تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
تازه های نشر 99
فراخوانی مقاله و اولویت های پژوهشی
فراخوانی مقاله و اولویت های پژوهشی
سخن موسس فقید
سخن موسس فقید
تفصيل الشريعه ـ ج7 (کتاب الصلوة / 2)
( صفحه 28 )

إلى المرأة بنفسها وأعضائها، يكون المستثنى أيضاً راجعاً إليها ومن جملة أعضائها، كما لا يخفى.

وأمّا الجهة الثانية، فالظاهر أنّ قوله ـ تعالى ـ : ( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ناظر إلى ستر النحر والصدر والعنق، ويكون النظر فيه بعد النهي عن إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها الإرشاد إلى كيفيّة العمل بقوله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )، وأنّ ضرب الخمر على الجيب يكفي في تحقّق موافقة النهي; لكون سائر الأعضاء مستوراً عادة، فضرب الخمار على الجيب كاف في تحقّق عدم إبداء غير الزينة الظاهرة.

ويمكن أن يكون الوجه فيه دفع توهّم كون الاُمور المذكورة ـ أي النحر والصدر والعنق ـ من الزينة الظاهرة; لكونهنّ يجعلنّ طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي، ولأجله يمكن التوهّم المذكور، وقد دفعه الله بقوله ذلك، وبيّن أنّه يجب إرخاء الخمار على الجيب، وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليتحقّق ستر الاُمور المذكورة.

وعلى أيّ تقدير، فلا دلالة له على وجوب ستر الوجه; لأنّ مفاده إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب ـ وهو ضلع أعلى القميص ـ ليستر ما ظهر من الصدر والعنق، ولا يقتضي ستر الوجه أصلا، بل يستفاد منه أنّ تغطية الوجه لا تكون مدلولة لقوله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ )، بل تكون مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ : ( إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).

وأمّا الجهة الثالثة، فقد قال بعض أفاضل الهند في رسالته في الحجاب المسمّـاة بإسداء الرغاب في مسألة الحجاب: أنّ قوله ـ تعالى ـ في الأوّل:

( صفحه 29 )

( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... ) ليس ناظراً إلى فرض وجود الأجنبي والعلم به، غاية الأمر أنّه نعلم من الخارج عدم تضيّق الحكم بنحو يعمّ وجوده وعدمه، ولهذا نقول: إنّه ناظر إلى صورة مظنّة وجود الناظر وإن لم نعلم به.

وعليه: فلا مانع من إظهار الوجه والكفّين في هذه الصورة. وأمّا قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )، فالمفروض في مورده صورة وجود الناظر والعلم به. وعليه: فالإبداء المنهيّ عنه في هذه الصورة يكون خالياً عن الاستثناء، ويعمّ الباطنة والظاهرة معاً، فإبداء الوجه والكفّين في صورة وجود الناظر منهيّ عنه وإن كانتا من الزينة الظاهرة; لخلوّ هذه الجملة الشريفة من الاستثناء(1).

والظاهر أنّ الالتزام بما أفاده في بيان معنى الآية مشكل جدّاً، بل ظاهر الآية يأباه; لظهورها في اتّحاد معنى الجملتين وعدم اختلاف موردهما; والوجه في التكرار إنّما هو استثناء المحارم الذين لا يحرم للمرأة إبداء الزينة
غير الظاهرة لهم، وعدم استثناء الزينة الظاهرة في هذه الجملة إنّما هو للاتّكال على وضوحه بقرينة الجملة السابقة، مضافاً إلى أنّ الروايات أيضاً
تدلّ على أنّ الجملتين بمعنى واحد، وسيأتي(2) نقل بعضها.

وأمّا الجهة الرابعة، وهي: أنّ المراد من قوله ـ تعالى ـ : ( وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ) ماذا؟ ويجري فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون المراد ضرب الرجل على الأرض ليعلم ذلك.

  • (1) لم نعثر على الكتاب.

  • (2) في ص31 ـ 32.

( صفحه 30 )

الثاني: أن يكون المراد ضرب الرجل بعضه ببعض لهذه الغاية، وعلى أيّ تقدير، فقوله ـ تعالى ـ : ( لِيُعْلَمَ... ) قيد للمنهي لا للنهي، والمراد من ذلك كون متعلّق النهي هو الضرب لهذا الغرض، فمجرّد الضرب ـ ولو لغرض آخر وإن ترتّب عليه الاطّلاع على ما يخفين من زينتهنّ ـ لا يكون منهيّاً عنه; لأنّ الضرب للغرض المذكور مقدّمة لتحريك الرجال وجلب توجّههم إليهنّ، فيترتّب عليه المفاسد.

ومن ذلك ظهر أنّ المراد بالزينة في هذه الجملة هي الزينة الزائدة على الخلقة كالخلخال; لأنّها هي التي يكون الضرب بالأرجل موجباً للاطّلاع عليها والعلم بها. وأمّا زينة الخلقة، فلا يتوقّف ظهورها على ذلك.

وعليه: فيتحقّق هنا شاهد آخر على أنّ المراد بالزينة الظاهرة في الاستثناء الواقع في صدر الآية هي الزينة الخلقيّة، التي تكون على قسمين: ظاهرة، وباطنة; لأنّ الزينة الزائدة التي وقع التعرّض لها في الذيل يكون إنقسامها بالإخفاء والإظهار، لا بالخفاء والظهور.

فانقدح الفرق بين الصدر الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل اللاّزم، والذيل الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل المتعدّي، وأنّ الأوّل ناظر إلى الزينة الذاتيّة الخلقيّة، والثاني ناظر إلى الزينة العرضيّة الزائدة، وبذلك يظهر البحث في الجهة الخامسة من الجهات المتقدّمة.

هذا كلّه بالنظر إلى نفس مفاد الآية مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها.

وأمّا بلحاظ الروايات، ففي تفسير نور الثقلين، عن الكافي، عن زرارة،

( صفحه 31 )

عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : ( إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم(1).

وحيث إنّ النظر إلى الكحل والخاتم ملازم للنظر إلى العين واليد، ولا يمكن الانفكاك بينهما، فتلائم الرواية مع ما ذكرنا من أنّ المراد من الزينة الظاهرة هي الوجه والكفّان.

وفيه أيضاً عنه، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الخاتم والمسكة; وهي القُلب(2).

والقلب بالضمّ: السوار، والظاهر منها أيضاً موضعهما، كما لا يخفى.

وفيه أيضاً عن تفسير جوامع الجامع: فالظاهرة لا يجب سترها; وهي الثياب ـ إلى قوله: ـ وعنهم (عليهم السلام) : الكفّان والأصابع(3).

وفيه أيضاً عن تفسير مجمع البيان: وفي تفسير عليّ بن إبراهيم: الكفّان والأصابع(4).

وفيه أيضاً عن تفسير علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )، فهي الثياب

  • (1) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح115، عن الكافي 5: 521 ح3، وكذا روى عنه في وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح3.

  • (2) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح116، عن الكافي 5: 521 ح4، وكذا روى عنه في وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح4.

  • (3) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح117، عن تفسير جوامع الجامع 3: 103.

  • (4) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح118، عن مجمع البيان 7: 216، ولم نعثر عليه في تفسير القميّ.

( صفحه 32 )

والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار، والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها. وأمّا زينة المحرم، فوضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما أسفل منه. وأمّا زينة الزوج، فالجسد كلّه(1).

وهاهنا رواية صحيحة من حيث السند، ومعضلة من حيث الدلالة، رواها الفضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )؟ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين(2).

ونفس السؤال في الرواية دليل على أنّ مفاد هذه الجملة لا يغاير مفاد قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ); يعني أنّ هذه
الجملة أيضاً مشتملة على الاستثناء، وعدم التعرّض له إنّما هو للاتّكال على الجملة السابقة، فيدلّ على خلاف ما التزم به الفاضل الهندي المتقدّم(3) من الفرق بين الجملتين.

كما أنّ نفس السؤال عن أنّ الذراعين هل تكونان من الزينة؟ تدلّ على أنّ المراد بالزينة ليس الأمر الزائد على الخلقة، بل نفس أعضاء المرأة، ومن المعلوم وقوع التقرير بالإضافة إلى الأمرين.

  • (1) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح119، عن تفسير القمّي 2: 101، وكذا روى عنه في مستدرك الوسائل 14: 275، كتاب النكاح، أبواب المقدّمات النكاح ب85 ح16703.

  • (2) الكافي 5: 520 ح1، وعنه وسائل الشيعة 20: 200، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح1، وتفسير نور الثقلين 3: 592 ح120.

  • (3) في ص28 ـ 29.

( صفحه 33 )

ثمّ إنّ هذه الصحيحة ممّا استدلّ به الطرفان; أي القائل باستثناء الوجه والكفّين، والقائل بعدمه; والوجه فيه: أنّه قد اختلف في معنى قوله (عليه السلام) : «وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين»، فالمحكيّ عن المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول، والفيض في الوافي، وصاحب الحدائق، والجزائري في قلائد الدّرر(1)، أنّها صحيحة دالّة على استثناء الوجه والكفّين، وأنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «ما دون الخمار» هو ما تحت الخمار في مقابل ما فوق الخمار، ومعنى «ما دون الخمار» ما كان مستوراً بالخمار.

وأمّا قوله (عليه السلام) : «وما دون السوارين» فقالوا: إنّ معناه أنّ ما دونهما إلى المرفق من الزّينة المقصودة من الآية.

وقد يقال(2): إنّ المراد ممّا دون الخمار الوجه; لأنّ السائل وهو الفضيل لم يكن شاكّاً ولا جاهلا بأنّ ما تحت الخمار من الزينة; لوضوح كونه منها، وما يمكن أن يكون السائل جاهلا بحكمه هو الوجه; لاحتمال عدم وجوب ستره، مضافاً إلى أنّ كلمة «دون» بمعنى ما يكون أسفل من الشيء، والوجه إنّما وقع في موقع أسفل من الخمار وتحته ودونه، مع أنّ الزمخشري قال في «الكشاف»: إنّ كلمة «دون» بمعنى أدنى من الشيء قليلا(3)، وما يكون أدنى من الخمار قليلا إنّما هو الوجه.

ولو قلنا بأنّ معنى دون الشيء ما هو أدنى منه، الذي يعبّر عنه في

  • (1) مرآة العقول 20: 340، الوافي 22: 817 ، ب124 ح2، الحدائق الناضرة 23: 55، قلائد الدّرر 3: 168.

  • (2) المباني في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 32: 43.

  • (3) الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 1: 99، مع اختلاف يسير.

( صفحه 34 )

الفارسية بـ «پست تر»، يكون الوجه أيضاً كذلك. وأمّا ما دون السوارين، فالمراد منه ما وقع تحتهما; وهو الكفّان; لوقوعهما أسفل من السوارين ومحلّهما.

والتحقيق أنّ السائل إنّما سأل عن الذراعين، والذراع إنّما يكون مجموع ما بين المرفق إلى الكفّ; أي أطراف الأصابع. وعليه: فالجواب بقوله (عليه السلام) : «نعم»، ظاهر في أنّ هذا المجموع من الزينة التي يحرم إبداؤها.

وعليه: فلا يعلم المراد من قوله (عليه السلام) : «وما دون السوارين»; لأنّه لا يبقى له بعد الحكم بكون مجموع الذراع من الزينة مجال; سواء كان المراد به هو ما وقع تحت السوارين; أي الكفّان، أو كان المراد ما دونهما; أي ما بعدهما إلى المرفق.

وعليه: فالرواية من هذه الجهة مجملة لا سبيل إلى استكشاف المراد منها، فلا يصحّ جعل الرواية مفسِّرة للآية الشريفة على خلاف ما استفدنا منها.

نعم، لو لم يقبل الاستظهار المذكور، وقلنا بأنّ الزينة الظاهرة المستثناة مردّدة بين الثياب، كما هو المنقول عن عبدالله بن مسعود(1)، وبين ما قاله
ابن عبّاس; من أنّها الكحل والخاتم والخدّان والخضاب في الكفّ(2)، فيتحقّق الصغرى لمسألة اُصوليّة محرّرة في محلّها(3)، وهي: أنّه لو خصّص العامّ بمخصّص متّصل كان مجملا مردّداً بين المتباينين، أو بين الأقلّ والأكثر، يسري إجمال المخصّص إلى العامّ، ويصير العامّ مجملا لا دلالة له على حكم

  • (1 ، 2) تقدّم تخريجهما في ص24.

  • (3) كفاية الاُصول: 258، مناهج الوصول 2: 245، دراسات في الاُصول 2: 177.

( صفحه 35 )

محتملات الخاصّ. وعليه: فالآية كما لا دلالة لها على جواز إبداء الوجه والكفّين، لا دلالة لها على حرمة إبدائهما أيضاً بنحو العموم.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الآية إمّا أن تكون دالّة على جواز إبداء الوجه والكفّين; لكونهما من الزينة الظاهرة. وإمّا أن لا دلالة لها على حرمة إبدائهما بنحو العموم، كما لا يخفى.

ومن الآيات قوله ـ تعالى ـ : ( يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَ جِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـبِيبِهِنَّ ذَ  لِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )(1). وقد ورد في شأن نزول الآية أنّ الإماء في الصدر الأوّل كنّ يخرجن مكشوفات الرؤوس، وكان أهل الريبة والفسوق يتعرّض لهنّ ويمازحهنّ، وربما كان يتجاوز المنافقون إلى ممازحة الحرائر، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: حسبنا هنّ إماءً، فقطع الله عذرهم(2)، وقد يقال بعدم كون
الإماء مكشوفة الرؤوس في ذلك الزمان، بل كان لهنّ القميص والخمار فقط.

وكيف كان، فغرض الآية من الإيجاب المذكور أن يعرفن بالعمل على وفقه بكونهنّ حرائر، فلا يتوجّه إليهنّ الإيذاء والممازحة.

وأمّا الجلباب، ففي المفردات: أنّه الخمر والقمص(3)، ويظهر من بعض آخر: أنّه غيرهما(4). قال في الجوامع الجامع: الجِلباب ثوب واسع أوسع من

  • (1) سورة الأحزاب 33: 59.

  • (2) مجمع البيان 8 : 158، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 560.

  • (3) مفردات ألفاظ القرآن: 199.

  • (4) الصحاح 1: 132، لسان العرب 1: 440، المصباح المنير 1: 104، مجمع البحرين 1: 302.

( صفحه 36 )

الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتُبقي منه ما تُرسله على صدرها. وعن ابن عبّاس: الرّداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقيل: الجِلباب الملحفة وكلّ ما يُتستَّر به من كساء أو غيره(1).

وأمّا معنى الآية، فربما يقال: إنّه عبارة عن أمر الله سبحانه نبيّه أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين أن يرخين جلابيبهنّ وملاحفهنّ على وجوههنّ، ويغطّين الوجوه بفضل جلابيبهنّ، ويسترن جميع البدن حتى لا يتعرّض لهنّ أهل الريبة والفسوق، ويعلم أنّهنّ أهل العفّة والشرف، فلا يطمعوا فيهنّ(2).

ففي الآية دلالة على الأمر بستر وجوههنّ، والتعليل الواقع فيها يؤكّد ذلك; لأنّ مرجعه إلى أنّهنّ يعرفن بسترهنّ للوجوه أنّهنّ أهل العفّة، لا أهل الريبة.

هذا، ولكنّ الظاهر أنّ مفاد هذه الآية هو مفاد قوله ـ تعالى ـ في الآية المتقدّمة ( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )(3); نظراً إلى أنّ الإماء كنّ لم يضربن الخمار على الجيوب; لتصديهنّ لمثل الاشتراء من السوق وتهيّؤهنّ لأنواع الخدمات، فأمر الله ـ تعالى ـ الحرائر بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليعرفن بذلك أنّهنّ حرائر، فلا يؤذين بالتعرّض والممازحة، أو نظراً إلى أنّ

  • (1) جوامع الجامع 3: 332، وكذا في الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 559 ـ 560.

  • (2) راجع مجمع البيان 8 : 158، وتفسير المراغي 22: 37 ـ 38، والكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 560.

  • (3) سورة النور 24: 31.

( صفحه 37 )

المراد كون ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح، فلا يُتعرّض لهنّ; لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها.

ويحتمل أن يكون معنى الآية ـ بناءً على كون المراد من الجلباب الملحفة، أو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، كما عن ابن عبّاس ـ أنّ إدناء الجلباب عبارة عن جعله قريباً من البدن، بحيث صار كالمتّصل به في مقابل البعد، والفصل بينه وبين البدن; فإنّه مع عدم الإدناء كثيراً ما يظهر من الجسد شيء أو أشياء، بخلاف ما إذا كان قريباً من البدن; فإنّه موجب لستره بجميع أجزائه.

وكيف كان، فدلالة الآية على وجوب ستر الوجوه، بحيث كانت ظاهرة في ذلك، ممنوعة جدّاً.

ومن الآيات التي استدلّ بها على ستر الوجه والكفّين قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـعًا فَسْـَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب ذَ  لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ... )(1); نظراً إلى أنّ مفاد الآية ليس من خصائص زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل حكم عامّ وارد في موردهنّ، كما أنّ سؤال المتاع ليس له خصوصيّة، والمنظور الملاقاة والمواجهة.

ولكنّه ينبغي أن يعلم أنّ الخطاب فيها متوجّه إلى الرجال دون النساء، فالواجب عليهم هو الملاقاة من وراء الحجاب والمانع، ولا دلالة لها على وجوب التستّر على النساء، فضلا عن أن تدلّ على وجوب ستر الوجه والكفّين.

  • (1) سورة الأحزاب 33: 53.

( صفحه 38 )

وبالجملة: أنّ هذه الآية ناظرة إلى النهي عن الدخول في الدار بغير إذن; فإنّ معنى الحجاب هو المانع. وأمّا خصوصيّة المانع من جهة لزوم كونه مانعاً عن أيّ شيء، فلا دلالة في الآية عليها، وعلى تقديرها، فقد عرفت أنّ مدلولها الإيجاب على الرجال، ولا ملازمة بينه، وبين وجوب التستّر على النساء، كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ المستفاد من التعليل المذكور في ذيلها أنّ الأطهريّة التامّة تحصل بستر الوجه والكفّين أيضاً.

قلت: لا دلالة لها على وجوب تحصيل الأطهريّة التامّة، وإلاّ لكان اللاّزم على النساء عدم الخروج من البيوت أصلا; لتحقّق الأطهريّة التامّة بذلك; ضرورة أنّ الخروج ولو مع ستر جميع البدن يوجب التوجّه إليهنّ والاطّلاع على حالهنّ ولو ببعض المراتب، وذلك ينافي الأطهريّة التامّة، فالآية غير دالّة على ذلك.

ومن الآيات التي استدلّ بها على ذلك قوله ـ تعالى ـ : ( يَـنِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ ى مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى... )(1) وتقريب الاستدلال بها من وجهين:

الأوّل: الأولويّة; فإنّه إذا كان الخضوع بالقول حراماً، فإبداء الوجه والكفّين حرام بطريق أولى.

الثاني: عموم العلّة; نظراً إلى اقتضاء الآية أنّ كلّ شيء موجب لتحقّق

  • (1) سورة الأحزاب 33: 32 ـ 33.

( صفحه 39 )

الطمع لمن كان في قلبه مرض فهو حرام، ومن المعلوم أنّ إبداء الوجه والكفّين موجب لذلك.

والجواب عن الأوّل: أنّ الخضوع بالقول لا يقاس به إبداء الوجه والكفّين; فإنّه محرّك شديد وموجب للتحريك نوعاً دونه، كما لا يخفى.

وعن الثاني: أنّه لا يمكن الأخذ بعموم التعليل المذكور، وإلاّ لكان اللاّزم أن لا يخرجن النساء من البيوت رأساً. وأمّا الحكم بوجوب القرار في البيوت في قوله: ( وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ )، بناءً على كونه من القرار لا الوقار، فليس المراد به معناه المطابقي، الذي كان مرجعه إلى حرمة الخروج من البيت، بل هو كناية عن كون شأنهنّ إدارة البيوت والتصدّي لشؤونها، وليس من شأنهنّ الورود في الاُمور الاجتماعيّة التي يكون ظرفها خارج البيت، كما استدلّت به اُمّ سلمة في مكتوبها إلى عائشة في قصّة حرب الجمل(1).

كما أنّ المراد من التبرّج المنهيّ عنه هو إظهار المرأة وإراءة محاسنها، كما كان في الجاهليّة، فهذه الآية لا دلالة لها أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين، وقد انقدح من جميع ذلك عدم تماميّة دلالة شيء من الآيات التي استدلّ بها على ذلك.

وأمّا السنّة، فهي على طوائف:

الاُولى: ما يكون مفادها أنّ النساء عورة، فقد حكي عن العلاّمة (قدس سره)

  • (1) كتاب الجمل (سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 1: 233.

( صفحه 40 )

في المنتهى أنّه قال: روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: المرأة عورة(1).

وتقريب الاستدلال بها أنّ الظاهر كون المراد بالعورة هي السوأة، ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ، الذي تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ليعرف ثبوت وجه الشبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به، حتّى كأنّ الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه.

ولمّا كان أظهر خواصّ العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً، ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات، وفعل ما لا ينبغي صدوره، فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه; لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع.

ومن المعلوم أنّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتمّ، فتدلّ الرواية حينئذ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين.

ويرد عليه: أنّه يمكن أن يكون المراد من العورة في الرواية ما هو معناها بحسب اللغة، وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره; لكونه قبيحاً، ومن مصاديقها العورة بمعنى السوأة. وعليه: تكون المرأة من المصاديق الحقيقيّة للعورة اللغويّة; لأنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها; لاحتفافها

  • (1) سنن الترمذي 3: 476 ح1175، صحيح ابن خزيمة 2: 814 ح1686، مجمع الزوائد 2: 35، المعجم الكبير للطبراني 10: 108 ح10115، الكامل لابن عدي 3: 423 رقم الترجمة 846 ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بـ «مجموعة ورّام» 2: 119، منتهى المطلب 4: 271.

( صفحه 41 )

بالأعمال القبيحة والأفعال الممنوعة التي لا ينبغي صدورها منها، وإلاّ فنفس المرأة ليست شيئاً يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها.

ولكنّ الكلام في أنّه لو سترت المرأة جميع بدنها سوى الوجه والكفّين، فهل يتحقّق الاحتفاف حينئذ أم لا؟ والظاهر أنّ الرواية لا تكون في مقام بيان أنّ المرأة بجميع بدنها عورة، بل هي ناظرة إلى امتيازهنّ عن الرجال، وبيان أنّ الطائفتين ليستا بمتساويتين، وأنّ المرأة عورة دون الرجل، فأين الدلالة على أنّ كلّ جزء من أجزاء بدنها كذلك؟ كما لا يخفى.

ومن هذه الطائفة ما رواه الخاصّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: النساء عيّ وعورات، فداووا عيّهنّ بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت(1). وقد أمر فيها بمداوى عوراتهنّ بالبيوت. ومن المعلوم أنّ المستوريّة بالبيت هي المستوريّة بجميع الأعضاء، ولكن إضافة العورات إليهنّ تدلّ على عدم كونها بتمامها عورة، ويمكن أن يكون عدم التماميّة بلحاظ كون العورة من خواصّ الجسم، ولا ارتباط لها بالروح، مع أنّ المرأة مركّبة منهما.

وكيف كان، فالظاهر أنّه لا يمكن الالتزام بالرواية; لظهورها في وجوب سترهنّ بالبيوت، وأنّه لا يجوز لها الخروج من البيت ولو مع ستر جميع
بدنها. ومن الواضح: أنّه لا يمكن الالتزام بذلك; لعدم وجوب سكونتها في البيت دائماً، وعدم خروجها منه كذلك. غاية الأمر استحباب ذلك، اللهمّ إلاّ أن يقال بالتفكيك، وأنّ الوجوب إنّما تعلّق بأصل الستر، والاستحباب تعلّق

  • (1) أمالي الطوسي: 585 ح1209، وص662 ح1382، وعنه وسائل الشيعة 20: 66، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب25 ح6، وبحار الأنوار 103: 251 ح48.

( صفحه 42 )

بالستر بالبيوت، الذي هو أعلى مرتبة الستر، ولكنّه إنّما يصحّ لو تمّـت دلالة الرواية على أصل الوجوب أيضاً.

ومن الواضح: عدم تماميّتها; ضرورة أنّه لو كان هناك رواية دالّة على عدم وجوب ستر خصوص الوجه والكفّين، فهل يتحقّق التعارض بينها، وبين هذه الرواية؟ وليس ذلك إلاّ لأجل عدم دلالة هذه الرواية على وجوب ستر الأمرين أيضاً، فتدبّر جيّداً.

الطائفة الثانية: ما ورد في باب النظر إلى الأجنبيّة، وهي كثيرة:

منها: رواية علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة(1).

والموضوع في الرواية وإن كان هي النظرة المطلقة، إلاّ أنّ المحمول فيها شاهد على كون المراد منه هي النظرة المحرّمة. وعليه: فلابدّ من إثبات تحريم النظر إلى الوجه والكفّين من دليل آخر، ولا دلالة للرواية عليه أصلا، فالرواية أجنبيّة عن الدلالة على حرمة النظر إليهما، وعلى تقديره فقد عرفت(2) أنّ حرمة النظر لا تستلزم وجوب الستر، بخلاف العكس.

ومنها: مرسلة ابن أبي نجران، عمّن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ; وإن كانت مرويّة مسندة عن أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا: ما من

  • (1) الكافي 5: 559 ح12، عقاب الأعمال: 314 ح1، المحاسن 1: 196 ب49 ح339، وعنها وسائل الشيعة 20: 191، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح1.

  • (2) في ص23.

( صفحه 43 )

أحد إلاّ وهو يصيب حظّاً من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أو كذب(1).

