البيان الثالث في الدليل الأوّل:
قد بيّناه أثناء عرضنا للوجه الأوّل إلاّ أنّ هناك نقاطاً أخرى لابدّ من البحث فيها ودراستها بشكلّ مستقل.
فإنّ السبب في عدم وجود القدر الجامع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز ـ بناءً على هذا الوجه ـ هو أنّ متعلّق الشك في قاعدة الفراغ هو الصحّة بينما في قاعدة التجاوز هو الوجود ولا يعقل تصوّر قدر جامع بين الصحة والوجود.
يقول المحقق النائيني بهذا الشأن (إنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو وجود الشيء... وفي قاعدة الفراغ إنّما هو صحّة الموجود ولا جامع بينهما).[164]
وللمحقق العراقي في هذا السياق كلامٌ ذُكر بعده في كلمات المرحوم السيد الخوئي وهو أنّ العلماء والمحققين يصرّحون في مبحث الإطلاق بأنّ الإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود[165].
فلو كان الإطلاق بمعنى جمع القيود لزم أن يلاحظ الشارع عند الحكم على موضوع مختلف أنواع القيود ويثبت الحكم على جميع هذه الأنواع فعلى سبيل المثال عند جعل حكم الحرمة للخمر التي لها أنواع مختلفة كالمتّخذ من العنب من التمر الأحمر والأصفر فعليه أن يلاحظ جميع أنواع العصير ثمّ يجعل الحكم عليها فالإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود بمعنى أنّ الشارع المقدّس عند الحكم بالحرمة على الخمر لا يلاحظ قيداً من قيود الخمر.
فإن المحقق العراقي قد استخدم هذه القاعدة فيما نحن فيه وقال: بأنّ عنوان الشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ ـ المذكور في الروايات ـ له إطلاق والشارع لم يلاحظ شيئاً من خصوصياته من حيث كون الشك في الصحة أو الشك في الوجود بل حكم على نحو الإطلاق بعدم الاعتناء بالشك بعد الانتهاء من العمل.
ومن هنا نستنتج أنّ عنوان الشك أوّلاً وبالذات يشمل الشك في الصحة والشك في الوجود ولمّا لم يلاحظ الشارع المقدّس خصوصيات الشك لم يبق مجال للبحث في وجود القدر الجامع بين الشك في الصحة والشك في الوجود، وذلك أنّ القدر الجامع إنّما يتصور فيما لو لاحظ الشارع كلا الأمرين (الشك في الصحة والشك في الوجود) لكنّه لاحظ هنا مطلق الشك فقط حيث ينطبق على قاعدة الفراغ كما ينطبق على قاعدة التجاوز.
وقد ذكر هذا المطلب في كلمات السيد الخوئي أيضاً كما أسلفنا فهو يقول:
(والتحقيق أنّ الاستدلال المذكور ساقط من أصله لما ذكرناه مراراً من أنّ معنى الإطلاق هو إلغاء جميع الخصوصيّات، لا الأخذ بجميعها فإذا جُعل حكمٌ لموضوع مطلق، معناه ثبوت الحكم به بالفاء جميع الخصوصيات كما إذا جعلت الحرمة للخمر المطلق مثلاً فإنه عبارة عن الحكم بحرمة الخمر بإلغاء جميع الخصوصيّات من كونه أحمر أو أصفر أو مأخوذاً من العنب أو من التمر وغيرها من الخصوصيات لا الحكم بحرمة الخمر مع لحاظ الخصوصيات والاحتفاظ بها، بمعنى أنّ الخمر بما هو أحمر حرام وبما هو أصفر حرام وهكذا، وحينئذٍ لا مانع من جعل قاعدة كلّية شاملة لموارد قاعدة الفراغ وموارد قاعدة التجاوز بلا لحاظ خصوصيّات الموارد بأن يكون موضوع القاعدة مطلق الشكّ في شيءٍ بعد التجاوز عنه بلا لحاظ خصوصية كون الشك متعلّقاً بالصحّة أو بالوجود فيكون المجعول عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه بلا لحاظ كون الشكّ متعلّقاً بالوجود أو بالصحة أو غيرهما من خصوصيات المورد...)[166].
والظاهر أنّ الكلام المذكور تامٌ لا إشكال فيه إذ أنّ إطلاق عنوان (الشك في الشيء بعد التجاوز عنه) يشمل الشك في الصحّة والشك في الوجود، ومن هنا لا داعي للانفكاك بينهما ثمّ التماس القدر الجامع بينهما بل يكفي هذا العنوان الكلّي القابل للانطباق على كلتا القاعدتين.
وقد أقرّ بهذا العنوان الكلّي المحقق النائيني كقدر جامع حيث يقول: (...الشارع في مقام ضرب قاعدة كلّيّة للشك في الشيء بعد التجاوز عنه)[167].
وكذا أقرّ بهذا الكلّام من جاء بعده من العلماء.
يتابع السيد الخوئي كلامه بذكر مطلب آخر تعود جذوره إلى كلمات المحقق الاصفهاني[168] فهو يقول:
(بل يمكن أن يقال: إنّ وصف الصحّة من الأوصاف الانتزاعية التي ليس في الخارج بإزائها شيء إذ هو منتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به فالشك في الصحّة دائماً يرجع إلى الشك في وجود جزء أو شرط فلا مانع من جعل قاعدة شاملة لموارد الشكّ في الوجود وموارد الشك في الصحة لكون الشكّ في الصحة راجعاً إلى الشك في الوجود فتكون قاعدة الفراغ راجعة إلى قاعدة التجاوز)[169].
يقول السيد الخوئي في هذه العبارات مستدركاً ما ذكره أولاً: لو أغمضنا النظر عن مبنى الإطلاق والتزمنا أنّ هنا شكّين مختلفين بحيث لابدّ من تصوّر قدر جامع بينهما إلاّ أنّ إرجاع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط هو قانون كلّي.
وبعبارة أخرى أنّ الشك في صحّة عملٍ مركب ينشأ دائماً من الشك في وجود جزئه أو شرطه، وبالتالي فإنّ القدر الجامع بين الصحة والوجود هو الوجود كما أنّ القدر الجامع بين الشك في الصحّة والشك في الوجود هو الشك في الوجود وعليه تعود قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز.
