أمّا من حيث السند ، فما رواه أحمد بن حنبل قال : حدّثنا عبدالله ، حدّثني أبي ، حدّثنا أبو بكر ، حدّثنا عاصم ، عن زرّ بن حبيش ، عن عبدالله بن مسعود قال : إنّ الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، فابتعثه برسالته ، ثمّ نظر في قلوب العباد ، بعد قلب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيّه ، يقاتلون في دينه ، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيّئاً فهو عند الله سيّء(1) .
والحديث وإن كان روي بطرق متعدّدة ، إلاّ أنّ الصحيح أنّه موقوف على ابن مسعود .
وقال بعض العامّة : الحديث موقوف عن عبدالله بن مسعود ، أخرجه أحمد في مسنده(2) ، وبزاز في باب الإجماع في الكبير ، والحاكم في كتاب معرفة الصحابة(3)باب فضائل أبي بكر(4) .
وقد نقل السيوطي وابن نجيم عن العلائي : ولم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلا ، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنّما هو من قول عبدالله بن مسعود موقوفاً عليه ، أخرجه أحمد في مسنده(5) . فالحديث من حيث السند ضعيف، بل ليس بحديث .
- (1) مسند أحمد 2 : 16 ح3600 .
(2) مسند أحمد 2 : 16 ح 3600 .
(3) المستدرك على الصحيحين 3: 83 ح4465.
(4) هامش روضة الناظر وجنّة المناظر : 384 .
(5) الأشباه والنظائر في الفروع : 63 ، الأشباه والنظائر لابن نجيم : 79 .
«دلالة الحديث»
هذا الحديث الّذي ربما يتمسّك به لذلك على فرض صحّته ، لا يدلّ على حجّية العادة واعتبارها دليلا شرعيّاً لإثبات حكم شرعي ، وليس كلّ حسن عند الناس حسناً واقعاً أو شرعاً ، وإن حسن العمل به مداراة ومجاملة مع أبناء جنسه أو أبناء وطنه ، والعادة التي هي عبارة عن تكرار العمل عند طائفة أو اُمّة من العقلاء ليس لها أيّ علاقة بالشرع لتكون دليلا على حكم من أحكامه ،
وإن لم يكن فيه نصّ .
فلوكان أكل لحم الأرنب أو شرب النبيذ مثلا لم يرد فيه نصّ وكان عادة طائفة من المسلمين كأهل البادية مثلا على أكله ، فهل يمكن أن نستدلّ بعادتهم على حلّيته؟
نعم ، يمكن أن تكون العادة قرينة ينصرف إليها الإطلاق في مقام المعاملات والاستعمالات ، فيحمل عليها كلام المتعاقدين لتعيين الموضوع لا الحكم ، مثلا لوكان من عادة بلد ، أنّ الحمّال يحمل المتاع إلى باب الدار ، فاستؤجر حمّال فلاحقّ للمستأجربمطالبته بإدخال المتاع إلى داخل الدار ، ولو انعكس الأمر كان له المطالبة ، وإن لم يشترط ذلك في العقد ، فالعادة قرينة تقوم مقام اللفظ في تعيين المراد .
ولعلّ إلى هذا يرجع أيضاً قضية العرف العام والعرف الخاصّ ، وأنّ كلام المتكلّم يحمل على عرفه العام أو العرف الخاص . قال بعض الفقهاء : فالعادة عند الإماميّة لا يعتبر بها ، ولا تصلح لإثبات حكم شرعيّ(1) . ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ كلّ أصل لم يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم (عليهم السلام) لا يجوز
- (1) تحرير المجلّة 1 : 31 ـ 32 .
الاعتماد عليه ، ولا الركون إليه :
منها : في الصحيح عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول ، وعليكم أن تفرّعوا»(1) . ومثله ما رواه البزنطي(2)
عن الرضا (عليه السلام) .
ولا يخفى ما في الخبرين المذكورين من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك فيهم (عليهم السلام) ، فكأنّه قال : تأصيل الاُصول الشرعيّة للأحكام علينا ، لا عليكم ، وإنّما عليكم التفريع عليها(3) . نعم ، إذا جرت عادة العرف على شيء في عهد الشارع وزمنه ، وحصل ذلك بمرأى منه ومسمع ، ومع هذا لم ينه ولم يردع عنه مع قدرته وعدم المانع له عن النهي والردع ، كان هذا إمضاء من الشارع ; لأنّه قد التقى مع العرف في هذا المورد بالذات ، ولا يكون هذا عملا بالعرف ، بل أخذاً بالسنّة التي تشمل قول الشارع وفعله وتقريره(4) .
وسيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء من هذا القبيل ، لا يمكن الاعتماد عليها مع قطع النظر عن كونها ممضاة للشارع(5) .
واعلم أنّ بعض أهل السنّة استدلّ أيضاً على اعتبار العرف بقوله سبحانه وتعالى : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}(6) . والعرف هو العادة ، وحيث إنّ الله تعالى أمر نبيّه (صلى الله عليه وآله) أن يأمر بالعرف ، فهذا الأمر دليل على اعتبار العرف عنده تعالى(7) .
- (1 و 2) وسائل الشيعة 18 : 41 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح51 و 52 ، بحار الأنوار 2 : 245 ح53 ، 54 ، السرائر لابن ادريس 3:575 .
(3) الحدائق الناضرة 1 : 133 ، وسائل الشيعة 18 : 41 .
(4) فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 6 : 123 ، منابع اجتهاد : 397 ، تحرير اُصول فقه المظفر : 194 .
(5) مصباح الفقاهة 2 : 158 .
(6) الأعراف : 199 .
(7) الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق 3 : 276 ، المواهب السنيّة المطبوع في هامش أشباه النظائر في الفروع : 122 ، العرف 1 : 180ـ 183 .
وقال بعض آخر : وفي قوله تعالى : {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} إشارة صريحة إلى اعتبار العرف في الأحكام الشرعيّة ، واحترام العادة في التعامل ، ما لم يعارضهما نصّ صريح من القرآن أو الحديث(1) .
وفي تفسير المنار في قوله تعالى : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} : والأمر به في هذه
السورة ـ الأعراف ـ المكّية التي نزلت في اُصول الدين وكليّات التشريع تثبت لنا أنّ العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينيّة والتشريع الإسلامي ، وهو مبنيّ على اعتبار عادات الاُمّة الحسنة وما تتواطأ عليه من الاُمور النافعة في مصالحها .
الأمر بالعرف وهو ماتعارفه الناس من الخير وفسّروه بالمعروف، وأنّ المعروف في هذه الآيات { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ . . . وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ . . .إلخ {(2). ـ هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات ، ومن المعلوم بالضرورة أنّه يختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد والأوقات ، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس مخالف لنصّ كتاب الله تعالى(3) .
وفيه : أنّ العرف في الآية بمعنى المعروف من السنن والسير الجميلة الجارية ، وحسن في العقل ، أو الشرع فعله ، ولم يكن منكراً ولا قبيحاً عند العقلاء ، كما
- (1) الجدول في إعراب القرآن 9 : 158 .
(2) البقرة : 233 .
(3) تفسير المنار 9 : 534 ، 536 .
قال به كثير من المفسّرين من العامّة والخاصّة(1) .
فمقتضى قوله تعالى : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أن يأمر بكلّ معروف ، وأن لا يكون نفس الأمر بالمعروف على وجه منكر ، لا أن يكون العرف بمعنى العادة . وقوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي المتعارف من حالهما(2) .
مع أنّه سيجيء إن شاء الله أنّ المرجع ـ في الموضوعات والمصاديق الخارجيّة التي لم يرد لها تحديد في الشرع ، وليست لها حقيقة شرعيّة ـ هو العرف ومنها النفقة واللباس .
ويمكن أن يستدلّ على حجّية العرف والعادة أيضاً بعدّة من الروايات :
منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له : بلغني أنّه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما ، فادّعاه ورثة الحيّ وورثة الميّت ، أو طلّقها ، فادّعاه الرجل وادّعته المرأة بأربع قضايا ، فقال : وما ذاك؟ قلت : أمّا أوّلهنّ : فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي ، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة ، ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل ، وما كان للرجال والنساء بينهما نصفين ، ثمّ بلغني أنّه قال : إنّهما مدّعيان جميعاً ، فالذي بأيديهما جميعاً يدّعيان جميعاً بينهما نصفان ، ثمّ قال : الرجل صاحب البيت ، والمرأة الداخلة عليه ، وهي المدّعية ; فالمتاع كلّه للرجل ، إلاّ متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة .
- (1) جامع البيان في تفسير القرآن 9 : 106 ، الجامع لأحكام القرآن 7 : 346 ، الجواهر الحسان 2 : 71 ، مجمع البيان 4 : 380 ـ 381 ، المفردات : 331 ـ 332 ، الميزان 8 : 380 .
(2) الميزان 2 : 240 .
ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك ، لولا أنّي شهدته لم أروه عنه ، ماتت امرأة منّا ولها زوج وتركت متاعاً ، فرفعته إليه ، فقال : اكتبوا المتاع ، فلمّا قرأه قال للزوج : هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلاّ الميزان ، فإنّه من متاع الرجل فهو لك .
فقال (عليه السلام) لي : فعلى أيّ شيء هو اليوم؟ فقلت : رجع ـ إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي : ـ أن جعل البيت للرّجل ، ثمّ سألته (عليه السلام) عن ذلك ، فقلت : ما تقول أنت فيه؟ فقال : القول الذي أخبرتني : أنّك شهدته وإن كان قد رجع عنه ، فقلت : يكون المتاع للمرأة؟ فقال : أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم تحتاج ؟ فقلت : شاهدين ، فقال : لو سألت من بين لابتيها ـ يعني : الجبلين ، ونحن يومئذ بمكّة ـ لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يُهدى علانيةً من بيت المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به ، وهذا المدّعي فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة(1) .