والظاهر أنّ المراد من النظر فيها هو النظر مع التلذّذ; لدلالة لفظ
الزنا المحمول عليه على ذلك; لملازمته مع التلذّذ والتكيّف، ولكنّها
لا دلالة للرواية على أنّ النظر المحرّم ـ المحكوم عليه بكونه زنا العينين ـ
هو أيّ نظر.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ النساء المسلمات حيث كنّ يسترن بدنهنّ، فالعضو الواقع منهنّ في معرض النظر هو الوجه والكفّان، ولكنّ الظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى أنّ النظر إلى العضو الذي يحرم النظر إليه يكون زناً بالنسبة إلى العينين. وأمّا أنّ النظر المحرّم ماذا، فلا دلالة لها عليه.

ومنها: رواية سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنّعنّ خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّـاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذاً الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاُخبرنّه.

قال: فأتاه، فلمّا رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ماهذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ

  • (1) الكافي 5: 559 ح11، وعنه وسائل الشيعة 20: 191، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح2، وص326، أبواب نكاح المحرّ وما يناسبه ب14 ح2.

( صفحه 44 )

ذَ  لِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ م بِمَا يَصْنَعُونَ )(1)،(2).

ولا يخفى أنّ المستفاد منها أنّ الأمر بالغضّ في الكريمة يكون المراد منه الأمر بالغضّ عن النظر إلى الأجنبيّة، خلافاً لما ذكرناه سابقاً(3)، واستفدناه من نفس الآية وبعض الروايات; من أنّ المراد هو الأمر بالغضّ عن النظر إلى فرج الغير وعورته، رجلا كان أو امرأة.

وكيف كان، فمفاد الآية ليس حرمة النظر إلى الوجه والكفّين أيضاً; لأنّ النساء كنّ يتقنّعنّ خلف آذانهنّ، وفي الآية قد اُمرن بإلقاء القناع على جيوبهنّ، فأين الدلالة على حرمة النظر إليهما؟ وعلى تقديره فلا دلالة لها على وجوب سترهما على النساء; لأنّ التحفّظ والتحرّز عن شقّ الوجه له طريقان: ستر النساء الوجه والكفّين، وعدم نظر الرجال إليهنّ، ولا دلالة لها
على تعيّن الأوّل.

ومنها: رواية عقبة قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله ـ عزّ وجلّ ـ لا لغيره أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه(4).

والظاهر أنّها بعينها هي الرواية الاُولى المتقدّمة، غاية الأمر أنّ الراوي عن عقبة هناك هو ابنه، وهنا هشام بن سالم، فلا تكونان روايتين، وعلى تقديره

  • (1) تقدّمت في ص9.

  • (2) الكافي 5: 521 ح5، وعنه وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح4.

  • (3) في ص10 ـ 11.

  • (4) الفقيه 4: 11 ح2، وعنه وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح5.

( صفحه 45 )

فمفاد الرواية بعينه هو مفاد تلك الرواية، ولا دلالة لشيء منهما على وجوب ستر الوجه والكفّين.

ومنها: رواية ابن يقطين، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة، وليست بمسفرة إذا عُرفت بعينها، أو حضر من يعرفها. فأمّا إن كانت لا تُعرف بعينها أو لا يحضر من يعرفها، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر وينظرون إليها(1).

ومنها: رواية محمد بن الحسن الصفّار قال: كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر، ويسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تُشهدك وهذا كلامها، أو لا يجوز له الشهادة عليها حتّى تبرز ويثبتها
بعينها؟ فوقّع (عليه السلام) : تتنقّب وتظهر للشهود إن شاء الله(2).

وقد استدلّ بهما على وجوب ستر الوجه; فإنّ مفادهما أنّ المرأة إنّما يجوز لها أن تظهر في حال الضرورة لا غير، ولو لم يكن الستر واجباً عليها في حال، لما كان وجه للسؤال عن أنّه هل يجوز لها الحضور والظهور كذلك، أم لا، كما لا يخفى.

وأمّا النقاب، فيستر ثلثي الوجه لا أزيد، وإلاّ لا تتحقّق معرفتها أصلا،

  • (1) الاستبصار 3: 19 ح57، تهذيب الأحكام 6: 255 ح665، الكافي 7: 400 ح1، وعنها وسائل الشيعة 27: 402، كتاب الشهادات ب43 ح3.

  • (2) تهذيب الأحكام 6: 255 ح666، الاستبصار 3: 19 ح58، الفقيه 3: 40 ح132، وعنها وسائل الشيعة 27: 401، كتاب الشهادات ب43 ح2.

( صفحه 46 )

وإذا كان كذلك فلا يجوز لها الظهور لغير الضرورة.

وربما يناقش في الاستدلال بأنّ قوله (عليه السلام) : «تتنقّب» ليس معناه إيجاب التنقّب وإلزامه، بل إنّما هو لأجل استحياء النساء غالباً عن النظر إلى وجوههنّ، خصوصاً إذا كان النظر لمعرفتها، فالتنقّب إنّما هو لمراعاة ذلك لا للزومه ووجوبه(1).

إن قلت: إنّ ظهورها للشهود حتى يعرفوها مستلزم لأن يكون الشهود قد رأوها سابقاً وعرفوها كذلك; ضرورة أنّ مجرّد الظهور من دون سبق الرؤية لا يترتّب عليه المعرفة والأثر بوجه، فلو كان النظر إلى وجهها حراماً، يكون لازمه خروج الشهود بذلك عن العدالة المعتبرة فيهم، وإذا لم يكن حراماً يكون لازمه عدم وجوب الستر; لأنّه لا معنى لوجوب الستر مع عدم حرمة النظر، كما لا يخفى.

قلت: إنّ في باب الشّهادات وتحمّل الشهادة قد استثني مثل ذلك النظر، بل أهمّ منه، كالنظر إلى الفرج حتّى تتحقّق الرؤية كالميل في المكحلة في باب الزنا، ولا يخرج بذلك الشاهد عن العدالة، وإلاّ ينسدّ باب الشّهادة.

وكيف كان، فلا دلالة للروايتين على وجوب ستر الوجه، كما أنّه لا دلالة لهما على عدم الوجوب.

الطائفة الثالثة: الروايات الواردة في جواز النظر إلى محاسن المرأة وشعرها ووجهها عند إرادة التزويج معها، وهي كثيرة أيضاً:

منها: رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يريد

  • (1) كتاب النكاح للشيخ الأنصاري (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 50.

( صفحه 47 )

أن يتزوّج المرأة، أينظر إليها؟ قال: نعم، إنّما يشتريها بأغلى الثمن(1).

ومن المعلوم أنّ النظر إلى الوجه داخل في مورد السؤال قطعاً.

ومنها: رواية هشام بن سالم، وحمّاد بن عثمان، وحفص بن البختري كلّهم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوّجها(2). وقد وقع التصريح بالوجه فيها.

ومنها: رواية الحسن بن السرّي قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها؟ قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها ينظر إلى خلفها
وإلى وجهها(3).

وقد استدلّ بهذه الطائفة على وجوب ستر الوجه; نظراً إلى أن الحكم بجواز النظر إليه قد وقع بيانه بصورة قضيّة شرطيّة، ومفهومها عدم الجواز عند عدم إرادة التزويج معها، الذي هو المفروض في محلّ البحث.

ولا يخفى أنّه لو قلنا بعدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة رأساً، أو بأنّ ثبوته لها إنّما هو فيما لو لم يكن الشرط وارداً لبيان الموضوع. وأمّا مع كون الشرط مسوقاً لبيان الموضوع، كما في قوله: «إن رزقت ولداً فاختنه» فلا مفهوم له، والمقام أيضاً من هذا القبيل; فإنّ إرادة التزويج يوجب تحقّق الموضوع للنظر; لأنّه لا داعي إليه بدونها، فالاستدلال بهذه الطائفة

  • (1) الكافي 5: 365 ح1، وعنه وسائل الشيعة 20: 88 ، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب36 ح1.

  • (2) الكافي 5: 365 ح2، وعنه وسائل الشيعة 20: 88 ، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب36 ح2.

  • (3) الكافي 5: 365 ح3، وعنه وسائل الشيعة 20: 88 ، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب36 ح3.

( صفحه 48 )

غير صحيح.

وإن أبيت عن ذلك وقلت بثبوت المفهوم، وأنّ المقام من قبيل قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فمفهوم الروايات ثبوت البأس عند عدم إرادة التزويج، ومن المعلوم أنّ البأس أعمّ من الحرمة; لشموله للكراهة أيضاً.

وقد أجاب الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسالة النكاح بأنّ بين النظر للتزويج، والنظر المبحوث عنه في المقام فرق; لأنّ النظر للتزويج إنّما يكون لتشخيص خلقتها، وللاختبار وكشف الواقع، بخلاف النظر في غير مورد إرادة التزويج; فإنّه عبارة عن مجرّد النظر بدون التلذّذ والريبة، كالنظر إلى وجه الرجل(1).

كما أنّه يمكن الفرق بأنّ البحث في المقام إنّما هو في جواز النظر وحرمته. وأمّا النظر في هذه الروايات، فيمكن أن يكون مستحبّاً مندوباً، كما يرشد إليه الرواية الاُولى، فتدبّر، فبين النظرين بون بعيد.

سلّمنا دلالة هذه الطائفة على حرمة النظر إلى الوجه مع عدم إرادة التزويج، ولكنّها لا دلالة لها على وجوب ستره; لما عرفت(2).

الطائفة الرابعة: الروايات الواردة في موارد مختلفة التي منها: ما في صحيح البخاري، عن ابن عبّاس قال: كان الفضل رديف النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، فقالت: إنّ فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً

  • (1) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 41.

  • (2) في ص23 و 42.

( صفحه 49 )

لا يثبت على الراحلة أفأحجّ عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجّة الوداع(1).

وزاد في فتح الباري في شرح صحيح البخاري، أنّه (صلى الله عليه وآله) قال في آخره: رأيت غلاماً حدثاً وجارية حدثة، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان(2)، بتقريب أنّه لو كان النظر إلى وجه المرأة غير محرّم، لم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الجانب الآخر.

والجواب عنه أوّلا: أنّ صرف النبيّ (صلى الله عليه وآله) وجهه لعلّه كان لخشيته (صلى الله عليه وآله) دخول الشيطان بينهما، كما علّله بذلك في الزيادة المنقولة. وعليه: فالمحذور إنّما هو دخول الشيطان وانجرار النظر إلى الأعمال القبيحة، وإلاّ فنفس النظر لا يكون محرّماً حتّى يكون إطاعة للشيطان.

وثانياً: أنّ رؤية النبيّ (صلى الله عليه وآله) نظر المرأة إلى الفضل ـ كما هو ظاهر الرواية ـ تشهد على تحقّق نظره إليها، وهو دليل على جوازه، فتدبّر.

وثالثاً: لو كان ستر الوجه واجباً على المرأة فلِمَ لم يأمرها بذلك حتى يتحقّق الأمر بالمعروف، ولا يحتاج إلى صرف وجه الفضل بوجه؟ فالإنصاف أنّ الرواية من هذه الجهة من أقوى الأدلّة على عدم وجوب ستر الوجه، كما لا يخفى.

كلّ ذلك مضافاً إلى أنّه لم يعلم أنّ انصراف وجه الفضل وعدم النظر إليها كان على طريق الوجوب، فلعلّ صرفه كان لعدم ملائمة ذلك مع محضر

  • (1) صحيح البخاري 2: 265 ح1855، سنن أبي داود: 282 ح1809، سنن ابن ماجه 3: 420 ح2909، صحيح مسلم 2: 794 ح1334.

  • (2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 4: 2406.

( صفحه 50 )

النبيّ (صلى الله عليه وآله) والحضور فيه، لا لحرمته. هذا كلّه ما يتعلّق بالسنّة.

ومن الوجوه ـ التي قد استدلّ بها على وجوب ستر الوجه والكفّين ـ : ثبوت الاتّفاق في المسألة، كما ادّعاه الفاضل المقداد في كنز العرفان، حيث قال: لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلاّ على الزوج والمحارم(1). ومن المعلوم شمول البدن للوجه والكفّين، خصوصاً مع التصريح بكلمة «كلّ».

ولا يخفى أنّ مدّعاه ليس هو الإجماع المصطلح، بل مجرّد الإطباق والاتّفاق، وهو أعمّ منه، مع أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجّة، كما قرّر في محلّه(2)، مع أنّ التمسّك بالإجماع في محل النزاع، خصوصاً مع ذهاب كثير من الأعلام إلى عدم وجوب ستر الوجه والكفّين، ممّا لا وجه له أصلا.

ومن الوجوه: أنّ السيرة المستمرّة من المتشرّعة قائمة على منع النساء أن يخرجن منكشفات، وعلى مراقبتهنّ وعدم خروجهنّ من البيوت إلاّ متستّرة، كما أنّ النظر إلى وجه المرأة الأجنبيّة قبيح عند المتشرّعة مطلقاً; من دون فرق بين صورة التلذّذ وغيرها، وقد عبّر صاحب الجواهر (قدس سره) بأنّ التطلّع إلى وجوه النساء المستترات من المنكرات في دين الإسلام(3).

ويمكن الجواب عنه بأنّ عدم ستر الوجه والكفّين يوجب كون المرأة في معرض النظر، ومن المعلوم أنّ الأنظار مختلفة، بعضها مقرون بالتلذّذ،

  • (1) كنز العرفان 2: 287.

  • (2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 1: 179 وما بعدها، أنوار الهداية 1: 256، دراسات في الاُصول 2: 428 ـ 430.

  • (3) جواهر الكلام 29: 80 (ط.ق).

( صفحه 51 )

وبعضها خال عنه، وحيث إنّه لا سبيل إلى تشخيص النظر المقرون بالتلذّذ; لأنّ القصود لا يطّلع عليها، فطريق الاحتجاب عن الناظر بشهوة هو الاحتجاب مطلقاً.

وإن أبيت عن ذلك وقلت: إنّ السيرة قائمة على التستّر في نفسه، لا لما قيل من تحقّق الاحتجاب عن الناظر بشهوة، فالجواب أنّ السيرة لا دلالة لها على خصوص الحكم اللزومي، بل هي أعمّ منه; فإنّ صاحب الجواهر (قدس سره) مع اتّكائه على هذه السيرة وإنكار المتشرّعة أفتى بجواز النظر إلى جميع جسد
المرأة لمن أراد التزويج معها(1). مع أنّ هذا ممّا ينكره المتشرّعة أشدّ الإنكار، فيظهر من ذلك أنّ السيرة قاصرة عن اثبات الحكم اللزومي.

ومنها: أنّ عدم التستّر والنظر ربما يوجب الوقوع في الفتنة والحرام، وحيث إنّ نظر الشارع عدم تحقّق الفتنة بوجه، فيكشف ذلك عن وجوب التستّر وحرمة النظر.

وقد أجاب الشيخ الأعظم (قدس سره) عن هذا الوجه بأنّ المعهود من الشارع في أمثال هذه الموارد هو الحكم بالكراهة دون التحريم(2). كالروايات الدالّة على حسن الاحتياط في الشبهات الحكميّة، وأنّ ارتكاب الشبهات ربما يوجب الوقوع في حمى الله ومحرّماته(3)، وقد ثبت في الاُصول(4) أنّ مقدّمة الحرام

  • (1) جواهر الكلام 29: 67 (ط.ق).

  • (2) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 52.

  • (3) وسائل الشيعة 27: 154 ـ 175، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب12.

  • (4) كفاية الاُصول: 159 ـ 160، دراسات في الاُصول 1: 686 ـ 690.

( صفحه 52 )

ليست بمحرّمة ولو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب.

نعم، المقدّمة التي هي علّة تامّة لوقوع الحرام ـ بحيث يترتّب عليها قهراً من دون تخلّل الإرادة والاختيار ـ تكون محرّمة، ومن المعلوم أنّ النظر وكذا عدم التستّر لا يكون كذلك.

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الوجوه التي استدلّ بها على وجوب ستر الوجه والكفّين كلّها مخدوشة مردودة.

وأمّا القول بالتفصيل بين النظرة الاُولى وغيرها، فمستنده روايات ظاهرة في ذلك:

منها: رواية الكاهلي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة(1).

ومنها: مرسلة الصدوق قال: وقال (عليه السلام) : أوّل نظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك(2).

ومنها: ما رواه أيضاً في الخصال بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: لكم أوّل نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة اُخرى، واحذروا الفتنة(3).

ومنها: ما رواه أيضاً في عيون الأخبار عن محمد بن عمر الجعابيّ، عن الحسن بن عبدالله بن محمد الرازي، عن أبيه، عن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام) قال:

  • (1) الفقيه 4: 11 ح3، المحاسن 1: 196 ب49 ح340، وعنهما وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح6.

  • (2) الفقيه 3: 304 ح1460، وعنه وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح8 .

  • (3) الخصال: 632، وعنه وسائل الشيعة 20: 194، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح15.

( صفحه 53 )

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من قتل حيّة قتل كافراً، وقال: لا تتبع النظرة النظرة، فليس لك يا عليّ إلاّ أوّل نظرة(1).

والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية: أنّ البحث إنّما هو في النظر إلى الوجه والكفّين، وليس في هذه الروايات إطلاق يشمل النظر إليهما، بل موردها هو النظر المحرّم. وأمّا أنّ أيّ نظر يكون محرّماً، فلا دلالة لها عليه.

وبالجملة: شمول الروايات للنظر إلى الوجه والكفّين والحكم بالتفصيل فيه غير واضح.

وربما يقال بأنّ المراد من النظرة الاُولى هي النظرة غير العمديّة، ومن الثانية هي النظرة العمديّة، ولكنّه لا شاهد على هذا القول أصلا، فظهر من
جميع ما ذكرنا عدم تماميّة أدلّة القائلين بوجوب ستر الوجه والكفّين، إمّا مطلقاً، أو في غير النظرة الاُولى.

وهنا شواهد وأدلّة على عدم الوجوب:

الأوّل: الآية الشريفة المتقدّمة(2)، المشتملة على استثناء ما ظهر من الزينة، بناءً على تفسيرها بالوجه والكفّين، كما لعلّه الظاهر من الآية، وقد وردت به روايات على ما تقدّم(3).

نعم، لو قلنا بأنّ الروايات الواردة في تفسيرها مختلفة، وأنّ الزينة الظاهرة

  • (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 65 ح284 و 285، وعنه وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح11.

  • (2) في ص24.

  • (3) في ص31 ـ 32.

( صفحه 54 )

تكون مجملة، لكان لازمه إجمال المخصّص المتّصل، وهو يسري إلى العامّ ويصير سبباً لإجماله. وعليه: فلا دلالة في الآية على جواز كشفهما، كما أنّه لا دلالة لها على حرمة إبدائهما على ما هو المفروض، فيصير وجوب سترهما مشكوكاً، ولا حاجة حينئذ للقائل بالجواز إلى إقامة الدليل عليه بعد اقتضاء أصالة البراءة لعدم الوجوب.

الثاني: الروايات الواردة في المقام، وهي كثيرة:

منها: ما رواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان، ورواه الصدوق في الخصال عن محمد بن الحسن، عن الصفّار، عن أحمد بن محمد مثله(1).

وهذه الرواية وإن كانت مرسلة، إلاّ أنّ في السند أحمد بن محمد بن عيسى، الذي أخرج البرقي من «قم» لنقله الرواية من الضعاف، فاشتمال السند على أحمد يجبر الإرسال، كما أنّ نقله عن مروك دليل على أنّه معتمد، مضافاً إلى تعبير أهل الرجال(2) عنه بأنّه شيخ، صدوق، فالرواية من جهة السند غير قابلة للمناقشة.

وأمّا من حيث الدلالة فواضحة، ولكنّه ربما يناقش فيها بأنّ اشتمالها على

  • (1) الكافي 5: 521 ح2، الخصال: 302 ح78، وعنهما وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح2.

  • (2) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 563، الرقم 1063، وعنه جامع الرواة 2: 226.

( صفحه 55 )

القدمين يوجب الوهن فيها; لعدم جواز النظر إلى القدمين إجماعاً(1). ولكنّه أجاب عنها الشيخ (قدس سره) بأنّه لا مانع من الالتزام بكون الرواية مطروحة بالإضافة إلى خصوص القدمين، ولا يوجب ذلك إشكالا بالإضافة إلى الوجه والكفّين(2).

وأمّا صاحب الحدائق (قدس سره) ، فقد التزم بجواز النظر إلى القدمين أيضاً; لأجل اشتمال الرواية عليهما(3).

ومنها: رواية مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفراً وسئل عمّا تظهر المرأة من زينتها؟ قال: الوجه والكفّين(4).

ومنها: ما عن قرب الإسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له؟ قال: الوجه والكفّ وموضع السوار(5).

ولا يخفى أنّ نفس السؤال دليل على أنّه كان في ذهن السائل ـ وهو علي بن جعفر ـ عدم وجوب ستر المرأة جميع بدنها، وأنّه ليس بحيث لا يجوز النظر إلى الجميع، بل كان هناك مقدار لا يجب ستره ويجوز النظر إليه، وإنّما

  • (1) الخلاف 4: 247 ـ 248 مسألة 3، غنية النزوع: 355، مسالك الأفهام 7: 46، كشف اللثام 7: 25، رياض المسائل 10: 68 ـ 69، جواهر الكلام 29: 75 (ط.ق).

  • (2) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 47.

  • (3) الحدائق الناضرة 23: 53 ـ 54.

  • (4) قرب الإسناد: 82 ح270، وعنه وسائل الشيعة 20: 202، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح5، وبحار الأنوار 104: 33 ح7.

  • (5) قرب الإسناد: 227 ح890 ، وعنه بحار الأنوار 103: 285 ح10.

( صفحه 56 )

كان السؤال عن تعيينه، ولم يستبعد المحقّق السبزواري (قدس سره) في محكيّ الكفاية(1)صحّة سند هذه الرواية.

ومنها: رواية عليّ بن سويد قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها، فقال: يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق، وإيّاك والزنا; فإنّه يمحق البركة ويهلك الدين(2).

والظاهر أنّ معنى الابتلاء بالنظر إلى المرأة الجميلة كون حرفته وعمله مقتضياً للنظر إليها، كما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) (3).

وقال في الجواهر: إنّ المراد هي النظرة غير العمديّة(4)، مع أنّه
لا يلائم قوله (عليه السلام) : «إذا عرف الله من نيّتك الصدق»; فإنّه يدلّ على أنّ
النظر كان ناشئاً عن النيّة والقصد، ويستفاد من الرواية عدم تداول ستر الوجه في ذلك الزمان، وإلاّ لم يتحقّق الابتلاء المذكور، وعدم تذكّر
الإمام (عليه السلام) لعلي بن سويد النهي عن المنكر، وعدم تنبّهه عليه، ظاهر في عدم كونه منكراً، فتدبّر.

ومنها: رواية أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، إمّا كسر، وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟

  • (1) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 2: 85.

  • (2) الكافي 5: 542 ح6، وعنه وسائل الشيعة 20: 308، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب1 ح3.

  • (3) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 54.

  • (4) جواهر الكلام 29: 79 (ط.ق).

( صفحه 57 )

قال: إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت(1).

فإنّ المستفاد من قول السائل ـ وهو أبو حمزة الثمالي، الذي كان من خيار أصحاب الأئـمّة (عليهم السلام) ، ومن وجوه الشيعة(2)، صاحب الدعاء المعروف(3) ـ : «في مكان لا يصلح النظر إليه» أنّ من جسد المرأة موضعاً يصلح النظر إليه، وإلاّ يكون ذكر هذه الجملة لغواً لا يترتّب عليها أثر أصلا، ولا يكون ذلك الموضع إلاّ الوجه والكفّين; للإجماع(4) على عدم جواز النظر إلى غيرهما.

ومنها: الروايات الواردة في باب غسل المرأة الميتة، التي منها رواية المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : جعلت فداك ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم ولا معهم امرأة فتموت المرأة، ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب الله عليها التيمّم، ولا يمسّ ولا يكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها. قلت: فكيف يصنع بها؟ قال: يغسل بطن كفّيها، ثمّ يغسل وجهها، ثمّ يغسل ظهر كفّيها(5).

فإنّ المستفاد منها أنّ مواضع التيمّم ليست من المحاسن التي أمر الله

  • (1) الكافي 5: 534 ح1، وعنه وسائل الشيعة 20: 233، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب130 ح1.

  • (2) رجال النجاشي: 115، الرقم 296، وعنه معجم رجال الحديث 3: 386، الرقم 1953.

  • (3) الصحيفة السجّاديّة: 214 ـ 234 دعاء 116، مصباح المتهجّد: 592 ـ 598، إقبال الأعمال 1: 157 ـ 175، مصباح الكفعمي: 588 ـ 601، البلد الأمين: 205 ـ 214، وفي بحار الأنوار 98: 82 ـ 93 ح2 عن الإقبال.

  • (4) تقدّم تخريجه في ص55.

  • (5) تهذيب الأحكام 1: 442 ح429، وص440 ح1422، وص342 ح1002، الاستبصار 1: 200 ح705، وص202 ح714، الفقيه 1: 95 ح438، الكافي 3: 159 ح13، وعنها وسائل الشيعة 2: 522، كتاب الطهارة، أبواب غسل الميّت ب22 ح1.

( صفحه 58 )

بسترها، فهي لا يجب سترها، وفيها إشعار بكون المراد من الزينة الظاهرة ـ المستثناة في الكريمة المتقدّمة(1) ـ هي مواضع التيمّم، التي هي عبارة عن الوجه والكفّين ظاهرهما وباطنهما، كما لا يخفى.

ومنها: الروايات الواردة في تروك الاحرام، الدالّة على حرمة تغطية الوجه للمرأة:

كرواية عبدالله بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: المحرمة لا تتنقّب; لأنّ إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه(2).

