وأشباههما، وقد وقع هذا التقييد في بعض الروايات.
وهي مرفوعة أيّوب بن نوح قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : الصلاة في الخزّ الخالص لا بأس به، فأمّا الذي يخلط فيه وبر الأرانب أو غير ذلك ممّا يشبه هذا، فلا تصلِّ فيه(2).
وعن المحقّق في المعتبر أنّه حكى عن جماعة من علمائنا انعقاد الإجماع على العمل بمضمونه(3). ولأجله لا يبقى موقع لرواية بشير بن بشّار قال: سألته عن الصلاة في الخزّ يغشّ بوبر الأرانب؟ فكتب: يجوز ذلك(4).
وقد حملها الشيخ (قدس سره) على التقيّة، ويمكن حملها على محامل آخر، وعلى تقدير عدمه لابدّ من أن تطرح.
- (1) في ص272.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 212 ح830 و 831 ، الكافي 3: 403 ح26، علل الشرائع: 357 ب71 ح2، وعنها وسائل الشيعة 4: 361، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب9 ح1.
- (3) المعتبر 2: 85 .
- (4) تهذيب الأحكام 2: 212 ح834 ، الاستبصار 1: 387 ح1471، الفقيه 1: 170 ح805 ، وعنها وسائل الشيعة 4: 362، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب9 ح2.
وبالجملة: فاعتبار هذا القيد في المستثنى ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في تشخيص معناه، وأنّه هل يقدح في تحقّقه ما إذا كان المغشوش به شيئاً يسيراً غير معتدّ به، بل وما إذا كان مستهلكاً بحيث زالت حقيقته واستهلك في وبر الخزّ، أو لا يقدح فيه ذلك، أو يكون بين الصورتين فرق؟ وجوه واحتمالات.
وقبل ترجيح أحد الوجوه لابدّ من ملاحظة أنّ مقتضى كون الخطابات الشرعيّة واردة على طبق المفاهيم العرفيّة، وأنّه يجب الرجوع في تشخيص معاني العناوين المأخوذة في الأدلّة إلى العرف، هل هو الرجوع إليهم في المفاهيم ولو مع التسامح في مصاديقها، أو أنّ مقتضاه الرجوع إليهم في تعيين المفاهيم، والدقّة في التطبيق على المصاديق ولو كان على خلاف العرف.
فإذا ورد لفظ «المُدّ» مثلاً في دليل، فاللاّزم الرجوع إلى العرف في استكشاف معناه، فإذا فسّره بمقدار معيّن، فالواجب مراعاة ذلك المقدار من دون نقص; وإن كان العرف يتسامح في مقام التطبيق ويحكم بتحقّقه مع النقص عن ذلك المقدار بقليل؟ غير خفي أنّ الظاهر هو الوجه الثاني، وأنّه لا اعتبار في المسامحات العرفيّة أصلاً.
إذا عرفت ذلك فنقول:
الظاهر أنّ لفظ «الخالص» المأخوذ في لسان النصّ والفتوى، يكون المتفاهم منه عند العرف خلوّ الشيء عن غير حقيقته رأساً، بحيث إذا كان الخليط شيئاً يسيراً غير معتدّ به أيضاً، لا ينطبق عليه هذا المفهوم العرفي بالنظر الدقّي وإن كان يتحقّق بالنظر المسامحي، بل لا يبعد أن يقال بعدم
التحقّق في صورة الاستهلاك أيضاً، فإنّ الاستهلاك وإن كان موجباً لانعدام حقيقة المستهلك، ولا يتبيّن ولا يتميّز نوعاً، إلاّ أنّه لا يوجب بقاء المستهلك فيه على وصف الخلوص، بل يوجب زواله، فتدبّر.
هذا تمام الكلام في الخزّ.
وأمّا السنجاب، فقد وقع فيه الخلاف والإشكال، وقد نسب الجواز إلى الأكثر، خصوصاً بين المتأخّرين تارة(1)، وإلى المشهور اُخرى(2)، وإلى عامّتهم ثالثة(3)، بل في محكيّ الذكرى عن المبسوط: لا خلاف في جواز الصلاة في السنجاب والحواصل الخوارزمية(4).
والمحكي عن الصدوق ووالده، والشيخ في الخلاف المنع، وكذا حكي عن الحلّي في السرائر وجماعة من المتأخّرين ومتأخّريهم، بل عن الروض نسبته إلى الأكثر(5).
ويشهد للأوّل طائفة من الروايات:
كصحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الفرا والسمّور
- (1) منتهى المطلب 4: 218، الحدائق الناضرة 7: 68، وحكاه عن الأنوار القمريّة في مفتاح الكرامة 5: 448، وجواهر الكلام 8 : 158، وفي جامع المقاصد 3: 79، عليه عمل جمع من كبراء الأصحاب.