يستفاد من هذه الصحيحة أنّ العادة إن كانت جارية على زفّ المرأة مع المتاع من مالها إلى بيت الرجل بحيث لو سئل الناس عن حكم الواقعة لأخبروا بموجبها ، حكم بمقتضى تلك العادة ، وتجعل تلك ظهوراً متّبعاً شرعاً ، في صورة التنازع حاكماً على الأصل، بل اليد أيضاً، إذ لو خلى وطبعه حكم بها للرجل إذا كان مالكاً للدار، لأنّ مالك الدار مع ما فيها داخل تحت يده.
فإذا كانت العادة على زفّ المرأة مع المتاع خرجنا بها عن حكم اليد تقديماً للظهور على اليد. ومن هنا يظهر أنّ الحكم كذلك في جميع الموارد ; لأنّه في قوّة المنصوص العلّة لا مطلق الظهور الناشئ من استقرار مطلق العادة(2) .
وأنّ السيّد اليزدي قال ـ في تنازع الزوجين في متاع البيت مع بقاء الزوجيّة ،
- (1) الكافي 7 : 131 ح1 ، تهذيب الأحكام 6 : 298 ح831 ، وسائل الشيعة 17 : 523 ـ 524 باب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح1 .
(2) كتاب القضاء للمحقّق الرشتي 2 : 299 ـ 300 .
أو بعد زوالها ، أو تنازع وارثاهما ، أو وارث أحدهما مع الآخر ـ ففي المسألة أقوال ، وذكر خمسة أقوال ، وقال : الثاني : إنّ الجميع للمرأة إلاّ ما أقام الرجل عليه البيّنة ، واستدلّ بهذه الصحيحة(1) .
ويلاحظ عليه : أنّ غاية ما يثبت بها حجّية العرف والعادة في موردها على أنّ هناك روايات أُخرى معارضة لهذه الصحيحة ـ كما سنذكرها ـ .
ثمّ إنّ العرف لو كان من الأعراف القديمة المتّصلة بعصر الأئمّة (عليهم السلام) ولم يثبت منهم ردع له فهو من السنّة ولا بأس بالأخذ به .
وأمّا الروايات المعارضة : فعن رفاعة النخّاس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا طلّق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسّم بينهما ، قال : وإذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها وادّعى الرجل أنّ المتاع له كان له ما للرجال ، ولها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسّم بينهما . ومثله ما عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) (2) .
فمنها : صحيحة اُخرى لعبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل والمرأة يهلكان جميعاً ، فيأتي ورثة المرأة فيدّعون على ورثة الرجل الصداق؟ فقال : وقد هلك وقسّم الميراث؟ فقلت : نعم ، فقال : ليس لهم شيء ، قلت : فإن كانت المرأة حيّة فجاءت بعد موت زوجها تدّعي صداقها؟ فقال : لا شيء لها وقد أقامت معه مقرّة حتّى هلك زوجها ، فقلت : فإن ماتت وهو حيّ فجاء ورثتها يطالبونه بصداقها؟ قال : وقد أقامت حتّى ماتت لا تطلبه؟ فقلت : نعم ، قال : لا شيء لهم ، قلت : فإن طلّقها فجاءت تطلب صداقها؟ قال : وقد أقامت لا تطلبه حتّى طلّقها؟ لا شيء لها . قلت : فمتى حدّ ذلك الذي إذا طلبته لم يكن لها؟
- (1) العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 141 .
(2) وسائل الشيعة 17 : 525 باب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح3 و 4 .
قال : إذا اُهديت إليه ودخلت بيته وطلبت بعد ذلك فلا شيء لها ، إنّه كثير لها أن يستحلف بالله ما لها قبله من صداقها قليل ولا كثير(1) .
ومنها : رواية محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يتزوّج المرأة ويدخل بها ثمّ تدّعي عليه مهرها ، قال : إذا دخل عليها فقد هدم العاجل(2) .
يستفاد من هذين الروايتين أنّ العادة كانت جارية قديماً على عدم التمكين إلاّ بعد استيفاء المهر ـ فهذه العادة حجّة ما كانت متّبعة في بلد(3) إذ لو لم تكن حجّة لما قدّم (عليه السلام) قول الزوج وورثته على قول الزوجة وورثتها ، مع أنّ الأصل عدم أداء الصداق ، واستصحاب اشتغال ذمّة الزوج .
ولذا قال جماعة من أصحابنا : إذا كانت العادة جارية مستمرّة في المدينة بقبض المهر كلّه قبل الدخول ، واختلف الزوجان بعد تسليم نفسها في قبض المهر ، كان القول قول الزوج وعليها البيّنة(4) .
قال الشيخ : فإذا اختلفا ـ أي الزوجان في تسليم المهر والنفقة ـ فالقول
قولها فيهما عند بعضهم ، وقال بعضهم : القول قول الزوج لأنّ الظاهر يشهد له ،
فإنّ العرف أنّها ما سلّمت نفسها حتّى قبضت المهر ، وبهذا تشهد روايات
أصحابنا(5) .
قال الشهيد : يجوز تغيّر الأحكام بتغيّر العادات ، كما في النقود المتعاورة(6)
- (1) الكافي 5 : 388 ح2 ، وسائل الشيعة 15 : 15 باب 8 من أبواب المهور ح8 .
(2) الكافي 5: 385 ح2 ، تهذيب الأحكام 7: 360 ح1462،وسائل الشيعة 15: 14 باب 8 من أبواب المهور ح6.
(3) كشف اللثام 2 : 93 ، جواهر الكلام 31 : 133 ، وسائل الشيعة 15 : 16 باب 8 من أبواب المهور ح 6 و 8 .
(4) الخلاف كتاب النفقات 5 : 116 القواعد والفوائد 1 : 152 ، الروضة البهية 5 : 376 ، كشف اللثام 2 : 93 ، جواهر الكلام 31 : 133 ، 139 ، الفقه 67 : 200 ، تحرير الوسيلة 2 : 301 مسألة 18 .
(5) المبسوط 6 : 16 ، وسائل الشيعة 15 : 15 باب 8 من أبواب المهور ح7 .
(6) التعاور : التداول .
والأوزان المتداولة ونفقات الزوجات والأقارب ، فانّها تتّبع عادة ذلك الزمان الّذي وقعت فيه ، ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق ، فالمرويّ تقديم قول الزوج ، عملا بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول ، ومنه إذا قدّم شيئاً قبل الدخول كان مهراً إذا لم يسمّ غيره تبعاً لتلك العادة ، فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة ، واحتساب ذلك من مهر المثل(1) . وهذا حسن مع عدم وجود هذا الظاهر . وأنّ العرف مرجع في الموضوعات كما سيجيء .
ومنها : الروايات الدالّة على أنّ سكوت الفتيات الباكرات رضىً عن استئذان وليّها لها في تزويجها ، وعن الصادق (عليه السلام) : «فإن سكتت فهو إقرارها»(2) .
ومن طرق العامّة عن عائشة قالت : سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) : نعم تستأمر ، قالت عائشة فإنّها تستحي فتسكت ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ذاك إذنها إذا سكتت»(3) . وفي رواية اُخرى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها»(4) ، وفي نقل آخر: «والبكر رضاها صمتها»(5) .
كيفية الاستدلال بها : فإنّ العادة والعرف قاضية بكون السكوت هنا رضاً ، إذ حياء المرأة البكر يمنعها عن النطق(6) ، فهو يدلّ على حجّية العادة والعرف في الجملة ، أي في مورد النصّ .
وأفتى كثير من الفقهاء على أنّ البكر سكوتها رضاها ، كابن أبي عقيل
- (1) القواعد والفوائد 1 : 151 ـ 152 .
(2) الكافي 5 : 395 ح3 ، من لا يحضره الفقيه 3 : 251 ح1196 ، تهذيب الأحكام 7 : 386 ح1550 .
(3 و 4) السنن الكبرى 7 : 122 ـ 123 .
(5) سنن ابن ماجة 1 : 602 ح1872 .
(6) مختلف الشيعة 7 : 129 .
والشيخ(1) وابني حمزة(2) والبرّاج(3) والعلاّمة(4) وغيرهم .
والجواب عن هذه الروايات: أنّ هذه الأعراف لو كانت قديمة متّصلة بزمن المعصوم عليه الصلاة والسلام من دون ردع منه لها ـ مع عدم مانع يمنعه من ذلك ـ فهي حجّة باعتبار إمضاءها من قبل الشارع المقدّس، فتكون من السنّة المقرّرة من ناحيته صلوات الله تعالى عليه، كما ذهب إليه العلاّمة(5)، ولا يمكن استفادة حجّية مطلق العرف والعادة منها ولو كانت مستحدثة غير متّصلة بزمن المعصوم (عليه السلام) . مع أنّ الكلام في حجّية مطلق العادة والعرف لا خصوص المتّصلة بعصرهم (عليهم السلام) والممضيّة عندهم .
هذا ، مع أنّ سكوت الفتيات الباكرات رضى عن استئذان وليّها لها من باب تشخيص الموضوع ، الذي مرجعه إلى العرف .
ويستدلّ على حجّية العرف والعادة أيضاً بأنّه يستفاد منها الظنّ ، وأنّ العمل بالظنّ واجب كالعلم(6) .