ورواية أحمد بن محمد (بن أبي نصر ـ خ ل) عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: مرّ أبو جعفر (عليه السلام) بامرأة مُحرمة قد استترت بمروحة، فأماط المروحة بنفسه عن وجهها(3).

ورواية الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: مرّ أبو جعفر (عليه السلام) بامرأة متنقّبة وهي محرمة، فقال: احرمي واسفري وأرخي ثوبك من فوق رأسك; فإنّك إن تنقّبت لم يتغيّر لونك، فقال رجل: إلى أين ترخيه؟ قال: تغطّي عينيها. قال: قلت: تبلغ فمها؟ قال: نعم(4).

  • (1) في ص24.

  • (2) الكافي 4: 345 ح7، المقنعة: 445، الفقيه 2: 219 ح1009، وعنها وسائل الشيعة 12: 493، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب48 ح1.

  • (3) الكافي 4: 346 ح9، الفقيه 2: 219 ح1010، قرب الإسناد: 363 ح1300، وعنها وسائل الشيعة 12: 494، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب48 ح4.

  • (4) الكافي 4: 344 ح3، تهذيب الأحكام 5: 74 ح245، وعنهما وسائل الشيعة 12: 494، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب48 ح3.

( صفحه 59 )

فإنّ إيجاب كشف الوجه عليها في حال الإحرام، وتحريم تغطيته يؤيّد بل يدلّ على عدم وجوب الستر عليها في غير حال الإحرام; لأنّه من البعيد جدّاً أن يصير المحرّم في غير حال الإحرام واجباً في حاله. وأمّا صيرورة الجائز واجباً أو محرّماً فلا بعد فيه أصلا.

ومنها: رواية عمرو بن شمر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد فاطمة (عليها السلام) وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة (عليها السلام) : وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: أُدخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومن معي؟ قالت: ليس عليَّ قناع، فقال: يافاطمة خُذي فضل ملحفتك فقنّعني به رأسك، ففعلت ثمّ قال: السلام عليك، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: نعم، يا رسول الله قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك.

قال جابر: فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخلت وإذا وجه فاطمة (عليها السلام) أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله الجوع، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللهمّ مشبع الجوعة ودافع الضيعة،
أشبع فاطمة بنت محمد. قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتّى عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم(1).

ومنها: غير ذلك من الروايات الواردة في موارد مختلفة التي تظهر بالتتبّع،

  • (1) الكافي 5: 528 ح5، وعنه وسائل الشيعة 20: 216، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب120 ح3.

( صفحه 60 )

وبذلك يتمّ الكلام في الجهة الاُولى من الجهتين المبحوث عنهما في باب الستر على ما عرفت.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية; وهي الستر الذي يجب شرطاً للصلاة ونحوها.

فنقول: قد عرفت(1) الفرق بينه، وبين الستر الواجب النفسي من جهات متعدّدة، والكلام فيها أيضاً يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما يتعلّق بالرجال، فنقول: قد اتّفق الأصحاب(2) على أنّ الواجب على الرجال هو ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي، فلا يجب عليهم إلاّ ستر العورة فقط، والعورة كما عرفت(3) عبارة عن أصل القضيب والبيضتين والدبر، وأوجب بعض العامّة عليهم أن يستروا جميع ما بين السرّة والركبة(4)، ولكن لا دليل عليه، بل يستحبّ نفسيّاً ذلك(5)، ويوجب ذلك أكمليّة الصلاة.

وأمّا الروايات الواردة في هذا المقام، فالمستفاد منها مفروغيّة أصل المسألة، وفي مقابلها روايات تدلّ على أنّ الرجل يصلّي في قميص واحد أو ثوب، مع أنّ القميص يستر بحسب ما هو المتعارف أكثر من العورتين، فهل هذه الروايات متنافية مع الطائفة الاُولى؟ ولا بأس بالتعرّض لبعض

  • (1) في ص7 ـ 8 .

  • (2) الخلاف 1: 398 مسألة 149، السرائر 1: 260، تذكرة الفقهاء 2: 444 مسألة 106، مفتاح الكرامة 6: 11، بداية المجتهد 1: 116 ـ 117.

  • (3) في ص18.

  • (4 ، 5) تقدّم تخريجهما في ص9.

( صفحه 61 )

الروايات من كلتا الطائفتين، فنقول:

أمّا الطائفة الاُولى:

فمنها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة، كيف يصلّي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم(1).

فإنّه يستفاد منها مفروغيّة اعتبار ستر العورتين فقط للرجل في الصلاة.

ومنها: صحيحته الاُخرى، عن أخيه قال: سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به هل عليه إعادة، أو ما حاله؟ قال: لا إعادة عليه، وقد تـمّت صلاته(2).

فإنّ مدلولها أنّ عدم الإعادة إنّما هو لأجل الجهل بكون الفرج خارجاً، كما لا يخفى.

وأمّا الطائفة الثانية:

فمنها: رواية يونس بن يعقوب أنّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي في ثوب واحد؟ قال: نعم. قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا، ولا يصلح للحرّة إذا حاضت إلاّ الخمار، إلاّ أن لا تجده(3).

  • (1) تهذيب الأحكام 2: 365 ح1515، مسائل عليّ بن جعفر: 172 ح298، وعنهما وسائل الشيعة 4: 448، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب50 ح1.

  • (2) تهذيب الأحكام 2: 216 ح851 ، مستطرفات السرائر: 96 ح15، وعنهما وسائل الشيعة 4: 404، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب27 ح1.

  • (3) الفقيه 1: 244 ح1082، وعنه وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح4.

( صفحه 62 )

ومنها: رواية محمد بن مسلم في حديث قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما ترى للرجل يصلّي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفاً فلا بأس به، والمرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً; يعني إذا كان ستيراً(1).

والظاهر أنّه لا منافاة بين الطائفتين; لأنّ الطائفة الثانية لا تكون إلاّ في مقام عدم وجوب أزيد من قميص واحد، أو ثوب كذلك في مقابل المرأة التي يجب عليها أزيد من ذلك، وليست في مقام إيجاب ستر كلّ جزء يستره القميص أو الثوب، كما لا يخفى، فلا منافاة أصلا.

ثمّ إنّه حيث إنّ اللون قد يكون مستوراً بحيث لا يكون قابلا للتمييز، ولكنّ الشبح لا يكون مستوراً; لأنّ الشبح عبارة عن الشيء الذي يرى نفسه ولكن لا يتميّز لونه ـ كما إذا كان الشيء مرئيّاً من وراء زجاجة كثيفة أو من البعيد، كما أنّه قد يكون الشبح مستوراً ولكنّ الحجم لا يكون مستوراً; لأنّ الحجم عبارة عن الشيء الذي لا يرى بنفسه، بل يرى الحاجب والساتر، ولكنّ الحاجب يحكي عنه، كما أنّه قد يكون الحجم أيضاً مستوراً ـ يقع الكلام في أنّ اللاّزم من الستر في باب الصلاة أيّة مرتبة من مراتبه، فنقول:

لا إشكال في أنّ ستر اللون الذي هو أقلّ مراتب الستر يكون معتبراً في الصلاة. وأمّا ستر الشبح، فاحتاط السيّد (قدس سره) (2) في العروة باعتباره، ولا يبعد

  • (1) الكافي 3: 394 ح2، تهذيب الأحكام 2: 217 ح855 ، الفقيه 1: 243 ح1081، وعنها وسائل الشيعة 4: 406، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح7.

  • (2) العروة الوثقى 1: 393 مسألة 1255.

( صفحه 63 )

ذلك; نظراً إلى أنّ المتفاهم عند العرف من الستر الموضوع للحكم هو ستر الشبح أيضاً; لأنّه مع عدم ستره يكون الشيء مرئيّاً بنفسه وإن لم يكن لونه متميّزاً، وهذا بخلاف ستر الحجم; فإنّ المفروض فيه عدم تعلّق الرؤية بنفس الشيء، بل بما يحكي عنه.

ولكن جمع من الأصحاب ـ ومنهم المحقّق الثاني(1) ـ ذهبوا إلى وجوب ستر الحجم أيضاً; استناداً إلى قاعدة الاشتغال الجارية في مورد الشكّ; لأنّه مع عدم تحقّق ستر الحجم يشكّ في تحقّق ستر العورة، المعتبر في الصلاة، اللاّزم تحصيله والعلم بتحقّقه.

وقد عرفت أنّ المتفاهم العرفي من الستر هو كون الشيء مستوراً بنفسه ولم يتعلّق به الرؤية كذلك. وأمّا كون الحجم أيضاً مستوراً، فهو خارج عمّا هو المتفاهم عند العرف، فلا مجال لقاعدة الاشتغال.

واستندوا(2) أيضاً إلى مرفوعة أحمد بن حمّاد إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تصلِّ فيما شفّ أو وصف; يعني الثوب المصقّل(3).

والمعروف في نقلها: «أو وصف» بواوين، كما قاله الشهيد في محكيّ الذكرى ومعناه: الثوب الحاكي للحجم. ولكن نقل عن تهذيب الشيخ (قدس سره) بخطّه:

  • (1) ذكرى الشيعة 3: 50، جامع المقاصد 2: 95، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101، فوائد القواعد: 159، الحاشية على مدارك الأحكام 2: 371.

  • (2) كالشّهيد في ذكرى الشيعة 3: 50، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 2: 95، والبهبهاني في مصابيح الظلام 6: 134.

  • (3) تهذيب الأحكام 2: 214 ح837 ، ذكرى الشيعة 3: 50، وعنهما وسائل الشيعة 4: 388، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب21 ح4، وبحار الأنوار 83 : 186.

( صفحه 64 )

«أوصفّ»(1)، ومعناه: الصفاء والصافي. وعليه: يكون عبارة اُخرى عن «الشفّ» وتفنّناً في العبارة.

وقال في الحدائق: إنّ في نسخ التهذيب يكون بواو واحد، كما أنّ الكتب التي يروي عن التهذيب يكون هكذا(2).

وأمّا قوله (عليه السلام) : «يعني الثوب المصقّل»، فالظاهر أنّه من الراوي; لأنّ الكليني(3) أيضاً يرويها بهذه العبارة، مع أنّه ليس من دأبه في الكافي تفسير الروايات أصلا. وعليه: فلا مجال لاحتمال كونه من الشيخ، بل هو من الراوي، والظاهر أنّه تفسير للجملتين لا خصوص الجملة الأخيرة، وهو أيضاً يؤيّد كون الجملتين بمعنى واحد، فلابدّ من أن تكون الجملة الأخيرة مع واو واحدة.

كلّ ذلك مع أنّ الرواية ضعيفة سنداً; لأنّ فيه السيّاري الذي هو جعّال كذّاب، كما في الكتب الرجاليّة(4)، مضافاً إلى كونها مرفوعة، فلا مجال للاستدلال بها أصلا.

المقام الثاني: فيما يتعلّق بالنساء، والأقوال فيه كثيرة، فالمشهور أنّ الواجب عليهنّ ستر جميع البدن إلاّ الوجه والكفّين والقدمين(5)، وعن

  • (1) الناقل هو الشهيد في الذكرى.

  • (2) الحدائق الناضرة 7: 27.

  • (3) الكافي 3: 402 ح24، تهذيب الأحكام 2: 214 ح838 ، بإسناده عن محمّد بن يعقوب، وعنهما وسائل الشيعة 4: 388، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب21 ح3.

  • (4) رجال النجاشي: 80 ، الرقم 192، الفهرست للشيخ الطوسي: 66، الرقم 70، جامع الرواة 1: 67.

  • (5) ذكرى الشيعة 3: 8 ، جامع المقاصد 2: 96، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582، مسالك الأفهام 1: 166، بحار الأنوار 83 : 179، الحدائق الناضرة 7: 7، مصابيح الظلام 6: 151، مفتاح الكرامة 6: 21 ـ 22.

( صفحه 65 )

الشيخ (قدس سره) استثناء الوجه فقط(1)، وعن جماعة عدم استثناء شيء من المذكورات، وهم بين قائل بوجوب ستر البدن جميعاً(2)، وبين قائل بوجوب ستر الجميع إلاّ موضع السجود كابن حمزة(3)، وبين قائل باستثناء بعض الوجه(4)، وفي قبال هذه الأقوال قول ابن الجنيد(5) بعدم الفرق بين الرجال والنساء في الستر الشرطي; بمعنى أنّه لا يجب عليهنّ شرطاً إلاّ ستر العورتين فقط.

وأمّا الأدلّة، فقد ادّعى بعض(6) أنّ جسد المرأة عورة، ومن المعلوم وجوب ستر العورة في الصلاة.

وفيه: منع الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى; فلعدم الدليل عليها، وقد عرفت(7) أنّ ادّعاء الاتّفاق عليها من الفاضل المقداد يكون فاقداً للاعتبار. وأمّا الروايات(8) الظاهرة في أنّ النساء عيّ، عورة، فليست بمعتبرة من حيث السند، وعلى تقديره فليس تطبيق العورة عليهنّ تطبيقاً حقيقيّاً، بل الظاهر منها أنّ النساء بمنزلة العورة، والمتفاهم منه عرفاً أنّها بمنزلة العورة في وجوب التحفّظ عن النظر إليها، ولو سلّم أنّ التطبيق حقيقيّ

  • (1) الاقتصاد: 396.

  • (2) الكافي في الفقه: 139، غنية النزوع: 65.

  • (3) الوسيلة: 89 .

  • (4) إشارة السبق: 83 ، وفيه: وكذا أطراف يديها وقدميها.

  • (5) حكى عنه في مختلف الشيعة 2: 114 مسألة 55، وذكرى الشيعة 3: 9.

  • (6) كما تقدّم آنفاً عن الاقتصاد والغنية والوسيلة وإشارة السبق.

  • (7) في ص50.

  • (8) تقدّمت في ص40 ـ 41.

( صفحه 66 )

فالكبرى ممنوعة; لعدم الدليل على وجوب ستر العورة كلّها في الصلاة، فهذا الدليل مردود.

وأمّا الروايات، فلابدّ من ملاحظتها، فنقول:

منها: رواية الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: صلّت فاطمة (عليها السلام) في درع وخمارها على رأسها، ليس عليها أكثر ممّا وارت به شعرها واُذنيها(1).

ولم يعلم أنّ الدرع الذي عبّر عنه في بعض الروايات(2) الاُخر بالقميص، هل كان ساتراً للكفّين والقدمين، أم لا، فلا يصحّ الاستدلال بها لحكمهما نفياً أو إثباتاً.

نعم، يمكن الاستدلال بها لحكم الوجه، وأنّه لا يجب ستره; لعدم كون الخمار ساتراً له، كما أنّه من الواضح عدم كون الدرع ساتراً له بوجه.

ومنها: رواية عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن المرأة ليس لها إلاّ ملحفة واحدة كيف تصلّي؟ قال: تلتّف فيها وتغطّي رأسها وتصلّي، فإن خرجت رجلها وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس(3).

ومنها: رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان كثيفاً، يعني ستيراً(4).

ومنها: رواية معلّى بن خنيس، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن المرأة

  • (1) الفقيه 1: 167 ح785، وعنه وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح1.

  • (2) قرب الإسناد: 224 ح876 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 412، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب29 ح10.

  • (3) الفقيه 1: 244 ح1083، مسائل عليّ بن جعفر: 172 ح299، وعنهما وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح2.

  • (4) الفقيه 1: 243 ح1081، وعنه وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح3.

( صفحه 67 )

تصلّي في درع وملحفة ليس عليها إزار ولا مقنعة؟ قال: لا بأس إذا التفّت بها، وإن لم تكن تكفيها عرضاً جعلتها طولا(1).

ومنها: رواية ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : تصلّي المرأة في ثلاثة أثواب، إزار، ودرع، وخمار، ولا يضرّها بأن تقنّع بالخمار، فإن لم تجد فثوبين تتّزر بأحدهما وتقنّع بالآخر. قلت: فإن كان درع وملحفة ليس عليها مقنعة؟ فقال: لا بأس إذا تقنّعت بملحفة، فإن لم تكفها فتلبسها طولا(2).

ومنها: رواية زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أدنى ما تصلّي فيه المرأة؟ قال: درع وملحفة، فتنشرها على رأسها وتجلّل بها(3).

والمستفاد من هذه الروايات أنّه لا خصوصيّة ولا موضوعيّة للاُمور المذكورة فيها بعنوان الساتر واللباس، بل الملاك المستوريّة ولو بغير الألبسة المتعارفة.

ولكن ظاهر صحيحة جميل بن دراج خلاف ذلك، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المرأة تصلّي في درع وخمار؟ فقال: يكون عليها ملحفة تضمّها عليها(4).

  • (1) الفقيه 1: 244 ح1084، وعنه وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح5.

  • (2) الكافي 3: 395 ح11، تهذيب الأحكام 2: 217 ح856 ، الاستبصار 1: 389 ح1480، وعنها وسائل الشيعة 4: 406، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح8 .

  • (3) تهذيب الأحكام 2: 217 ح853 ، الاستبصار 1: 388 ح1478، وعنهما وسائل الشيعة 4: 407، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح9.

  • (4) تهذيب الأحكام 2: 218 ح860 ، الاستبصار 1: 390 ح1484، وعنهما وسائل الشيعة 4: 407، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح11.

( صفحه 68 )

فإنّ مقتضاها عدم الاكتفاء بالدرع والخمار مع كونهما ساترين، مضافاً إلى دلالة الروايات المتقدّمة على جواز الاكتفاء بهما. وقد حمل الشيخ (قدس سره) هذه الرواية على زيادة الفضل والثواب، أو على كون الدرع والخمار لا يواريان شيئاً(1).

ومثلها رواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) قال: سألته عن المرأة الحرّة هل يصلح لها أن تصلّي في درع ومقنعة؟ قال: لا يصلح لها إلاّ في ملحفة، إلاّ أن لا تجد بدّاً(2).

فإنّ الجمع بينها، وبين الروايات المتقدّمة، سيّما الرواية الحاكية لصلاة فاطمة (عليها السلام) إنّما يكون بالحمل على الاستحباب، خصوصاً بملاحظة أنّ الملحفة لا تستر أزيد ممّا يستره الدرع والخمار، ولعلّ وجه الاستحباب أن ضمّ الملحفة يوجب الطمأنينة للنفس بحصول الستر الكامل، كما لا يخفى.

ودعوى(3) أنّه يمكن أن يكون عملها (عليها السلام) في حال الضرورة; لأنّ الرواية متضمّنة لحكاية الفعل، ومن المعلوم أنّ الفعل لا إطلاق له.

مدفوعة بأنّه لو كان الحاكي هو الإمام (عليه السلام) ، وكان الغرض من الحكاية بيان الحكم لا مانع من التمسّك بإطلاقه حينئذ; لأنّه لو كان الحكم مقيّداً بحال الضرورة كان عليه البيان، ولكن سند الرواية الحاكية لا يخلو عن إشكال.

  • (1) أي في تهذيب الأحكام في ذيل الرواية المتقدّمة.

  • (2) قرب الإسناد: 224 ح875 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 408، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح14.

  • (3) راجع نهاية التقرير 1: 300.

( صفحه 69 )

هذا ما يتعلّق بأصل وجوب الستر على النساء في حال الصلاة، ثمّ إنّه وقع الكلام فيما يستثنى من ذلك، وهو اُمور:

أحدها: الوجه، وقد استثني في معاقد جملة من الإجماعات(1)، وفي الذكرى: أجمع العلماء على عدم وجوب ستر وجهها، إلاّ أبا بكر بن هشام(2). وقد عرفت(3) ثبوت القول بوجوب ستر جميع البدن من غير استثناء، كما أنّك عرفت(4) أنّ ابن حمزة اقتصر في الاستثناء على موضع السجود.

والدليل على استثنائه جميع الروايات(5) الدالّة على أنّه يجوز للمرأة الاكتفاء في صلاتها بدرع وخمار; ضرورة أنّ الخمار والمقنعة لا يستر الوجه بوجه، وإنّما الساتر له بأجمعه أو ببعضه النقاب، وليس في الروايات ما يدلّ على اعتباره.

مضافاً إلى موثّقة سماعة قال: سألته عن المرأة تصلّي متنقّبة؟ قال: إذا كشفت عن موضع السجود فلا بأس به، وإن أسفرت فهو أفضل(6).

فإنّ مفادها أفضليّة الإسفار، مضافاً إلى ظهورها في أنّ السائل كان في ذهنه شبهة عدم الجواز.

  • (1) المعتبر 2: 101، مختلف الشيعة 2: 114 مسألة 55، تذكرة الفقهاء 2: 446 مسألة 108، منتهى المطلب 4: 272، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582، التنقيح الرائع 1: 183، مفتاح الكرامة 6: 21 ـ 22.

  • (2) ذكرى الشيعة 3: 8 ، المغني لابن قدامة 1: 637.

  • (3 ، 4) في ص64 ـ 65.

  • (5) وسائل الشيعة 4: 405 ـ 408، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28.

  • (6) تهذيب الأحكام 2: 230 ح904، وعنه وسائل الشيعة 4: 421، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب33 ح1.

( صفحه 70 )

وهل المراد بالوجه المستثنى في هذا الباب هو الوجه الذي يجب غسله في باب الوضوء; وهو ما دارت عليه الإبهام والوسطى من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، كما ورد في الرواية الصحيحة؟(1) ربما يقال(2): نعم; لأنّ تفسير الإمام (عليه السلام) الوجه بذلك في باب الوضوء يدلّ على أنّ معناه بحسب العرف واللغة يكون كذلك; لعدم كون الوجه له حقيقة شرعيّة، ولا مجال لاحتمال ذلك فيه، فالوجه العرفي هو ما فسّر في الرواية.

ولكنّ التحقيق أنّه ليس في الروايات الواردة في المقام ما يدلّ على
استثناء الوجه بعنوانه حتّى يبحث في المراد منه، بل قد عرفت أنّ مفادها مجرّد بيان ما يكفي للمرأة من الثياب أن تصلّي فيها; وهي عبارة
عن الدرع والخمار.

ومن الواضح: أنّ المقدار الخارج من الوجه من الخمار والمقنعة أوسع من الوجه الذي يجب غسله في باب الوضوء، خصوصاً بملاحظة الرواية(3)الحاكية لفعل فاطمة المرضيّة عليها آلاف الثناء والتحيّة، الدالّة على أنّه ليس عليها أكثر ممّا وارت به شعرها واُذنيها; فإنّ ظاهرها خروج الصدغين أيضاً كما لا يخفى.

فانقدح أنّ الوجه المستثنى هنا أوسع من الوجه في باب الوضوء.

  • (1) الفقيه 1: 28 ح88 ، الكافي 3: 27 ح1، تهذيب الأحكام 1: 54 ح154، وعنها وسائل الشيعة 1: 403، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب17 ح1.

  • (2) راجع نهاية التقرير 1: 297 ـ 298.

  • (3) تقدّمت في ص66.

( صفحه 71 )

ثانيها: الكفّان، وفي وجوب سترهما وعدمه خلاف، والمشهور(1) بين الفريقين الاستثناء، بل ادّعى كثير من العلماء عليه الإجماع(2)، وحكي عن صاحب الحدائق (قدس سره) (3) أنّه ذهب إلى ما ذهب إليه أحمد بن حنبل وداود(4) من العامّة; من أنّ ستر الكفّين شرط لصحّة صلاة المرأة; نظراً إلى أنّ نصوص الاكتفاء بالدرع والخمار يكون إثبات العدم بها موقوفاً على عدم ستر الدرع للكفّين، وهو غير ثابت.

ومن الجائز كون دروعهنّ في تلك الأزمنة واسعة الأكمام طويلة الذيل، كما هو المشاهد الآن في نساء أهل الحجاز، بل أكثر بلدان العرب; فإنّهم يجعلون القمص واسعة الأكمام مع طول زائد بحيث يجرّ على الأرض، ففي مثله يحصل ستر الكفّين والقدمين، ومع الشكّ في أنّه هل كانت الدروع في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة (عليهم السلام) ساترة لهما، أم لا؟ يرجع إلى أصالة عدم التغيير.

وفيه: مع فرض أنّ الدروع كانت ساترة للكفّين أيضاً في زمانهم (عليهم السلام) نقول:

لا دليل على اعتبار سترهما; لأنّ مفاد الروايات إنّما هو عدم وجوب ستر ما هو خارج عن الثوبين للمرأة، لا وجوب ستر جميع ما هو داخل فيهما، كما أنّ الأمر يكون كذلك في الرجل; فإنّ مفاد الروايات الدالّة على أنّه يصلّي

  • (1 ـ 4) المغني لابن قدامة 1: 637 ـ 638، الشرح الكبير 1: 458 ـ 459، بداية المجتهد 1: 117، المسألة الثالثة، الاُمّ 1: 89 ، المجموع 3: 171 ـ 172، مقدّمات ابن رُشد 1: 133، الخلاف 1: 393 ـ 394 مسألة 144، المعتبر 1: 101، مختلف الشيعة 2: 114 مسألة 55، تذكرة الفقهاء 2: 446 مسألة 108، ذكرى الشيعة 3: 8، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582، الحدائق الناضرة 7: 7 ـ 8 .

( صفحه 72 )

في ثوب واحد عدم وجوب ستر ما هو خارج عنه، لا وجوب ستر جميع ما يكون داخلا فيه; لما عرفت(1) من أنّ الواجب عليه إنّما هو ستر العورتين فقط.

هذا، مضافاً إلى أنّ الأصحاب من عصر الإمام (عليه السلام) إلى زمن العلاّمة والشهيدين وغيرهم قد أفتوا بعدم شرطيّة سترهما، واستدلّوا عليه بروايات الثوبين، فيعلم منه أنّ الدروع في زمانهم لم تكن تستر الكفّين، وإلاّ
فلا يكون وجه للاستدلال بها، ولا أقلّ من كون الدروع في زمانهم على قسمين، فاستدلّوا بإطلاق الحكم على عدم الوجوب; لأنّ مدلول الرواية كفاية الدرع مطلقاً.