وهذا الكلام منه يشبه إلى حدّ كبير بكلام الشيخ الأنصاري في أنّ التعبّد بالصحة إنّما هو بمعنى التعبّد في الوجود في قاعدة الفراغ، وقد عبّدنا الشارع في موارد الشك في الصحة بوجود الصحيح.
إشكالات هذه النظرية:
الإشكال الأوّل: ذكرنا في المباحث السابقة أنّ الشك في الصحة أحياناً يكون ناشئاً من الشك في وجود المانع، ومن جهة أخرى فإنّ الشكّ في وجود المانع يختلف عن الشك في وجود الجزء أو الشرط حيث إنّ القاعدة في الشكّ في وجود الجزء أو الشرط تعبّد الإنسان بالوجود ولا تعبّد من هذا القبيل في الشك في وجود المانع، وعليه لا يمكن القول بأنّه كلّما كان الشك في الصحة كان هذا الشك ناشئاً من الشك في الوجود وإنّ القاعدة تعبّدنا بالوجود.
الإشكال الثاني: هو إنّ كلام السيد الخوئي في الشك في شرط المركّب أيضاً غير تام، فلا يمكن القول بأنّ الشك في صحة المركّب ينشأ دائماً من الشك في وجود الشرط. وأنّ الشك في الصحة راجع إلى الشك في الوجود، والقاعدة تعبّدنا بالوجود، مثلاً لو شك المكلّف بعد الفراغ من صلاة الظهر بأنّه هل كان متطهّراً أو لا؟ فإنّ الطهارة من شروط صحّة الصلاة، فلو أنّ الشك في صحة الصلاة رجع إلى الشك في وجود الطهارة وتعبّد المكلّف بوجود الطهارة بمقتضى القاعدة كان لابد من الحكم عليه بالتمكّن من قيامه بصلاة العصر مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يُفتِ بذلك.
وعلى هذا فنظراً إلى الإشكالين السابقين فإنّ إرجاع الشك في الصحّة إلى الشك في الوجود غير قابل للقبول.
نتيجة الدليل الأوّل:
بالنظر إلى الوجوه الثلاثة للدليل الأوّل والإشكالات الواردة عليها يتبيّن لنا أنّ الطريق الوحيد لإثبات وحدة القاعدتين هو التمسّك بالإطلاق.
أمّا في مقام الإثبات فإن وجدنا رواية مطلقة أمكن انطباقها على كلتا القاعدتين.
الدليل الثاني: اجتماع لحاظي الآلية والاستقلالية في الشيء الواحد:
الدليل الثاني الذي ذكره الميرزا النائيني على تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز هو اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد وذلك أنّ قاعدة الفراغ إنّما تتعلق بكلّ العمل بمعنى أن يشك في صحّة العمل بعد الفراغ منه فتدلّ قاعدة الفراغ على صحته، أمّا قاعدة التجاوز فتتعلّق بجزء العمل بمعنى أن يُشك عند الإتيان بجزء في الجزء السابق عليه فتدلّ قاعدة التجاوز على إتيانه ـ ففي قاعدة الفراغ يجب على المولى أن يتصوّر كلّ العمل أمّا حين تصوّر المركّب لابد من تصور أجزائه في الرتبة السابقة على تصوّر المركب.
وبتعبير آخر فإنّ الاجزاء عند لحاظ المركبّ تلاحظ لحاظاً تبعياً اندكاكياً بتبع تصوّر الكلّ. وعليه يكون لحاظ الأجزاء في قاعدة الفراغ لحاظاً تبعياً غير استقلالي بينما يتصوّر الجزء في قاعدة التجاوز على نحو الاستقلال حيث يقول المولى:
(إذا خرجت عن جزء ودخلت في جزء آخر فشكّك ليس بشيءٍ) وعلى هذا فلو أراد الشارع المقدّس أن يجعل هاتين القاعدتين ضمن خطاب واحد وجب عليه أن يلاحظ الأجزاء على نحو الاستقلال وعلى نحو التبعية فيتعلّق اللحاظ الاستقلالي واللحاظ التبعي بالجزء الواحد في زمان واحدٍ مع أنّ اجتماع لحاظين مختلفين في الملحوظ الواحد غير ممكن.
يقول المحقق النائيني في هذا السياق:
(إنّ المركّب حيث إنّه مؤلف من الأجزاء بالأسر فلا محالة تكون ملاحظة كلّ جزءٍ بنفسه سابقة في الرتبة على لحاظ المركّب بما هو، إذ في مرتبة لحاظ المركّب يكون الجزء مندكّاً فيه في اللحاظ ويكون الملحوظ الاستقلالي هو المركب لا غير فلحاظ كلّ حرفٍ بنفسه سابق على لحاظ الكلمة بما هي كما أنّ لحاظ الكلمة في نفسها سابق في الرتبة على لحاظ الآية فإذا كان لحاظ كلّ من الأجزاء سابقاً على لحاظ المركب في الرتبة وكان لحاظه في ضمن المركب اندكاكياً فكيف يمكن أن يريد من لفظ (الشيء) الواقع في القاعدة الجزء والكلّ معاً حيث يكون الكلّ بنفسه ملحوظاً حتى يتحقّق به مورد قاعدة الفراغ ويكون الجزء بنفسه ملحوظاً في عرضه حتى يتحقّق به مورد قاعدة التجاوز)[170].
الإشكالات الواردة على الدليل الثاني:
1 ـ نظرية المحقق النائيني:
يقول المحقق النائيني بعد ذكر هذا الدليل على تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز في مقام الإجابة: (إنّما يتمّ هذا الدليل فيما إذا لوحظت الأجزاء في عرض لحاظ المركّب ولكنّها ليست كذلك إذ لو راجعنا الروايات لتبيّن لنا أنّها طائفتان:
أ ـ الروايات المطلقة التي تبيّن وظيفة المكلّف عند الشك في كلّ المركب. ب ـ الروايات الخاصّة التي تبيّن وظيفة المكلّف عند الشك في الأجزاء فتقول مثلاً لو شك في الركوع بعد إكمال السجود لا يُعتنى به.
والروايات الخاصّة هنا حاكمة على الروايات المطلقة فلا يتحقّق اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد في عرض واحدٍ، لأنّ الشارع المقدّس قد لاحظ كلّ المركب أولاً ثمّ ذكر الأجزاء في الأدلة الأخرى على نحو الاستقلال، ومن هنا فلا يكون لحاظ المركّب والأجزاء في عرض بعضهما وفي زمان واحدٍ إذ الشارع قد لاحظ الكلّ أولاً ثمّ لاحظ الأجزاء، وعليه فلا يلزم اجتماع اللحاظين المتغايرين.