- (2) ذخيرة المعاد: 226 س16، مصباح الفقيه 10: 268.
- (3) رياض المسائل 3: 168، مستمسك العروة الوثقى 5: 321 ـ 322.
- (4) المبسوط 1: 82 ـ 83 ، ذكرى الشيعة 3: 37، وتقييد الحواصل بالخوارزميّة ليس في المبسوط، بل في الوسيلة: 87 وغيرها، كما أشار إليه في الذكرى أيضاً.
- (5) الفقيه 1: 170 ـ 171، الخلاف 1: 511 مسألة 256، السرائر 1: 262، كشف الرموز 1: 137 ـ 138، مختلف الشيعة 2: 93 ـ 94 مسألة 35، تذكرة الفقهاء 2: 470، المهذّب البارع 1: 319 ـ 321، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 553، مجمع الفائددة والبرهان 2: 100، مفتاح الكرامة 5: 451.
والسنجاب والثعالب وأشباهه؟ قال: لا بأس بالصلاة فيه(1).
وقد نقلها في الوسائل في باب آخر أيضاً بهذه الكيفيّة: عن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سأله عن أشياء منها الفرا والسنجاب؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه(2).
فتوهّم أنّهما روايتان كما في المستمسك(3)، وأنّ اشتمال الاُولى على ما لا تجوز الصلاة فيه كالثعالب مثلاً، لا يمنع عن الاستدلال بالثانية الخالية عن ذكره، مع أنّه من الواضح: أنّهما رواية واحدة، وأنّ الأشياء المسؤول عنها في الرواية الثانية هي التي صرّح بها في الرواية الاُولى.
والمراد بالفرا إمّا ما يظهر من بعض اللغويّين من أنّه الحمار الوحشي(4)، وفي المثل السائر «كلّ الصيد في جوف الفرا»، وإمّا ما يقال له بالفارسية «پوستين»(5)، وعلى الأوّل: لا يكون من أفراد غير المأكول، وعلى الثاني ـ الذي هو خلاف ظاهر السياق ـ : يمكن أن يكون المراد به هو الفرو المتّخذ من المأكول، كما هو الغالب والشائع في الفرا، ويمكن أن يكون المراد
به مطلق الفرا.
وعليه: فتكون الأدلّة المانعة عن الصلاة في غير المأكول مخصّصة له. والمراد بكلمة «أشباهه»، إمّا ما يكون مشابهاً للمذكورات من حيث كونه
- (1 ، 2) تهذيب الأحكام 2: 210 ح825 ، الاستبصار 1: 384 ح1459، وعنهما وسائل الشيعة 4: 350، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب4 ح2، وص347 ب3 ح1.
- (3) مستسمك العروة الوثقى 5: 322.
- (4) معجم تهذيب اللغة 3: 2755، النهاية لابن الأثير 3: 422، لسان العرب 5: 103.
- (5) فرهنگ عميد: 2: 1517.
محرّم الأكل، وإمّا ما يكون مشابهاً لها من حيث إنّه يؤخذ الثوب من وبره.
وبالجملة: دلالة الرواية على الجواز في المقام ممّا لا إشكال فيه.
ومنها: صحيحة أبي عليّ بن راشد قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في الفرا أيّ شيء يصلّى فيه؟ قال: أيّ الفرا؟ قلت: الفنك والسنجاب والسمّور، قال: فصلِّ في الفنك والسنجاب، فأمّا السمّور فلا تصلِّ فيه(1).
قال في الوافي: الفنك بالفاء والنون المفتوحتين، حيوان غير مأكول اللحم، يتّخذ من جلده الفرا، فروته أطيب أنواع الفرا(2). وقيل: نوع من جراء الثعلب الرومي(3)، وقيل: نوع من جراء الثعلب التركي(4)، وعن بعض أنّه
يطلق على فرخ ابن آوى(5). والسمّور كتنّور: حيوان ببلاد الروس وراء بلاد الترك، يشبه النمس، ومنه أسود لامع وأشقر(6).
ومنها: مرسلة مقاتل بن مقاتل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصلاة في السمّور والسنجاب والثعلب؟ فقال: لا خير في ذا كلّه ما خلا السنجاب; فإنّه دابّة لا تأكل اللحم(7).
- (1) الكافي 3: 400 ح14، تهذيب الأحكام 2: 210 ح822 ، الاستبصار 1: 384 ح1457، وعنها وسائل الشيعة 4: 349، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح5.
- (2) الوافي 7: 401 ـ 402.
- (3) مجمع البحرين 3: 1417.
- (4) المصباح المنير: 481.