ويؤيّد عدم كون الدروع ساترة للكفّين في الأزمنة السابقة، ما تقدّم(2) من ابن عبّاس في تفسير الزينة الظاهرة بالوجه والكفّين، حيث إنّ هذا التفسير ولو نوقش فيه بلحاظ كونه مقصوداً من كلام الله تعالى، إلاّ أنّ دلالته على عدم كون الكفّين مستورين في زمانه ممّا لا ينبغي المناقشة فيها، ولم يعترض عليه أحد من تلامذته.

هذا كلّه، مضافاً إلى أنّه لو شكّ في خروجهما عن الدرع، فالواجب هو الرجوع إلى أصالة البراءة على ما هو الحقّ من جريانها في مثل المقام. وأمّا رواية زرارة المتقدّمة(3)، الدالّة على أنّ أدنى ما تصلّي فيه المرأة درع وملحفة

  • (1) في ص60.

  • (2) تقدّم ذلك في ص25 بعنوان حكي، لا عن ابن عباس.

  • (3) في ص67.

( صفحه 73 )

تنشرها على رأسها وتجلّل بها، فلا دلالة لها على اعتبار أزيد ممّا يستره الدرع من الجسد، كما أنّه لا دلالة لها على اعتبار أزيد ممّا يستره الخمار والمقنعة من الرأس، كما لا يخفى.

ثالثها: القدمان، والمشهور ـ كما في غير واحد من الكتب(1) ـ
عدم وجوب سترهما في الصلاة، خلافاً لصاحب الحدائق(2); ودليله
ما عرفت مع جوابه، وقد عرفت أنّ رواية «التجلّل» لا تفيد أزيد ممّا تفيده روايات الدرع والخمار، والظاهر عدم كون الدرع ساترة للقدمين; لما مرّ في الكفّين.

نعم، في صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) المتقدّمة(3)، عن المرأة ليس لها إلاّ ملحفة واحدة، كيف تصلّي؟ قال: تلتفّ فيها وتغطّي رأسها وتصلّي، فإن خرجت رجلها وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس.

فإنّ مقتضى مفهوم الذيل وجوب ستر الرِجل، ولكنّ الظاهر أنّها محمولة على غير القدم; لأنّها لا تكون في مقام بيان وجوب ستر الرِجل حتّى يكون لها إطلاق، مضافاً إلى ما ربما يقال: من أنّ الإعراض يوجب سقوطها عن الحجّية، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد نصّ في «الدروس»(4) على أنّ المستثنى هو ظاهر القدمين

  • (1) تقدّم تخريجاتها في ص64.

  • (2) الحدائق الناضرة 7: 8 ـ 9.

  • (3) في ص66.

  • (4) الدروس الشرعيّة 1: 147، وكذا في جامع المقاصد 2: 97، ومسالك الأفهام 1: 166، وروض الجنان في رشح إرشاد الأذهان 2: 582.

( صفحه 74 )

وباطنهما، وقد عبّر بعضهم بل كثيرهم بظاهر القدمين(1)، وفي غير واحد من الكتب(2) استثناء القدمين من دون تعرّض للظاهر والباطن أصلا، ويؤيّد عدم الاختصاص بالظاهر أنّه على تقديره يلزم عدم الفائدة فيه; لأنّ ما هو الساتر للباطن من الألبسة المتعارفة يكون ساتراً للظاهر أيضاً.

ودعوى(3) أنّه يكفي في ستر الباطن الأرض، مدفوعة بأنّ كفايته إنّما هو في غير حال السجود. وأمّا في حاله فيحتاج إلى الساتر، مع أنّ كفاية ساتريّة الأرض ولوبالإضافة إلى باطن القدمين محلّ نظر، فالظاهرحينئذعدم اختصاص الحكم بالظاهر، والتعبير به لعلّه لأجل كونه محلاًّ للابتلاء بالستر، فتدبّر.

ثمّ إنّه ذهب صاحب المدارك (قدس سره) إلى أنّه لا يجب على المرأة ستر شعر رأسها بما لا يكون حاكياً له، مستنداً إلى رواية محمد بن مسلم في حديث قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ماترى للرجل يصلّي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفاً فلا بأس به، والمرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً; يعني إذا كان ستيراً(4).

فإنّ تخصيص اعتبار الكثافة بالدرع يدلّ على عدم اعتبارها في المقنعة(5).

  • (1) المبسوط 1: 87 ، المعتبر 2: 101، مختلف الشيعة 2: 98، تحرير الأحكام 1: 202، منتهى المطلب 4: 273، قواعد الأحكام 1: 257، البيان: 124، الألفية: 50، مدارك الأحكام 3: 188، كشف اللثام 3: 234.

  • (2) السرائر 1: 260، إرشاد الأذهان 1: 247، ذكرى الشيعة 3: 8 ، التنقيح الرائع 1: 182 ـ 183، مجمع الفائدة والبرهان 2: 104، بحار الأنوار 83 : 179.

  • (3) نهاية التقرير 1: 273.

  • (4) تقدّمت في ص62.

  • (5) مدارك الأحكام 3: 188 ـ 189، لكن ليس فيه استناد إلى خبر، بل قال: الأخبار لا يعطي ذلك.

( صفحه 75 )

وأجاب عنه صاحب الجواهر (قدس سره) بأنّ هذا مستلزم لعدم اعتبار ستر بشرة الرأس; لأنّه إذا كانت المقنعة حاكية لما تحتها من شعر الرأس تكون بشرته أيضاً غير مستورة، والقول بأنّها مستورة بشعره غير ثابت; لأنّ الشعر يكون من أجزاء البدن، والساتر يجب أن يكون من غيرها، وبطلان التالي واضح; لعدم التزام المستدلّ به(1).

وذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) أنّه يمكن أن يجاب عنه ولو مع تسليم كفاية الشعر للستر:

أوّلا: بأنّ إطلاق الحكم يقتضي عدم اعتبار الكثافة حتّى في المرأة التي لا يكون لها شعر، وهو مستلزم لعدم اعتبار ستر الرأس، وقد عرفت أنّه لا يلتزم به.

وثانياً: أنّ التخصيص بالدرع لأجل مفهوم اللقب، وقد بيّن في الاُصول(2)أنّه لا مفهوم له.

وثالثاً: أنّ هذه الرواية هي بعينها رواية محمد بن مسلم المتقدّمة(3)، التي رواها الصدوق عنه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان كثيفاً; يعني ستيراً.

ولا تكونان روايتين بحيث سمع محمد بن مسلم عنه (عليه السلام) مرّتين مع اختلاف في التعبير، بل الظاهر أنّهما رواية واحدة، والاختلاف يكون ناشئاً من اشتباه

  • (1) جواهر الكلام 8 : 281 ـ 282.

  • (2) مطارح الأنظار 2: 121، كفاية الاُصول: 250، نهاية الاُصول: 296 ـ 297.

  • (3) في ص66.

( صفحه 76 )

الراوي. وعليه: فيحتمل أن يكون الصادر من الإمام (عليه السلام) مطابقاً لرواية الصدوق الخالية عن التصريح بالدرع، الظاهرة في رجوع الضمير المفرد إلى كلّ واحد من الدرع والمقنعة.

واحتمال كون تذكير الضمير شاهداً على رجوعه إلى خصوص الدرع، مدفوع بظهور خلافه، خصوصاً بعد شيوع مثل هذا التعبير في الأخبار، بل في القرآن أيضاً، وخصوصاً بعد كون الدرع مذكوراً قبل المقنعة(1).

فانقدح ممّا ذكرنا عدم تماميّة الاستدلال بالرواية، بل ظهورها في خلاف مرام المستدلّ، مع أنّ المتفاهم من الروايات(2) الدالّة على أنّ المرأة تصلّي في درع وخمار كون الثوبين كثيفين غير حاكيين لما تحتهما; لأنّها في مقام بيان ما يكفي للمرأة من الساتر. ومن المعلوم أنّ الثوب غير الكثيف لا يكون ساتراً، ولذا وقع تفسير الكثافة بالساتريّة في روايتي محمد بن مسلم المتقدّمتين.

ثمّ إنّه حكي عن ابن الجنيد(3) عدم وجوب ستر الرأس أصلا، ويشهد له رواية عبدالله بن بكير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالمرأة المسلمة الحرّة أن تصلّي وهي مكشوفة الرأس(4).

وروايته الاُخرى، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس أن تصلّي المرأة

  • (1) نهاية التقرير 1: 305 ـ 306.

  • (2) وسائل الشيعة 4: 405 ـ 408، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28.

  • (3) حكى عنه في مختلف الشيعة 2: 113 مسألة 54.

  • (4) تهذيب الأحكام 2: 218 ح857 ، الاستبصار 1: 389 ح1481، وعنهما وسائل الشيعة 4: 410، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب29 ح5.

( صفحه 77 )

المسلمة وليس على رأسها قناع(1).

وربما يقال: بأنّ الاُولى مهجورة(2).

وقال الشيخ: يحتمل أن يكون المراد بهذين الخبرين، الصغيرة من النساء دون البالغات، ويمكن أن يكون إنّما سوّغ لهنّ هذا في حال لا يقدرون على القناع، ويحتمل أن يكون المراد تصلّي بغير قناع إذا كان عليها ثوب يسترها من رأسها إلى قدميها، قال: والخبر الثاني ليس فيه ذكر الحرّة، فيحمل على الأمَة(3).

أقول: والظاهر عدم كونهما روايتين، نظير ما قلنا في روايتي محمد بن مسلم. وعليه: فيحتمل أن يكون الصادر مشتملا على كلمة الحرّة، ويحتمل أن لا يكون كذلك، فلم يعلم صدورها حتّى تكون مهجورة، والمطلق محمول على الأمَة جمعاً، كما أفاده الشيخ (قدس سره) .

وعن القاضي: أنّه حكى عن بعض أصحابنا عدم وجوب ستر الشعر أصلا(4)، وعن الكفاية: التأمّل فيه(5)، وعن ألفية الشهيد: ظهور التوقّف فيه(6)، وعن المدارك والبحار: أنّه ليس في كلام الأكثر تعرّض

  • (1) تهذيب الأحكام 2: 218 ح858 ، الاستبصار 1: 389 ح1482، وعنهما وسائل الشيعة 4: 410، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب29 ح6.

  • (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 256، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 99.

  • (3) تهذيب الأحكام 2: 218 ذ ح858 .

  • (4) شرح جمل العلم والعمل: 73، وحكى فيه ذلك عن بعض، لا أنّه هو القائل به، كما في كشف اللثام 3: 239، وجواهر الكلام 8 : 282.

  • (5) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 81 .

  • (6) الألفية والنفلية: 50.

( صفحه 78 )

لذكره(1)، بل في الأوّل ربما ظهر منها ـ يعني من عبارات أكثر الأصحاب ـ أنّه غير واجب.

والدليل على خلافه ـ مضافاً إلى روايات(2) المقنعة والخمار، الظاهرة في وجوب ستر الشعر أيضاً، خصوصاً مع التصريح بالكثافة في رواية محمد بن مسلم ـ رواية زرارة المتقدّمة(3)، الدالّة على لزوم نشر الملحفة على الرأس والتجلّل بها، بل يمكن أن يقال: إنّ ستر الرأس نوعاً إنّما هو بلحاظ ستر شعره، وإلاّ فبشرته مستورة بالشعر كذلك، وقد عرفت أنّ رواية ابن بكير مهجورة أو محمولة، ويؤيّد ما ذكرنا الرواية الحاكية لصلاة المرضيّة(4) سلام الله عليها، الدالّة على أنّها كانت تواري شعرها واُذنيها، فتدبّر.

ثمّ إنّه لا يشترط في صحّة صلاة الأمة ستر الرأس والشعر والعنق إجماعاً محصّلا ومنقولا، مستفيضاً عنّا وعن غيرنا من علماء الإسلام عدا الحسن البصري(5)، فأوجبه على الأمة إذا تزوّجت أو اتّخذها لنفسه، وفي الجواهر: قد سبقه الإجماع ولحقه(6).

  • (1) مدارك الأحكام 3: 189، بحار الأنوار 83 : 180.

  • (2) وسائل الشيعة 4: 405 ـ 408، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28.

  • (3) في ص67.

  • (4) تقدّمت في ص66.

  • (5) المغني لابن قدامة 1: 639 ـ 640، الشرح الكبير 1: 457، المجموع 3: 170 ـ 172، الخلاف 1: 396 مسألة 145، المعتبر 2: 103، منتهى المطلب 4: 274، تذكرة الفقهاء 2: 448، ذكرى الشيعة 3: 9، جامع المقاصد 2: 98، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582، مفتاح الكرامة 6: 32 ـ 33، جواهر الكلام 8 : 367 ـ 368.

  • (6) جواهر الكلام 8 : 368.

( صفحه 79 )

ويدلّ عليه الروايات الكثيرة التي منها صحيحة محمد بن مسلم في حديث قال: قلت: الأمَة تغطيّ رأسها إذا صلّت؟ فقال: ليس على الأمة قناع(1).

وعن الروض احتمال عدم دخول الرقبة في الرأس، ووجوب سترها(2). ويدفعه ما يدلّ على أنّه لا بأس أن تصلّي في قميص واحد:

كصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الأمة هل يصلح لها أن تصلّي في قميص واحد؟ قال: لا بأس(3).

والصبّية مثل الأمَة فيما ذكر; للشهرة المحقّقة بل الإجماع(4)، حتّى بناءً على كون عباداتها شرعيّة(5)، وتشير إليه الروايات الدالّة على اعتبار الحيض في اعتبار الخمار.

مثل ما رواه الصدوق، عن يونس بن يعقوب أنّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي في ثوب واحد؟ قال: نعم. قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا، ولا يصلح للحرّة إذا حاضت إلاّ الخمار، إلاّ أن لا تجده(6). بناءً على كون المراد من الحيض هو البلوغ.

كما يدلّ عليه تعليق وجوب الصيام عليه أيضاً في رواية أبي بصير، عن

  • (1) الكافي 3: 394 ح2، تهذيب الأحكام 2: 217 ح855 ، وعنهما وسائل الشيعة 4: 409، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب29 ح1.

  • (2) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 583.

  • (3) قرب الإسناد: 224 ح876 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 412، كتاب الصلاة، أبواب المصلّي ب29 ح10.

  • (4) المعتبر 2: 103، منتهى المطلب 4: 274، ذكرى الشيعة 3: 9، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582، كشف اللثام 3: 238 ـ 239.

  • (5) كما قال به المؤلّف (قدس سره) في القواعد الفقهيّة 1: 355 ـ 370.

  • (6) تقدّمت في ص61.

( صفحه 80 )

أبي عبدالله (عليه السلام) قال: وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار، الحديث(1).

ودعوى قصور أدلّة الشرطيّة عن الشمول للصغيرة; لأنّ موضوعها المرأة، وهي غير شاملة لها(2).

مدفوعة بعدم استفادة العرف منها الخصوصيّة للبالغة، ولذا لو لم تكن مثل هذه الروايات لكنّا نحكم بأنّه يشترط في صحّة صلاتها الثوبان أيضاً، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بأصل اعتبار الستر في الصلاة.

ثمّ إنّه ذكر في المتن اعتبار الستر في توابع الصلاة أيضاً كالركعة الاحتياطيّة، وقضاء الأجزاء المنسيّة، بل وسجدتي السهو على الأحوط، والوجه في الأوّل واضح; لأنّ الركعة الاحتياطيّة ـ مضافاً إلى كونها صلاة مستقلّة واجبة ـ تكون متمّمة للصلاة على تقدير وقوع النقص فيها، فلابدّ من أن تكون واجدة لجميع الخصوصيّات المعتبرة فيها.

وهكذا الوجه في الثاني; فإنّ القضاء لابدّ وأن يكون عين المقضي إلاّ في خصوصيّة المحلّ، فإذا كان الستر شرطاً في سجود الصلاة مثلا، كان شرطاً في قضائه أيضاً.

وأمّا سجود السهو، فيأتي الكلام فيه في مبحثه إن شاء الله تعالى.

ولا فرق في وجوب الستر وشرطيّته بين أنواع الصلوات الواجبة

  • (1) تهذيب الأحكام 4: 281 ح851 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 409، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب29 ح3.

  • (2) كما في كشف اللثام 3: 239.

( صفحه 81 )

والمستحبّة بلا خلاف ظاهر، بل حكي عليه الإجماع(1)، ويقتضيه إطلاق الأدلّة; لعدم اشتمالها على قرينة التقييد بالواجبة. نعم، الظاهر عدم الاعتبار في صلاة الجنازة(2); لعدم كونها صلاة حقيقة، ولم يثبت شمول الأدلّة لها وإن كان هو الأحوط فيها أيضاً.

وأمّا الطواف، ففي المتن: أنّه لا يترك الاحتياط فيه، وعن جماعة منهم السيّد (قدس سره) في العروة الفتوى باعتبار الستر فيه أيضاً كالصلاة(3)، واستندوا إلى النبويّ: لا يطوف بالبيت عريان(4)، وعن كشف اللثام: أنّ الخبر يقرب من التواتر من طريقنا وطريق العامّة(5).

وفي الجواهر: قد يمنع دلالة ذلك على اعتبار الستر فيه للرجل والمرأة على حسب اعتباره في الصلاة; ضرورة أعمّية النهي عن العراء منه... اللهمّ إلاّ أن يكون المراد من العراء ستر العورة; للإجماع في الظاهر على صحّة طواف

  • (1) مستند الشيعة 4: 238، مستمسك العروة الوثقى 5: 268، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 117.

  • (2) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 372، تذكرة الفقهاء 2: 462، مجمع الفائدة والبرهان 2: 444، مدارك الأحكام 3: 197، ذخيرة المعاد: 236 س25، كشف اللثام 3: 251.

  • (3) الخلاف 2: 322، غنية النزوع: 172، تذكرة الفقهاء 8 : 85 ، منتهى المطلب 10: 316، العروة الوثقى 1: 394 مسألة 1262.

  • (4) تفسير فرات: 162 قطعة من ح207، وسائل الشيعة 13: 400 ـ 402، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب53، المسند لابن حنبل 1: 18 ح4، صحيح البخاري 1: 112 ح369 وج5: 134 ح4363، صحيح مسلم 2: 801 ح1347، سنن أبي داود: 301 ح1946، سنن الترمذي 5: 276 ذ ح3100، سنن النسائي 5: 234، السنن الكبرى للبيهقي 7: 192 ح9389.

  • (5) كشف اللثام 5: 408.

( صفحه 82 )

الرجل عارياً مع ستر العورة(1).

أقول: ويمكن الاستدلال على ذلك بما ورد من أنّ الطواف بالبيت صلاة(2)، كما استدلّ به أيضاً(3) على اعتبار إزالة النجاسة عن الثوب والبدن في الطواف.

وعن المختلف: للمانع أن يمنع ذلك، وهذه الرواية غير مسندة من طرقنا، فلا حجّة فيها(4).

وقد أجبنا عن ذلك(5) هناك بأنّ الظاهر أنّ هذه الرواية النبويّة لا دلالة لها على كون التنزيل بلحاظ الأحكام المترتّبة على الصلاة بأجمعها، أو الظاهرة منها، بل الظاهر أنّ المراد منه هو التشبيه في الفضيلة والثواب; نظراً إلى أنّه حيث يكون المغروس في أذهان المتشرّعة أنّ تحيّة المسجد عبارة عن الصلاة فيه، فالنبويّ مسوق لبيان أنّ مسجد الحرام له خصوصيّة; وهي: أنّ الطواف بالبيت مثل الصلاة فيه في الفضيلة ورعاية التحيّة، فتدبّر.

  • (1) جواهر الكلام 19: 278 (ط.ق).

  • (2) سنن الدارمي 2: 32 ح1848، سنن النسائي 5: 222، سنن الترمذي 3: 293 ح961، المعجم الكبير للطبراني 11: 29 ح10955، السنن الكبرى للبيهقي 7: 190 ـ 193 ح9384 ـ 9385، 9387 و 9388، المستدرك على الصحيحين 1: 630 ح1686، وج2: 293 و 294 ح3056 و 3058، عوالي اللئالي 1: 214 ح70، وج2: 167 ح3، وعنه مستدرك الوسائل 9: 410، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب38 ح11203.

  • (3) منتهى المطلب 10: 315، تذكرة الفقهاء 8 : 85 ، مسألة 451، مدارك الأحكام 8 : 116، كشف اللثام 5: 407 ـ 408.

  • (4) مختلف الشيعة 4: 215.

  • (5) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 280، أوّل «القول في أحكام النجاسات» قوله (قدس سره) : وأمّا الطواف.

( صفحه 83 )

[انكشاف العورة]

مسألة 2: لو بدت العورة لريح أو غفلة، أو كانت منكشفة من أوّل الصلاة وهو لا يعلم، فالصلاة صحيحة، لكن يبادر إلى الستر إن علم في الأثناء، والأحوط الإتمام ثمّ الاستئناف. وكذا لو نسي سترها في الصورتين 1 .

1 ـ في هذه المسألة فروع:

الأوّل: ما إذا جهل بانكشاف العورة من أوّل الصلاة، أو بظهورها في الأثناء ولم يعلم به إلى أن فرغ من الصلاة ثمّ علم به. والظاهر أنّه لا إشكال في الصحّة في هذه الصورة ولا خلاف(1) إلاّ ما حكي عن ابن الجنيد من قوله: لو صلّى وعورتاه مكشوفتان غير عامد أعاد في الوقت(2).

والدليل على الصحّة ـ مضافاً إلى حديث «لا تعاد»(3)، الحاكم بعدم وجوب الإعادة في غير الاُمور الخمسة المستثناة فيه، والستر لا يكون من جملتها ـ :

صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به هل عليه إعادة، أو ما حاله؟ قال: لا إعادة عليه، وقد تـمّت صلاته(4).

بناءً على عدم اختصاص الحكم بخصوص مورد السؤال الذي كان

  • (1) جواهر الكلام 8 : 301 ـ 302.

  • (2) حكى عنه في مختلف الشية 2: 115 مسألة 56.

  • (3) الفقيه 1: 181 ح857 ، تهذيب الأحكام 2: 152 ح597، وعنهما وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب9 ح1، وقد تقدّم في ج1: 155 وموارد اُخر.

  • (4) تقدّم في ص61.

( صفحه 84 )

المصلّي فيه واجداً للساتر، ولم تكن عورته مستورة، بل يعمّ مثله من موارد الجهل والغفلة والنسيان، والسؤال عن ذلك المورد إنّما هو لشيوع هذا الفرض من بين الفروض، كما لا يخفى.

الثاني: هذه الصورة، ولكن كان التوجّه والعلم في الأثناء بعد أن صار مستور العورة ولو بفعل الغير، كما إذا علم من إلقاء الغير الساتر على عورته أنّها كانت منكشفة قبله. والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في الحكم بالصحّة في هذه الصورة أيضاً; لعدم اختصاص جريان حديث «لا تعاد» بخصوص ما إذا كان الالتفات إلى الخلل بعد الفراغ من الصلاة، بل يشمل ما إذا كان الالتفات في الأثناء أيضاً; لصدق الإعادة على الإتيان بها ثانياً بعد رفع اليد عن الاُولى، والحديث يدلّ على عدم وجوبها بعنوانها.

وأمّا صحيحة علي بن جعفر، فهي أيضاً تدلّ على الصحّة في هذه الصورة، إمّا بالإطلاق، وإمّا بالأولويّة القطعيّة، كما هو واضح، فلا إشكال أيضاً فيها.

الثالث: هذه الصورة، ولكن كان التوجّه والعلم في الأثناء في حال الانكشاف وعدم تحقّق الستر بعد. وقد حكم في المتن بالصحّة فيها أيضاً وإن احتاط بالإتمام ثمّ الاستئناف. وعن الجواهر نفي وجدان مخالف صريح فيه(1).

نعم، ظاهر التحرير(2) احتمال البطلان، وهو الأقرب; لأنّ منشأ الحكم بالصحّة إن كان هو إطلاق صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة، ففيه ـ مضافاً

  • (1) جواهر الكلام 8 : 300.

  • (2) تحرير الأحكام 1: 205.

( صفحه 85 )

إلى إمكان منعه; لظهور موردالسؤال في كون المراد بعد الفراغ من الصلاة ـ : أنّه على تقدير الإطلاق لا دلالة لها إلاّ على صحّة ما أتى به من الصلاة مع الجهل بكونه مكشوف العورة; لأنّ مقتضاه حينئذ أنّ وقوع الصلاة كلاًّ أو بعضاً مع هذه الحالة ـ وهي الجهل بانكشافها ـ لا يقدح في صحّتها، ولا دلالة لها على عدم اعتبار الستر في حال التوجّه والعلم إلى حصول الستر وزمان التستّر.

واستلزام الدلالة على صحّة ما أتى به من الصلاة في حال عدم الالتفات للدلالة على صحّة باقي الأجزاء ـ نظراً إلى اللغويّة بدونها ـ إنّما يتمّ فيما لو كان مورد الدليل الدالّ على الصحّة منحصراً بهذا الفرض; لأنّه على هذا التقدير يكون الحكم بالصحّة بالإضافة إلى ما مضى لغواً لا يترتّب عليه فائدة أصلا.