وهذا نصّ عبارة الميرزا النائيني:
(أنّ الشك في الأجزاء لو كان ملحوظاً في جعل القاعدة مثل ما لوحظ نفس العمل فيه، لكان لهما مجال واسع، لكنّ الأمر ليس كذلك بل المجعول ابتداءً هو عدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن العمل، فلو كنّا نحن وهذه الإطلاقات، لقلنا باختصاصها بموارد الشك بعد الفراغ ولم نقل بجريأنها في شيءٍ من موارد الشك في موارد قاعدة التجاوز، لكنّ الأدلّة الخاصّة دلّت على اعتبارها في موارد الشك في الأجزاء أيضاً فهي دالّة بالحكومة على لحاظ الجزء سابقاً على لحاظ التركيب أمراً مستقلاً بنفسه...[171] والحاصل أنّ المراد من لفظ (الشيء) الوارد في الروايات ليس هو العمل وأجزاؤه حتّى يرد ما ذكر... فلا يلزم الجمع بين اللحاظين)[172].
الإشكال على نظرية المحقق النائيني:
ظهر مما سبق أنّ رد الميرزا النائيني لا يشكلّ جواباً عن الإشكال بل هو إقرار وقبول الإشكال، وذلك أنّه أقرّ بأنّ التعبير الواحد لا يمكنه أن يبيّن الشك في المركّب والشك في الجزء معاً بل لابد من إثبات قاعدة الفراغ أولاً ثمّ يستفاد قاعدة التجاوز من الأدلّة الحاكمة، وعليه فإنّه يركز في جوابه عن الإشكال، على عدم كون القاعدتين في عرض واحدٍ وهذا قبول الإشكال.
وبعبارة أخرى إنّ المحقق النائيني لو كان يردّ على إشكال (اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحدٍ) بالاعتماد على فرض القاعدتين في عرضٍ واحد لم يردْ على ردّه إشكال لكنّه غيّر صورة فرض المسألة في مقام الإجابة، وهذا اعتراف وتسليم للإشكال لا جواب عنه.
2 ـ نظرية المحقق الخوئي:
ذكر السيد الخوئي في مقام الإجابة عن الدليل الثاني للمحقق النائيني ثلاثة أجوبة، وها نحن نذكرها بغرض مناقشتها:
أ ـ الأوّل أنّه لا اختصاص لقاعدة الفراغ بالشك في صحّة الكلّ بل تجري عند الشك في صحّة الجزء أيضاً ولعله المشهور، فعلى تقدير تعدد القاعدتين أيضاً يلزم تعلّق اللحاظ الاستقلالي والتبعي بالجزء في جعل نفس قاعدة الفراغ فما به الجواب على تقدير التعدّد يجاب به على تقدير الاتحاد أيضاً[173].
إنّ الجواب الأوّل للسيد الخوئي في الواقع جواب نقضي على الدليل الثاني حيث إنّ إشكال اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظٍ واحد يرد في قاعدة الفراغ أيضاً على مبنى قاعدة تعدّد القاعدتين، لأنّ قاعدة الفراغ كما تجري في موارد الشك بعد إتمام العمل، كذلك تجري في موارد الشك في صحة الجزء فإنّ من شكّ حالة السجود في صحّة ركوعه المأتي به جرت في حقّه قاعدة الفراغ في هذا الجزء المفروغ منه وعليه يُستشكل في مجرى قاعدة الفراغ أنّ الشارع المقدّس يجب أنْ يلاحظ الجزء استقلالاً وتبعاً في مقام جعل القاعدة.
الإشكال على جواب السيد الخوئي الأوّل:
الظاهر أنّ جواب السيد الخوئي غير تامّ إذ ـ كما بيّنا سابقاً وسيأتي في فروع المسألة لاحقاً ـ أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في الشك في الأجزاء بل هي مختصّة بالفراغ من مجموع العمل أمّا في الشك في الأجزاء فتجري قاعدة التجاوز فقط، فلو شك في أصل وجود الجزء دلّ منطوق قاعدة التجاوز على عدم الاعتناء بالشك، أمّا لو شك في صحّة الجزء المأتي به فإنّ قاعدة التجاوز تدلّ بمفهوم الأوّلوية على عدم الاعتناء بالشك إذ لو لم يجب الاعتناء بالشك في أصل وجود الشيء لم يجب الاعتناء بالشك في صحّته بطريق أولى.
ب: الثاني: إنّ الجمع بين القاعدتين ممكن بإلغاء الخصوصيّات على ما ذكرناه فإنّ لحاظ الكلّ والجزء بما هما كلّ يستلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والتبعي في الجزء بخلاف لحاظهما مع إلغاء خصوصيّة الجزئية والكلّية بأنْ يلاحظ لفظ عام شامل لهما كلفظ الشيء ويحكم بعدم الاعتناء بالشك فيه بعد الخروج عن محله فإنّه لا محذور فيه أصلاً[174].
يذكر المحقق الخوئي في هذا الجواب أنّه كما بيّنا في الجواب عن الدليل الأوّل أنّ متعلّق الشك هو عنوان الشيء بعد المضيّ الشامل للصحة والوجود فإنّ هنا أيضاً لا يلزم إشكال اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد فيما لو ألغينا خصوصية الكلّية والجزئية بجعل لفظ عام كلفظ (الشيء) بعنوان الكبرى.
الظاهر أنّ هذا الجواب تامّ وصحيح[175] لأنّ اجتماع اللحاظين المتغايرين إنّما يلزم فيما لو لاحظ الشارع المقدّس في الكبرى الكلّية الجزء والكلّ بخصوصياتها أمّا لو اُلغيت الخصوصية عنهما واستعمل في الكبرى عنوان عام كلّي بحيث يشمل الجزء والكلّ معاً فلا يلزم المحذور.
ج ـ (الثالث ما ذكرناه أخيراً من أنّ الشك في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ منها يكون ناشئاً من الشك في وجود الجزء أو الشرط فيكون مورداً لقاعدة التجاوز ويحكم بوجود المشكوك فيه فلا حاجة إلى جعل قاعدة الفراغ مستقلاً)[176].