قال العلاّمة : إنّه ـ أبي الصلاح الحلبي ـ احتجّ بأنّ العمل بالظنّ واجب كالعلم ، فإنّ جزئيّات الأحكام الشرعيّة أكثرها ظنّية ، وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل(7) .
ولا شكّ أنّه يحصل من الظاهر والعرف والعادة الظنّ ، والظنّ كالعلم ، فالعلم
- (1) النهاية : 464 ، المبسوط 4 : 162 ، 183 ، الخلاف 4 : 255 .
(2) الوسيلة : 300 .
(3) المهذّب 2 : 194 .
(4) مختلف الشيعة 7 : 128 .
(5) مختلف الشيعة 7 : 322 .
(6) الكافي في الفقه : 140 .
(7) مختلف الشيعة 1 : 322 .
مقدّم على الأصل ، فكذا الظنّ مقدّم عليه .
ونقل عن الحلبي أنّ المراد من العلم في موثّقة عمّار ، عن الصادق (عليه السلام) : «كلّ
شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر»(1) أعمّ من اليقين والظنّ مطلقاً مستنداً إلى سبب شرعي أم لا(2) . وقال العلاّمة في اختلاف الزوجين في قدر المهر : وليس ببعيد من الصواب تقديم من يدّعي مهر المثل ، فإن ادّعى النقصان وادّعت الزيادة تحالفا ورد اليه(3) .
وفيه أوّلا : الإشكال حقيقة في اعتبار هذا الظنّ الذي يستفاد من العرف والعادة(4) ; لأنّ العمل بمطلق الظنّ ليس بمطّرد ، بل المعتبر الظنّ المخصوص الذي أقامه الشارع مقام العلم ، ولم يثبت أنّ هذا الظنّ من القسم المعتبر(5) .
وثانياً : أنّ الأصل الابتدائي والقاعدة الأوّلية في الظنّ عدم حجّيته مطلقاً ، ولا يجوز أن يعوَّل عليه في إثبات الواقع لقوله تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(6) .
وثالثاً : ما بلغنا من ذمّ العمل بالظنّ والنهي عن التديّن به; من الأخبار القطعية والآيات الشريفة الجليّة كقوله تعالى : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(7) .
وقول الصادق (عليه السلام) في رواية مفضّل بن عمر ، حيث قال سمعت أباعبدالله (عليه السلام)
- (1) تهذيب الأحكام 1 : 285 ح832 ، وسائل الشيعة 2 : 1054 باب 37 من أبواب النجاسات ح4 .
(2) الحدائق الناضرة 1 : 137 .
(3) قواعد الأحكام 2 : 44 .
(4) كشف اللثام 1 : 588 ، طبع جديد .
(5) جامع المقاصد 1 : 238 ، رسائل المحقّق الكركي 2 : 238 .
(6) يونس : 36 .
(7) الأنعام : 116 .
يقول: «من شكّ أو ظنّ وأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة»(1) .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الكذب»(2) .
والخروج عن القاعدة الأوّلية يحتاج إلى دليل ، وأنّ الخارج هو ظنون مخصوصة(3) .
ورابعاً : أنّ المراد من العلم في موثّقة عمّار هو اليقين أو الظنّ القائم مقام العلم ، جمعاً بين الأخبار الدالّة على حجّية البيّنة وصحيحة زرارة قال . . . : قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه(4) ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لِمَ ذاك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً . . .(5) .
حيث إنّه (عليه السلام) فرض صورة الظنّ كالشكّ وحكم بعدم اعتبار الظنّ ، وجعل الشكّ والظنّ في مقابل اليقين .
- (1) الكافي 2 : 397 ح8 ، وسائل الشيعة 18 : 25 ، باب 6 من أبواب صفات القاضي ح8 .
(2) وسائل الشيعة 18 : 38 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح42 .
(3) عوائد الأيّام : 380 ـ 382 .
(4) أي ظننت دم رعاف أصاب ثوبي .
(5) تهذيب الأحكام 1 : 422 ح1335 ، وسائل الشيعة 2 : 1061 باب 41 من أبواب النجاسات ح1 .
المبحث الثالث :
مرجعيّة العرف في الموضوعات والمفاهيم
وفيه مطالب :
أ ـ مرجعية العرف في الموضوعات
الموضوع الذي تعلّق به الحكم من الشارع ابتداءً أو بواسطة أخذ المكلّفين له عنواناً في معاملاتهم ، قد يكون هذا محدوداً من أصل الشرع مضبوطاً وتعبّدياً وله حقيقة شرعية ، وقد يكون غير محدود ولا مضبوط .
وأمّا ما كان محدوداً وتعبّدياً في الشرع ; سواء كان محدوداً بالزمان كالرضاع ، وسنّ البلوغ ، وسنّ اليأس ، وأقلّ الحيض وأكثره ، وأقلّ الطهر وأكثر النفاس ، أو المسافة كالقصر ونحو ذلك .
أو بالوزن ، كالكرّ بالأرطال ، والدينار في كفّارة وطء الحائض ، ومدّ الصدقات في مواضع ، ونصاب النقدين والغلاّت ونحوها .
أو بالمساحة ، كالكرّ ، وبُعد البالوعة بالأذرع ، و حدود أعضاء الوضوء والتيمّم ، وبعد الرجل عن المرأة بعشرة أذرع في الصلاة ، ومسافة القصر
ونحو ذلك .
أو بالعدد ، كنُصب الشاة والإبل والبقر ، وأعداد الرضعات، وأعداد الطواف والسعي وغير ذلك ، أو بغير ذلك من التحديد بالهيئة ونحوه ، كتحديد الركوع ببلوغ أطراف الأصابع إلى الركبة ونظائرها .
فهي مأخوذة على سبيل التحقيق والمداقّة لا يتسامح فيه ، ولا يجري طريق أهل العرف به(1) .
وأمّا ما لم يرد تحديد في الشرع ، وليس له حقيقة شرعيّة في الموضوعات ، فالمرجع في تحديد هذه الموضوعات موكول إلى العرف ، كما في معنى الغسل ، والعصر ، وما لا ينقل في التطهير بالشمس ، ومعنى الدفن ، والصعيد ، والعورة في وجه ، والفعل الكثير ، والجهر والإخفات ، وكثير الشكّ والسهو ، وسوم الأنعام ، والإطعام ، ومنافاة المروءة ، ومعنى الفوريّة في الخيارات والشفعة ، وفي صدق الجار في الوصيّة ، وفي معنى الإحياء ، والعيب والغبن ، وحرز السارق ، والوطن ، والغناء ، وآلة اللهو ، والغصب، والمدّعي والمدّعى عليه ، والمكيل والموزون ، والمأكول والملبوس، والضرر وغير ذلك ممّا لا تحصى .
فإذا قال الشارع : الوطن كذا ، أو الغناء كذا ، أو آلة اللهو كذا ، فإنّه يرجع في تحديد هذه الموضوعات إلى العرف ; لانصراف اللفظ إلى ما يسمّى في العرف به ، فهل الوطن يحتاج إلى قصد الإقامة الدائمة ، أو يكفي فيه قصد إقامة خمس سنوات مثلا ؟ وهل الغناء يلزم أن يكون مطرباً ، أو أعمّ منه فيما كان له ترجيع ؟ وهل آلة اللهو تشمل بعض الآلات الحديثة ، أو خاصّة بمثل القانون والزمار وما أشبههما ، وإذا أوصى بتجهيزه بعد الموت وما يتبع ذلك فاللازم مراجعة الوصي للعرف في
- (1) القواعد والفوائد 1 : 152 ، العناوين 1 : 193 .
شؤون الميّت من الغسل والكفن والدفن والإطعام وجعل الفاتحة وغيرها(1) .
ثمّ العرف الذين ذكرنا أنّهم هم المرجع في حدود الموضوعات والأحكام والارتكازات ، إذا اختلفوا كان معنى ذلك عدم وجود العرف ، فالمرجع الاُصول العملية(2) .
نعم ، إذا كان هناك عرف في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) ، وعرف آخر في زماننا فالمعيار عرفهم (عليهم السلام) لا عرفنا ; لأنّهم المخاطبون ، ففهمهم هو الحجّة وعليه المشهور ، وإذا قال الشارع : لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن ، فما ثبت أنّه مكيل أو موزون في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بني عليه حكم الربا . وإن لم يكن مكيل أو موزون في عرفنا(3) وإن قال بعضهم ، فالمعيار والمدار فيها تعارف كلّ زمان بل كلّ بلد(4) .
ب ـ مرجعيّة العرف في المفاهيم
لا إشكال في أنّ المرجع في مفاهيم الألفاظ ومداليلها إنّما هو العرف العام ، سواء وافق عرف اللغة أو خالفه ، ولا عبرة باللغة إذا كان العرف العام على خلافها ، فإنّ الألفاظ تنصرف إلى مفاهيمها العرفية بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات .
فعند تعارض العرف واللغة في مفهوم اللفظ ، يحمل على المفهوم العرفي ، سواء كان أعمّ من المفهوم اللغوي ، أو أخصّ منه ; فلابدّ من الرجوع إلى العرف في تشخيص مفهوم الحنطة والزبيب والعنب والحطب والكرّ والفرسخ ونحو ذلك من
- (1) العناوين 1 : 220 ، جواهر الكلام 38 : 7 ، وج 40 : 107 و 371 ، فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 3 : 214 ، الفقه 100 : 176 ، تحرير اُصول الفقه للمظفر : 194 ، ردّ المختار على الدرّ المختار 7 : 409 .