وأمّا مع عدم الانحصار كما هو المفروض فلا، خصوصاً بعد ملاحظة شمول الإطلاق لغير هذا الفرض; وهي الصورة الثانية أيضاً، فلا مجال لاستفادة الصحّة من إطلاق الصحيحة على فرض ثبوته.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه للتمسّك لها بحديث «لا تعاد» أيضاً; لأنّ التحقيق أنّه لا يشمل صورة ما لو كان الإخلال بغير الاُمور الخمسة المذكورة فيه عن التفات وتوجّه; وإن كان شموله لأثناء الصلاة وعدم اختصاصه بما بعد الفراغ ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، إلاّ أنّ الظاهر خروج العالم عنه، فلا دلالة له على عدم وجوب الإعادة في مثل المقام ممّا وقع الإخلال ببعض الأجزاء أو الشرائط مع التوجّه والالتفات إلى الموضوع والحكم.

( صفحه 86 )

وأمّا الأدلّة الأوّلية، فلا إشكال في اقتضائها بطلان الصلاة ووجوب الإعادة فيما إذا وقع بعض الأفعال أو الأقوال في حال الانكشاف.

وأمّا إذا كان في حال عدم الاشتغال، وكان متمكّناً من الستر من دون استلزامه فعل المنافي، كما إذا التفت بعد إتمام الفاتحة وقبل الشروع في السورة مثلا، وأمكن له التستّر كذلك، فيبتني الحكم بالصحّة وعدمها على أنّ حقيقة الصلاة هل هي المجموع المركّب من الأفعال والأقوال المخصوصة التي تحدث وتنعدم آناً فآناً، ولا يكاد يكون للمجموع وجود وتحصّل إلاّ بعد تحقّق جميع الأجزاء التي وجد كلّ منها في زمان وانعدم.

أو أنّها عبارة عن حضور العبد في مقابل الربّ والتوجّه إليه والتخضّع والتخشّع لديه، غاية الأمر أنّه يجب عليه أن يشتغل معه ببعض الأفعال المخصوصة والأذكار المنصوصة؟

وعليه: فتحقّق الصلاة بمجرّد قيامه في حضور المولى، وتكون باقية إلى آخرها.

فعلى الأوّل: لا تكون السكوتات المتخلّلة بين الأقوال والسكوتات الواقعة بين الأفعال جزءاً من الصلاة، وإطلاق أنّه مشتغل بها في حالها مع العناية ورعاية العلاقة، كإطلاق الخطيب والمتكلِّم على من تنفّس بين الخطبة والتكلّم، أو اشتغل بغيرهما، كشرب الماء مثلا بخلاف الثاني; فإنّه يصدق عليه حقيقة في كلّ آن أنّه مشتغل بالصلاة.

وعليه: فيقع الالتفات بأنّه مكشوف العورة في حال الاشتغال دائماً، فيجب الحكم بوجوب الإعادة، بخلاف الأوّل; فإنّه يصدق عليه حقيقة أنّه

( صفحه 87 )

لم يكن عالماً بكشف عورته في حال الصلاة; لجواز أن يسترها مع عدم تخلّل المنافي قبل الشروع في السورة في المثال المذكور ثمّ شرع فيها، فيشمله ما يدلّ على الصحّة في حال عدم الالتفات بذلك في حال الصلاة.

والظاهر هو الوجه الثاني; لكونه مغروساً في أذهان المتشرّعة، ويؤيّده التشبيه للصلاة في الروايات بالإحرام، وأنّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم(1); فإنّه كما أنّ الإحرام المتحقّق بالشروع أمر مستمرّ إلى أن يتحقّق التحليل بالحلق أو التقصير، كذلك الصلاة التي هي إحرام صغير بلحاظ تحقّق تحريم بعض الاُمور فيها أمر مستمرّ إلى أن يقع التسليم الذي هو تحليل لها.

الرابع: صورة النسيان، والحكم فيها ما تقدّم في صورة الجهل، ويدلّ على حكمها حديث «لا تعاد» المتقدّم(2); وإن كان لا يبعد دعوى دلالة الصحيحة المتقدّمة(3) عليه أيضاً; لأنّ عدم العلم بخروج الفرج في حال الصلاة أعمّ من الجهل به قبل الصلاة أيضاً، والعلم به قبله ثمّ عروض النسيان له، كما لا يخفى.

  • (1) الكافي 3: 69 ح2، الفقيه 1: 23 ح68، وعنهما وسائل الشيعة 6: 11، كتاب الصلاة، أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح ب1 ح10.

  • (2 ، 3) في ص83 .

( صفحه 88 )

[ما هي عورة الرجل في الصلاة]

مسألة 3: عورة الرجل في الصلاة عورته في حرمة النظر، وهي الدبر والقضيب والاُنثيان، والأحوط ستر الشبح الذي يرى من خلف الثوب من غير تميّز للونه. وعورة المرأة في الصلاة جميع بدنها حتى الرأس والشعر، ما عدا الوجه الذي يجب غسله في الوضوء واليدين إلى الزندين، والقدمين إلى الساقين، ويجب عليها ستر شيء من أطراف المستثنيات مقدّمة 1 .

[وجوب ستر المرأة رقبتها وتحت ذقنها و...]

مسألة 4: يجب على المرأة ستر رقبتها وتحت ذقنها، حتى المقدار الذي يرى منه عند اختمارها على الأحوط 2 .

[عدم وجوب ستر الرأس والشعر والعنق على الأمة والصبيّة]

مسألة 5: الأمَة والصبيّة كالحرّة والبالغة، إلاّ أنّه لا يجب عليهما ستر الرأس والشعر والعنق 3 .

1 ـ 3 ـ تقدّم الكلام في هذه المسائل مفصّلا في شرح المسألة الاُولى المتقدّمة من مسائل الستر والساتر، فراجع.

( صفحه 89 )

[عدم وجوب التّستر من جهة التحت]

مسألة 6: لا يجب التستّر من جهة التحت. نعم، لو وقف على طرف سطح أو شبّاك يتوقّع وجود ناظر تحته، بحيث تُرى عورته لو كان هناك ناظر، فالأحوط بل الأقوى التستّر من جهته أيضاً وإن لم يكن ناظر فعلا. وأمّا الشبّاك الذي
لا يتوقّع وجود الناظر تحته، كالشبّاك على البئر، فلا يجب على الأقوى إلاّ مع وجود ناظر فيه 1 .

1 ـ عن غير واحد منهم العلاّمة في التذكرة والنهاية، والوحيد في حاشية المدارك(1)، وجوب التستّر من جهة التحت فيما لو كان في معرض النظر، كالأمام والخلف; بأن وقف على مخرم أو على طرف سطح، فلابدّ من التستّر من تحت بالسراويل مثلا، وإلاّ بطلت الصلاة.

وعن الذكرى التردّد في الحكم فيما لو وقف على طرف سطح،
والجزم بالصحّة فيما لو قام على مخرم(2). وفي المتن ـ كما في العروة(3) ـ
التفصيل بين ما إذا كان هناك توقّع وجود الناظر فيما لو وقف
على طرف سطح أو شبّاك بحيث ترى عورته لو كان هناك ناظر، فيجب التستّر من جهة التحت وإن لم يكن ناظر فعلا، وبين الشبّاك الذي
لا يتوقّع وجود الناظر تحتها، كالشبّاك على البئر، فلا يجب إلاّ مع وجود الناظر بالفعل.

  • (1) تذكرة الفقهاء 2: 462، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 372، الحاشية على مدارك الأحكام 2: 376.

  • (2) ذكرى الشيعة 3: 20.

  • (3) العروة الوثقى 1: 395 مسألة 1265.

( صفحه 90 )

أقول: مقتضى الجمود على ما تقتضيه عبارة النصوص(1) عدم وجوب التستّر من جهة التحت أصلا; لأنّ مفادها جواز اكتفاء الرجل في صلاته بثوب واحد أو قميص واحد. ومن المعلوم أنّ القميص المتعارف بين الأعراب كما هو المتداول بينهم في هذا الزمان لا يكون ساتراً للعورة من جهة التحت، فالجمود على ما تحت عبارة الروايات(2) ينفي اعتبار الستر من هذه الجهة رأساً.

وأمّا لو قلنا بأنّ مناسبة الحكم والموضوع تهدي إلى أنّ موضوع الشرطيّة أن لا يكون المكلّف على حالة ذميمة غير مناسبة، فمقتضاه أنّه لا فرق في اعتبار الستر بين الجهات، والاكتفاء في النصوص بالقميص إنّما هو لوقوع الصلاة على الأرض غالباً، ولا يكون معه المصلّي في معرض النظر من تحت نوعاً.

وعلى هذا الفرض ينبغي تعميم الحكم لما إذا كان هناك ناظر وما إذا لم يكن، بل لما إذا كان في معرض النظر وما إذا لم يكن; لأنّه على هذا التقدير ليس تمام الملاك مجرّد مستوريّة العورة، وإلاّ لكان اللاّزم جواز الصلاة عارياً في ظلمة شديدة مانعة من الرؤية، وكذا في مثلها ممّا إذا كانت الرؤية ممتنعة مع عدم وجود الساتر.

وبالجملة: ملاك وجوب الستر الصلاتي يغاير ملاك وجوب الستر النفسي الذي يكون هو حفظ العورة من أن ينظر إليها. وعليه: فالمناسبة المذكورة وإن كانت مقتضية لعموميّة الحكم واعتبار الستر من جهة التحت أيضاً، إلاّ

  • (1 ، 2) وسائل الشيعة 4: 389، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب22.

( صفحه 91 )

أنّ التفصيل المذكور في المتن ممّا لا دليل عليه; لأنّ الفرق من حيث عدم تعارف وجود الناظر في البئر، فيصدق الستر عرفاً.

وأمّا الواقف على طرف السطح، فلا يصدق عليه الستر إذا كان بحيث يرى، فصلاته باطلة وإن لم يكن هناك ناظر، وإنّما يناسب الستر النفسي، ولا شاهد عليه في الستر الشرطي، فتدبّر جيّداً.

( صفحه 92 )

[الستر بغير الثوب]

مسألة 7: الستر عن النظر يحصل بكلّ ما يمنع عن النظر ولو باليد، أو الطلي بالطين، أو الولوج في الماء، حتّى أنّه يكفي الأليتان في ستر الدبر. وأمّا الستر في الصلاة، فلا يكفي فيه ما ذكر حتّى حال الاضطرار. وأمّا الستر بالورق والحشيش والقطن والصوف غير المنسوجين، فالأقوى جوازه مطلقاً وان لا ينبغي ترك الاحتياط في تركه في الأوّلين، والأقوى لمن لا يجد شيئاً يصلّي فيه ـ حتى مثل الحشيش والورق ـ جواز إتيان صلاة فاقد الساتر وإن كان الأحوط لمن يجد ما يطلي به الجمع بينه وبين واجده 1 .

1 ـ لا إشكال في حصول الستر النفسي بكلّ ما كان مانعاً عن تحقّق الرؤية والنظر; لما عرفت(1) من وضوح مناط الحكم فيه، فيتحقّق حتّى بمثل الطلي بالطين، والولوج في الماء الكدر، والدخول في الحفيرة، والستر بأجزاء البدن، كما لو كان بيده أو يد زوجته أو أمَته، بل ولو كانت يد أجنبيّ أو أجنبيّة، وقد ورد في النصّ كما مرّ(2) أنّ الدبر مستور بالأليتين، فلا إشكال فيه أصلا.

وأمّا الستر الصلاتي، فقد اختلفت كلماتهم في تعيينه اختياراً واضطراراً، قال الشيخ (قدس سره) في المبسوط ـ بعد الحكم بأنّه لا بأس بأن يصلّي الإنسان في ثوب فيه خرق لا يواري العورة، وأنّه إن حاذى العورة لم يجزء ـ : وصفة الثوب أن يكون صفيقاً لا ترى ما تحته، فإن ظهر البشرة من تحته لم يجزء;

  • (1) في ص8 .

  • (2) في ص18.

( صفحه 93 )

لأنّه لا يستر العورة.

فإن لم يجد ثوباً يستر العورة، ووجد جلداً طاهراً، أو ورقاً، أو قرطاساً، أو شيئاً يمكنه أن يستر عورته، وجب عليه ذلك على ما بيّناه، فإن وجد طيناً وجب أن يطيّن عورته به، فإن لم يجد ووجد نقباً دخل فيه وصلّى فيه قائماً، فإن لم يجد صلّى من قعود على ما فصّلناه»(1).

وحكي نحوه عن السرائر والمنتهى والتحرير والنهاية والبيان(2).

وهل ظاهر مثل هذه العبارة ـ بلحاظ تعليق إيجاب الستر بمثل الجلد والورق والقرطاس على ما إذا لم يجد الثوب، ولم يتمكّن من التستّر به ـ هو الترتيب بين الثوب وبين الاُمور المذكورة، وأنّه لا يجوز التستّر بها إلاّ عند الضرورة وفقد الثوب، أو أنّ التعليق إنّما هو بلحاظ أنّه مع وجود الثوب والتمكّن منه لا داعي إلى التستّر بغيره عند العرف، لا بلحاظ عدم جواز الانتقال إليه؟ فيه وجهان:

فعن المحقّق الثاني وجماعة(3) استظهار الوجه الأوّل، وعن البحار(4)استظهار الوجه الثاني، وتبعه عليه في مفتاح الكرامة والجواهر(5) بقرينة ذكر

  • (1) المبسوط 1: 88 .

  • (2) السرائر 1: 260، منتهى المطلب 4: 279 ـ 280، تحرير الأحكام 1: 204، الرقم 660، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 367، البيان: 125.

  • (3) جامع المقاصد 2: 77 و 99 ـ 100، المهذّب البارع 1: 333، مسالك الأفهام 1: 167، مدارك الأحكام 3: 192 ـ 193، ذخيرة المعاد: 235 س33، الحدائق الناضرة 7: 34 ـ 35.

  • (4) بحار الأنوار 83: 213.

  • (5) مفتاح الكرامة 6: 44 ـ 45، جواهر الكلام 8 : 314 ـ 315.

( صفحه 94 )

الجلد والخرق في جملة منها، وهو الأقرب.

ولا يرد عليه أنّ لازمه كون الطين أيضاً في رديف المذكورات في عبارة المبسوط; لوجود التعبير بمثل هذا التعليق فيه أيضاً; وذلك لأنّ الطين لا يكون ساتراً عنده أصلا حتّى يقع في عداد المذكورات، والشاهد عليه قوله: «أو شيئاً يمكنه أن يستر عورته»; فإنّ الطين لو كان داخلا في الساتر لشمله عموم الشيء المذكور ولم يحتج إلى ذكره بعده، وكذا قوله: «وجب أن يطيّن...»; فإنّ عدم التعبير بالستر فيه يؤيّد ما ذكرنا.

وكيف كان، فعن الدروس وغاية المرام وحاشية الإرشاد وحاشية الميسي والروض والمسالك التصريح بأنّه لا يجوز التستّر بالحشيش والورق إلاّ عند
تعذّر الثوب، وأنّه إذا تعذّر الحشيش تعيّن الطين(1). ونحوه ما عن المدارك، إلاّ أنّه قال: إذا تعذّر الحشيش انتقل إلى الإيماء، ولم يجعل الطين ساتراً أصلا في جميع المراتب(2). وعن المهذّب البارع والموجز أنّ الحفرة مقدّمة على الماء الكدر، وهو على الطين(3). وعن المسالك وغيرها تقدّم الماء الكدر على الحفيرة(4). وعن جامع المقاصد احتمال التخيير واحتمال تقدّم كلّ

  • (1) الدروس الشرعيّة 1: 148، غاية المرام 1: 135، حاشية إرشاد الأذهان للشهيد الثاني: 64، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 550، مسالك الأفهام 1: 167، وحكى عن حاشية الميسي في مفتاح الكرامة 6: 46.

  • (2) مدارك الأحكام 3: 192 ـ 193.

  • (3) المهذّب البارع 1: 334، الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 68.

  • (4) مسالك الأفهام 1: 167، الدروس الشرعيّة 1: 148 ـ 149، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101، حاشية إرشاد الأذهان، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 9: 69.

( صفحه 95 )

على الآخر(1). وحكي غير ذلك أيضاً(2).

أقول: التحقيق يقتضي التكلّم في مقامين:

المقام الأوّل: فيما يستفاد من النصوص الواردة في الساتر، والظاهر أنّ الروايات المتقدّمة(3) المشتملة على الثوب والقميص والمقنعة والخمار ونحوها،
وإن كان مقتضى الجمود على ما تحت عبارتها عدم كفاية التستّر بغير هذه العناوين الواقعة فيها، إلاّ أنّ الظاهر بنظر العرف كون خصوصيّة هذه العناوين غير دخيلة في الحكم، ولذا لا يستفاد منها عرفاً عدم جواز التستّر بمثل الجلد ممّا لا ينطبق عليه عنوان الثوب والقميص.

فالظاهر أنّ المراد من العناوين المذكورة فيها كلّ ما يمكن أن يتّصف بعنوان الساتريّة، فلا فرق بين الثوب والقطن والصوف غير المنسوجين، بل الورق والحشيش; لتحقّق هذا العنوان في جميعها.

نعم، لا يستفاد منها الاكتفاء بمثل الطين; لعدم كونه ساتراً عرفاً، ولا يصدق عنوان الواجد للساتر على واجده، والاكتفاء به في الستر الواجب النفسي على فرضه إنّما هو لأنّ الملاك فيه كما عرفت(4) هو مجرّد مستوريّة العورة; لا وجود الساتر لها، ولذا يتحقّق بمثل الظلمة، والولوج في الماء، والدخول في الحفيرة. وأمّا في المقام، فالمعتبر وجود الساتر على ما تقتضيه

  • (1) جامع المقاصد 2: 77 و 99 ـ 100.

  • (2) ذكرى الشيعة 3: 17 ـ 18، جامع المقاصد 2: 100، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 578 ـ 579، مفتاح الكرامة 6: 48 ـ 49.

  • (3) في ص61 و 66 ـ 68.

  • (4) في ص8 و 14.

( صفحه 96 )

الروايات، والطين لا يكون ساتراً عرفاً.

فالإنصاف أنّ مفاد هذه الطائفة من النصوص جواز الاكتفاء بكلّ ما يصدق عليه عنوان الساتر، ولكن مع ذلك لا دلالة لها على جواز الانتقال إلى غير الثوب مع التمكّن منه; لعدم ثبوت الإطلاق لها; لأنّها في مقام بيان كفاية الثوب الواحد للرجل والثوبين للمرأة، فمحطّ النظر فيها عدم لزوم التعدّد على الرجل، والزائد على الاثنين على المرأة، ولا تكون في مقام البيان من جهة أنواع الساتر حتى يستدلّ بإطلاقها على عدم الترتيب، فهي من هذه الجهة مجملة.

وأمّا صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم(1).

فقد استدلّ بها(2) على ثبوت الترتيب بين أنواع الساتر، وأنّ الاكتفاء بالحشيش إنّما هو مع تعذّر الثوب وفقده، ولكنّ الظاهر عدم تماميّة الاستدلال; لأنّ تعذّر الثوب إنّما ذكر في مفروض السؤال، ولم يقع قيداً لجواز التستّر بالحشيش في كلام الإمام (عليه السلام) حتّى يستفاد منه الترتيب.

ويؤيّده أنّه ليس المراد من الحشيش خصوص عنوانه، بل كما يشهد به قوله (عليه السلام) : «وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته» يكون المراد به كلّ شيء

  • (1) تقدّمت في ص61.

  • (2) راجع روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 550، ومدارك الأحكام 3: 192، والحدائق الناضرة 7: 36، ومفتاح الكرامة 6: 50.

( صفحه 97 )

يكون ساتراً للعورة، فيؤيّد عدم القيديّة، خصوصاً بعدما عرفت من إلغاء العرف خصوصيّة الثوبيّة، ولكن مع ذلك لا دلالة للرواية على عدم الترتيب، بل تكون أيضاً من هذه الجهة مجملة.

فقد ظهر أنّ الأدلّة اللفظيّة قاصرة الدلالة على الترتيب نفياً وإثباتاً، فتصل النوبة إلى الاُصول العمليّة.

فنقول: يمكن أن يقال بأنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير; نظراً إلى أنّ الأمر دائر بين تعيّن الثوب ونحوه، والتخيير بينه، وبين غيره من القطن والصوف غير المنسوجين والحشيش والورق، والأصل الجاري فيه على ما هو المشهور(1) هي أصالة الاحتياط(2).

ولكنّ الظاهر عدم تماميّة ذلك في مثل الموارد المذكورة; لأنّ الشكّ فيها ليس في أصل جواز التستّر بمادّتها; ضرورة أنّه لا يشكّ في جواز التستّر بالقطن والصوف بعد كون المنسوج منهما منطبقاً عليه عنوان الثوب، فالشكّ
فيها إنّما هو في اعتبار المنسوجيّة وعدمه بعد الفراغ عن كفاية المادّة في الساتريّة.

ومن الواضح: أنّه شكّ في أمر زائد، والمرجع فيه أصالة البراءة الجارية في موارد الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة، وهكذا الحشيش والورق; فإنّه لا يشكّ في كفاية المنسوج منهما، والشكّ إنّما هو في اعتبار المنسوجيّة، والأصل البراءة.

وأمّا في مثل الطين، فالظاهر تماميّة القول المذكور; لأنّ الشكّ إنّما هو في

  • (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 357 ـ 358، فوائد الاُصول 3: 424 ـ 434.

  • (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 276.

( صفحه 98 )

أصل الاكتفاء بالمادّة، فالشكّ فيه إنّما هو من قبيل الشكّ بين المعيّن والمخيّر فيه، والأصل فيه هي أصالة الاحتياط.

هذا بالإضافة إلى حال الاختيار.

وأمّا في حال الاضطرار والانحصار بالطين ونحوه، فمع قطع النظر عن النصوص(1) الواردة في صلاة العاري، يكون مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب التستّر به لأجل الصلاة; للشكّ في اعتبار التستّر به في هذا الحال مع عدم كونه كافياً في حال الاختيار. وعليه: فتجب عليه صلاة العاري.

نعم، حيث إنّه وقع التفصيل في نصوص صلاة العاري بين صورة الأمن من المطّلع وغيرها، بالحكم بوجوب الصلاة قائماً في الاُولى، دون الثانية، ولا يبعد دعوى توسعة دائرة الأمن، وعدم اختصاصها بما إذا لم يكن هناك ناظر محترم، كما إذا صلّى في بيت وحده وكان بابه مسدوداً، بل شمولها لمثل الطلي بالطين الموجب لتحقّق الأمن وإن كان هناك ناظر.

فإن كان حكم العاري في هذه الصورة وجوب إتمام الركوع والسجود، فاللاّزم حينئذ الطلي بالطين; للعلم التفصيلي بوجوبه; إمّا لأنّه ستر صلاتيّ; وإمّا لأنّه مقدّمة لرعاية القيام بلحاظ تحقّق الأمن معه.

وإن قلنا بأنّ حكمه في هذه الصورة الإيماء بالركوع والسجود، كما هو مفاد مثل صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) المتقدّمة(2)، فاللاّزم عليه حينئذ الجمع بين الصلاة مع إتمام الركوع والسجود، وبينها مع الإيماء لهما; للعلم الإجمالي

  • (1) وسائل الشيعة 4: 448 ـ 450، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب50.

  • (2) في ص61 و 96.

( صفحه 99 )

بوجوب إحدى الكيفيّتين عليه; لأنّه على تقدير كونه ساتراً صلاتيّاً في حال الاضطرار يجب عليه بالكيفيّة المتعارفة، وعلى تقدير عدم كونه ساتراً ولو في هذا الحال، وكون المكلّف عارياً، يجب عليه صلاة العاري، فاللاّزم الجمع بين الكيفيّتين.

ولكن ربما يقال بانحلال العلم الإجمالي; نظراً إلى أنّ موضوع صلاة العاري إمّا عدم وجود الساتر الشرعي، وإمّا عدم ساتريّة الموجود شرعاً، وكلّ منهما يمكن إثباته بالأصل، وإذا تحقّق موضوع صلاة العاري ولو بالأصل ينحلّ العلم الإجمالي; لما تقرّر في محلّه(1) من أنّ جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي يوجب انحلاله إلى العلم التفصيلي بثبوت التكليف في ذلك الطرف ولو ظاهراً، فيرجع في الطرف الآخر إلى أصالة البراءة عن التكليف.

وذلك كما إذا كان أحد الماءين اللذين وقع فيهما النجاسة إجمالا
مستصحب النجاسة; للعلم التفصيلي بنجاسته سابقاً، وحينئذ جريان الاستصحاب المثبت للتكليف فيه يوجب الانحلال، فيجري في الطرف الآخر أصالة الطهارة(2).

ويدفع هذا القول ـ بعد وضوح أنّ موضوع صلاة العاري هو عدم وجود الساتر; لأنّ المراد من العاري من لا يكون له ساتر، كما هو معناه عند العرف ـ : أنّ استصحاب عدم وجود الساتر ممّا لا مجال لجريانه; لأنّ

  • (1) حقائق الاُصول 2: 243 ـ 251.

  • (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 277.

( صفحه 100 )

المشكوك إنّما هو وجود الساتر الشرعي في الخارج، مع أنّه من الواضح: أنّه ليس لنا شكّ بحسب الخارج; لأنّ المفروض وجود الطين فعلا، والتمكّن من الطلي به كذلك، وعدم وجوده في السابق، فليس في الخارج أمر وقع متعلّقاً للشكّ حتّى يجري الاستصحاب، والشكّ إنّما هو في أمر آخر; وهو كونه ساتراً شرعاً، ولا مجال لجريان الأصل فيه.

وهذا كما في استصحاب بقاء النهار مع الشكّ في مفهومه بعد الاستتار وقبل ذهاب الحمرة المشرقيّة; فإنّه لا مجال لجريانه بعد كون الخارج بكلا طرفيه معلوماً غير مشكوك. نعم، لا إشكال في جريانه في الشبهة الموضوعيّة، والتحقيق في محلّه.