- (5) المصباح المنير: 481، مجمع البحرين 3: 1417.
- (6) الوافي 7: 403، المصباح المنير: 288.
- (7) الكافي 3: 401 ح16، الاستبصار 1: 384 ح1456، وعنهما وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح2.
ومنها: مكاتبة يحيى بن أبي عمران قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في السنجاب والفنك والخزّ وقلت: جعلت فداك اُحبّ أن لا تجيبني بالتقيّة في ذلك، فكتب بخطّه إليّ: صلِّ فيها(1).
ومنها: رواية بشير بن بشّار قال: سألته عن الصلاة في الفنك والفرا والسنجاب والسمّور والحواصل، التي تصاد ببلاد الشرك أو بلاد الإسلام، أن اُصلّي فيه لغير تقيّة؟ قال: فقال: صلِّ في السنجاب والحواصل الخوارزميّة، ولا تصلِّ في الثعالب ولا السمّور(2).
والحواصل طيور ببلاد خوارزم يعمل من جلودها بعد نزع الريش مع بقاء الوبر ويتّخذ منه الفرا، وقد ينسج من أوبارها الثياب.
ومنها: غير ذلك من الروايات الدالّة على الجواز في السنجاب(3).
ويدلّ على الجواز في خصوصه رواية علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبدالله وأبا الحسن (عليهما السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصلِّ فيها إلاّ فيما كان منه ذكيّاً. قال قلت: أوليس الذكيّ ممّا (ما خ ل) ذكّي بالحديد؟ قال: بلى، إذا كان ممّا يؤكل لحمه، قلت: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال: لا بأس بالسنجاب; فإنّه دابّة لا تأكل اللحم، وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب(4).
- (1) الفقيه 1: 170 ح804 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 349، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح6.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 210 ح823 ، الاستبصار 1: 384 ح1458، مستطرفات السرائر: 66 ح6، وعنها وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح4.
- (3) وسائل الشيعة 4: 348 ـ 350، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3.
- (4) تقدّمت في ص206.
وقد تقدّم(1) اختلاف النقل في جملة «وما لا يؤكل لحمه...» في أصل البحث عن مانعيّة غير المأكول، فراجع.
وربما يناقش(2) في الاستدلال بهذه الروايات; بأنّ ما يدلّ منها على جواز الصلاة في خصوص السنجاب ـ كالرواية الأخيرة ـ لا يخلو من الضعف والجهالة والإرسال، وما يدلّ منها على جوازها فيه وفي غيره مشتمل على ما لا تجوز الصلاة فيه كالثعالب; حيث إنّه لا تجوز الصلاة فيها نصّاً(3)وإجماعاً(4).
مضافاً إلى أنّ موثقة ابن بكير المتقدّمة(5) الواردة في أصل بحث مانعيّة غير المأكول، قد ورد في موردها خصوص السنجاب وغيره، حيث إنّ السّؤال فيها إنّما هو عن الصلاة في الثعالب والفنك والسّنجاب وغيره من الوبر، وقد ورد في جوابه عموم الحكم بالمنع عن الصلاة في أجزاء كلّ ما لا يحلّ أكله.
ومن الواضح: أنّ تخصيص هذا العموم الوارد في مورده السنجاب، بهذه الأخبار الدالّة على جواز الصلاة فيه، تخصيص مستهجن.
ومضافاً إلى دلالة بعض الروايات بعمومها على عدم جواز الصلاة في
- (1) في ص181 ـ 191.
- (2) المهذّب البارع 1: 319 ـ 322، مفتاح الكرامة 5: 451 ـ 452.
- (3) وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح2 و 4، وص352 ب5 ح1 و 2، وص355 ـ 358 ب7 ح1، 4 و 6 ـ 12.
- (4) المعتبر 2: 86 ، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 374، منتهى المطلب 4: 236 ـ 237، ذكرى الشيعة 3: 37، مفتاح الكرامة 5: 433 ـ 434 و 470.
- (5) في ص175 ـ 176.
السنجاب أيضاً.
كمكاتبة محمد بن علي بن عيسى قال: كتبت إلى الشيخ ـ يعني الهادي (عليه السلام) ـ أسأله عن الصلاة في الوبر أيّ أصنافه أصلح؟ فأجاب: لا اُحبّ الصلاة في شيء منه، قال: فرددت الجواب: إنّا مع قوم في تقيّة وبلادنا بلاد لا يمكن أحداً أن يسافر فيها بلا وبر، ولا يأمن على نفسه إن هو نزع وبره، وليس يمكن للناس ما يمكن للأئـمّة، فما الذي ترى أن نعمل به في هذا الباب؟ قال: فرجع الجواب إليّ: تلبس الفنك والسمّور(1).