(2) تحرير المجلّة 1 : 32 ، الفقه 100 : 186 .
(3) المكاسب : 192 ـ 193 طبع قديم ، جواهر الكلام 23 : 362 ـ 363 .
(4) مصباح الفقاهة 5 : 341 ، والمحكي عن أبي يوسف من أصحاب الرأي . رد المختار على الدرّ المختار 7 : 409 ـ 410 .
الموضوعات الخارجيّة ; لسيرة العقلاء وطريقتهم ، والشارع لم يحدث طريقة جديدة ، بل هو سيرة المتشرّعة أيضاً ، فتفيد رأي الشارع بالاستصحاب ، ولا يحتاج إلى الاستصحاب القهقرى حتّى يقال بأنّه ليس بحجّة .
مثلا لو قال : لا رضاع بعد فطام ، فهل «لا رضاع» يفيد الحكم الوضعي أو التكليفي أو كليهما ، فإنّ المرجع إلى العرف(1) .
قال بعض العامّة : وكلّ ما لم ينضبط شرعاً ولا وضعاً لغويّاً فللعرف رجوعه انجلى وذلك كالحرز في السرقة فيرجع فيه إلى العرف وكالمسافة بين الإمام والمأموم وكالتعريف في اللقطة(2) .
ج ـ شرائط مرجعية العرف
إنّ الاعتبار الشرعي للعرف مشروط بشرائط ، يجب توفّرها في العرف كي يكون مرجعاً في مثل هذه الموارد ، وتلك الشرائط تتلخّص في أربع نقاط :
1 ـ أن يكون العرف مطّرداً أو غالباً .
2 ـ أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرّفات قائماً عند إنشائها ، وهذا احتراز عن العرف الحادث ، فإنّه لا عبرة له بالنسبة إلى الماضي ، ويحمل معاني الكلام على العرف القائم حين صدور هذه التصرّفات . فإذا تغيّر العرف بعد ذلك في مفاهيم الألفاظ فلا عبرة للعرف الطارئ ، والنصّ الشرعي يحمل على المعنى العرفي الأوّل عند صدوره ، وكذلك في العرف العملي .
3 ـ أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه من المتكلّم والمتعاقدين .
4 ـ أن لا يعارض العرف نصّ شرعي بحيث يكون العمل بالعرف تعطيلا له ،
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 3 : 144 ، و 12 : 115 ، فوائد الاُصول 4 : 574 ، الفقه 100 : 176 .
(2) المواهب السنية : 132 ـ 133 ، الفوائد الجنيّة 1: 310 .
وإلاّ لم يكن عندئذ للعرف اعتبار ; لأنّ نصّ الشارع مقدّم على العرف ، كاسترقاق المدين الذي كان متعارفاً في جاهليّة العرب وعند الرومانيّين ، فجاء الإسلام بمنعه وأوجب النظر للمدين المعسر بنص القرآن { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة}(1) ونكاح الشغار : ـ وهو أن يتّفق شخصان فيزوّج كلّ منهما الآخر قريبته ، فتكون هي كمهر للاُخرى ـ وهو متعارف بين أهل البرّ في البلاد الشامية وغيرها ، والإسلام نهى عنه ; فإنّه أوجب في النكاح مهراً للمرأة تملكه هي(2) .
د ـ تخصيص العام وتقييد المطلق بالعرف
لا نزاع بين الفقهاء من العامّة والخاصّة أنّ العرف إذا كان مخالفاً لأدلّة الشرع وأحكامه الثابتة، التي لا تتغيّر باختلاف البيّنات والعادات لا يلتفت إليه ولا يعتدّ به ، بل يجب إلغاؤه كتعارف الناس شرب الخمور والتعامل بالربا واللعب بالميسر ولبس الحرير والذهب ، وكاسترقاق المدين الذي كان متعارفاً في جاهليّة العرب وعند الرومانيّين ، ونكاح الشغار: وهو أن يتّفق شخصان فيتزوّج كلّ منهما قريبة الآخر ، فتكون هي كمهر للاُخرى ، وهو متعارف في بلاد الشام وغير الشام ، وغير ذلك من الاُمور التي حرّمتها الشريعة ; لما يترتّب عليها من المفاسد الدينيّة والاجتماعيّة الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الظروف والعادات .
وأمّا إذا كان العرف لا يخالف دليلا من الأدلّة الشرعيّة ، ولا قاعدة من قواعده الأساسيّة من كلّ وجه ، بأن ورد الدليل عامّاً، والعرف القائم عند ورود النصّ العام خالفه في بعض أفراده ; فإنّ العرف معتبر إن كان عامّاً ومخصّص للعام إذا كان من
- (1) البقرة : 280 .
(2) المدخل الفقهي العام 2 : 873 ـ 888 .
الأعراف العامّة التي تصل إلى عصر المعصومين (عليهم السلام) لتصبح سنّة بالإقرار .
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك عقد الاستصناع ، فقد ثبت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه نهى عن بيع ما ليس عندك(1) ، ورخّص في السلم ، فهذا النصّ العام في منع كلّ أنواع البيع التي لا يكون المبيع فيها موجوداً في ملك البائع سوى السلم ، فعقد الاستصناع يشمله عموم النص المانع ، ولكن الاستصناع عقد قد تعارفه جميع الناس في كلّ البلاد للعرف الجاري فيه ، واعتبر هذا العرف مخصّصاً لعموم النصّ العام ، فكأنـّما ورد النص باستثناء الاستصناع ضمناً كما استثنى السلم صراحة ، وبقي العمل بالنص في غير ذلك من أنواع بيع المعدوم(2) .
قال الشهيد الثاني : تخصيص العموم بالعرف جائز ، وكذا بالعادة وشاهد الحال .
أمّا الأوّل ، فله صورتان :
إحداهما : أن يكون قد غلب استعمال الاسم العام في بعض أفراده ، حتّى صار حقيقة عرفيّة ، فهذا يخصّص به العموم بغير خلاف ، كما لو حلف أن لايأكل شواءاً ، اختصّت يمينه باللحم المشوي ، دون البيض وغيره ممّا يشوى .
وكذلك لو حلف على لفظ الدابّة والسقف والسراج والوتد ، لا يتناول إلاّ ما يسمّى في العرف كذلك ، دون الآدمي والسماء والشمس والجبل ، فإنّ هذه التسمية فيها هجرت حتّى صارت مجازاً .
- (1) وسائل الشيعة 12 : 374 باب 7 من أبواب أحكام العقود ح2 .
(2) تحرير المجلة 1 : 33 ـ 34 ، تحرير اُصول الفقه : 194 ، فقه الإمام جعفر الصادق 6 : 123 ، رسائل ابن عابدين 2 : 114 ، حاشية ردّ المختار 7 : 409 ، مقدّمة للحاوي الكبير : 103 ، المدخل الفقهي العام 2 : 874 ـ 888 و : 895 ـ 898 .
الصورة الثانية : أن لا يكون كذلك ، وهو نوعان :
الأوّل : ما لا يطلق عليه الاسم العام إلاّ مقيّداً به ، ولا يفرد بحال ، فهذا لايدخل في العموم بغير إشكال ، كخيارشنبر وتمر هندي، لا يدخلان في مطلق التمر والخيار ، كما لا يدخل ماء الورد في الماء المطلق .
والثاني: ما يطلق عليه الاسم العام ، لكن الأكثر أن لا يذكر معه إلاّ بقيد أو قرينة ، ولا يكاد يفهم عند الإطلاق دخوله فيها ، وفيه وجهان ، ويتفرّع عليهما مسائل :
منها : لو حلف أن لا يأكل الرؤوس ، فإنّه ينصرف إلى الغالب من رؤوس النعم ، وفي رؤوس الطير والجراد والسمك وجهان : أجودهما عدم الدخول . . .
ومنها : لو حلف أن لا يتكلّم ، فقرأ أو سبَّح ، ففي الحنث وجهان مرتّبان ، والأولى العدم .
وأمّا تخصيصه بالعادة : فيتحرّر بمسائل :
منها : لو استأجر أجيراً يعمل له مدّة معيّنة حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزمان ، دون غيره بغير خلاف .
ومنها : لو حلف أن لا يأكل من هذه الشجرة ، اختصّت يمينه بما يؤكل منها عادة ، وهو الثمر دون ما لا يؤكل عادة ; كالورق والخشب وإن جاز أكله .
وأمّا تخصيصه بشاهد الحال: فيظهر بمسائل، منها: فيما لو أذن مالك العقار المغصوب في الصلاة فيه على العموم أو مطلقاً ، فإنّ الغاصب لا يدخل لشهادة الحال بأنّ المالك إنّما يريد الانتقام من الغاصب والمؤاخذة ، لا الإذن له . وقد نصّ الأصحاب على عدم دخوله في إطلاق الإذن وعمومه .
ومنها : ما لو أوصى أو وقف على الفقراء ، فإنّه ينصرف إلى فقراء ملّة الموصي
والواقف ، لا جميع الفقراء ، وإن كان جمعاً معرّفاً مفيداً للعموم ، والمخصّص أيضاً شاهد الحال ، الدالّ على عدم إرادة فقراء غير ملّته(1) .
هذا تمام الكلام في حجّية العرف والعادة ، وقد حان الآن أن ندخل في صلب الموضوع الذي عقدنا له الباب الثالث .
- (1) تمهيد القواعد : 211 ـ 213 .