فانقدح أنّ مقتضى العلم الإجمالي بعد عدم انحلاله هو لزوم الجمع بين الكيفيّتين.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المستفاد من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة(1) عدم اعتبار الطلي بالطين أصلا; وذلك لأنّ الحكم بالانتقال إلى صلاة العاري بالإيماء مع القيام، مع عدم إصابة شيء يستر به العورة، يدلّ على عدم الاعتناء بالطين; لأنّه ليس ساتراً للعورة كما تقدّم(2)، ولذا لا يستفاد من الرواية الاكتفاء به في حال الاختيار، خصوصاً مع ملاحظة غلبة وجود الطين وإمكان تحصيله نوعاً، سيّما في مفروض الرواية من جهة غرق المتاع. وعليه: فالاحتياط بالجمع يكون استحبابيّاً، كما في المتن.

  • (1) في ص61 و 96.

  • (2) في ص95 ـ 96.

( صفحه 101 )

اعتبار الطهارة والإباحة في الساتر ولباس المصلّي

مسألة 8 : يعتبر في الساتر، بل مطلق لباس المصلّي اُمور:

الأوّل: الطهارة إلاّ فيما لا تتمّ الصلاة فيه منفرداً، كما تقدّم(1).

الثاني: الإباحة، فلا يجوز في المغصوب مع العلم بالغصبيّة، فلو لم يعلم بها صحّت صلاته، وكذا مع النسيان إلاّ في الغاصب نفسه، فلا يترك الاحتياط بالإعادة 1 .

1 ـ اتّفق الأصحاب(2) ـ رضوان الله عليهم ـ على اعتبار طهارة لباس المصلّي من كلّ نجاسة وقذارة في صحّة الصلاة، وتدلّ عليه الأخبار
الكثيرة المتواترة، إلاّ أنّ أكثرها وردت في موارد خاصّة; من البول،
والمنيّ، والدم.

وأمّا ما يمكن أن يستفاد منه حكم الصلاة في الثوب النجس ونحوه ـ من العناوين العامّة الشاملة لجميع أنواع النجاسات، ويدلّ على إثبات الحكم بنحو العموم ـ فقليلة، ولا بأس بإيراد بعضها تيمّناً: مثل:

مضمرة زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من منيّ ـ إلى أن قال: ـ فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض

  • (1) تحرير الوسيلة: 120 ـ 121، القول فيما يعفى عنه في الصلاة، الأمر الثالث.

  • (2) الخلاف 1: 472 مسألة 217، السرائر 1: 179، المعتبر 1: 431، مستند الشيعة 4: 250، جواهر الكلام 6: 142، مستمسك العروة الوثقى 1: 488 ـ 489، التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 3: 235.

( صفحه 102 )

اليقين بالشكّ أبداً، الحديث(1).

نظراً إلى رجوع الضمير في «غيره» في السؤال الأوّل إلى الدم، وكونه مرفوعاً معطوفاً عليه، لا إلى الرعاف، وكونه مجروراً معطوفاً عليه، وبناءً عليه يدلّ السؤال على مفروغيّة مانعيّة مطلق النجاسة في ذهن زرارة، وقد قرّره (عليه السلام) على ذلك.

ولكن هذا التقدير لا يلائمه ذكر «شيء من منيّ» بعد كلمة «غيره»،
وذكر الخاصّ بعد العامّ وإن كان ممّا لا مانع منه، إلاّ أنّه ـ مضافاً
إلى كونه خلاف الظاهر ـ لا موقع له في مثل المقام ممّا كان خاصّ مذكوراً أوّلا، والعامّ غير الشامل له مذكوراً ثانياً; فإنّه لا يناسبه ذكر خاصّ آخر ثالثاً، فتدبّر جيّداً.

نعم، يمكن الاستفادة من الصحيحة من طريق آخر، وهو: أنّ الإمام (عليه السلام) قد عبّر في مقام الجواب عن السؤال عن علّة عدم الإعادة في صورة عدم التيقّن بقوله (عليه السلام) : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك»، وهذا التعبير بلحاظ
اشتماله على كلمة الطهارة وإضافتها إلى المصلّي، مع كون مورد السؤال هو الثوب، يعطي أنّ المعتبر في الصلاة طهارة المصلّي.

غاية الأمر أنّ المراد بالمصلّي ليس خصوص بدنه، بل أعمّ منه ومن الثوب الذي هو مورد السؤال، فالمستفاد من الصحيحة اعتبار عنوان عامّ شامل لجميع النجاسات، كما هو ظاهر.

  • (1) تهذيب الأحكام 1: 421 ح1335، الاستبصار 1: 183 ح641، علل الشرائع: 361 ب80 ح1، وعنها وسائل الشيعة 3: 466، أبواب النجاسات ب37 ح1.

( صفحه 103 )

كما أنّه يمكن استفادة ذلك من السؤال في بعض الروايات بلحاظ دلالته على مفروغيّة اعتبار الخلوّ عن النجاسة بعنوانها العامّ في صحّة الصلاة عند السائل، وتقرير الإمام (عليه السلام) له على ذلك.

ففي رواية أبي العلاء، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجّسه، فينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ يذكر أنّه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد، قد مضت الصلاة وكُتبت له(1).

كما أنّه يمكن الاستفادة من بعض الروايات الواردة فيما لا تتمّ الصلاة فيه وحده، المشتملة على لفظ «القذر»، الظاهرة في اعتبار إزالته في غيره ممّا لا تجوز الصلاة فيه منفرداً.

ففي رواية إبراهيم بن أبي البلاد، عمّن حدّثهم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر، مثل القلنسوة، والتكّة، والجورب(2).

ويدلّ عليه أيضاً رواية عبدالله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذميّ ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّ عليَّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك; فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه،

  • (1) تهذيب الأحكام 1: 423 ح1345، وج2: 360 ح1492، الاستبصار 1: 183 ح642، وعنهما وسائل الشيعة 3: 480، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب42 ح3.

  • (2) تهذيب الأحكام 2: 358 ح1481، وعنه وسائل الشيعة 3: 456، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح4.

( صفحه 104 )

فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه(1).

ودلالتها على اعتبار طهارة الثوب وعدم كونه نجساً ظاهرة.

وأمّا استفادته من حديث «لا تعاد»(2)، المشتمل على لفظ «الطهور»، أو مثل قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ بطهور»(3) فمورد الإشكال، بل المنع.

نعم، يمكن الاستناد إلى صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا صلاة إلاّ بطهور، ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وأمّا البول، فإنّه لابدّ من غسله(4).

فإنّ الظاهر بقرينة الذيل عدم اختصاص الطهور بما يوجب الطهارة من الأحداث، بل تعمّ الطهارة من مطلق الخبائث، ولكن مقتضاها اعتبار طهارة البدن. وأمّا استفادة اعتبار طهارة الثوب أيضاً، فمشكلة، لكن عرفت(5) أنّ أصل الحكم في المقام ممّا لا إشكال، كما أنّه لا خلاف فيه أيضاً(6)، هذا بالنسبة إلى الثوب.

وأمّا بالإضافة إلى المحمول، فلا يبعد أن يقال بدلالة صحيحة زرارة

  • (1) تهذيب الأحكام 2: 361 ح1495، الاستبصار 1: 392 ح1497، وعنهما وسائل الشيعة 3: 521، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب74 ح1.

  • (2) تقدّم في ص83 و 87 .

  • (3) الفقيه 1: 35 ح129، المحاسن 1: 158 ذ ح218، وعنهما وسائل الشيعة 1: 366، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب1 ح6، وص368 ب2 ح3.

  • (4) تهذيب الأحكام 1: 49 ح144، وص209 ح605، الاستبصار 1: 55 ح160، وعنهما وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب9 ح1.

  • (5) في ص101.

  • (6) دروس في فقه الشيعة (مدارك العروة الوثقى) 4: 9.

( صفحه 105 )

المتقدّمة على ذلك; لما عرفت من أنّه وإن كان مورد السؤال فيها هو ظنّ إصابة الدم، أو المنيّ الثوب، إلاّ أنّ إسناد الطهارة إلى نفس السائل لا إلى ثوبه ـ كما فعله الإمام (عليه السلام) في الجواب، حيث قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» ـ ربما يدلّ على أنّ المعتبر في صحّة الصلاة هو كون المصلّي طاهراً، غاية الأمر أنّ صدقه يتوقّف على طهارة بدنه وثوبه معاً.

وعليه: فنجاسة الثوب موجبة لعدم كون المصلّي طاهراً.

ومن المعلوم أنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا كان ثوبه نجساً، أو كان ما استصحبه كذلك; إذ الوجه في صحّة هذا الإطلاق هو كون المصلّي ملابساً له بلا خصوصيّة للثوب أصلا، فلو كان محموله نجساً لا يصحّ إسناد الطهارة إليه أيضاً.

هذا، مضافاً إلى أنّ العرف إذا اُلقي إليه هذا المعنى ـ وهو اعتبار الطهارة في الثوب ـ لا يفهم منه الاختصاص، وتكون خصوصيّة الثوبيّة ملغاة بنظره.

ويدلّ على عموم الحكم أيضاً مرسلة عبدالله بن سنان، عمّن أخبره، عن
أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلّي فيه; وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة، والتكّة، والكمرة، والنعل، والخفين، وما أشبه ذلك(1).

فإنّ مفهومها يدلّ على ثبوت البأس فيما إذا كان المحمول أيضاً قذر إذا كان ممّا تتمّ فيه الصلاة وحده.

  • (1) تهذيب الأحكام 1: 275 ح810 ، وعنه وسائل الشيعة 3: 457، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح5.

( صفحه 106 )

هذا، ولكنّه أفاد بعض الأعلام في شرح العروة كلاماً في هذا المقام لا بأس بالتعرّض لخلاصته وما يرد عليه، فنقول:

قال: إنّ المستفاد من الأخبار الواردة في موارد مختلفة أنّ الصلاة في النجس غير جائزة; وإن كانت هذه الجملة غير واردة فيها، إلاّ أنّه لا إشكال فيها ولا كلام، إنّما الكلام فيما ينطبق عليه هذا العنوان، مع أنّ الصلاة في النجس لا معنى له بظاهره; لأنّ الصلاة نظير سائر أفعال المكلّفين لا يكون لها إلاّ ظرفان: ظرف زمان، وظرف مكان، وليست النجاسة في الثوب والبدن ظرف مكان للصلاة ولا ظرف زمان، كما أنّها لا تكون ظرفاً لسائر الأفعال.

فكما لا يصحّ أن يقال: زيد أكل في النجس إذا كان ثوبه نجساً، كذلك لا يصحّ أن يقال: زيد صلّى في النجس في تلك الحال، فإسناد الظرفيّة إلى النجس في أمثال المقام غير صحيح على وجه الحقيقة.

نعم، لا بأس بإسنادها إليه على وجه العناية فيما إذا كان الفاعل لابساً للنجس; بأن يكون الفاعل مظروفاً والنجس ظرفاً له; فإنّ مثله من العلاقات المصحّحة لإسناد الظرفيّة إلى النجس. وأمّا إذا لم يكن النجس ظرفاً للمصلّي، وإنّما كان موجوداً عنده ومعه، كما إذا كان في جيبه، فإسناد الظرفيّة إلى النجس لا يمكن أن يكون حقيقيّاً ولا مجازيّاً.

نعم، قد ورد في بعض الأخبار جواز الصلاة في السيف ما لم يرَ فيه دم(1)،

  • (1) تهذيب الأحكام 2: 371 ح1546، قرب الإسناد: 131 ح460، الفقيه 1: 161 ح759، وعنها وسائل الشيعة 4: 458 ـ 459، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب57 ح2 و 3.

( صفحه 107 )

كما أنّه ورد في موثقة ابن بكير المعروفة: أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسدة(1)، مع أنّ السيف والبول والروث والألبان ممّا لا يؤكل لحمه اُمور مقارنة للصلاة، لا أنّها ظرف لها ولا للفاعل.

وقد مرّ أنّ إسناد الظرفيّة حينئذ لا يمكن أن يكون حقيقيّاً ولا مجازيّاً، ولابدّ في مثله من رفع اليد عن ظهور كلمة «في» في الظرفيّة، وحملها على معنى «مع» والمقارنة، ولكن قيام القرينة على ذلك في مثله لا يوجب الحمل على خلاف الظاهر فيما لم يكن هناك قرينة كما في المقام، فلا مقتضي لرفع اليد فيه عن ظهور الكلمة في الظرفيّة، فمعنى الصلاة في النجس كون النجس ظرفاً لها، وهذا لا يتحقّق إلاّ بلبسه.

وأمّا فيما كان المتنجّس محمولا، فلا تصدق الصلاة في النجس عليه، فالمقتضي لبطلان الصلاة مع المحمول المتنجّس قاصر
في نفسه(2).

أقول: يكفي في صحّة إسناد الظرفيّة إلى المحمول ـ مضافاً إلى وضوح عدم خصوصيّة للسيف، ولا للاُمور المذكورة في موثّقة ابن بكير من هذه الجهة ـ
مرسلة عبدالله بن سنان المتقدّمة; فإنّه مع كون المفروض في موضوعه هو كلّ ما كان على الإنسان أو معه قد عبّر فيها بأنّه لا بأس بالصلاة فيه، وكذا توصيفه بأنّه لا تجوز الصلاة فيه وحده، فاُسند الظرفيّة إلى المحمول

  • (1) تأتي بتمامها في ص175 ـ 176.

  • (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 3: 436 ـ 438.

( صفحه 108 )

كإسنادها إلى ما كان على لإنسان; من دون فرق بينهما أصلا، فمن هذا يستكشف شمول ما دلّ على عدم جواز الصلاة في النجس لما إذا كان المحمول نجساً أيضاً، فتدبّر.

ثمّ إنّه بناءً على ما ذكرنا من أنّ المعتبر في صحّة الصلاة هو كون المصلّي طاهراً ومتّصفاً بهذه الصفة، وأنّ طهارة الثوب من مراتب طهارة نفسه، يمكن القول ببطلان صلاة المضطجع والمستلقي الذي يصلّي على شيء نجس، أو كان عليه شيء نجس ممّا لا يعدّ ثوباً كاللحاف، وقد فصّل فيه في العروة(1)بين ما إذا كان متستّراً به، وبين صورة عدم التستّر به، باشتراط طهارته في الصورة الاُولى دون الثانية.

وفي شرح العروة لبعض الأعلام تفصيل آخر لعلّه أوفق وأقرب; وهو: أنّ المصلّي مضطجعاً إن كان قد لبس اللحاف; بأن لفّه على بدنه بحيث صدق عرفاً أنّه لبسه، فلا مناص من أن يشترط فيه الطهارة; لأنّه لباس والطهارة معتبرة فيه، بلا فرق في ذلك بين أن يكون له ساتر آخر غير اللحاف، وعدمه.

وأمّا إذا لم يلبس اللحاف ولم يلفّه على بدنه، كما إذا ألقاه على رأسه أو منكبيه على ما هو المتعارف في مثله، فلا تعتبر فيه الطهارة بوجه; لعدم كونه لباساً للمصلّي على الفرض، إلاّ أنّه لو صلّى معه ولم يكن له ساتر آخر بطلت صلاته; لأنّه صلّى عارياً، كما لا يخفى(2).

  • (1) العروة الوثقى 1: 407 مسألة 1316.

  • (2) المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 419 ـ 420.

( صفحه 109 )

تتمّة

قد عرفت(1) أنّ اعتبار الطهارة في الصلاة ممّا قام عليه الإجماع، وتدلّ عليه الروايات الكثيرة، ولكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى ما تتمّ الصلاة فيه وحده. وأمّا في غيره ممّا لا تجوز الصلاة فيه منفرداً، فالظاهر عدم اعتبار طهارته، والنصوص والفتاوى(2) متطابقتان على ذلك، وقد جمع نصوصها في الوسائل في الباب الواحد والثلاثين من أبواب النجاسات، وهي كثيرة:

منها: موثقة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: كلّ ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشيء، مثل القلنسوة والتكّة والجورب(3).

ومنها: مرسلة حمّاد بن عثمان، عمّن رواه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يصلّي في الخفّ الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان ممّا لا تتمّ فيه الصلاة فلا بأس(4).

ومنها: رواية زرارة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ قلنسوتي وقعت في بول

  • (1) في ص101.

  • (2) الانتصار: 136، الخلاف 1: 479 ـ 480 مسألة 223، السرائر 1: 263 ـ 264، تذكرة الفقهاء 2: 482، مختلف الشيعة 1: 325 ـ 326 مسألة 242، مدارك الأحكام 2: 322، ذخيرة المعاد: 160 س31، مفتاح الكرامة 2: 122 ـ 123، جواهر الكلام 6: 206، العروة الوثقى 1: 74، الأمر الثالث.

  • (3) تهذيب الأحكام 2: 358 ح1482، وعنه وسائل الشيعة 3: 456، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح1.

  • (4) تهذيب الأحكام 2: 357 ح1479، وج1: 274 ح807 ، وعنه وسائل الشيعة 3: 456، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح2.

( صفحه 110 )

فأخذتها فوضعتها على رأسي ثمّ صلّيت، فقال: لا بأس(1).

ومنها: مرسلة إبراهيم بن أبي البلاد، عمّن حدّثهم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر، مثل القلنسوة والتكّة والجورب(2).

ومنها: مرسلة عبدالله بن سنان المتقدّمة(3) في بحث المحمول.

فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه، وإنّما الكلام في المراد ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده، ويجري فيه احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد منه هو عدم تماميّة الصلاة فيه لأجل عدم كونه ساتراً للعورة بوجه، ولو مع تغيير هيئته وتبديل مكانه، بل ولو مع الاستعانة بخيط ونحوه.

الثاني: أن يكون المراد هو عدم تماميّة الصلاة فيه من دون تصرّف فيه بتغيير الهيئة وتبديل المكان أصلا.

الثالث: أن يكون المراد ذلك من دون تغيير للهيئة ولو مع تبديل المكان الذي جعل ذلك لباساً له.

والاحتمال الأوّل مستلزم لعدم كون كثير من الاُمور المذكورة في الروايات مثالا لما لا تتمّ، مصداقاً له أصلا; كالخفّ والجورب، بل التكّة في بعض

  • (1) تهذيب الأحكام 2: 357 ح1480، وعنه وسائل الشيعة 3: 456، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب31 ح3.

  • (2) تقدّمت في ص103.

  • (3) في ص105.

( صفحه 111 )

الموارد والقلنسوة; ضرورة أنّ تغيير الهيئة في مثلها وتبديل مكانه يوجب أن يصير ساتراً للعورة.

كما أنّ الاحتمال الثاني مستلزم لعدم كون القميص القصير المتداول بين الأعاجم ـ الذي لا يكون ساتراً للعورة ـ داخلا فيما تعتبر طهارته; لعدم كونه ممّا تتمّ الصلاة فيه وحده بناءً على هذا الاحتمال; كما أنّه يوجب أن يكون الخفّ ممّا لا يتمّ دائماً، مع أنّ مرسلة حمّاد المتقدّمة تدلّ على أنّ الخفّ على قسمين: قسم تتمّ فيه الصلاة، وقسم لا تتمّ، مع أنّ الظاهر أنّ الخفّ لا يستر أزيد من الساق.

فيتعيّن الاحتمال الثالث، الذي مرجعه إلى أنّ المراد بما لا تتمّ الصلاة فيه وحده، هو ما لا يكون ساتراً للعورة مع هيئته الفعليّة ولو مع تبديل موضعه الذي جعل ذلك لباساً له.

إنّما الإشكال في مثل العمّامة الملفوفة التي تستر العورة إذا فلّت، فقد صرّح الصدوق (قدس سره) في محكي كلامه بجواز الصلاة في العمّامة المتنجّسة، معلّلا بأنّه ممّا لا تتمّ فيه الصلاة، ونقله عن أبيه(1)، ويدلّ عليه صريحاً رواية الفقه الرضوي(2).

ولكن في العروة(3) التصريح بعدم العفو إلاّ إذا خيطت بعد اللفّ بحيث

  • (1) الفقيه 1: 42 ذ ح167، الهداية: 73، المقنع: 14، وحكى عنهما في مختلف الشيعة 1: 327 مسألة 243.

  • (2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) : 95، وعنه مستدرك الوسائل 3: 208، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب14 ح3382.

  • (3) العروة الوثقى 1: 74، الأمر الثالث.

( صفحه 112 )

تصير مثل القلنسوة، ووجهه ـ بعد عدم حجّية الفقه الرضوي ـ عدم دلالة الروايات المتقدّمة على جواز الصلاة في العمّامة المتنجّسة; لعدم كونها ممّا لا تتمّ; لأنّ العمّامة المتعارفة في حدّ ذاتها ثوب تجوز فيه الصلاة; سواء لفّت على الرأس ليصدق عليه العمّامة، أم لم تلفّ بل شدّ على الوسط ليصدق عليه اسم الإزار والمئزر، والفلّ والفكّ لا تخرجان العمّامة عن موضوع اللباس.

وبهذا تفترق عن التكّة والجورب ونحوهما، حيث لا تتمّ فيه الصلاة إلاّ بالعلاج بالخياطة أو غيرها ممّا يخرجهما عن عنوان التكّة والجورب.

هذا، ولا يبعد أن يقال ـ بناءً على الاحتمال الثالث المتقدّم في معنى ما لا تتمّ ـ بأنّ العمّامة أيضاً من مصاديق ما لا تتمّ; لأنّها عنوان للثوب الملفوف بالكيفيّة الخاصّة; ضرورة أنّ الثوب قبل اللفّ لا يصدق عليه العمّامة أصلا، فهي عبارة عن الهيئة المخصوصة; وهي مع عدم تغييرها لا تكون ساترة للعورة نوعاً، وسهولة تغيير الهيئة وكذا إيجادها لا توجب الفرق بينها، وبين القلنسوة أو العمّامة فيما إذا كانت مخيطة، كما أنّه لا استبعاد في الفرق بينها، وبين الثوب قبل اللفّ في جواز الصلاة فيها متنجّسة وعدمه، كما لا يخفى.

ولكنّ الاحتياط لا ينبغي تركه.

ثمّ إنّ التفصيل بين ما تتمّ، وما لا تتمّ بعدم اعتبار طهارة الثاني في صحّة الصلاة لا يختصّ بالثوب، بل يجري في المحمول أيضاً بناءً على اعتبار طهارته; سواء كان المستند فيه مرسلة عبدالله بن سنان المتقدّمة(1)، المصرّحة

  • (1) في ص105.

( صفحه 113 )

بالتفصيل في كلّ ما كان على الإنسان أو معه، أو كان المستند صحيحة زرارة المتقدّمة(1) باعتبار إسناد الإمام (عليه السلام) الطهارة إلى نفس المصلّي، أو كان المستند إلغاء العرف خصوصيّة الثوبيّة، أو كان المستند صدق عنوان الصلاة في النجس; لعدم الفرق في شيء من ذلك بين الثوب والمحمول أصلا.

هذا، مضافاً إلى أنّ موثقة زرارة المتقدّمة ـ الدالّة على أنّ كلّ ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشيء ـ عامّة تدلّ بعمومها على حكم المحمول أيضاً بعد صدق الصلاة فيه عليه أيضاً، كما عرفت، فالتفصيل لا يختصّ بالثوب.

نعم، يظهر من الحلّي في السرائر(2) الاختصاص، وأنّ المحمول لا تجوز الصلاة فيه مطلقاً إذا كان متنجّساً، مستدلاًّ بعدم ثبوت إجماع الفرقة على التفصيل فيه، ولكن هذا إنّما يتمّ على مبناه من عدم حجّية خبر الواحد مطلقاً(3). وأمّا بناءً على ما هو المشهور(4) من الحجّية فلا. فالمحمول أيضاً على قسمين.

نعم، لو قلنا بالاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة الجارية في معنى ما لا تتمّ، لكان المحمول مطلقاً ممّا لا تتمّ فيه الصلاة; لأنّ صفة المحموليّة لا تجتمع مع التماميّة، كما لا يخفى، ولكن عرفت عدم تماميّة هذا الاحتمال.

  • (1) في ص101 ـ 102.

  • (2) السرائر 1: 264.

  • (3) السرائر 1: 50 ـ 51 و 82 ، وج2: 628 ـ 629، وج3: 289 ـ 293.

  • (4) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 1: 238، كفاية الاُصول: 337، مصباح الاُصول، موسوعة الإمام الخوئي 47: 173.

( صفحه 114 )

الأمر الثاني من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي الإباحة; بأن يكون اللباس مملوكاً للمصلّي عيناً أو منفعة، أو كان مأذوناً من قبل المالك في التصرّف فيه، وقد فرّع عليه في المتن ـ ككثير من العبارات(1) ـ عدم جواز الصلاة في المغصوب، وظاهره انحصار مورد عدم ثبوت الإباحة بصورة الغصب، مع أنّه قد تتحقّق الحرمة من دون غصب; لأنّ الغصب عبارة عن الاستيلاء على مال الغير عدواناً ولو لم يكن هناك تصرّف، والتصرّف في مال الغير بدون إذنه حرام ولو لم يكن هناك غصب واستيلاء; لأجل عدم التسلّط عليه.

بل يمكن أن يقال: إنّ حرمة تصرّف الغاصب إنّما هي لأجل ذلك; وهي حرمة التصرّف بدون إذن المالك، لا لأجل كونه تصرّف الغاصب. وعليه: فالغاصب المتصرّف يستحقّ عقوبتين: إحداهما: للاستيلاء والتسلّط على مال الغير عدواناً، والاُخرى: للتصرّف في مال الغير بدون إذن المالك، ومن ذلك يظهر أنّ تفريع الغصب غير صحيح، بل اللاّزم تفريع عدم جواز الصلاة في الثوب الذي يحرم التصرّف فيه، وثبوت الغصب وعدمه لا مدخل له في ذلك أصلا.