وتندفع المناقشة بأنّ اشتمال الرواية الصحيحة على غير السنجاب لا يقدح في العمل بها بالإضافة إليه; لأنّ قيام الدليل على عدم العمل برواية بالنسبة إلى بعض مواردها، لا يوجب طرحها رأساً، مع أنّ صحيحة أبي عليّ المتقدّمة تشتمل على الفنك فقط زائداً على السنجاب، وقد أفتى(2) بجواز الصلاة فيه جماعة، ورواية بشير بن بشّار تدلّ على جوازه في خصوص السنجاب والحواصل الخوارزميّة، وقد عرفت(3) من الشيخ (قدس سره) في المبسوط نفي الخلاف عن جواز الصلاة فيهما.
كما أنّ المناقشة الأخيرة، مندفعة بعدم ورود الدليل على عدم الجواز في خصوص السنجاب، والعموم الشامل له ـ كما في المكاتبة ـ قابل للتخصيص،
- (1) مستطرفات السرائر: 67 ـ 68 ح12، وعنه وسائل الشيعة 4: 351، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب4 ح3، وبحار الأنوار 83 : 228 ح18.
- (2) تقدّم تخريجه في ص286.
- (3) في ص286.
كما أنّه لابدّ من تخصيصه بالخزّ; لتطابق النصّ والفتوى على الجواز فيه كما عرفت(1)، وإباء سياقها عن التخصيص يوجب طرحها لا العمل بعمومها، كما لا يخفى.
إنّما المهمّ ملاحظة موثقة ابن بكير المتقدّمة(2)، وربما يجاب(3) بأنّ التخصيص المستهجن إنّما هو فيما إذا اُريد إخراج جميع الأسباب الخاصّة الوارد في موردها العموم عن تحته، كما إذا كان السبب واحداً واُريد إخراجه عن تحت العامّ، أو أزيد من واحد واُريد إخراج الجميع. وأمّا إذا اُريد إخراج بعضه كما في مثل المقام، فلا نسلّم استهجان التخصيص.
واُورد على هذا الجواب بما يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) (4); من أنّ ورود بعض الأفراد في مورد العموم يوجب أن يكون شمول العموم له، ودلالته عليه بالنصوصيّة; من دون فرق بين ما إذا كان الفرد واحداً أو أزيد، وعلى الثاني: بين ما إذا اُريد إخراج الجميع، أو البعض. وعليه: فاللاّزم أن يعامل مع الموثّقة ومع أدلّة التخصيص معاملة المتعارضين.
هذا، ولكنّ التحقيق تبعاً لسيّدنا الاُستاذ (قدس سره) إنّ ورود العامّ في مورد بعض الأفراد لا يوجب شموله له بالنصوصيّة في مثل المقام; لأنّ غرض الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب عن سؤال الراوي إنّما هو بيان أصل الحكم، والفرق بين
- (1) في ص272.
- (2) في ص175 ـ 176.
- (3) راجع في نهاية التقرير 1: 407.
- (4) جواهر الكلام 8 : 163 ـ 164.
الحيوانات المحلّلة والمحرّمة في مقابل العامّة(1)، القائلين بصحّة الصلاة في أجزاء جميع الحيوانات، ولذا أخرج لبيانه كتاباً، زعم أنّه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) للاستشهاد عليه في مقابلهم.
مضافاً إلى أنّ غرض السائل أيضاً لم يكن هو السؤال عن حكم الأفراد الخاصّة، بل مقصوده هو السؤال عن حكم الحيوانات التي لم يكن أخذ الثوب منها متعارفاً ومعمولاً، كالغنم والإبل وغيرهما ممّا تعارف أخذ اللباس منه، ولأجله كان حكمها معلوماً لكلّ أحد من زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
وبالجملة: لمّا كان التفصيل بين الحيوانات في جواز الصلاة في أجزائها وعدمه، والحكم بالفرق بينها غير معلوم للناس قبل ذلك، أراد الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب أن يبيّن ذلك بقانون كلّي مذكور في كتاب الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وهو
لا ينافي خروج بعض الأفراد المذكورة في السؤال عن تحت هذا الحكم الكلّي، كما لا ينافي خروج بعض الأفراد غير المذكور(2).
فالإنصاف أنّ النسبة بين الموثّقة، وبين الأدلّة المجوّزة للصلاة في السنجاب، هي نسبة الدليل العامّ مع الدليل المخصّص لا المتعارضين، فاللاّزم التخصيص من دون استلزام للاستهجان بوجه.