الفصل الثالث
في تحرير محلّ النزاع وأقوال الفقهاء
وفيه: ثلاثة مباحث
المبحث الأوّل :
محلّ النزاع في تعارض الأصل والظاهر
إنّ الظاهر إن كان ممّا قام الدليل على اعتباره فإنّه لا ريب في تقدّمه على الأصل ولزوم اتباعه كالبيّنة في الموضوعات ـ عند أكثر أصحابنا ، بل إجماع أصحابنا عدا ابن البرّاج(1) ـ والكتاب والسنّة في الأحكام ، وهكذا إن قام الدليل الخاص على تقديم الأصل ، فهو أيضاً يقدّم على الظاهر (2)، والشاهد على ذلك كلام الشهيد في ذلك، حيث قال: موضع الخلاف في تعارض الأصل والظاهر ليس عامّاً ، إذ الإجماع على تقديم الأصل على الظاهر ; في صورة دعوى بيع أو شراء أو دين أو غصب ، وإن كان المدّعي في غاية العدالة مع فقد العصمة ، وكان المدّعى عليه معهوداً بالتغلّب والظلم ، كما أجمعوا على تقديم الظاهر على الأصل في البيّنة الشاهدة بالحق ، فإنّ الظاهر الغالب صدقها ، وإن كان الأصل براءة ذمّة المشهود عليه ولهذا نظائر(3) :
منها : شهادة العدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه .
- (1) المهذب 1 : 30 ، جواهر الفقه : 9 .
(2) جامع الشتات 2 : 384 ، الأقطاف الفقهيّة : 45 ، العناوين 2 : 597 .
(3) القواعد والفوائد 1 : 140 ـ 141 .
ومنها : شهادتهما ببراءة ذمّة من علم اشتغال ذمّته بدين ونحوه .
ومنها : شهادتهما بدخول الليل للصائم ، وطلوع الفجر له ، ورؤية الهلال للصوم والفطر ، والنجاسة ، والطهارة ، ودخول وقت الصلاة ، حيث يجوز التقليد ، إن قدّمناهما على تقليد الواحد ، كما هو الظاهر ، ونحو ذلك .
ومنها : إخبار الواحد ذي اليد بطهارة ما بيده بعد العلم بنجاسته أو بالعكس ، وإن لم يكن عدلا .
ومنها : إخباره بعزل الموكِّل الوكيل ، فإنّه كاف وحده ، كما دلّت عليه صحيحة هشام بن سالم(1) .
ومنها : إخباره بدخول وقت الصلاة والفطر للمعذور ، كالأعمى ، والمحبوس ، ومن لا يعلم الوقت ، ولا يقدر على التعلّم ، إمّا مطلقاً ، أو مع تعذّر خبر العدلين كما مرّ .
ومنها : إخباره إذا كان مؤذِّناً بدخول الوقت بالأذان للمعذور، كما مرّ قطعاً ، ولغيره أيضاً على قول المحقّق(2) وبعض الأصحاب(3) استناداً إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «المؤذّنون اُمناء المؤمنين على صلواتهم وصومهم . . .»(4) .
ومنها : إخباره بكون «الجدي» من المستقبل على الجهة الموجبة للقبلة ، ونحوه من العلامات ، وإخباره بوصول الظلّ إلى محلّ مخصوص يعلم المخبر بأنّه يوجب دخول الوقت على قول بعض الأصحاب ، وإن لم يجز تقليده في نفس دخول الوقت .
- (1) من لا يحضره الفقيه 3 : 49 ـ 50 ح170 ، تهذيب الأحكام 6 : 213 ح503 .
(2) المعتبر في شرح المختصر 2 : 63 .
(3) نقله عن الموجز لأبي العبّاس في مفتاح الكرامة 2 : 44 .
(4) من لا يحضره الفقيه 1 : 190 ح905 ، وسائل الشيعة 4 : 619 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة ح7 .
ومنها : قبول قول الاُمناء ، ونحوهم ، ممّن يقبل قوله في تلف ما اُؤتمن عليه من مال وغيره .
ومنها : قبول قول المعتدّة في انقضاء عدّتها بالإقراء ، ولو في شهر واحد ، سواء كانت عادتها منتظمة بما يخالف ذلك أم لا ; وإخبارها بابتداء الحيض بها وانقطاعه عنها بعد العلم بخلافه ما لم يعلم كذبها ، ونحو ذلك ، وهو كثير جدّاً .
ومنها : إدّعاء المطلّقة ثلاثاً التحليل في وقت إمكانه مطلقاً ، أو مع كونها ثقة على رواية(1) ، أو إصابة المحلّل وإن أنكرها على الأقوى(2) .
فيستفاد من هذا الكلام أنّ محلّ الاختلاف ليس مطلق الظواهر والاُصول ، ويستفاد من كلام الجمهور أيضاً : أنّ محلّ الاختلاف في الظواهر والاُصول ليس عامّاً ، ولنذكر مسائل يقدّم الظاهر على الأصل ، ومسائل اُخر يقدّم الأصل على الظاهر ، فإذن نذكر أقوال الفقهاء في المسألة .
- (1) تهذيب الأحكام 8 : 34 ح105 ، وسائل الشيعة 15 : 370 باب 11 من أبواب أقسام الطلاق ح1 .
(2) تمهيد القواعد : 301 ـ 303 .
المبحث الثاني :
أقوال الفقهاء في تعارض الأصل والظاهر
فإنّهم اختلفوا على أقوال :
1 ـ تقديم الظاهر على الأصل.
2 ـ تقديم الأصل على الظاهر.
3 ـ تقديم أصالة الطهارة على الظاهر.
4 ـ التفصيل.
5 ـ التوقّف في المسألة.
القول الأوّل : تقديم الظاهر على الأصل
يستفاد ذلك من كلام أبي الصلاح الحلبي ، حيث قال : إذا ظنّ النجاسة في الثوب ثمّ صلّى ناسياً فسدت صلاته كالعلم(1) .
قال العلاّمة : إنّه احتجّ بأنّ العمل بالظنّ واجب كالعلم ،
فإنّ جزئيات الأحكام الشرعيّة أكثرها ظنّية ، وأنّ العمل بالمرجوح
- (1) الكافي في الفقه : 140 .
مع قيام الراجح باطل(1) .
ولاشكّ أنّه يحصل من الظاهر الظنّ ، والظنّ كالعلم ، فالعلم مقدّم على الأصل فكذا الظنّ مقدّم عليه .
والمنقول فيه : أنّ المراد من العلم في موثّقة عمّار ، عن الصادق (عليه السلام) كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر ... إلخ(2) أعمّ من اليقين والظنّ مطلقاً مستند إلى سبب شرعي أم لا(3) .
ويلاحظ عليه : بمنع الكبرى ـ كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى ـ وأنّ العمل بالمرجوح قبيح بعد ثبوت الدليل الراجح ، ومطلق الظنّ ليس بدليل(4) .
و أنّ المحقّق القمّي في أصل الدليل وحجّية العمل بالظنّ موافق لأبي الصلاح ، ولكن في تقديم الظاهر على الأصل أو العكس قائل بالتفصيل ، وحينئذ فنقل كلامه مع طوله لا يخلو من فائدة .
قال : إنّ القول بأنّ الأصل مطلقاً مقدّم على الظاهر لا برهان عليه ، بل فيه تفصيل: أمّا فيما كان الظاهر من الأدلّة المشهورة الشرعيّة والأمارات المنصوبة من قبل الشارع، كالخبر والشهادة والإقرار ونحو ذلك فلا إشكال فيه; أي في تقديمه على الأصل .
وأمّا فيما يستفاد من القرائن من العرف والعادة والشيوع والغلبة وغيرها، ففي بعض المواقع أيضاً وقع الاتّفاق عليه ، واختلف في كثير منها ، وتقديمه على الأصل في الشرع في غاية الكثرة ، كاليد اللاّحقة للملك السابق ، والحكم بحلّية اللحوق ،
- (1) مختلف الشيعة 1 : 322 .
(2) وسائل الشيعة 2 : 1054 ، باب 37 من أبواب النجاسات ح4 .
(3) الحدائق الناضرة 1 : 137 .
(4) غنائم الأيّام 1 : 479 .
والجلود في أيدي المسلمين ، والحكم بصحّة معاملاتهم وتناكحهم وتوارثهم ، وعدم اعتبار الشكّ بعد الوضوء، وبعد الصلاة، وبعد خروج الوقت إلى غير ممّا لايحصى ، وإن كان تقديم الأصل على الظاهر أيضاً في غاية الكثرة ، سيّما في أبواب الطهارة والنجاسة والأحداث .
والحقّ أنّ كلّ ذلك ممّا ثبت عليه الدليل بالخصوص في الموارد في تقديم كلّ منهما على الآخر ، ولذلك اختلفوا في بعضها ، كغسالة الحمّام، والجلود في أيدي المخالفين وغيرهما ; لتعارض أدلّة الطرفين بالخصوص ، فلنفرض الكلام فيما يعارض الأصل والظاهر ، ولم يكن دليل خاصّ على تقديم أحدهما من حيث خصوصيّة المادّة على الآخر ـ إلى أن قال ـ :
فحينئذ نقول : الإشكال والاختلاف في تقديم الظاهر على الأصل إنّما يصحّ إذا كان الظاهر أيضاً ممّا يجوز الاعتماد به شرعاً ، وإلاّ فلا معنى لمعارضة الدليل الشرعي بغير الدليل الشرعي ، وينبغي أن يعلم أنّ تقديم الظاهر على الأصل من غير اعتضاده بدليل شرعيّ ، كالفروض المتقدّمة موجود في الفقه ، والظاهر أنّه أيضاً اتّفاقيّ في الجملة ، فلابدّ من تحقيق معنى الظاهر ليكون قاعدة كلّية يمكن متابعة مقتضاها حين تعارضها مع الأصل .