الجواب الثالث للسيد الخوئي يعاكس جواب المحقق النائيني وذلك أنّ الميرزا النائيني كان يرى أنّ هناك مجعولاً شرعياً واحداً يسمّى بقاعدة الفراغ، أمّا المحقق الخوئي فيرى أنّ الشك في الصحّة راجع إلى الشك في الوجود وبالتالي يكون من مصاديق قاعدة التجاوز ويُحكم فيه بوجود الجزء المشكوك فيه، ومن هنا فلا حاجة إلى جعل مستقل لقاعدة الفراغ حتى يُستشكل بأنّ في جعل قاعدة الفراغ لابد من لحاظ الأجزاء على نحو التبعية والاندكاك، وفي قاعدة التجاوز على نحو الاستقلالية، وعليه فلا يمكن جعلهما بخطاب وتعبير واحد.
والظاهر أنّ هذا الجواب غير تام لأنّه قبولٌ وإقرار بالإشكال وليس ردّاً عليه كما سبق ذلك في جواب المحقق النائيني.
الدليل الثالث: محذور الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي:
المحذور الثالث هو أنّه لو تضمّنت الكبرى الكلّية الواحدة على بيان قاعدتي الفراغ والتجاوز أدّى ذلك إلى لزوم استعمال لفظ واحد في كلا معنييه الحقيقي والمجازي واستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معاً مشكل ومحال.
توضيح ذلك: هو أنّ مجرى قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محل الجزء المشكوك بينما مجرى قاعدة الفراغ هو التجاوز عن نفس العمل المركّب والتجاوز عن الشيء نفسه، والجمع بينهما في التعبير والخطاب الواحد غير ممكن.
يقول المحقق النائيني في هذا المجال:
الرابع أنّ الميزان في جريان قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك كما إذا دخل في التشهّد وشكّ في وجود الجزء السابق عليه كالسجدة والميزان في جريان قاعدة الفراغ هو التجاوز عن نفس المركب فكيف يمكن إرادة التجاوز عن المحل والتجاوز عن نفس الشيء من لفظ التجاوز الوارد في الرواية معاً[177].
يقول المحقق السيد الخوئي في توضيح هذا الدليل:
الوجه الثالث أنّ الجمع بين القاعدتين يستلزم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى العنائي وهو لا يجوز. وذلك لأنّ التجاوز عن الشيء في مورد قاعدة الفراغ هو التجاوز الحقيقي إذ الشك متعلق بصحّته مع العلم بوجوده فيصدق التجاوز عنه حقيقة بخلاف التجاوز في مورد قاعدة التجاوز فإنّه لا يصدق التجاوز الحقيقي عن الشيء مع الشك في وجوده، فلابدّ من إعمال عناية بأنْ يكون المراد من التجاوز عن الشيء هو التجاوز عن محلّه على طريقة المجاز في الكلّمة أو في الإسناد أو في الحذف، بأن يراد من الشيءِ محلّه أو يُسند التجاوز إليه بالإسناد المجازي أو يقدّر المضاف وهو لفظ المحلّ فالجمع بين القاعدتين في جعل واحد يستلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي وهو لا يجوز)[178].
الإشكالات على الدليل الثالث:
أجيب عن الدليل الثالث (محذور الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي بجوابين أحدهما للمحقق النائيني والآخر للسيد الخوئي.
أمّا جواب المحقق النائيني عن الدليل الثالث:
1 ـ نظرية المحقق النائيني:
أنّ هناك عنواناً عاماً هو (التجاوز عن الشيء) وله مصاديق مختلفة أي أنّ هناك أمرين يوجبان تحقق ذلك العنوان أحدهما الفراغ من العمل، والمصداق الآخر هو التجاوز عن المحلّ المعيّن وعليه فلا يلزم إشكال الجمع بين المعنيين الحقيقي والمجازي.
(إنّ المراد من التجاوز الوارد فيها هو التجاوز عن نفس الشيءِ مطلقاً غاية الأمر أنّ التجاوز عن محلّ المشكوك بعد تعيّن وقوعه فيه يوجب صدق التجاوز عن المشكوك، فمحقق التجاوز عن الشيء أمران أحدهما التجاوز عنه بالفراغ عنه والثاني التجاوز عنه بتجاوز محلّه المتعيّن وقوعه فيه كما في موارد التجاوز)[179].
2 ـ نظرية المحقق الخوئي:
أجاب المرحوم السيد الخوئي عن هذا الإشكال بما يُشبه جوابه عن الإشكال الثاني وهو أنّ الشك في الصحة ناشئ عن الشك في الوجود ومتى أمكن إجراء قاعدة التجاوز لم يبق مجال لقاعدة الفراغ.
يظهر الجواب عن هذا الاستدلال مما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً ناشئٌ من الشك في وجود الجزء أو الشرط فالتجاوز في مورد قاعدة الفراغ أيضاً هو التجاوز عن محلّ الشيء المشكوك فيه سواء كان جزءاً أو شرطاً فلا فرق بين قاعدة الفراغ والتجاوز عن هذه الجهة ولا يلزم بين المعنى الحقيقي والعنائي[180].
الدليل الرابع محذور التدافع:
الإشكال الأخير على اتحاد قاعدة الفراغ والتجاوز هو محذور التدافع الذي ذكر أصله الشيخ الأعظم الأنصاري في الرسائل إلاّ أنّ المحقق النائيني ذكره ببيان أوضح ودقّة أكثر.
توضيح الإشكال: أنّه لو دلّت الكبرى الواحدة (عدم الاعتناء بالشك بعد المضيّ، على القاعدتين لزم التناقض والتدافع، مثلاً لو شك المصلّي حالة السجود في أنّه هل ركع أو لا؟ دلّ منطوق (عدم الاعتناء بالشك بعد المضي) على عدم اعتنائه بشكه لأنه قد تجاوز عن محل الجزء المشكوك، وبهذا يكون المنطوق مفيداً لقاعدة التجاوز، أمّا بالنسبة إلى جميع الصلاة فلم يحصل المضيّ فيها لأنّ العمل لم تكتمل بعدُ، ومن هنا دلّ مفهوم القاعدة على وجوب الاعتناء بهذا الشك، وبالتالي يكون المفهوم مفيداً لقاعدة الفراغ، وعلى هذا كلّه لا يمكن للكبرى الكلّية الواحدة أن تبيّن الشك في الكلّ والجزء معاً.