وكيف كان، فالظاهر أنّ اعتبار هذا الأمر في لباس المصلّي لا يكون مستنداً إلى نصّ; لعدم وجود النصّ في المسألة، وعدم كونها مذكورة في الجوامع الأوّليّة المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة بعين الألفاظ الصادرة عن العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين، كما أنّ ظاهر الشيخ (قدس سره) في كتاب الخلاف

  • (1) سيأتي ذكر كثير منها في الصفحة الآتية.

( صفحه 115 )

ذلك أيضاً، حيث استدلّ لاعتبار الإباحة ـ في قبال العامّة(1) القائلين بأجمعهم بجواز الصلاة في الثوب المغصوب ـ بغير الإجماع والأخبار، كما سيأتي دليله.

نعم، ربما استدلّ ببعض الروايات الضعيفة أو غير الدالّة، ولعلّه يأتي التعرّض له(2)، وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يجوز الاستناد إلى الإجماع في المقام
وإن ادّعاه في الجملة في محكيّ الناصريّات، والغنية، ونهاية الإحكام، والتذكرة، والذكرى، وكشف الالتباس وغيرها(3); لأنّه ـ مضافاً إلى عدم تمسّك الشيخ (قدس سره) به في كتاب الخلاف مع كون دأبه فيه في أكثر المسائل التمسّك بإجماع الفرقة وأخبارهم ـ نقول: إنّه من المحتمل بل المعلوم استناد المجمعين إلى الوجوه الآتية، فلابدّ من ملاحظتها وأنّها هل تصلح لإثبات اعتبار هذا الأمر أم لا؟ فنقول:

الأوّل: قاعدة الاشتغال، وقد استند إليها الشيخ (قدس سره) في الكتاب المزبور، قال: طريقة براءة الذمّة تقتضي وجوب إعادتها; لأنّ الصلاة في ذمّته واجبة بيقين، ولا يجوز أن يبرأها إلاّ بيقين، ولا دليل على براءتها إذا صلّى في الدار والثوب المغصوبين(4).

  • (1) المغني لابن قدامة 1: 625 ـ 626، المجموع 3: 182، المبسوط للسرخسسي 1: 206.

  • (2) في ص123.

  • (3) مسائل الناصريّات: 205 ـ 206، غنية النزوع: 66، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 378، تذكرة الفقهاء 2: 476 مسألة 125، ذكرى الشيعة 3: 48، وحكى عن كشف الالتباس في مفتاح الكرامة 5: 529، منتهى المطلب 4: 229، تحرير الأحكام 1: 196، الرقم 622، كشف اللثام 3: 223، جواهر الكلام 8 : 236 ـ 237، مستمسك العروة الوثقى 5: 278.

  • (4) الخلاف 1: 510 ذ مسألة 253.

( صفحه 116 )

والجواب: أنّ المقام من موارد جريان أصالة البراءة; لأنّه قد شكّ فيه في شرطيّة أمر زائد; وهي إباحة اللباس، والمرجع في مثله أصالة البراءة الجارية في جميع موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين; سواء كان المشكوك هي الجزئيّة أو الشرطيّة، فلا مجال لقاعدة الاشتغال.

الثاني: ما استدلّ به الشيخ (قدس سره) أيضاً في الكتاب المذكور من أنّ الصلاة تحتاج إلى نيّة بلا خلاف، ولا خلاف أنّ التصرّف في الدار المغصوبة والثوب المغصوب قبيح، ولا تصحّ نيّة القربة فيما هو قبيح.

وأوضحه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) على ما أوردته في تقريرات بحثه; بأنّ صحّة العبادة متوقّفة على صلاحيّتها للتقرّب بها مع قصده أيضاً، وإذا اتّحدت مع عنوان محرّم لا تكون العبادة صالحة لذلك، ولا يتمشّى قصد التقرّب بها من الملتفت إلى حرمته; لأنّ الفعل الصادر عن المكلّف عصياناً للمولى وطغياناً عليه لا يعقل أن يكون مقرّباً له إليه.

وهذا لا فرق فيه بين أن نقول بجواز اجتماع الأمر والنهي، كما هو مقتضى التحقيق(1)، أو نقول بامتناعه; لأنّ المقرّبيّة والمبعّديّة من شؤون الموجود في الخارج، والمفروض أنّه واحد ليس بمتعدّد، فإذا فرض كونه مبعّداً لتنجّز الحرمة على ما هو المفروض، فلا معنى لاتّصافه بالمقرّبيّة، ومعه لا يصلح لأن يقع عبادة، كما هو ظاهر(2).

واُجيب عن هذا الوجه: بأنّ نيّة القربة المعتبرة في الصلاة إنّما هي في أفعال

  • (1) نهاية الاُصول: 257 ـ 259.

  • (2) نهاية التقرير 1: 433.

( صفحه 117 )

الصلاة، لا في التصرّف في الثوب، والتستّر بالثوب وإن كان تصرّفاً فيه، إلاّ أنّه ليس من أفعال الصلاة بل من شرائطها، ولذا لا إشكال ظاهراً في صحّة الصلاة مع الغفلة عن التستّر أصلا، والقصد شرط في صحّة العبادة(1).

والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه بناءً على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، يكون المجمع صحيحاً ولو كانت عبادة، كما في مثل المقام; وذلك لأنّ المبعّديّة والمقرّبيّة وإن كان من شؤون الموجود في الخارج; ضرورة أنّ المأمور به ما لم يتحقّق في الخارج لا يكون مقرّباً، والمنهيّ عنه ما لم يوجد فيه لا يكون مبعّداً.

كما أنّه لا شكّ في وحدة الموجود في الخارج، إلاّ أنّه لابدّ من ملاحظة أنّ الموجود في الخارج، هل يكون اتّصافه بالمقرّبيّة والمبعّديّة لأجل نفسه، أو لأجل انطباق عنوان المأمور به، وكذا المنهيّ عنه عليه؟ فالموجود من الصلاة في الخارج مقرّب لأجل كونه مصداقاً لهذه الطبيعة الكليّة، ومنطبقاً عليه هذا العنوان، وكذا في جانب المنهيّ عنه.

فإذا فرض انطباق عنوانين على الوجود الخارجي الواحد، والمفروض ثبوت التكليفين وفعليّة الحكمين، فما المانع من أن يكون ذاك الموجود الخارجي مقرّباً ومبعّداً معاً؟ فمن جهة انطباق عنوان الصلاة يكون مقرّباً، ومن جهة انطباق عنوان الغصب يكون مبعّداً، والمفروض أنّ قصد التقرّب من المكلّف الملتفت إنّما هو من الجهة الاُولى، فأركان صحّة العبادة تامّة، فهذا الوجه أيضاً لا يصحّ الاتّكال عليه.

  • (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 279 ـ 280.

( صفحه 118 )

الثالث: ما حكاه صاحب المدارك (قدس سره) عنهم من أنّه مأمور بإبانة المغصوب عنه و ردّه إلى مالكه، فإذا افتقر إلى فعل كثير كان مضادّاً للصلاة، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فيفسد; لأنّ النهي المتعلّق بالعبادات يقتضي الفساد(1).

ويرد عليه أوّلا: أنّه لم يثبت توجّه تكليف وجوبيّ إلى الغاصب متعلّق بعنوان الردّ والإبانة، بل غاية ما هناك أنّ الغاصب في كلّ آن وزمان مرتكب للمحرّم، ومستول على مال الغير عدواناً، والعقل يحكم عليه بالخروج عن دائرة العصيان وترك مخالفة الرحمن، والخروج إنّما يتحقّق بالردّ إلى المالك وإعادة استيلائه عليه.

وأمّا ثبوت حكم شرعيّ وجوبيّ ما عدا التكليف التحريميّ الثابت في كلّ زمان ولحظة، فلم يدلّ عليه دليل، ولذا لا يستحقّ إلاّ عقوبة مخالفة التكليف التحريمي لا عقوبتين.

ودعوى أنّ حكم العقل بلزوم الردّ يستتبع بالملازمة حكم الشرع باللزوم.

مدفوعة بعدم كون الأحكام العقليّة الثابتة في موارد العصيان والإطاعة وشؤونهما مستلزمة للحكم الشرعي بوجه، وإلاّ يلزم التسلسل، كما حقّق في محلّه(2). وبالجملة: فالظاهر أنّ وجوب الردّ شرعاً غير ثابت.

وثانياً: أنّه على تقدير تسليم الوجوب الشرعي، فقد يكون الردّ متعذّراً

  • (1) مدارك الأحكام 3: 181 ـ 182.

  • (2) دراسات في الاُصول 2: 315، سيرى كامل در اصول فقه 9: 265 ـ 267.

( صفحه 119 )

لغيبة المالك مثلا، ومن المعلوم سقوط الوجوب حينئذ; لتعذّر متعلّقه، فيلزم جواز الصلاة في الثوب المغصوب في هذه الصورة، مع أنّ المدّعى عامّ.

وثالثاً: أنّه قد لا يكون الردّ متوقّفاً على فعل تكون الصلاة مضادّة له، كما إذا كان المالك أو وكيله حاضراً مثلا.

ورابعاً: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ، خصوصاً فيما إذا كان الأمر غيريّاً، كما أنّ اقتضاء النهي الغيري للفساد محلّ بحث وإشكال.

وخامساً: أنّ لازم هذا الدليل بطلان الصلاة مطلقاً ـ ولو في غير الثوب المغصوب ـ إذا كان المصلّي غاصباً لشيء آخر لا ربط له بالصلاة، ولكن كان ردّه متوقّفاً على اُمور مضادّة للصلاة; لأنّها في هذه الصورة أيضاً تصير منهيّاً عنها فتفسد، ولا يلتزم بذلك أحد.

الرابع: ما حكي عن المعتبر من أنّ النهي عن المغصوب نهي عن وجوه الانتفاع به، والحركات فيه انتفاع، فتكون محرّمة منهيّاً عنها، ومن الحركات القيام والقعود والركوع والسجود، وهي أجزاء الصلاة، فتكون منهيّاً عنها فتفسد(1).

وأجاب عنه في المستمسك بأنّ كون القيام والقعود والركوع والسجود من قبيل الحركات لا يخلو عن تأمّل أو منع; فإنّ المفهوم منها عرفاً أنّها من قبيل الهيئة القائمة بالجسم، فتكون من مقولة الوضع، لا من قبيل الحركة لتكون من مقولة الفعل.

نعم، الحركة من قبيل المقدّمة لوجودها، وحرمة المقدّمة لا توجب

  • (1) المعتبر 2: 92.

( صفحه 120 )

النهي عن ذيها ولا فساده، قال: وما ذكرنا هو المطابق للمرتكز العقلائي; فإنّ التذلّل والخضوع واستشعار مشاعر العبوديّة إنّما يكون بالهيئة الخاصّة التي يكون عليها العبد في مقام عبادة مولاه، لا بالحركة المحصّلة لها، كما لا يخفى(1).

والتحقيق في الجواب: أنّه على تقدير كون مثل الركوع والسجود من قبيل الحركات أيضاً، لا يتعدّى النهي في باب الغصب عن عنوان متعلّقه إلى عنوان الركوع والسجود; ضرورة أنّ الحرمة في ذلك الباب متعلّقة بعنوان «التصرّف في مال الغير» على ما يدلّ عليه الرواية(2)، فالمنهيّ عنه نفس عنوان التصرّف، ولا يتعدّى النهي عنه إلى غيره.

وأمّا ما هو جزء للعبادة فعنوان الركوع والسجود وأشباههما، ومن الواضح: مغايرة العنوانين واختلاف المتعلّقين وإن اتّحدا في الوجود الخارجي والتحقّق في العين، ولكنّ الاتّحاد الخارجي لا يقتضي سراية الحكم من أحد المتعلّقين إلى الآخر، كما في جميع موارد اجتماع الأمر والنهي، وقد ذكرنا(3) أنّه على القول بجواز الاجتماع ـ كما هو مقتضى التحقيق(4) ـ يكون اللاّزم صحّة المجمع إذا كان عبادة، فالجزء المتّحد مع التصرّف في الثوب المغصوب لا يكون فاسداً، فلا تكون العبادة فاسدة.

  • (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 280.

  • (2) كمال الدين: 520 ح49، الاحتجاج 2: 559، الرقم 351، وعنهما وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب3 ح7، وج25: 386، كتاب الغصب ب1 ح4.

  • (3) في ص117.

  • (4) دراسات في الاُصول 2: 15 ـ 17، سيرى كامل در اصول فقه 6: 454 ـ 485.

( صفحه 121 )

وأمّا ما أفاده في المستمسك، فقد اُجيب(1) عنه بأنّ الظاهر كون الركوع الذي هو جزء من الصلاة هو الذي يكون من مقولة الفعل، والشاهد عليه كون القيام المتصل بالركوع ركناً; لأنّ المراد به هو القيام المتعقّب بالركوع الذي لا يكون بينه وبينه فصل، فمن أوّل انهدام القيام إلى البلوغ إلى حدّ الركوع يكون كلّها ركوعاً ومن أفعال الصلاة; ضرورة أنّ تعقّب القيام بالركوع المحصّل للقيام المتصل بالركوع هو بأن يركع عن قيام.

كما أنّ الظاهر أنّ السجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض بحيث يكون أوّل جزء من الوضع بنيّة سجود الصلاة، فلو وضع جبهته على الأرض بلا نيّة السجود لم يجز الاكتفاء به، بل قيل: إنّه لو وضع ثمّ نوى سجود الصلاة كان ذلك موجباً لزيادة السجدة; لأنّه بمجرّد الوضع تحقّق السجود، وحيث لم يكن بنيّة الصلاة لم يكن معدوداً من أفعالها، فهو سجود خارج عنها، وهذا معنى الزيادة.

وكيف كان، فلابدّ من النيّة قبل وضع الجبهة حتى يكون أوّل جزء منه مع النيّة. ومن المعلوم أنّ المقدار المتّصل بالوضع من الحركة المتّصلة به المحقّقة له يكون من أفعال الصلاة. نعم، رفع الرأس منهما لا يكون معدوداً من أفعال الصلاة.

ثمّ إنّه أفاد في المستمسك أيضاً وقال: إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا: إنّ الواجب الصلاتي نفس الحركة من أوّل الانحناء عن القيام إلى أن ينتهي إلى حدّ الركوع، وهكذا في غير الركوع، فلا وجه للالتزام بأنّ المقام من

  • (1) المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 131.

( صفحه 122 )

صغريات مسألة الاجتماع; ضرورة أنّ الحركة الصلاتيّة الواجبة قائمة بالبدن، والحركة الغصبيّة المحرّمة قائمة بالمغصوب، فيكون إحداهما غير الاُخرى في الخارج.

ضرورة أنّ تباين المغصوب وبدن المكلّف يستلزم تباين الحركة القائمة بأحدهما، والحركة القائمة بالآخر، فيمتنع أن تكون الحركة الصلاتيّة عين التصرّف في المغصوب في الخارج، كي يكون المقام من صغريات مسألة الاجتماع. نعم، حركة البدن الصلاتيّة علّة لحركة المغصوب والتصرّف فيه، نظير حركة اليد التي هي علّة لحركة المفتاح، فإذا قلنا بأنّ علّة الحرام حرام، تكون الحركة الصلاتيّة محرّمة بالتحريم الغيري ـ إلى أن قال: ـ فهذا هو العمدة في البناء على بطلان الصلاة في الثوب المغصوب(1).

أقول: الظاهر أنّ تغاير الإضافة في باب الحركة لا توجب تعدّد الحركة; فإنّ قيام إحدى الحركتين بالمغصوب، والاُخرى بالبدن إنّما يوجب التغاير بحسب العنوان. وأمّا بحسب الوجود الخارجي، فهما واحد من الجهة الراجعة إلى فعل المكلّف، وما يوجد منه في الخارج; ضرورة أنّ ما هو الصادر منه في الخارج إنّما هي حركة واحدة لها إضافة إلى البدن، وإضافة إلى الثوب.

وأمّا وصف المتحرّكيّة، فلا خفاء في تعدّده; لأنّه تابع للموصوف، ولكنّه ليس بحرام، بل الحرام فعل المكلّف وما يصدر منه في الخارج، وهو ليس بمتعدّد ولو بتعدّد العليّة والمعلوليّة، فتدبّر. وتبعيّة الثوب للبدن مقتضاها حصول وصف التحرّك له تبعاً للبدن، لا كون عمل المكلّف متعدّداً.

  • (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 281.

( صفحه 123 )

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم تماميّة هذا الوجه أيضاً.

الخامس: الإجماع الذي ادّعاه جمع من الأصحاب(1).

والجواب: أنّ الإجماع في مثل هذه المسألة لا حجّية فيه، كما ذكرناه في صدر المسألة، ويؤيّد عدم ثبوت الإجماع التفصيل الذي استقربه في المعتبر، وقوّاه جمع من المحقّقين المتأخّرين عنه، وسيأتي البحث عنه(2); فإنّه مع ثبوت الإجماع لا يبقى للتفصيل سبيل أصلا.

السادس: بعض الروايات:

مثل ما رواه الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام) : لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم الله ـ عزّ وجلّ ـ به فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم، ولو أخذوا ما نهاهم الله عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله به ما قبله منهم، حتّى يأخذوه من حقّ، وينفقوه في حقّ(3). ورواه الكليني عن إسماعيل بن جابر، عنه (عليه السلام) مسنداً(4).

وما رواه في تحف العقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لكميل قال: يا كميل اُنظر فيما تصلّي؟ وعلى ما تصلّي؟ إن لم يكن من وجهه وحلّه فلا قبول. ورواه الطبرى في محكيّ بشارة المصطفى مسنداً(5).

والجواب عن الرواية الاُولى: أنّها وإن كانت معتبرة من حيث السند، إلاّ

  • (1) في ص115.

  • (2) في الصفحة الآتية.

  • (3 ، 4) الفقيه 2: 31 ح121، الكافي 4: 32 ح4، وعنهما وسائل الشيعة 5: 119، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب2 ح1.

  • (5) تحف العقول: 174، بشارة المصطفى: 57 ح43، وعنهما وسائل الشيعة 5: 119، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب2 ح2.

( صفحه 124 )

أنّ كلمة الإنفاق فيها ظاهرة في غير المقام; فإنّ الصلاة في المغصوب لا يعبّر عنها بإنفاق المغصوب فيها; فإنّ الإنفاق مرجعه إلى رفع اليد عن المال وصرفه، فهو يناسب صرف المغصوب في الإحسان إلى الغير مثلا، مع أنّ الكلام في نفي الصحّة، والرواية ظاهرة في نفي القبول. وبهذا يجاب عن الرواية الثانية، مضافاً إلى ضعف السند فيها وعدم الانجبار; لكونه متوقّفاً على الاستناد، ولا يتحقّق بمجرّد موافقة فتوى المشهور مع رواية ضعيفة،
كما لا يخفى.

السابع: بعض الوجوه الضعيفة الاُخرى، التي لا مجال للاستدلال بها أصلا، وصرف النظر عن التعرّض لها أولى.

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض دليل على اعتبار إباحة التصرّف في الثوب في صحّة الصلاة، وأنّ العمدة من الوجوه المتقدّمة ما كان مبتنياً على مسألة اجتماع الأمر والنهي، وقد مرّ(1) أنّ القول بالجواز فيها
لا يستلزم بطلان المجمع إذا كانت عبادة، بل الظاهر صحّته كذلك، وإن أبيت إلاّ عن الاستلزام نقول بعدم كون المقام من صغريات تلك المسألة، لا لما أفاده في المستمسك ممّا تقدّم(2); لعدم تماميّته كما عرفت(3)، بل لما أفاده شيخنا المحقّق الحائري (قدس سره) في كتابه في الصلاة; من أنّ المحرّم إنّما هو التصرّف في اللباس من جهة لبسه.

وأمّا تغيير هيئاته بتبع حركات اللاّبس بمشيه أو قيامه أو قعوده، وأمثال

  • (1) في ص117 و 120.

  • (2 ، 3) في ص121.

( صفحه 125 )

ذلك ممّا لا يكون انتفاعاً آخر به سوى اللبس، ولا يكون موجباً لتلفه واندراسه، فلا يكون مبغوضاً آخر للمالك حتّى يتبعه النهي الشرعي; ضرورة أنّ المبغوض للمالك في حالات اللاّبس ـ من قيامه وقعوده وانحنائه ـ شيء واحد، وهو كونه لابساً، وليس مبغوضه في حال القيام أمران: أحدهما: كونه لابساً، والثاني: وجود هيئة خاصّة حاصلة للملبوس من جهة قيامه، وكذا في حال الانحناء.

فعلى هذا يكون المحرّم أمراً واحداً في مجموع الحالات; وهو التصرّف اللبسي، وكونه لابساً شيء، والركوع والسجود والقيام شيء آخر مقارن له، فلا يلزم من كونه محرّماً تحريم ما هو من أجزاء الصلاة(1).

بقي الكلام في التفصيل الذي ذكره المحقّق في المعتبر، قال: والأقرب أنّه إن كان ستر به العورة أو سجد عليه، أو قام فوقه، كانت الصلاة باطلة; لأنّ جزء الصلاة يكون منهيّاً عنه وتبطل الصلاة بفواته. أمّا إذا لم يكن كذلك لم تبطل، وكان كلبس خاتم مغصوب(2). وفي المدارك: أنّه المعتمد(3). وعن الذكرى وجامع المقاصد وإرشاد الجعفريّة والمقاصد العليّة والروض وكشف اللثام: أنّه قويّ(4).

أقول: أمّا الفرض الأوّل: وهو ما إذا ستر به العورة، فالظاهر عدم جريان

  • (1) كتاب الصلاة: 47.

  • (2) المعتبر 2: 92.

  • (3) مدارك الأحكام 3: 182.

  • (4) ذكرى الشيعة 3: 48 ـ 49، جامع المقاصد 2: 87 ، وحكى عن إرشاد الجعفريّة في مفتاح الكرامة 5: 529، المقاصد العليّة: 172، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 547، كشف اللثام 3: 224 ـ 225.

( صفحه 126 )

التعليل فيه; لأنّ الظاهر كون التستّر وعدم انكشاف العورة معتبراً في الصلاة بنحو الشرطيّة لا الجزئيّة، ولذا تصحّ الصلاة مع الغفلة عن تحقّقه، مع أنّه لو كان جزءاً لكان اللاّزم رعاية النيّة فيه ولو ارتكازاً، مضافاً إلى أنّه على تقدير الجزئيّة لا يثبت المطلوب أيضاً; لعدم كون النهي متعلّقاً بعنوان التستّر، بل بعنوان التصرّف، فهنا عنوانان: أحدهما: متعلّق للأمر ومتّصف بالجزئيّة، والآخر: متعلّق للنهي، وقد عرفت عدم استلزام ذلك للبطلان.

وأمّا الفرض الثاني: فالجزئيّة فيه وإن كانت مسلّمة; لأنّ السجدة على ما يصحّ السجود عليه من أجزاء الصلاة بلا إشكال، إلاّ أنّه لا يستلزم البطلان، كما مرّ.

وأمّا الفرض الثالث: فيمكن فيه منع الجزئيّة كالفرض الأوّل; لعدم الدليل على اعتباره كذلك، كما أنّه يمكن أن يقال: إنّ الجزء إنّما هو القيام. وأمّا وقوعه على شيء، فهو خارج عن دائرة الجزئيّة، وليس هذا مثل السجود; فانّه يعتبر في حقيقته وضع الجبهة على شيء، ومن الممكن أن يكون القيام جزءاً للصلاة، ووقوعه على المغصوب محرّماً، فلا يتّحد الجزء مع ما هو المحرّم.

وهذا بخلاف الصلاة في المكان المغصوب; فإنّ اتّحاد الغصب فيها مع الصلاة ليس لأجل وقوع القيام المعتبر فيها عليه، بل لأجل كونه شاغلا ومتصرّفاً في الهواء والفضاء، فتدبّر.

ثمّ على تقدير الجزئيّة يجري فيه الجواب المذكور في الفرضين الأوّلين، ويتحصّل ممّا ذكر عدم تماميّة التفصيل أيضاً.

ثمّ انّه بناءً على بطلان الصلاة في الثوب المغصوب لو كان المصلّي عالماً

( صفحه 127 )

بكونه مغصوباً، وبأنّه يحرم التصرّف في العين المغصوبة، وبأنّه لا يجوز الصلاة فيه، فلا إشكال في البطلان حينئذ.

وأمّا لو كان جاهلا بالموضوع، فقد صرّح الأصحاب(1) ـ رضي الله عنهم ـ بصحّة صلاته فيه، وهو مبنيّ على ما حقّق في محلّه(2) من كون مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي، ما إذا كان ملاك الحكمين ومناطهما موجوداً في مادّة الاجتماع ومورد التصادق، فيكون من باب التزاحم لا التعارض، الذي مورده ثبوت أحد الملاكين فقط في محلّه; فإنّ لازم التزاحم أنّه لو فرض عدم بلوغ النهي إلى مرتبة الفعليّة والتنجّز; للجهل مثلا، فلا مانع من تأثير الملاك الآخر الموجود في ثبوت مقتضاه.

وعليه: فالمجمع إذا كان عبادة يكون صحيحاً; لوجود الملاك وثبوت الأمر، ولا يكون التكليف التحريمي منجّزاً حتّى يقدم على التكليف الوجوبي، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، أو يقال: إنّ ثبوت النهي الفعلي يمنع عن صحّة العبادة بناءً على الاجتماع أيضاً، كما مرّ(3).

وأمّا لو لم يكن الملاكان موجودين، فعدم تنجّز التكليف التحريمي لعدم ثبوت شرائطه لا يقتضي صحّة العبادة; لخلوّها عن الملاك والأمر، فلا مجال للصحّة ولو قيل بكفاية الملاك فيها، كما لا يخفى.

  • (1) تذكرة الفقهاء 2: 477، ذكرى الشيعة 3: 49، الدروس الشرعيّة 1: 151، جامع المقاصد 2: 87 ، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 548، المقاصد العليّة: 172 و 304، مجمع الفائدة والبرهان 2: 80 ، جواهر الكلام 8 : 247.