والذي يحصل من التتبّع في الفقه أنّ القاعدة فيه ما حصل الظنّ بوجود السبب للحكم الشرعي في الخارج ، فيحصل الظنّ بحصول المسبّب ، وذلك الظنّ إمّا يحصل بسبب كون فعل المسلم محمولا على الصحّة ; يعني ليس بمعصية ، أو كون الغالب في أفعالهم ومعاملاتهم أو معاملات غالب الناس وإن لم يكونوا مسلمين هو ذلك ، أو غلبة الظنّ من جهة القرائن . . .
ولا يخفى على من تتبّع الفقه أنّ جعلهم الغلبة معياراً في الظهور وتقديم ذلك على الأصل فوق حدّ الإحصاء ، ويظهر من تتبّع الأخبار وكلام الأصحاب أنّ
المعيار فيه حصول الظنّ بوقوع سبب الحكم المخالف للأصل ، فتتبّع ولاحظ الأخبار الواردة في مسألة تداعي الزوجين في متاع البيت .
ومسألة غسالة الحمّام ، وحكمهم بلزوم الصلاة على ميّت وجد في دار الإسلام ; لأنّ الغالب فيها الإسلام ، وكذا استحباب التسليم على مجهول الحال فيها ، وردّ السلام على طريقة الإسلام وغير ذلك .
ثمّ قال : إنّ الظاهر من الشريعة والفتوى اعتبار الغلبة . . . وبالجملة تقديم الظنّ الحاصل من الغلبة على الأصل فوق حدّ الإحصاء ، وليس ذلك لخصوص الإجماع فيما قدّموه ولا دليل خاصّ ، كما يظهر من اختلافاتهم في الموارد ، بل إمّا من جهة حصول الظنّ بسبب الحكم المخالف لمقتضى الأصل ، أو لخصوص أنّه ظنّ حاصل من الغلبة . . . والمراد باليقين ـ لا تنقض اليقين بالشكّ في الاستصحاب ـ الذي ينقض به الشكّ لابدّ أن يكون ما هو أعمّ من الظنّ المعلوم الحجّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ارتباط بالفقه الخ(1) .
ومثله ما نقل عن شيخنا البهائي في كتاب «الحبل المتين» ، حيث قال ـ بعد أن صرّح أوّلا بأنّ ما ذكروه من أنّ اليقين لا يرتفع بالشكّ يرجع إلى استصحاب الحال إلى أن يعلم الزوال ، فإنّ العاقل إذا التفت إلى ما حصل بيقين ولم يعلم ولم يظنّ طروّ مايزيله حصل له الظنّ ببقائه ـ
ماصورته :«ثمّ لايخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئاً فشيئاً ، بل قديزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما يصير الطرف الراجح مرجوحاً ، كما إذا توضّأ عند الصبح مثلا وذهل عن التحفّظ ، ثمّ شكّ عند الغروب في صدور
- (1) جامع الشتات 2 : 384 .
الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقياً فالعمل عليه وإن ضعف»(1) .
ونقل صاحب الحدائق عن العلاّمة في المنتهى : أنّ من ظنّ الحدث وتيقّن الطهارة لا يلتفت ; لأنّ الظنّ إنّما يعتبر مع اعتبار الشارع له ; ولأنّ في ذلك رجوعاً عن المتيقّن إلى المظنون ، وقال بعده : «انتهى ، وفيه نظر لا يخفى على المتأمّل فيما تلوناه»(2) .
نقد وإشكال
إنّ ظاهر قضية الاستدراك في صحيحة زرارة «ولكن ينقضه بيقين آخر»(3)يوجب عدم اعتبار الظنّ، بل مساوقته للشكّ ، وهو المفهوم من جملة الأخبار الواردة في عدم معارضة الشكّ باليقين ، كما مضى في حجّية الاستصحاب .
مع أنّ قول الصادق (عليه السلام) : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(4) أو «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك»(5) تدفعه ، خصوصاً في الموضوعات، كما مضى في قاعدة الطهارة ، وتتبّع موارد الأحكام الشرعيّة الدالّة على ذلك في عدم غسل الرجل إذا خرج من الحمّام ، وطهارة منسوجات الكفّار وملبوساتهم وأوانيهم وما اُعير لهم ، والتوضأ من فضل وضوء
- (1) الحبل المتين : 1: 162 ـ 164 .
(2) الحدائق الناضرة 2 : 399 ، منتهى المطلب 1 : 234 .
(3) تهذيب الاحكام 1: 8 ح11، وفي وسائل الشيعة 1: 174 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح1: «إنّما ينقضه بيقين آخر».
(4) وسائل الشيعة 1 : 106 باب 4 من أبواب الماء المطلق ح2 .
(5) تهذيب الأحكام 1 : 285 ح832 .
المسلمين وغيرها ، مع عمل السلف من غير نكير ، ولزوم العسر والحرج(1) .
وسنذكره إن شاء الله تعالى بمزيد من البيان في ذلك .
ويستفاد من كلام المحقّق الثاني: أنّ الأكثر على ترجيح الظاهر ، حيث قال ـ في اختلاف الزوجين بعد الدخول في تقديم إسلامهما وعدمه ـ : فإنّ الأصل بقاء النكاح وعدم تجدّد المفسد .
والظاهر عدم التقارن ; لأنّ اتّفاق ذلك عزيز نادر . . . والبحث في ترجيح أيّهما على الآخر أصل معروف بين الفقهاء تبنى عليه من المسائل ما لا يكاد يتناهى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القضاء ما له مزيد بحث ، والأكثر على ترجيح الظاهر .
وقد يحتجّ له بأنّ الظاهر ناقل فيقدّم على الأصل ; لأنّه مقرّر ، وبأنّ صاحب اليد مقدّم وهو من قبيل الظاهر ، فاعتباره يشعر بقوّة جانب الظاهر في نظر الشارع .
وربما احتجّ على ترجيح الأصل بأنّهما لو اختلفا في السابق إلى الإسلام قبل الدخول قدّم قول المرأة في بقاء المهر; عملا بأصالة بقائه .
وجوابه ظاهر ، فإنّ أصالة بقاء المهر لا يعارضها ظاهر ، بخلاف ما هنا ، فعلى هذا ترجيح الظاهر أقوى(2) .
مؤيّدات هذا القول
وممّا يؤيّد هذا القول تقديم الظاهر على الأصل في كثير من الموارد في الفقه الإسلامي في الأبواب المختلفة من الطهارة والنجاسة والعبادات والعقود وغيرها ،
- (1) غنائم الأيّام 1: 479 ـ 480 .
(2) جامع المقاصد 12 : 479 .
ولنذكر بعضها :
أ ـ باب الطهارة و النجاسة :
فمنها : إذا بال وخرج البلل بعد البول وقبل الاستبراء ففي كونه بولا أو عدمه وجهان : الوجه الأوّل عدم كونه بولا للأصل ; الوجه الثاني كونه بولا للظاهر ، ورجّح الشارع فيه الظاهر على الأصل وحكم بكونه بولا(1) .
ومنها : أنّ المستحاضة المعتادة ترجع إلى عادتها ، وإن لم يكن لها عادة فإلى تمييزها ، وإن لم يكن لها عادة ولا تمييز رجعت إلى نسائها، ثمّ إلى الروايات ، على ما فصّل في محلّه ; لأنّ الظاهر مساواتها لهنّ ، وكون ما هو بصفة الحيض حيضاً بشرائطه الباقية ، مع أنّ الأصل عدم انقضاء حيضها حينئذ ، حيث قد علم ابتداؤه ، وعدم ابتدائه ، وبقاء التكليف بالعبادة حيث لا يعلم(2) .
ومنها : البلل الخارج من الفرج إذا لم يستبرئ ، فإنّه يحكم بنجاسته ، وإن كان الأصل فيما عدا النجاسات العشرة الطهارة ; لشهادة الظاهرة بأنّه من البول ، إن كان السابق بولا ، ومن المني إن كان منيّاً(3) . وإن بال بعد الغسل أو استبرأ بعد البول وخرج بعد ذلك شيء فليس ينقض غسله ولا وضوءه ، ولكنّه من الحبائل جمعاً بين الصحيحين لمحمّد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (4) .
ومنها : غيبة المسلم بعد نجاسته ، أو نجاسة ما يصحبه من الثياب ونحوها ، إذا
- (1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2 : 533 .
(2) تمهيد القواعد : 306 .
(3) تمهيد القواعد: 308.
(4) وسائل الشيعة 1 : 200 باب 13 من أبواب نواقض الوضوء ح5 وص225 باب 11 من أبواب أحكام الخلوة ح2 .
علم بها واعتقد نجاستها ; فإنّه يحكم بطهره إذا مضى زمان يمكنه فيه الطهارة ، عملا بظاهر حال المسلم ، أنّه يتنزّه عن النجاسة في ظاهر مذهب الأصحاب(1) وإن كان الأصل نجاسته ، إلاّ مع العلم ببقاء النجاسة.
ب ـ باب العبادات
فمنها : لو صلّى ثمّ رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة غير معفوّ عنها ، وشكّ هل لحقته قبل الصلاة أو بعدها ، وأمكن الأمران ؟ فالصلاة صحيحة وإن كان الأصل عدم انعقاد الصلاة عليها ، وبقاءها في الذمّة حتّى يتيقّن صحّتها ، لكن حكموا بالصحّة ; لأنّ الظاهر صحّة أعمال المكلّفين وجريانها على الكمال(2) .