نعم، على تقدير التعارض يشكل الحكم بالجواز في السنجاب; لعدم ثبوت الشهرة الفتوائيّة بالإضافة إليه، ومخالفة العامّة وإن كانت متحقّقة في مثل الموثّقة، إلاّ أنّ الروايات المجوّزة لأجل اشتمالها على المنع في مثل الثعالب
- (1) تقدّم تخريج فتاواهم في ص143.
- (2) نهاية التقرير 1: 408 ـ 410.
ـ الذي يجوز الصلاة فيه عند الناس ـ لا مجال لحملها على التقيّة، وقد عرفت(1) أنّ الدليل المجوّز الوارد في خصوص السنجاب لا يكون معتبراً من حيث السند.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الجواز في السنجاب هو الأقوى بلحاظ الأدلّة ورعاية قواعد العمل بها، إلاّ أنّه مع ذلك لا تكون المسألة صافية، خصوصاً مع عدم بناء أكثر القدماء عليه، فتدبّر.
- (1) في ص290.
[عدم البأس بفضلات الإنسان]
مسألة 13: لا بأس بفضلات الإنسان، كشعره وريقه ولبنه; سواء كان للمصلّي أو لغيره، فلا بأس بالشعر الموصول بالشعر; سواء كان من الرجل أو المرأة 1 .
1 ـ قد تقدّم البحث في هذه المسألة في ذيل البحث عن أصل مانعيّة غير المأكول، فراجع(1).
- (1) في 191 ـ 195.
اعتبار عدم كون الساتر بل مطلق اللباس ذهباً للرجال
الرابع: أن لا يكون الساتر بل مطلق اللباس من الذهب للرجال في الصلاة ولو كان حُليّاً، كالخاتم ونحوه، بل يحرم عليهم في غيرها أيضاً 1 .
مسألة 14: لا بأس بشدّ الأسنان بالذهب، بل ولا بجعله غلافاً لها أو بدلاً منها في الصلاة بل مطلقاً. نعم، في مثل الثنايا ممّا كان ظاهراً وقصد به التزيين لا يخلو من إشكال، فالأحوط الاجتناب. وكذا لا بأس بجعل قاب الساعة منه واستصحابها فيها. نعم، إذا كان زنجيرها منه وعلّقه على رقبته أو بلباسه يشكل الصلاة معه، بخلاف ما إذا كان غير معلّق وإن كان معه في جيبه; فإنّه لا بأس به 2 .
1 ، 2 ـ الكلام في هذا الأمر يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في الحكم التكليفي المتعلّق بلبس الذهب للرجال مطلقاً في الصلاة وغيرها، والظاهر أنّه لم يقع التعرّض لهذه المسألة في كتب قدماء أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم أجمعين، وأوّل من تعرّض له الشيخ (قدس سره) في كتاب المبسوط(1)، الذي هو كتاب تفريعيّ له، ولم يتعرّض له المتأخّرون عنه إلى زمان الفاضلين المحقّق والعلاّمة إلاّ النادر منهم(2)، والظاهر أنّ حرمة لبس الذهب على الرجال محلّ وفاق بين من تعرّض من الخاصّة للمسألة، وبين العامة(3)، وفي الجواهر نفى وجدان الخلاف في الساتر منه، بل ولا فيما تتمّ
- (1) المبسوط: 168.
- (2) كابن حمزة في الوسيلة: 367، والكيدري في إصباح الشيعة: 63.
- (3) الخلاف 1: 507، الحبل المتين 2: 208، مفاتيح الشرائع 2: 19، بحار الأنوار 83 : 251، الحدائق الناضرة 7: 101، مستند الشيعة 4: 356، مصباح الفقيه 10: 344، مستمسك العروة الوثقى 5: 352 ـ 353، المغني لابن قدامة 1: 626، الشرح الكبير 1: 472، المجموع 4: 383.
الصلاة به وإن لم يقع به الستر(1).
وقد ورد في هذا المقام روايات دالّة على حرمة التلبّس به للرجل، أو التختّم بالذهب له من دون ذكر علّة، أو مع التعليل بكونه زينة الآخرة.
أمّا ما ظاهره حرمة التلبّس، فمثل موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلّي فيه; لأنّه من لباس أهل الجنّة(2).
ومرسلة موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الحديد: إنّه حلية أهل النار، والذهب إنّه حلية أهل الجنّة، وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه، الحديث(3).
وأمّا ما يدلّ على حرمة التختّم بالذهب، فهو أكثر الروايات الواردة في المقام:
كرواية جرّاح المدائني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تجعل في يدك خاتماً من ذهب(4).
ورواية مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهاهم عن سبع، منها: التختّم بالذهب(5).
- (1) جواهر الكلام 8 : 180.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 372 ح1548، علل الشرائع: 348 ب57 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 4: 413، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب30 ح4.
- (3) تقدّمت في ص251.