وبعبارة أخرى فإنّ التعبير الواحد (الكبرى الكلّيّة) لو دلّت على القاعدتين فإنّ في الشك في الجزء قبل انتهاء العمل تحكم قاعدة الفراغ بعدم الاعتناء بالشك، أمّا قاعدة الفراغ فتحكم بوجوب الاعتناء بالشك وهذا ليس بصحيح، لأنّ ذلك يعني تدافع القاعدتين[181].
الإشكالات على الدليل الرابع:
أجيب عن هذا الدليل بعدّة أجوبة وقد أوردت عليها إيرادات متعدّدة ونحن بدورنا نناقشها ونبحث حولها:
نظرية المحقق النائيني:
إنّ المحقق النائيني بعد أن بيّن أصل الدليل ذكر الإشكالين عليه ثمّ أجاب عنهما:
الإشكال الأوّل: هو أن محذور التدافع ليس مختصّاً بما إذا أفادت الكبرى الكلّية الواحدة كلتا القاعدتين بل التدافع يبقى حاضراً حتّى لو كانت القاعدتان قاعدتين مستقلّتين لأنّ قاعدة التجاوز تحكم بوجوب عدم الاعتناء بالشك في الجزء قبل الفراغ من العمل كلّه بينما يحكم مفهوم قاعدة الفراغ بلزوم الاعتناء بذلك الشك وذلك لأنّ العمل لم ينته بعدُ.
الجواب: أجاب المحقق النائيني عن هذا الإشكال انطلاقاً من رؤيته في حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ بأنّا لو جعلنا القاعدتين مستقلّتين فإنّ قاعدة التجاوز بما أنّها حاكمة على قاعدة الفراغ فلا يلزم محذور التدافع بخلاف ما لو جعلناهما قاعدة واحدة معنونة بعنوان واحد.
فإن قلت: إذا كان كلّ من قاعدتي التجاوز والفراغ مغايرة للأخرى يلزم التدافع أيضاً إذ بمقتضى قاعدة التجاوز قد تجاوز عن محل الجزء المشكوك وبمقتضى قاعدة الفراغ لم يتجاوز عن المركب فلزوم التدافع من آثار جعل القاعدتين سواء كان بجعل واحد أو بجعلين.
قلت: إذا كان جعل قاعدة التجاوز مغايراً لجعل قاعدة الفراغ فلا محالة تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ فإنّ الشك في صحة العمل وفساده في مفروض الكلام مسبّب عن الشك في وجود الجزء المشكوك وعدمه فإذا حكم بمقتضى قاعدة التجاوز بوجود الجزء فلا يبقى شك في صحة العمل وفساده فالتدافع بوحدة الجعل ليس إلاّ[182].
الإشكال الثاني: لا فرق في حكومة أحد الدليلين على الدليل الآخرين أن يكون الدليلان مجعولين بجعل واحد أو بجعلين مختلفين، ومّما يشهد على ذلك ما قلنا في مبحث الاستصحاب من أنّ الاستصحاب السببي حاكمٌ على الاستصحاب المسبّبي مع أنّ دليل حجيّتها أمر واحد وهو (لا تنقض اليقين بالشك أبداً).
ومن هنا فإنّ الحكومة آتية حتّى فيما لو كانت القاعدتان مجعولتين بجعل واحدٍ وبالتالي لا يلزم التدافع هنا.
الجواب: أجاب المحقّق النائيني بأنّ قياس قاعدتي الفراغ والتجاوز على الأصل السببي والمسببي قياس مع الفارق، وذلك إذ لابدّ في باب الحكومة من وجود المقتضي لجريان كلا الدليلين، ومع جريان أحدهما لم يبق مجال لجريان الآخر، لوجود المانع أمامه كما هو الحال في الأصل السببي والأصل المسبّبي، وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه إذ مع جريان قاعدة التجاوز لا يبقى مورد لقاعدة الفراغ.
وبعبارة أخرى أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في الشك في الجزء قبل الفراغ من العمل بوجهٍ من الوجوه سواء كانت قاعدة التجاوز حاكمة عليها أم لم تكن. وعليه ففي قاعدة الفراغ والتجاوز لو تكفلّت الكبرى الواحدة لبيان كلتا القاعدتين لم يكن ذلك من باب حكومة أحد الدليلين على الآخر بل يكون اعتباران في مورد واحد.
فإن قلت: لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخرين ما إذا كانا مجعولين بجعل كحكومة الاستصحاب على البراءة وبين ما إذا كانا مجعولين بجعل واحد كما في حكومة أحد الاستصحابين على الآخر فإذا كان شمول القاعدة لمورد التجاوز عن الجزء موجباً لعدم التدافع من جهة حكومتها على قاعدة الفراغ فلا يفرق بين الجعل الواحد والجعلين.
قلت: حكومة أحد الأصلين المجعولين بجعل واحد على الآخر تتوقّف على كون المورد في حدّ ذاته قابلاً لجريان كلّ منهما وكون فعليّة الجريان في أحدهما مانعةً عن الجريان في الآخر لارتفاع موضوعه به كما في موارد الأصل السببي والمسبّبي ولو كانا من سنخٍ واحدٍ، ومحلّ الكلام ليس من هذا القبيل إذ جريان قاعدة الفراغ فرع الفراغ عن العمل وهو غير متحقّق في مفروض المثال فقبل الفراغ لا موضوع لجريان القاعدة حتّى يتكلّم في حكومة قاعدة التجاوز عليها بل المتحقّق فيه هو عكس القاعدة.
ولا ريب أنّه مع اتّحاد الكبرى المجعولة ولحاظ الجزء أمراً مستقلاً عند لحاظ المركّب بما هو، يندرج مفروض المثال في القاعدة وعكسها باعتبارين وأين هذا من حكومة أحد الأصلين على الآخر؟ وبالجملة حكومة بعض أفراد الأصل على البعض الآخر وإن كان مّما لا ينكر إلاّ أنّه ليس في المقام فردان من الأصل بل اعتباران في مورد واحد يكون المورد داخلاً في نفس القاعدة باعتبار وفي عكسه باعتبار آخر، ولا معنى لدعوى حكومة أحد الاعتبارين على الآخر، وهذا بخلاف ما إذا كان هناك قاعدتان مجعولتان على نحو الاستقلال فإنّ الشك في مفروض المثال داخل في كلّ من القاعدتين في حد ذاته لكن شمول قاعدة التجاوز له يمنع عن شمول القاعدة الأخرى له باعتبار عكسه بالحكومة فدعوى الحكومة تنحصر بصورة تعدد القاعدتين ليس إلاّ)[183].