  • (2) دراسات في الاُصول 2: 25 ـ 28، سيرى كامل در اصول فقه 6: 522 ـ 527.

  • (3) في ص120.

( صفحه 128 )

وبالجملة: فالحكم بصحّة صلاة الجاهل إنّما هو لما ذكر من كون مورد تلك المسألة ما إذا كان من باب التزاحم لا التعارض.

وأمّا الناسي للموضوع، فحكمه حكم الجاهل، بل أولى منه;
لاستحالة تعلّق الخطاب بالناسي; لعدم التفاته إلى وصف كونه ناسياً،
وإلاّ يرتفع النسيان منه، بخلاف الجاهل; فإنّه ملتفت إلى وصفه;
ولأجله يمكن توجيه الخطاب إليه، فإذا كان التكليف في حقّ الجاهل غير منجّز، فبالنسبة إلى الناسي يكون غير منجّز بطريق أولى، هذا إذا كان الناسي غير الغاصب.

وأمّا لو كان الناسي هو الغاصب، فقد صرّح بالحكم بالبطلان فيه في جملة من كلمات الأصحاب(1)، والظاهر أنّ المراد هو الغاصب الذي عرض له النسيان من جهة عدم المبالاة بالغصب، وجعله المغصوب في عداد أمواله، واتّفق له النسيان حال الصلاة.

وأمّا لو كان تائباً وعازماً على ردّ المال إلى مالكه، ومتحفّظاً لعدم التصرّف فيه فعرضه الغفلة، فهو خارج عن مورد كلامهم وإن كان بعض ما استدلّ به على البطلان من الوجوه يشمل هذا الفرض أيضاً. وكيف كان، فقد استدلّ للبطلان في الغاصب الناسي بوجوه:

الأوّل: انصراف حديث «الرفع»(2) المشتمل على رفع الخطأ والنسيان عن

  • (1) تذكرة الفقهاء 2: 477، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 378، إيضاح الفوائد 1: 84 ، الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 69، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 548.

  • (2) تقدّم في ج1: 406.

( صفحه 129 )

نسيان الغاصب، الناشىء عن عدم المبالاة وترك التحفّظ.

والجواب: منع دعوى الانصراف، خصوصاً مع ملاحظة ما مرّ من أنّ توجّه التكليف إلى الناسي مستحيل; ضرورة أنّه لا فرق في الاستحالة بين الغاصب وغيره، غاية ما في الباب وجوب التحفّظ عليه رعاية لحفظ مال الغير واحترامه. ومن المعلوم أنّ مخالفة هذا التكليف الوجوبي لا تُسوّغ توجّه التكليف التحريمي ـ المتعلّق بالتصرّف في مال الغير ـ في حال النسيان حتّى يمنع عن صحّة العبادة ومقرّبيّتها.

ومن الممكن المنع عن وجوب التحفّظ عليه أيضاً، بدعوى أنّ مفاد حديث «الرفع» رفع إيجاب التحفّظ في مورد النسيان، لا رفع التكليف المنسيء; لأنّ رفعه إنّما هو بحكم العقل، ولا يختصّ حينئذ بالأمّة النبويّة، والتحقيق في محلّه(1).

الثاني: دعوى توجّه التكليف التحريمي بالغاصب بتركه التصرّف في المغصوب في حال تذكّره قبل طروّ النسيان، نظير التكليف بعدم التصرّف في الأرض المغصوبة لمن توسّطها قبل دخوله فيها.

والجواب: ـ مضافاً إلى منع ذلك في المقيس عليه; لأنّ المحرّم فيه إنّما هو التصرّف في مال الغير، وهو ثابت بعد التوسّط والدخول أيضاً; لأنّ عنوان الدخول وكذا الخروج لا دخالة له في متعلّق الحكم التحريمي، بل المتعلّق إنّما هو نفس عنوان التصرّف، ولا يسري الحكم عن هذا العنوان إلى شيء آخر أصلا، وهذا العنوان باق بعد التوسّط والدخول، وثبوت حكم تكليفيّ آخر

  • (1) سيرى كامل در اصول فقه 11: 40 وما بعدها.

( صفحه 130 )

متعلّق بعنوان التخلّص عن الحرام على تقديره، لا يقدح في بقاء الحكم الأوّل، كما أنّ تصادقهما على الخروج لا يوجب ارتفاعهما أو ارتفاع واحد منهما أصلا ـ .

المنع في المقيس وبطلان المقايسة; لأنّ منشأ النزاع هناك ثبوت الاضطرار الحاصل للمتوسّط بعد الدخول، وتردّد أمره بين البقاء والخروج، مع كون كلّ منهما تصرّفاً في الأرض، وهنا ليس كذلك; لأنّه لا اضطرار للغاصب بالإضافة إلى الصلاة في الثوب المغصوب، ولم يكن نسيانه سبباً للتصرّف فيه، مع أنّ توجّه التكليف إلى الناسي مستحيل، كما مرّ(1); من دون فرق بين أن يكون غاصباً أو غيره.

ودعوى أنّه لا مانع من حرمة جميع التصرّفات الواقعة في طول الزمان، وتوجّهها إلى الغاصب حين الغصب; من دون فرق في التصرّفات بين ما كان منها مقارنة لحال التذكّر، وما كان مقارنة لحال النسيان.

مدفوعة; بأنّ النسيان من حالات المكلّف، ويستحيل أن يكون المكلّف في هذا الحال مورداً لتوجّه التكليف، ولا فرق في الاستحالة من حيث زمان التكليف وحدوثه أصلا.

الثالث: استصحاب بقاء التكليف الثابت قبل النسيان بعد طروّه، وجوابه واضح، فانقدح أنّه لا فرق في الناسي بين الغاصب وغيره.

وأمّا الجاهل بالحكم التكليفي، فإن كان قاصراً، فالظاهر صحّة صلاته;

  • (1) في ص128.

( صفحه 131 )

لعدم تنجّز النهي، وفعليّة الحرمة مع هذا الجهل بمقتضى حديث «الرفع» وشبهه، فلا مانع من وقوع العمل عبادة مقرّبة; لما عرفت(1) من أنّه مع عدم فعليّة النهي يؤثّر ملاك الأمر في مقتضاه.

وهذا بخلاف ما إذا كان مقصّراً; فإنّ جهله عن تقصير لا يمنع
عن الفعليّة، ولا يقدح في تأثير ملاك النهي في الحرمة، فالمبغوضيّة
والمبعّديّة متحقّقة، وهي تمنع عن صلاحيّة المقرّبيّة، بل عن تمشيّ قصد القربة من المكلّف.

وأمّا الجاهل بالحكم الوضعي; أعني بطلان الصلاة في الثوب المغصوب، فالمصرّح به في جملة من الفتاوي(2) هو البطلان، وهو الظاهر; لأنّه مع تنجّز الحرمة بالعلم بها وثبوت المبغوضيّة والمبعّديّة، لا يبقى مجال لصحّة العبادة، والجهل بالمانعيّة لا يصحّح العبادة وإن كان حديث «الرفع»(3) لا يختصّ
جريانه بالأحكام التكليفيّة، بل يجري في مثل الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة، إلاّ أنّه لا يشمل المقام; لظهور أنّ المانعيّة في المقام إنّما هي من الأحكام العقليّة، ولا تكون شرعيّة.

وحديث «الرفع» يجري بالإضافة إلى الموانع الشرعيّة فقط، ومنه يظهر

  • (1) في ص127.

  • (2) منتهى المطلب 4: 230، تذكرة الفقهاء 2: 477، ذكرى الشيعة 3: 49، الدروس الشرعيّة 1: 151، جامع المقاصد 2: 87 ، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 548، المقاصد العليّة: 172، مجمع الفائدة والبرهان 2: 80 ، جواهر الكلام 8 : 248.

  • (3) تقدّم في ج1: 406، وهنا في ص128.

( صفحه 132 )

عدم جريان حديث «لا تعاد»(1) في المقام; لوضوح كون مورده ما كان بيانه راجعاً إلى الشارع من الأجزاء والشرائط والموانع.

وأمّا الناسي للحكم; سواء كان حكماً تكليفيّاً أو وضعيّاً، فيجري عليه حكم الجاهل; لأنّ المفروض جهله بذلك بعد حصول النسيان، فتدبّر.

  • (1) تقدّم في ص83 ، 87 و 104.

( صفحه 133 )

[عدم الفرق بين أنواع الغصب]

مسألة 9: لا فرق بين كون المغصوب عين المال أو منفعته، أو متعلّقاً لحقّ الغير كالمرهون، ومن الغصب عيناً ما تعلّق به الخمس أو الزكاة مع عدم أدائهما ولو من مال آخر 1 .

1 ـ عدم الفرق بين أنواع الغصب إنّما هو لأجل ثبوت الملاك في جميعها، فكما أنّه إذا كانت عين المال مغصوبة يحرم التصرّف فيها وتبطل العبادة فيها; لما مرّ(1)، كذلك إذا كانت المنفعة مغصوبة، فإذا صلّى في ثوبه الذي آجره من الغير مع البناء على عدم إقباضه إيّاه، تكون صلاته باطلة; لعين الدليل المذكور، وكذلك إذا كان متعلّقاً لحقّ الغير، ولكن لابدّ من تقييده بما إذا كان الحقّ موجباً لحرمة تصرّف من عليه الحقّ، كما في مثال الرهن المذكور في المتن; فإنّه لا يجوز للراهن التصرّف في العين المرهونة بوجه.

وأمّا إذا لم يكن الحقّ موجباً لحرمة التصرّف، فلا مانع من صحّة الصلاة فيه، كما إذا نذر التصدّق بثوبه الخاصّ على الفقير إذا جاء ولده من السفر مثلا; فإنّ تعلّق حقّ الفقير بالثوب المنذور التصدّق به، لا يستتبع حرمة التصرّف فيه بمثل الصلاة، ولا يكون منافياً له، فلابدّ من تقييد الحقّ وتخصيصه بالصورة الاُولى.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ تعلّق الخمس والزكاة بما يتعلّقان به إنّما هو على سبيل الإشاعة، كما هو ظاهر بعض الأدلّة(2)، فيصير المال المتعلّق لأحدهما ـ مع

  • (1) في ص115 ـ 124.

  • (2) راجع تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الخمس: 276 ـ 277.

( صفحه 134 )

عدم الأداء ولو من مال آخر ـ من قبيل ما تعلّق الغصب بعينه; لعدم اختصاص غصب العين بغير صورة الإشاعة وجريانه فيها، فيكون المالك بالإضافة إلى مقدارهما غاصباً للعين.

وأمّا لو قلنا بأنّ تعلّقهما به إنّما هو على سبيل الحقّ، وأنّهما حقّان ماليّان افترضهما الله على من يجبان عليه، فيكون الغصب المتحقّق في المقام حينئذ من قبيل ما يكون المغصوب متعلّقاً لحقّ الغير، كما في المرهون، وعلى كلا التقديرين تكون الصلاة فيه باطلة. أمّا على التقدير الأوّل: فواضح. وأمّا على التقدير الثاني: فلكون الحقّ مستتبعاً لحرمة التصرّف مطلقاً، كما في حقّ الرهانة.

( صفحه 135 )

[صبغ الثوب بصبغ مغصوب وخيطه بخيط مغصوب]

مسألة 10: إن صُبِغَ الثوب بصبغ مغصوب، فمع عدم بقاء عين الجوهر الذي صبغ به ـ والباقي هو اللون فقط ـ تصحّ الصلاة فيه على الأقوى. وأمّا لو بقي عينه فلا تصحّ على الأقوى، كما أنّ الأقوى عدم صحّتها في ثوب خيط بالمغصوب وإن لم يمكن ردّه بالفتق، فضلا عمّا يمكن.

نعم، لا إشكال في الصحّة فيما إذا اُجبر الصبّاغ أو الخيّاط على عمله ولم يُعطَ اُجرته، مع كون الصبغ والخيط من مالك الثوب. وكذا إذا غسل الثوب بماء مغصوب، أو اُزيل وسخه بصابون مغصوب مع عدم بقاء عين منهما فيه، أو اُجبر الغاسل على غسله ولم يُعطَ اُجرته 1 .

1 ـ في هذه المسألة فروع:

الأوّل: ما لو كان الثوب مصبوغاً بصبغ مغصوب، مع عدم بقاء عين الجوهر الذي صبغ به، وكان الباقي هو اللون فقط، كما هو الغالب في موارد الصبغ، وقد قوّى في المتن الحكم بصحّة الصلاة فيه، وهو يبتني على كونه معدوداً بحكم التالف; لأنّ عدم بقاء العين كما هو المفروض يجعله بحكمه، خصوصاً مع أنّ العرف ربما يساعد على ذلك; نظراً إلى أنّه ليس هنا شيء يمكن ردّه إلى مالكه، وبقاء اللون لا دلالة فيه على بقاء مال المالك.

وربما يناقش في ذلك، بأنّه لا يصدق التلف هنا لا حقيقة ولا حكماً; لأنّ ملاك الأوّل هو ارتفاع وجود الشيء في الخارج بالكليّة، وملاك الثاني هو انتفاؤه في الخارج وزواله عرفاً، كالقطرة الواردة في البحر; فإنّها موجودة فيه، لكنّها محكومة بحكم التالف، وشيء من الملاكين لا يتحقّق في المقام;

( صفحه 136 )

ضرورة وجود الصبغ في الثوب حقيقة وحكماً، إلاّ أنّه لا يمكن استرداده إلى مالكه، وذلك لا يوجب صدق التلف عليه(1).

هذا، مضافاً إلى أنّ الارتكاز العقلائي هو: أنّ تولّد شيء من شيء يوجب إلحاقه به في الإضافة إلى مالكه، فثمرة الشجرة لمالكها وولد الحيوان لمالكه، ولا فرق في ذلك بين العين والأثر، فلا فرق بين مثل اللون كالبياض والسواد، وبين مثل طحن الحنطة وغزل الصوف وأشباههما، فاللون في المقام أثر الجوهر الذي كان ملكاً لمالكه وصار مغصوباً، فلا تجوز الصلاة في الثوب الملوّن به.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ الغاصب إذا أحدث في العين صفة محضة كانت كالصياغة، أو عينيّة كاللون، فليس له مطالبة المالك بشيء، وكذا المفلس إذا اشترى عيناً فأحدث فيها صفة محضة أو عينيّة ثمّ فلس، جاز للبائع أخذها، وليس للغرماء فيها شيء.

والظاهر أنّه لا فرق عندهم فيما ذكر بين أن لا تكون الصفة المذكورة موجبة لزيادة القيمة، وبين أن تكون، بل ربما قيل بأنّ عدم الاستحقاق في الصورة الاُولى ينبغي أن يعدّ من الضروريّات، واستظهر من الجواهر(2)الاتّفاق على عدم الاستحقاق في الصورة الثانية أيضاً، وأنّ الاستحقاق يختصّ بصورة كون الزيادة عيناً محضة، كالزرع والشجر(3).

  • (1) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 297.

  • (2) جواهر الكلام 37: 142، وج25: 313 و 316 ـ 317 (ط.ق).

  • (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 287 ـ 288.

( صفحه 137 )

ومقتضى ما ذكر معاملة التلف في مثل اللون; لأنّ نفي جواز مطالبة المالك بشيء وإن كان ظاهره عدم استحقاق شيء من الماليّة، إلاّ أنّ الظاهر كون مرادهم عدم ثبوت إضافة ملكيّة للغاصب في العين التي أحدثت فيها الصفة، فيجوز للمالك التصرّف فيه بأيّ نحو شاء، وهذا لا ينطبق إلاّ على فرض تحقّق التلف وصيرورة مال الغاصب تالفاً بالصبغ.

كما أنّ نفي ثبوت حقّ للغرماء في العبارة المذكورة في مورد المفلّس، مرجعه إلى عدم ثبوت حقّ وإضافة فيه أصلا ولو بالنسبة إلى المفلّس، فتدبّر.

هذا، ولكن استظهر في تقريرات صلاة المحقّق النائيني (قدس سره) من الأصحاب(1)أنّهم ذكروا فيما إذا أحدث الغاصب زيادة عينيّة موجبة لزيادة القيمة كالصبغ، يستحقّ بقدر تفاوت قيمة الثوب الناشىء من تفاوت زيادة العين لا الصفة، فلو كان قيمة الثوب عشرة دراهم، وكان قيمة الصبغ درهماً، وصار قيمة الثوب بعد الصبغ أربعة عشر درهماً، فيلقى ثلاثة دراهم التي هي بإزاء الصّفة، ولا يستحقّها الغاصب، ويصير الغاصب شريكاً مع المالك في الثوب بنسبة درهم إلى مجموع قيمته(2).

ومقتضى هذا الاستظهار ثبوت حقّ للغاصب مع المالك للصبغ، بل ثبوت الشركة في ملكيّة العين، وهذا يغاير ما استظهر من الجواهر ممّا مرّ من

  • (1) المبسوط 3: 77 ـ 78، تذكرة الفقهاء 2: 394 س2 (ط.ق)، مسالك الأفهام 12: 212، جواهر الكلام 37: 158 (ط.ق).

  • (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 297.

( صفحه 138 )

الاتّفاق على عدم الاستحقاق في مثل هذه الصورة.

وكيف كان، فالظاهر هنا كما في المتن من حكم العرف بتحقّق التلف وعدم بقاء شيء ممّا يتعلّق بمالك الصبغ بعد تحقّق الصبغ في هذا الفرض.

الفرع الثاني: هذه الصورة مع بقاء الجوهر الذي صبغ به في الثوب، وحكمه حكم الفرع الثالث الآتي.

الفرع الثالث: ما إذا خيط الثوب بخيوط مغصوبة، قال العلاّمة في محكيّ القواعد في هذه المسألة: فإن خيف تلفها لضعفها فالقيمة(1)، وعطف على ذلك في محكيّ جامع المقاصد قوله: ولو طلب المالك نزعها وإن أفضى إلى التلف وجب، ثمّ يضمن الغاصب النقص، ولو لم يبق لها قيمة غرّم جميع القيمة، ولا يوجب ذلك خروجها عن ملك المالك، كما سبق من أنّ جناية الغاصب توجب أكثر الأمرين، ولو استوعب القيمة أخذها ولم تدفع العين(2).

وعن المسالك في هذه المسألة: أنّه إن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة، ولا يخرج بذلك عن ملك المالك كما سبق، فيجمع بين العين والقيمة(3).

لكن عن مجمع البرهان في هذه المسألة: اختيار عدم وجوب النزع، بل قال: يمكن أن لا يجوز، ويتعيّن القيمة; لكونه بمنزلة التلف، وحينئذ يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخاط; إذ لا غصب فيه يجب ردّه، كما قيل بجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الذي حصل العلم به بعد إكمال

  • (1) قواعد الأحكام 2: 235.

  • (2) جامع المقاصد 6: 304 ـ 305.

  • (3) مسالك الأفهام 12: 178.

( صفحه 139 )

الغسل وقبل المسح(1).

واستجوده صاحب الجواهر (قدس سره) في هذه المسألة من كتاب الغصب; معلّلا له باقتضاء ملك المالك القيمة خروج المغصوب عن ملكه; لكونها عوضاً شرعيّاً عنه(2).

ومن العجيب تصريح صاحبي جامع المقاصد والمسالك بعدم خروج الخيوط عن ملك المالك، وتصريح صاحب الجواهر بخلافه، وأنّ ملك القيمة يقتضي خروج المغصوب عن ملكه، مع حكمهم بخلاف ذلك في مسألة بدل الحيلولة، حيث إنّه يظهر من الأوّلين خروجه عن ملك مالك المبدل، ومن الأخير الخلاف.

قال المحقّق الثاني في محكيّ جامعه: إنّ هنا إشكالا; فإنّه كيف تجب القيمة ويملكها بالأخذ ويبقى العبد على ملكه، وجعلها في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه(3).

وقال الشهيد الثاني (قدس سره) : إنّ هذا لا يخلو عن إشكال من حيث اجتماع العوض والمعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح، ولو قيل بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلا، أو توقّف ملك المالك للبدل على اليأس من العين ـ وإن جاز له التصرّف ـ كان وجهاً في المسألة(4).

  • (1) مجمع الفائدة والبرهان 10: 521.

  • (2) جواهر الكلام 37: 80 (ط.ق).

  • (3) جامع المقاصد 6: 261.

  • (4) مسالك الأفهام 12: 201.

( صفحه 140 )

وقال صاحب الجواهر بعد حكاية الكلامين: لكنّه مخالف لما عرفته من الاتّفاق المؤيّد بمعلوميّة عدم اعتبار توقّف ملكيّة المالك القيمة على الغاصب على خروج المغصوب عن قابليّة التملّك ـ إلى أن قال: ـ فالقيمة المدفوعة حينئذ مملوكة، والعين باقية على الملك; للأصل، ولأنّها مغصوبة، وكلّ مغصوب مردود، وأخذ القيمة غرامة للدليل الشرعي لا ينافي ذلك ـ إلى أن قال في الاستدلال على ذلك: ـ مضافاً إلى أصالة بقائه على ملكه، وإلى ما عرفته من الاتّفاق عليه، ولذا لم يذكروا خلافاً، بل ولا إشكالا في ملك نمائه المنفصل له.

ودعوى أنّه من الجمع بين العوض والمعوّض عنه الممنوع عنه شرعاً، واضحة الفساد(1).

وكيف كان، فمسألة صحّة الصلاة في الثوب المخيط بخيط مغصوب، وبطلانها يبتني على بقاء الخيط على ملك مالكه وعدمه، وصيرورته تالفاً عرفاً، والعمدة في هذه الجهة ملاحظة أنّ أدلّة(2) لزوم الغرامة هل تقتضي ثبوت معاوضة شرعيّة قهريّة، أم لا؟ والظاهر هو الثاني; لظهور دليل الغرامة في لزوم تدارك ما فات عن المالك بسبب التصرّف في العين المغصوبة، أو كونها بيده.

ومن الواضح: أنّ ما فات عن المالك في مسألة الخيوط ليس إلاّ الأوصاف

  • (1) جواهر الكلام 37: 130 ـ 132 (ط.ق).

  • (2) عوائد الأيّام: 83 ، العناوين 2: 440 ـ 443، القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي 1: 269 ـ 277، القواعد الفقهيّة للمؤلّف (قدس سره) : 219 ـ 228.

( صفحه 141 )

التي لها دخل في الماليّة.

وأمّا الملكيّة، فهي باقية بحالها; ضرورة عدم دورانها مدار الماليّة، فملكيّة المغصوب منه للقيمة بدلا لا تقتضي زوال ملكيّته عن الخيوط المغصوبة، بل هي بعد باقية على ملكها.

ويدلّ على عدم كون الغرامة ملازمة لتحقّق المعاوضة، وضوح ثبوتها مع التلف الحقيقي للعين، مع أنّه لا يعقل هناك معاوضة، فالغرامة لا دلالة لها على المعاوضة، وأدلّة نفي الضرر(1) بناءً على ارتباطها بباب الأحكام الشرعيّة قاصرة عن إفادة الملكيّة، خصوصاً مع كون مقتضى الأصل أيضاً البقاء على ملك المالك، فالإنصاف هو البطلان في مسألة الصلاة.

الفرع الرابع: الفروع التي نفى الإشكال عن الصحّة فيها في المتن، والوجه في الحكم بها واضح; لأنّ منع الأجير كالصبّاغ والخيّاط عن اُجرته لا يوجب حقّاً له في العين أصلا، وهكذا سائر الفروض.

  • (1) عوائد الأيّام: 43، العناوين 1: 304، القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي 1: 211، الرسائل للإمام الخميني (قدس سره) : 6.

( صفحه 142 )

اعتبار كون لباس المصلّي مذكّى

الثالث: أن يكون مذكّى من مأكول اللحم، فلا تجوز الصلاة في جلد غير المذكّى، ولا في سائر أجزائه التي تحلّه الحياة ولو كان طاهراً من جهة عدم كونه ذا نفس سائلة، كالسمك على الأحوط، وتجوز فيما لا تحلّه الحياة من أجزائه، كالصوف والشعر والوبر ونحوها 1 .

1 ـ ظاهر المتن: أنّ اعتبار التذكية في لباس المصلّي، وكونه من غير ما يحرم أكل لحمه، يرجع إلى اعتبار أمر واحد، ومدخليّة شيء فارد، مع أنّ الظاهر من كلمات الأصحاب (قدس سرهم) أنّ هنا أمرين:

أحدهما: اعتبار التذكية في مثل الجلد الذي يتّخذ لباساً ويصلّى فيه.

والآخر: عدم كونه من غير المأكول ولو لم يعرض له الموت، كما إذا صلّى في وبره أو شعره مثلا، ولأجله نتكلّم نحن في أمرين:

الأوّل: اعتبار عدم كونه من أجزاء الميتة، ولا إشكال في أصل الحكم ولا خلاف ظاهراً، بل عن كثير من الكتب الفقهيّة دعوى الإجماع عليه(1)، ولم ينقل الخلاف فيه من أحد ولو بنحو الإجمال، ولأجله اعترض(2) على الشهيد في الذكرى ـ حيث استثنى «من شذّ»(3) ـ بأنّه لم يعلم المراد منه;

  • (1) الخلاف 1: 60 ـ 62 مسألة 9، غنية النزوع: 66، المعتبر 2: 77، منتهى المطلب 4: 202، تذكرة الفقهاء 2: 463 مسألة 117، جامع المقاصد 2: 80 ، مجمع الفائدة والبرهان 2: 93، مدارك الأحكام 3: 157، مفاتيح الشرائع 1: 108، مفتاح الكرامة 5: 456، جواهر الكلام 8 : 81 ، مستمسك العروة الوثقى 5: 296، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 148.

  • (2) المعترض هو صاحب مفتاح الكرامة 5: 456 ـ 457، وجواهر الكلام 8 : 82 .

  • (3) ذكرى الشيعة 3: 28.