- (4) الكافي 6: 469 ح7، وعنه وسائل الشيعة 4: 413، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب30 ح2.
- (5) قرب الإسناد: 71 ح228، وعنه وسائل الشيعة 4: 415، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب30 ح9.
وأمّا ما يدلّ على حرمة التختّم به مع اشتماله على التعليل، فكرواية روح بن عبد الرحيم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : لا تختّم بالذهب; فإنّه زينتك في الآخرة(1).
ورواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ (عليه السلام) : إنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تتختّم بخاتم ذهب; فإنّه زينتك في الآخرة(2).
إذا عرفت ما ذكر فاعلم، أنّه لو لم يكن في البين إلاّ خصوص روايات التختّم من دون ذكر العلّة لم يجز التعدّي عن مورده إلى غيره أصلاً، لا بعنوان اللباس، ولا بعنوان الزينة; لعدم الدليل على التعدّي. وأمّا مع وجود الروايات المعلّلة، وكذا روايات اللبس، فيحتمل أن يكون الموضوع هو عنوان اللبس، ويحتمل أن يكون هو عنوان الزينة والتزيّن، وبين العنوانين ـ مضافاً إلى ثبوت المغايرة، وكون النسبة عموماً من وجه ـ مغايرة من جهة عدم مدخليّة القصد في عنوان اللبس، ومدخليّته في عنوان التزيّن.
ومنشأ الاحتمالين ظهور روايات اللبس في كون الموضوع هو هذا العنوان، وظهور الروايات المعلّلة في كون الموضوع هو عنوان الزينة، ولا مجال لاحتمال ثبوت حكمين متعلّقين بعنوانين، المستلزم لكون التختّم بالذهب محكوماً بحرمتين، والمقطوع خلافه، فالثابت لا يكون إلاّ حكماً واحداً متعلّقاً
- (1) الكافي 6: 468 ح5، وعنه وسائل الشيعة 4: 412، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب30 ح1.
- (2) الفقيه 1: 164 ح774، علل الشرائع: 348 ب57 ح3، وعنهما وسائل الشيعة 4: 414، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب30 ح6.
بعنوان واحد.
وعليه: فلابدّ إمّا من التصرّف في روايات اللبس بكون المراد منه الزينة، وتؤيّده رواية النميري المتقدّمة المشتملة على ذكر اللبس بعد عنوان الزينة. وإمّا من التصرّف في روايات الزينة بحملها على أنّ المراد بها اللبس، مؤيّداً بما ورد في تفسير قوله ـ تعالى ـ : ( خُذُوا ْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد )(1) من أنّ المراد بها هو اللباس(2).
والظاهر رجحان الاحتمال الثاني; لأنّ حمل الزينة على اللباس أهون من العكس، خصوصاً مع ملاحظة التأييد المذكور، وما في الجواهر(3) في كتاب الشهادات من دعوى الإجماع بقسميه على حرمة التحلّي به، فالظاهر أنّه ليس المراد به هو التحلّي في مقابل التلبّس، بل تحلّي الرجل في مقابل تحلّي المرأة، وهو لا ينافي أن يكون المراد به هو التلبّس، كما لا يخفى.
فالإنصاف أنّ المستفاد من الروايات المتقدّمة هي حرمة تلبّس الرجل للذهب، ويؤيّده ما دلّ على جواز شدّ الأسنان بالذهب.
كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: أنّ أسنانه استرخت فشدّها بالذهب(4).
وما دلّ على جواز تحلية السيف بالذهب مع كونه معلّقاً على الرجل نوعاً.
- (1) سورة الأعراف 7: 31.
- (2) تفسير العيّاشي 2: 14 ح29، مجمع البيان 4: 412، وعنهما وسائل الشيعة 4: 455، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب54 ح5 و 6.
- (3) جواهر الكلام 41: 54 (ط.ق).
- (4) الكافي 6: 482 ح3، وعنه وسائل الشيعة 4: 416، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب31 ح1.
كصحيحة عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ليس بتحلية السيف بأس بالذهب والفضّة(1).
وعلى ما ذكرنا فما لم يتحقّق عنوان التلبّس لا يتحقّق المحرّم، فالأسنان المشدودة بالذهب، أو المشبّكة به، أو المبدّلة به لا مانع منها أصلاً; من دون
فرق بين الثنايا وغيرها، ومن دون فرق بين ما إذا قصد التزيّن، وما إذا لم يقصد، ويستفاد من المتن ـ حيث احتاط وجوباً بالاجتناب عن الثنايا مع قصد التزيّن ـ أنّ الملاك عنده التزيّن، مع أنّ ظاهر صدره أنّ الملاك هو التلبّس.