ومنها : إذا ظنّ دخول الوقت ، ولا طريق إلى العلم ، لغيم وحبس ونحوهما ، فيجوز البناء على الظاهر والأمارات المفيدة للظنّ من الدخول وإن كان الأصل عدمه(3) ; لما روى أبو عبدالله الفرّاء ، عن الصادق (عليه السلام) قال : قال له رجل من أصحابنا : ربما اشتبه الوقت علينا في يوم الغَيْم؟ فقال : تعرف هذه الطيور التي عندكم بالعراق يقال لها الديكة؟ قلت : نعم ، قال : إذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت فقد زالت الشمس أو قال : فصلّه(4) . وبهذا المضمون رواية اُخرى(5) .
ومنها : ما لو اختلف البائع والمشتري في نقصان المبيع ، وكان المشتري قدحضر الكيل أو الوزن ، فإنّ القول قول البائع كما ذكروه ; لشهادة الظاهر له من
- (1) تمهيد القواعد : 308 ، كشف الأسرار في شرح الاستبصار 2: 200 ـ 201 .
(2) تمهيد القواعد : 305 و 306 .
(3) إيضاح الفوائد 1 : 74 ، جامع المقاصد 2 : 29 ، العروة الوثقى مع تعليقات للشيخ الفقيه الفاضل اللنكراني 1: 377 .
(4 و4) الكافي 3 : 287 ح2 و 5 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 143ـ 144 ح668 و 669 ، تهذيب الأحكام 2 : 255 ح1010 و1011 .
أنّ المشتري إذا حضر الاعتبار يحتاط لنفسه وإن كان الأصل عدم قبض الجميع ، ولو لم يحضر قدّم قوله; عملا بالأصل(1) .
ويمكن ردّ هذا الفرع إلى تعارض الأصلين مع شهادة الظاهر لأحدهما ، بأن يقال : إنّ المشتري عند قبضه للحق وقبل دعواه الاختبار كان يعترف بوصول حقّه إليه وقبضه إيّاه كمّلا ; فإذا ادّعى بعد ذلك النقصان كان مدّعياً لما يخالف الأصل ، إذ الأصل براءة ذمّة البائع من حقّه بعد قبضه ، ويخالف الظاهر أيضاً كما قلناه ، ولا يرد مثله لو لم يحضر الاعتبار ; لأنّه حينئذ لا يكون معترفاً بوصول حقّه إليه ; لعدم اطّلاعه عليه ، وإنّما اعتمد على قول غيره(2) .
ومنها : إذا شكّ الإمام بين الثلاث والأربع مع حفظ المأموم أنّه قرأ أربع ركعات ، لا اعتبار ولا اعتناء بشكّ الإمام ، مع أنّ الأصل عدم قراءة الأربع ; لقاعدة مشهورة : «أنّه لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم» وشمولها للمأموم مطلقاً ;
عادلا كان أم غير عادل ، رجلا كان أو امرأة ، بالغاً كان أو صبياً إذا كان مميّزاً ، خصوصاً إذا قلنا بشرعيّة عباداته ، إذ لا شكّ أنّ قول الصادق (عليه السلام) في مرسلة يونس : «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه بإيقان منهم» له إطلاق في حدّ نفسه يشمل الأقسام الثلاث أي : الفاسق والصبي والامرأة ; لأنّ عنوان «من خلفه» عنوان عام ينطبق على الأصناف الثلاث نحو انطباقه على ما يقابل هذه الأصناف . وأنّ العمل بهذه الرواية متفق عليه بين الأصحاب ولم يخالف أحد منهم ، كما قال به بعض الأعاظم(3) .
- (1) شرائع الإسلام 2 : 32 ، مسالك الأفهام 3 : 252 ، الحدائق الناضرة 19 : 184 ـ 185 ، جواهر الكلام 23 : 177 ، جامع المقاصد 4 : 406 ـ 407 ، مفتاح الكرامة 4 : 723 ، التنقيح الرائع 2 : 69 .
(2) تمهيد القواعد : 308 .
(3) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 2 : 239 .
ومنها : شكّ الصائم في النيّة بعد الزوال ، فإنّه لا يلتفت وإن كان الأصل عدمها ; عملا بالظاهر السابق من عدم إخلاله بالواجب ، ولو كان قبل الزوال وجب الاستئناف .
وهذا الفرع في معنى الشكّ في أفعال الصلاة بعد تجاوز محلّه ، فإنّ محلّ النيّة ما قبل الزوال في الجملة .
ويحتمل على السابق : الاكتفاء في عدم الالتفات بالشكّ فيها بعد الفجر مطلقاً ; لفوات محلّها الاختياري ، لكن لمّا أمكن استدراكها في الجملة وجب على الشاكّ فيها قبل الزوال التجديد ; عملا بالأصل مع سهولة الحال(1) .
ومنها : ما لو شكّ في دخول الليل للصائم ، حيث لا طريق إلى العلم ، فيجوز البناء على الظاهر والإفطار وإن كان الأصل عدمه .
ومنها : إذا ادّعى المالك في أداء الخمس والزكاة ونحو ذلك من العبادات المالية ، فظاهر الأصحاب سماع قول المالك في الأداء ، مع أنّ الأصل عدم أدائها(2) ، فيقدّم الظاهر على الأصل .
ج ـ باب العقود
فمنها : امرأة المفقود تتزوّج بعد البحث عنه أربع سنين على ما فصّل ; لأنّ الظاهر حينئذ موته وإن كان الأصل بقاءه .
وهل تثبت له أحكام الموتى مطلقاً أم للزوجة خاصّة؟ ظاهر الأصحاب والأخبار الثاني ، حتّى ورد الأمر بأنّ الحاكم يطلّقها بعد المدّة ، ثمّ تعتدّ بعده .
ووجه الأوّل : هو الأمر باعتدادها عدّة الوفاة ، فلو كان الحكم للطلاق
- (1) تمهيد القواعد : 305 .
(2) العناوين 2 : 615 ـ 616 .
لاعتدّت عدّته ، وجاز كون الطلاق احتياطاً للفروج .
وأمّا قسمة ماله ، فظاهر الأكثر توقّفه على مضيّ مدّة لا يعيش مثله إليها عادةً ، مع ما فيه من الخلاف المشهور ، المستند إلى اختلاف الروايات في التحديد(1) .
ومنها : لو ادّعت امرأة على رجل أنّه تزوّجها في يوم معيّن بمهر مسمّى ، وشهد به شاهدان ; ثمّ ادّعت عليه أنّه تزوّجها في يوم آخر معيّن بمهر معيّن ، وشهد به شاهدان ، ثمّ اختلفا ، فقالت المرأة : هما نكاحان ، فلي المهران ، وقال الزوج : بل نكاح واحد تكرّر عقده ، فالقول قول الزوجة ; لأنّ الظاهر معها(2) .
ومنها : ما لو ادّعى زوجيّة امرأة ، وادّعت اُختها زوجيته ، وأقاما بيّنة ، مع انضمام الدخول إلى بيّنتها ، وهي المسألة المشهورة ، فالرواية والفتوى على تقديم قولها ; لشهادة الظاهر لها وهو الدخول . وإن كان الأصل عدم زوجية المدّعية ، فيقدّم الظاهر على الأصل(3) .
ومنها : في سكوت الفتيات الأبكار رضىً عن استئذان وليها لها في تزويجها من رجل معيّن وبمهر معيّن وعدمه وجهان : الأصل عدم الرضا ، والظاهر والعرف والعادة رضىً ، والظاهر مقدّم على الأصل ، فإنّ العادة قاضية بكون السكوت هنا رضى ، إذ حياء المرأة البكر يمنعها عن النطق(4) . وأنّ النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) «والبكر رضاها صَمْتها»(5) مشهور ، وعن الصادق (عليه السلام) : «فإن سكتت فهو إقرارها»(6) .
- (1) تمهيد القواعد : 306 ـ 307 .
(2) مسالك الأفهام 8 : 304 ، تمهيد القواعد : 307 .
(3) تمهيد القواعد : 307 ، الروضة البهية 5 : 127 ـ 129 ، مستند الشيعة 2 : 488 .
(4) مختلف الشيعة 7 : 128ـ 129 ، النهاية : 464 ، المبسوط 4 : 162 ، 183 ، الخلاف4 : 255 ، الوسيلة :300 ، المهذب 2 : 194 .
(5) سنن ابن ماجة 1 : 602 ح1872 .
(6) الكافي 5 : 395 ح3 ، من لا يحضره الفقيه 3 : 251 ح1196 ، تهذيب الأحكام 7 : 386 ح1550 .
ومنها : لو اختلف الرجلان عن متاع في أيديهما في الوديعة والرهن ; يقول أحدهما : استودعتكه ، والآخر يقول : هو رهن بكذا وكذا ، الظاهر كونه رهناً ، والأصل عدم كونه رهناً ، فتعارض الأصل والظاهر ، وغلب الظاهر على الأصل(1) ; لما روى الحسن بن محبوب ـ في الموثّق ـ عن عباد بن صهيب قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن متاع في يدي رجلين ، أحدهما يقول : استودعتكه والآخر يقول : رهن ، قال : فقال : «القول قول الذي يقول : إنّه رهن عندي إلاّ أن يأتي الذي ادّعى أنّه قد أودعه بشهود»(2) .
ومنها : في جواز الاعتماد على خبر الصبيّ المميّز في الهديّة وفتح الباب
وجهان : من أنّ الأصل عدم جوازه ; لأنّه محجور في الأفعال والأقوال ، ومن أنّ الظاهر والقرائن الموجودة المفيدة للظنّ جوازه ، ولكنّهم يقدّمون الظاهر على الأصل(3) .