جواب المحقق النائيني عن محذور التدافع:
أجاب الميرزا النائيني بنفسه عن محذور التدافع بعد ذكره للإشكالين والجواب عنهما، وجوابه هذا هو نفس الجواب الذي أجاب به عن محذور اجتماع اللحاظين المتغايرين فيما سبق، وذلك أنّ المستفاد ابتداءاً ولأوّل وهلة من الروايات الواردة في هذا الباب هي قاعدة الفراغ، أمّا بعض الروايات الدالة على قاعدة التجاوز فأنّها ليست في عرض الروايات بل هي حاكمة عليها، ومن هنا فلا تجري القاعدتان في زمان واحد في عرض بعضهما ليلزم محذور التدافع.
وعندي أنّ كلامه هذا إنّما هو إقرار وقبول للإشكال وليس جواباً عنه كما أسلفنا ذلك في بحث محذور اجتماع اللحاظين المتغايرين.
نظرية المحقق الخوئي:
ذكر المرحوم المحقق السيد الخوئي في مقام الإجابة عن هذا الدليل ما أجاب به عن الدليل الثاني والثالث حيث قال: لمّا كان الشك في الصحة راجعاً إلى الشك في الوجود فمع جريان قاعدة التجاوز لم يبق هناك شكّ لنحتاج إلى جريان قاعدة الفراغ.
وبعبارة أخرى: لمّا أثبتنا وجود الصحيح بإجراء قاعدة التجاوز لم يبق مجال للشك في الصحّة لنحتاج إلى إجراء قاعدة الفراغ حتى يلزم التدافع بينهما ـ وبهذا البيان يُرفع محذور التدافع:
والجواب عنه أنّ الشك في صحّة الصلاة في مفروض المثال (وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود) مسبّب عن الشك في وجود الركوع لما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً ناشئ من الشك في وجود أو الشرط فبعد الحكم بوجود الركوع لقاعدة التجاوز لا يبقى شك في صحة الصلاة حتى يكون مورداً لمفهوم قاعدة الفراغ ويقع التدافع بينه وبين منطوق قاعدة التجاوز)[184].
مناقشة نظرية المحقق الخوئي:
ذكرنا في الأبحاث السابقة إشكالين على القول بأنّ الشك في الصحة إنّما ينشأ دائماً من الشك في وجود الجزء أو الشرط وسنبحث في ذلك مفصّلاً في نهاية البحث عن مقام الثبوت، ونتجنّب عن الخوض في ذلك هنا:
الرأی المختار في الدليل الرابع:
الظاهر أنّ الجواب الصحيح هو الجواب الرابع الذي ذُكر في الدليل الثاني المتعلّق بمحذور اجتماع اللحاظين المتغايرين.
توضيح ذلك أنّه: لو تصوّرنا من البداية نوعين من التصوّر أحدهما التجاوز عن الشيء (أي التجاوز عن مجموع الشيء) والآخر هو التجاوز من الجزء إلى الجزء الآخر حصل التدافع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز حيث إنّ في مورد الشك في الركوع حين السجدة يدلّ منطوق قاعدة التجاوز (الجارية في التجاوز من الجزء إلى الجزء الآخر) على عدم الاعتناء بهذا الشك، لكن مفهوم قاعدة الفراغ (الجارية في التجاوز من مجموع الشيء وكلّ المركب) يدلّ على وجوب الاعتناء بهذا الشكّ فيحصل التدافع بين منطوق قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ فيتدافعان.
أمّا لو جعلنا كبرى كلّية واحدة بحيث لا تعيّن متعلّق التجاوز كأن يكون ذلك التعبير الكلّي (عدم الاعتناء بالشك بعد المضيّ أو التجاوز عن الشيء) فتكون الكبرى الكلّية مطلق التجاوز سواء عن مجموع العمل أو من جزءٍ إلى جزءٍ آخر فلا يتحقق التدافع بين منطوق قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ.
نتيجة البحث في مقام الثبوت:
نتيجة ما بحثنا عنه في مقام الثبوت إلى الآن هي أنّ جعل قاعدتي الفراغ والتجاوز بالجعل الواحد أمر ممكن حيث يمكن للشارع أن يبيّن كلتا القاعدتين ضمن كبرى كليّة واحدة، هذا وقد أجبنا فيما سبق[185] عن جميع المحاذير الواردة على اتّحاد القاعدتين، هذا وإن كان جعلهما على نحو الاستقلال أمراً ممكناً خالياً من الإشكال أيضاً.
بعد البحث عن مقام الثبوت تصل النوبة للبحث عن مقام الإثبات وهو أنّ الشارع هل قام بتشريع القاعدتين في كلامه بجعل واحدٍ أو بجعلين مستقلين أو أنّ تعابير الروايات مختلفة في ذلك؟
ولابد قبل الخوض في البحث عن مقام الإثبات، من بيان أنّ الشك في الصحة راجع إلى الشك في الوجود أم لا؟ ذلك أنّ هذا المطلب قد ذكر في كلمات كثير من الأعاظم فإنْ سلّمنا بهذه الكبرى كان لابدّ لنا عند الحديث عن الروايات في المباحث الآتية من الالتزام بأنّ المراد من الروايات الدالة على الشك في الصحة هو الشكّ في الوجود، وبالتالي تكون الروايات كلّها دالة على قاعدة التجاوز.
تحليل نظرية رجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود:
أوردنا في البحث السابق إشكالين على هذه الكبرى القائلة برجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود.
الإشكال الأوّل:
في كيفيّة جريان هذه الكبرى في الموانع فإنّ الشك في صحّة المانع لو رجع إلى الشك في وجود المانع كان العمل باطلاً مع أنّ القاعدة تفيد صحّة العمل المأتي به.
الإشكال الثاني:
هو أنّنا لو سلّمنا بصحّة هذه الكبرى كان لابدّ لنا من التعبّد بوجود الطهارة فيما لو شككنا في الطهارة بعد الفراغ من صلاة الظهر فندخل في صلاة العصر بهذه الطهارة التعبّدية وهذا ما لم يُفتِ به أحدٌ من الأعاظم والعلماء.
وهنا نضيف إلى هذين الإشكالين ثلاثة إشكالات أخرى نتم ونتم البحث.