وكذا لا بأس بجعل قاب الساعة من الذهب; لعدم صدق التلبّس به، وعدم كونه آنية حتّى يحرم من جهة كونه من أواني الذهب، والظاهر عدم الحرمة بناءً على حرمة التزيّن أيضاً; لعدم تحقّقه مع كونه في الجيب نوعاً. نعم، مع شدّه بالسوار كما هو المعمول في هذه الأزمنة يشكل الأمر مع فرض كون جوانبه منه.
وأمّا إذا كان زنجيرها منه، فإن كان في جيبه ولم يكن معلّقاً على رقبته أو لباسه، فالظاهر أنّه لا مانع منه أصلاً على كلا المبنيين، كما أنّه إذا كان معلّقاً على رقبته، فهو حرام على كليهما; لصدق التلبّس والتزيّن معاً. وأمّا إذا كان معلّقاً على لباسه، فالظاهر صدق التزيّن دون التلبّس، ومجرّد تعليقه على اللباس لا يوجب تحقّقه، كما إذا علّق الخاتم على اللباس فرضاً.
ثمّ إنّه لا فرق في الحرمة بين أن يكون لباس الذهب خالصاً، أو ممزوجاً،
- (1) الكافي 6: 475 ح5، وعنه وسائل الشيعة 5: 104، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس ب64 ح1.
أو ملحماً به، أو مذهّباً بالتمويه والطلي مع صدق لبس الذهب، قال في محكيّ كشف الغطاء: الشرط الثالث: أن لا يكون هو أو جزؤه ـ ولو جزئيّاً أو طليه ممّا يُعدّ لباساً أو لبساً ولو مجازاً بالنسبة إلى الذهب ـ من الذهب; إذ لبسه ليس على نحو لبس الثياب; إذ لا يعرف ثوب مصوغ منه، فلبسه إمّا بالمزج، أو التذهيب، أو التحلّي(1).
ويمكن الإيراد عليه بأنّه إنّما يتمّ لو كان المذكور في الروايات في متعلّق النهي هو عنوان لبس الثوب من الذهب; فإنّه يصحّ أن يقال حينئذ بأنّه لا يعرف ثوب مصوغ منه، فلبسه إمّا بالمزج أو مثله، وأمّا لو كان المذكور فيها هو عنوان لبس الذهب، كما هو كذلك، فلا يتمّ ما أفاده; لعدم اختصاص اللبس بالثوب، بل يعمّ مثل الخاتم والسوار والقلادة ممّا يمكن أن يكون بجميع أجزائه بحسب المتعارف ذهباً، فالملاك حينئذ صدق اللبس في جميع الموارد.
المقام الثاني: في الحكم الوضعيّ المتعلّق بلبس الذهب في الصلاة، وقد ادّعي الإجماع بل الضرورة في هذا المقام أيضاً(2)، ولكنّ الظاهر أنّه ليس كذلك، ولم يتعرّض له الشيخ في المبسوط، مع أنّه أوّل المتعرّضين للمقام الأوّل، بل ظاهره باعتبار عدم التعرّض له في ضمن ما لا تجوز الصلاة فيه عدم البطلان.
- (1) كشف الغطاء 3: 21.
- (2) الخلاف 1: 507 ـ 508 مسألة 250، بحار الأنوار 83 : 251، الدُرّة النجفيّة: 106، وحكى في مفتاح الكرامة 5: 443، عن الشيخ نجيب الدين أنّه لا خلاف فيه، مستند الشيعة 4: 383، جواهر الكلام 8 : 180 ـ 181.
نعم، ذكر العلاّمة في التذكرة أنّ الثوب المموّه بالذهب لا تجوز الصلاة فيه للرجال، وكذا الخاتم المموّه به; للنهي عن لبسه، وقال أيضاً: لو كان في يده خاتم من ذهب أو مموّه به بطلت صلاته; للنهي عن الكون فيه، ولقول الصادق (عليه السلام) : جعل الله الذهب حلية أهل الجنّة، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه(1)،(2).
وكيف كان، فعمدة ما استدلّ به على البطلان أمران:
أحدهما: الأخبار الواردة في الباب، الظاهرة في البطلان، مثل:
موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) المتقدّمة(3) في المقام الأوّل، المشتملة على قوله (عليه السلام) : «لا يلبس الرجل الذهب، ولا يصلّي فيه; لأنّه من لباس أهل الجنّة».
وكذا مرسلة موسى بن أكيل النميري، المتقدّمة(4) في ذلك المقام أيضاً، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : «وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه».