ومنها : إذا شكّ المصلّي في عدد الركعات ، أو في فعل من الأفعال وغلب ظنّه على فعله ، فإنّه يبني على وقوعه ; عملا بالظاهر وإن كان الأصل عدم فعله(4) . وفي صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: إن كنت لاتدري ثلاثاً صلّيت أم أربعاً ولم يذهب وهمك إلى شيء فسلّم ، ثمّ صلِّ ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما
- (1) روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه 7 : 365 و 373 .
(2) الكافي 5 : 239 ح4 .
(3) القواعد والفوائد 1 : 222 ، جامع المقاصد 5 : 180 ، الحدائق الناضرة 20 : 344 ، مجمع الفائدة 9 : 183 .
(4) تمهيد القواعد : 308 ـ 309 ، جواهر الكلام 12 : 362 ، العروة الوثقى مع تعليقات للشيخ الفقيه الفاضل اللنكرانى 1: 624 .
باُمّ الكتاب ، وإن ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصلِّ الركعة الرابعة . . . إلخ(1) .
الوهم هو الظنّ لعدم غيره هنا بالإتّفاق(2) . فيستفاد من المفهوم أنّه ذهب وهمك على شيء، ولو كان ذلك الشيء أكثر ومخالفاً للأصل فابنِ على الأكثر ، فيقدّم الظاهر على الأصل .
وأمّا كثير السهو ; فإنّه وإن حكم بالوقوع المخالف للأصل، إلاّ أنّه لا ظاهر معه يشهد له ، وإنّما مستند حكمه النصّ العامّ برفع الحرج وإرادة اليسر ،
أو الخاص به في الصلاة(3) ، قال الإمام الخميني : الظنّ في عدد الركعات مطلقاً حتّى فيما تعلّق بالركعتين الأولتين من الرباعيّة أو بالثنائيّة والثلاثيّة ،
كاليقين فضلا عمّا تعلّق بالأخيرتين من الرباعيّة فيجب العمل بمقتضاه ولو كان مسبوقاً بالشكّ ، فلو شكّ أوّلا ثمّ ظنّ بعد ذلك فيما كان شاكّاً فيه كان العمل على الأخير(4) .
د ـ باب القضاء والحدود والقصاص
فمنها : لو ادّعى ما لا يد لأحد عليه فهو أولى ; بمعنى أنّه يحكم له ويقرّ
عليه بظاهر الشرع ، ولا يطالب بالبيّنة ولا باليمين ، ولا يمنع من التصرّف فيه ، ثمّ يجوز الأخذ منه والتصرّف فيه بإذنه ، والدليل على ذلك هو حمل أفعال وأقوال المسلمين على الصحّة ما لم يظهر خلافه ; للظاهر ، مع أنّ الأصل عدم كونه له(5) .
- (1) وسائل الشيعة 5 : 321 باب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح5 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان 3 : 127 ، جواهر الكلام 12 : 363 .
(3) تمهيد القواعد : 309 .
(4) تحرير الوسيلة 1 : 189 .
(5) إرشاد الأذهان 2 : 143 ، مجمع الفائدة والبرهان 12 : 111 .
ورواية منصور بن حازم ، عن الصادق (عليه السلام) قال : قلت : عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضاً: ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال : للذي ادّعاه(1) .
ومنها : إذا ادّعى من نشأ في دار الإسلام من المسلمين الجهل بتحريم الزنا والخمر ووجوب الصلاة ونحو ذلك ، فإنّه لا يقبل قوله ; لأنّ الظاهر يكذّبه ، وإن كان الأصل عدم علمه بذلك ، ومثله من يدّعي ما يشهد الظاهر بخلافه ، كالجهل بالخيار وعدمه(2) .
ومنها : لو رمى رجل زوجته المحصنة وادّعى المشاهدة ، إن كان له بيّنة على ما قذفها به فلا لعان ولا حدّ ، وإن لم يكن له بيّنة يتعلّق بالقذف وجوب الحدّ على الزوج ، ويقام عليه بعد المطالبة .
نعم ، شرع له الشارع التخلّص عن الحدّ باللعان ، لتعذّر البيّنة هنا غالباً ، فاكتفى فيه بقول الزوج ; ليصون نفسه عن هذه الوصمة العظيمة ; ولأنّ العادة أنّ الرجل ينفي عن زوجته الفواحش مهما أمكن ، فحيث أقدم على رميها بالفاحشة مع ايمانه أيضاً قدّمه الشرع ، ويثبت باللعان على الزوجة حدّ الزنا ، مع أنّ الأصل عدمه كما أشار بذلك الشهيد(3) . أي ومع لعانها يترتّب سقوط الحدّ عنها أيضاً .
ومنها : دعوى الدم لتأيّده باللوث(4) ، ولو وجد متشحّطاً بدمه وعنده
- (1) وسائل الشيعة 18 : 200 باب 17 من أبواب كيفية الحكم ح1 .
(2) تمهيد القواعد : 307 .
(3) القواعد والفوائد 2 : 188 .
(4) اللوث : أمارة يغلب معها الظنّ بصدق المدّعى كالشاهد ولو واحداً ، وكذا لو وجد متشحّطاً بدمه وعنده ذو سلاح عليه الدم ، أو في دار قوم ، أو في محلّة منفردة عن البلد لا يدخلها غير أهلها ، أو في صف مقابل للخصم بعد المراماة ، شرائع الإسلام 4 : 222 .
ذوسلاح عليه الدم فهو لوث (1)، فلو ادّعى وليّ المقتول أنّه قتله فلورثة المقتول القسامة بالقتل ، وهي في العمد خمسون يميناً ، فإن كان له قوم حلف كلّ واحد يميناً إن كانوا عدد القسامة ، وإن نقصوا عنه كُرّرت عليهم الأيمان حتّى يكمّلوا القسامة ، وبعد القسامة يثبت القصاص ـ مخالفاً للأصل; لأنّ الأصل عدم كونه قاتلا ـ ويدلّ على ذلك إجماع الطائفة والأخبار، كما نقل صاحب الجواهر الإجماع عن الخلاف والغنية(2).
هـ ـ الأبواب المختلفة الاُخرى
فمنها : لو قال : له عليّ ألف درهم ودرهم ودرهم ، وأطلق ، فإنّ الثالث يمكن كونه معطوفاً على الثاني ، ويمكن كونه تأكيداً ; لاتّحاد لفظهما مقترناً بالواو ; لكن الظاهر العطف ، والأصل يقتضي براءة الذمة ممّا زاد على الدرهمين .
وقد رجّحوا هنا الظاهر على الأصل ، وحكموا بلزوم الثلاثة ، لكن لو قال : أردت التأكيد ، قُبل ، ولزمه درهمان ، فرجّحوا هنا الأصل على الظاهر ; رجوعاً إلى نيّته التي لا تعلم إلاّ منه(3) .
ومنها : في جواز أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن وجهان : الأصل عدم الجواز ، والظاهر وشاهد الحال الجواز ، ويقدّمون الظاهر على الأصل(4) .
ومنها : إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب ، ففي تقديم قول الغاصب أو المالك وجهان : الوجه الأوّل تقديم قول المالك ; لأنّ الأصل عدم تلفه . الوجه
- (1) القواعد والفوائد 2 : 188 .
(2) جواهر الكلام 42 : 227 ، الخلاف 5 : 303 ، الغنية : 440 ـ 441 .
(3) تمهيد القواعد : 309 .
(4) القواعد والفوائد 1 : 222 .
الثاني تقديم قول الغاصب ; لأنّه لو لم يقبل لزم تخليده الحبس لو فرض صدقه ، إذ قد يصدق ولا بيّنة له، ولكن لا خلاف بينهم في تقديم الظاهر على الأصل(1) .
القول الثاني: تقديم الأصل على الظاهر
أمّا القول الثاني وهو تقديم الأصل على الظاهر فيستفاد ذلك من كلمات عدّة من الأعلام ، كالشهيدين في بعض كلماتهم ، وصاحب مفتاح الكرامة (السيّد العاملي) وصاحب الرياض والسيّد المجاهد وصاحب العناوين والنراقي والشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر وصاحب بلغة الفقيه السيّد بحر العلوم ، وميرزا محمّد تنكابني، ومحمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيّد اليزدي صاحب العروة، وشيخنا الأستاذ التبريزي .
قال الشهيد في اللمعة : «ولو أدّى المحال عليه وطلب الرجوع لإنكار الدَّين وادّعاه المحيل ، تعارض الأصل والظاهر ، والأوّل أرجح فيحلف ويرجع ، سواء كان بلفظ الحوالة أو الضمان»(2) .
وقال الشهيد الثاني في ذيل هذا الكلام : والأوّل وهو الأصل أرجح من الثاني حيث يتعارضان غالباً ، وإنّما يتخلّف في مواضع نادرة فيحلف المحال عليه على أنّه بري من دَين المحيل ، ويرجع عليه بما غرم(3) .
وقال أيضاً : ولو اختلفا في القدر قدّم قول الزوج ; لأصالة البراءة من الزائد على ما يعترف به . واحتمل العلاّمة في القواعد(4) تقديم قول من يدّعي مهر المثل;
- (1) شرائع الإسلام 3 : 250 ، تحرير الأحكام 2 : 144 ، مسالك الأفهام 12 : 254 ، جواهر الكلام 37 : 235 .
(2) اللمعة الدمشقية في فقه الإماميّة : 84 .
(3) الروضة البهية 4 : 146 .
(4) قواعد الأحكام 2 : 44 .