الإشكال الثالث:
يستفاد هذا الإشكال من كلمات المحقق العراقي[186] فهو وإن لم يكن في مقام الإيراد على هذه الكبرى بل كان غرضه بيان مطلب آخر إلاّ أنّه يمكن عدّه إشكالاً على هذه الكبرى.
والإشكال وهو أنّه لو شك بعد الصلاة في وجود شروط ليس لها ما بإزاء خارجي مستقلّ كالترتيب والموالاة لم تجر فيها قاعدة التجاوز لأنّها منصرفة إلى الشك في أشياء لها وجود استقلالي.
فإنّ قاعدة الفراغ وإن جرتْ هنا وحكمتْ بصحّة صلاة هذا الشخص إلاّ أنّها لا يمكنها إثبات وجود الترتيب والموالاة لعدم استقلالية هذه الأشياء، وعدم احتسابها أجزاء مستقلّة كي يتعبّد المكلّف بوجودها.
ومن هنا فلا معنى لجريان قاعدة التجاوز في الأجزاء والشرائط من هذا القبيل لأنّها تجري في تلك الأجزاء والشرائط التي تتصوّر فيهما الدخول والخروج.
الإشكال الرابع:
هناك موارد تكون مجرى قاعدة الفراغ فقط دون قاعدة التجاوز وهي موارد الشك في الجزء الأخير من المركّب، وذلك لأنّ جميع الفقهاء إنّما يعتبرون في جريان قاعدة التجاوز الدخول في الآخر والتالي، وعليه فلا تجري قاعدة التجاوز في موارد الشك في الجزء الأخير، أمّا في قاعدة الفراغ فلم يعتبر فيها بعض المحققين الدخول والانتقال إلى التالي.
وعليه فلو انتهى المكلّف من صلاته وشك في أنّه هل أتى بالتسليم أولا مع أنه يدخل في أي عمل آخر بعد الفراغ من صلاته فإنّه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز هنا لأنّ التعبّد بوجود الشيء بقاعدة التجاوز إنّما يتمّ فيما لو انتقل المكلّف إلى الجزء التالي، وفي فرضنا لم ينشغل المكلّف بأي عمل آخر.
الإشكال الخامس:
إنّ الشك في الصحة والشك في الوجود ـ كما ذكر المحقق العراقي[187] ـ أمران مستقلان ولكلّ منهما آثار خاصّة به فإنّ قاعدة التجاوز تعبّد المكلّف بالوجود عند الشك في الوجود ولا يمكن إثبات الصحة من خلال التعبّد بالوجود إذ لا تكون الصحة على هذا مجعولة للشارع بمعنى أنّ الشارع لم يحكم بصحة العمل بل أمر بها العقل فيكون عنوان الصحّة أمراً انتزاعياً عقليّاً، فلو تعبّدنا بوجود الشيء بواسطة جريان قاعدة التجاوز لم يمكن لنا إثبات الصحة إلاّ عن طريق الأصل المثبت، والعكس صحيح إذ لو تعبّدنا بالصحة لم يجزْ لنا إثبات الوجود إلاّ بالأصل المثبت.
وعلى هذا فإنّ الصحة والوجود أثران مستقلان لا يمكن إثبات الآخر بوجود أحدهما إلاّ على القول بالأصل المثبّت، ومن هنا فلابدّ لكلّ من يقول بإرجاع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود أن يلتزم بأصله المثبت.
بعد أن بيّنا انجزام الكبرى الكلّية القائلة بإرجاع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود وأنّ من الممكن في مقام الثبوت جعل قاعدتي الفراغ والتجاوز بالجعل الواحد وصل بنا البحث عن مقام الإثبات وعمّا هو المستفاد من كلام الشارع في الروايات الواردة في جعل قاعدة الفراغ والتجاوز.
مقام الإثبات
البحث في مقام الإثبات في تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز
قبل البحث عن الروايات الواردة حول هذا الموضوع رأينا من الأنسب أن نذكر أولاً رأي المحقق النائيني في باب جعل قاعدة الفراغ والتجاوز.
نظرية المحقق النائيني في جعل قاعدة الفراغ والتجاوز:
ذكرنا كلامه فيما سبق من الأبحاث وفي الردّ على بعض المحاذير ويبتني كلامه على أنّ المستفاد من أكثر الروايات هو قاعدة الفراغ أي عدم الاعتناء بالشك بعد الانتهاء من جميع العمل بمعنى أنّه لو شك بعد الفراغ من كلّ المركّب لم يجب الاعتناء بذلك الشك.
ثمّ يتابع كلامه بأنّ من بين الروايات روايتين تدلاّن على قاعدة التجاوز وهما حاكمتان على قاعدة الفراغ بحيث توسّعان موضوع قاعدة الفراغ.
توضيح ذلك: أنّ روايات قاعدة الفراغ تدلّ على عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ من العمل المركّب أمّا صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر فتدلاّن على عدم الاعتناء بالشك في أجزاء الصلاة في أثناء الصلاة فأنّها تلحقان الشك في أجزاء الصلاة بالشك في صحّة المركّب فتكون لهما الحكومة على تلك الروايات وتوسّعان موضوعها الذي هو خصوص الشك في كلّ المركب بعد إنّها العمل وتبيّنان بأنّ عدم الاعتناء بالشك من قبل المكلّف له موردان أحدهما في صحة العمل المركّب والآخر في أجزاء الصلاة فيُلحَق الشك في الجزء بالشك في الكلّ في حكم عدم الاعتناء.
حاصل كلام المحقق النائيني هو أنّه لدينا قاعدة واحدة تسمّى قاعدة الفراغ وهي تجري في الشك في الكلّ وتجري في الشك في الأجزاء أيضاً إلاّ أنّ الشك في الأجزاء مختص بأجزاء الصلاة لأنّا نتبّع الدليل الحاكم وهو مختص بمورد أجزاء الصلاة فقط.
الإشكالات على نظرية المحقق النائيني:
الظاهر أنّ كلام المحقق النائيني مخدوش من عدة جهات:
1 ـ بغضّ النظر عن صحيحة زرارة وموثّقة إسماعيل بن جابر يمكن دعوى التعميم لروايات قاعدة الفراغ أنفسها بحيث تجري في الشك في الكلّ والشك في الأجزاء، وعليه فتشمل قاعدة الفراغ بنفسها الشك في الأجزاء.