فإنّ النهي عن الصلاة في الموثّقة إنّما ظاهره الإرشاد إلى الفساد والمانعيّة، كما هو الشأن في مثله من النواهي المتعلّقة بالمعاملة الخاصّة والعبادة المخصوصة; فإنّ ظاهرها عدم حصول الغرض المقصود، وعدم ترتّب الأثر من حصول المكلّف به في الخارج، أو تحقّق الأثر المعاملي، كالملكيّة والزوجيّة
- (1) المعتبر 2: 92، وهذه الرواية هي مضمون مرسلة موسى بن أكيل النميري المتقدّمة في ص208 ـ 209.
- (2) تذكرة الفقهاء 2: 471 و 476.
- (3 ، 4) في ص297.
ونحوهما، ولا منافاة بين كون النهي عن الصلاة للإرشاد، وبين كون النهي عن اللّبس للتكليف وإن كانا في سياق واحد.
وهكذا التحريم بلفظه في المرسلة; فإنّ تعلّقه باللبس ظاهر في الحكم المولوي، وبالصلاة فيه ظاهر في الحكم الإرشاديّ الذي مرجعه إلى البطلان، ولا منافاة بينهما.
وربما يقال بالبطلان ولو على تقدير دلالة الروايتين على الحكم المولوي; نظراً إلى أنّ المبغوض لا يمكن أن يكون مقرّباً، فلا تصحّ العبادة; لأنّ صلاحيّتها للتقرّب معتبرة في صحّتها، وتعلّق الأمر بطبيعة الصلاة مجرّدة عن ملاحظة تحيّثها بحيثيّات مختلفة، والنهي بإيجادها في الذهب وإيقاعها فيه وإن كان يوجب التغاير بين المتعلّقين، لكنّه من مصاديق مسألة اجتماع الأمر
والنهي، والحقّ في تلك المسألة وإن كان هو القول بالجواز، إلاّ أنّه لا يمنع من الحكم ببطلان العبادة التي اجتمع فيها الأمر والنهي; لعدم صلاحيّتها للتقرّب، كما تقدّمت الإشارة إليها آنفاً(1).
هذا ولكن حقّقنا في الاُصول(2) أنّ الحقّ هي صحّة العبادة بعد فرض القول بالجواز، فلا مجال لهذا القول.
ثانيهما: لزوم اجتماع الأمر والنهي، كما استدلّ به العلاّمة في التذكرة في عبارته المتقدّمة، وتقريبه: أنّ النهي إنّما تعلّق بلبس الذّهب على الرجال، والأمر إنّما تعلّق بالتستّر; ضرورة أنّه يجب أن يكون المصلّي متستّراً، وبين
- (1) اُنظر نهاية التقرير 1: 428.
- (2) دراسات في الاُصول 2: 28 ـ 35، سيرى كامل در اصول فقه 6: 529 ـ 558.
العنوانين عموم من وجه، ومادّة الاجتماع هو لبس الذّهب في الصلاة، ومقتضى هذا الدليل اختصاص الحكم بما إذا كان الساتر من الذهب، مع أنّ المدّعى عامّ شامل لما إذا كان في يده خاتم من الذّهب في حال الصلاة.
وعليه: فدعوى كون التستّر في صورة تعدّد اللباس إنّما يكون مستنداً إلى الجميع على حدٍّ سواء، وليس استناد الستر إلى بعضها أولى من بعض حتّى يقال: إنّ الستر وقع بالمحلّل دون المحرّم أو بالعكس، إنّما تجدي على فرض تماميّتها بالنسبة إلى الألبسة المتعدّدة التي تصلح للساتريّة، ولا تجدي في مثل الخاتم كما هو ظاهر.
ويرد على هذا الدليل أنّ لزوم اجتماع الأمر والنهي إنّما هو على تقدير ثبوت التكليفين معاً، وفي المقام ليس كذلك; لأنّ تعلّق الوجوب بالتستّر مع كونه من شرائط الصلاة إنّما هو على فرض القول بوجوب المقدّمة واتّصافها بالوجوب الغيري، مع أنّه محلّ إشكال بل منع، كما حقّقناه في الاُصول(1).
ودعوى كون التستّر من أجزاء الصلاة، فينبسط عليه أيضاً الأمر المتعلّق بالكلّ، فالأمر بالصلاة أمر بالتستّر أيضاً.
مدفوعة بوضوح عدم كونه من أجزاء الصلاة، بل من شرائطها.
ثمّ لو فرض ثبوت الأمر، وتعلّق الوجوب بالتستّر، وتحقّق الاجتماع، فليس لازمه القول بالبطلان في المقام وإن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي وترجيح جانب النهي، أو قلنا بالجواز مضافاً إلى البطلان; وذلك لأنّ مورده ما إذا كان مورد الاجتماع أمراً عباديّاً، والتستّر لا يكون كذلك، وكونه شرطاً
- (1) دراسات في الاُصول 1: 543 وما بعدها.