2 ـ ما ذكره من اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة غير قطعي بل هو مدار نقاش ومحلّ نزاع فإنّ بعض الأعاظم كالشيخ الأنصاري يرى أنّ قاعدة التجاوز غير مختصّة بالصّلاة وإن كان من المسلّم عدم جريأنها في الوضوء.
3 ـ ولو أغمضنا النظر عن الإشكالين السابقين فإنّ أصل كلام المحقق النائيني القائل بحكومة صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر على روايات قاعدة الفراغ غير تام إذ يُعتبر في باب الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً عرفاً إلى الدليل المحكوم وينزّل شيئاً منزلة موضوع الدليل المحكوم مع أنّ العرف لو لاحظ روايات قاعدة الفراغ التي تقول: (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه) إلى جانب صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر التي تقولان: (إذا شككت في قراءة الصلاة أو تكبيرها فلا تعتن بالشك) لم يجد أيّ ارتباط بينهما فليس في هاتين الروايتين ما يفهم منه العرف أنهما ناظرتان إلى الروايات الواردة في باب قاعدة الفراغ.
فلا ناظرية عرفاً ليُحكم بحكومة هاتين الروايتين على روايات قاعدة الفراغ، وهذا الإشكال إنّما يتمّ فيما لو اعتبرنا في تعريف الحكومة ناظرية الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.
مقدمات بحث مقام الإثبات:
قبل الخوض في البحث مفصّلاً عمّا يستفاد من الروايات من القاعدتين أو القاعدة الواحدة لابدّ من تقديم أمور كمقدّماتٍ للبحث في مقام الإثبات:
المقدمة الأولى: ورد في الروايات تعبيران أحدهما (المضيّ) والآخر (الخروج عن الشيء).
والسؤال هنا: هل للخروج عن الشيء له إطلاق بحيث يشمل الخروج من الجزء كما يشمل الخروج من الكلّ أو أنّه يدلّ على الخروج من كلّ المركّب فقط؟
ذهب بعض الأعاظم كالمحقق البجنوردي(ع)[188] إلى أنّ التعبير المذكور له إطلاق وأنّ المستفاد من جميع الروايات عنوان واحد هو عدم الاعتناء بالشك بعد الخروج من الشيء ولمّا كان الشيء يصدق على الجزء أيضاً، فلا فرق بين أن يكون الشك شكّاً في كلّ الشيء أوشكّا في جزئه.
لكنّ الذي يظهر في الرأي عدم صحّة هذا الرأي لأنّ الخروج من الشيء تعبير له ظهور واضح في أنّ الإنسان قد أتمّ العمل، فالمتبادر إلى الأذهان من تعبير (الخروج من الشيء) هو الخروج من تمام الشيء أمّا إرادة الخروج من الجزء فهي بحاجة إلى القرينة، لأنّ العرف يعتبر المركّب شيئاً واحداً سواء في ذلك المركّب الخارجي كالمعجون أم المركّب الاعتباري كالصلاة، فلو تقرّر إطلاق الشيء على الجزء أيضاً للزم أن يمكن إطلاق عنوان الأشياء على ذلك المركّب مع أنّ العرف يأبى ذلك الإطلاق، وهكذا عند الشارع حيث اعتبر الوحدة في المركّبات الاعتبارية فُيطلق الشيء على كلّ الصلاة، وعليه فإنّ الخروج من الشيء وإنْ جاز إطلاقه لأول وهلة على الانتقال من أحد أجزاء المركّب إلى الجزء الآخر إلاّ أنّ إرادة الجزء من الشيء تحتاج إلى القرينة.
المقدمة الثانية: إنّ في روايات هذا البحث تعبيراً آخر وهو قوله(ع): (كلّما شككت فيه) وقد بيّنا سابقاً أن الشك هنا قسمان: شك في الوجود وشك في الصحة، ويرى الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب الرسائل أنّ عبارة (شككت فيه) ظاهرة في الشك في الوجود فعندما يقال بأنّ المكلّف قد شكّ في الشيء يراد به الشك في أصل وجوده أمّا استفادة الشك في الصحة من هذه العبارة فمحتاجة إلى القرينة.
هذا لكنّ الذي يبدو في النظر أنّ لهذه العبارة (كلّما شككت فيه) إطلاقاً بحيث تشمل الشك في الوجود والشك في الصحة معاً.
نعم لو أريد منها خصوص الشك في الصحة لكان ذلك مفتقراً إلى القرينة. ولهذا فكلّما أريد في هذه الروايات الشك في الصحة جيء فيها بالقرينة على فهم هذا المعنى.
فعلى سبيل المثال قال(ع): (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى) فإنّ قوله (مضى) يعني الإتيان وهو تعبير يستخدم فيما لو كان أصل وجود الشيء مفروغاً عنه وإنّما كان الشك في صحّته وإلاّ فإن التعبير بقوله (مضى) لا يتأتى فيما لو كان الشك في أصل وجود الشيء.
المقدمة الثالثة: النقطة الأخرى التي لابدّ من الالتفات إليها هي أنّه عند دراستنا لهذه الروايات علينا أن لا نتوهّم بمجرد وقوع نظرنا على عبارة (فرغت) أنّ الرواية مرتبطة بقاعدة الفراغ كما أن كلمة (التجاوز) يجب أن لا توهمنا بأن الرواية ناظرة إلى قاعدة التجاوز.
والذي أعتقده أنّ الروايات علی ثلاث طوائف: الطائفة الأولى روايات ظاهرة بل هي صريحة ونصّ في قاعدة التجاوز:
والطائفة الثانية روايات لها ظهور في قاعدة الفراغ.
والطائفة الثالثة روايات يحتمل فيها كلا الاحتمالين، ومن هنا فلو أمكن لنا استخراج القدر الجامع كانت دالة على كلتا قاعدتي الفراغ والتجاوز وإلاّ فإنّ هذه الروايات كانت مجملة.
دراسة الروايات: ولابدّ في مقام الإثبات من دراسة جميع الروايات بدقّة وإمعان ونحن نقسّم هذه الروايات إلى ثلاث طوائف.
أ ـ روايات قاعدة التجاوز:
الطائفة الأولى الروايات الدالة على قاعدة التجاوز فقط من دون أن تستفاد منها قاعدة الفراغ ولمّا سبق البحث السندي لهذه الروايات في المباحث السابقة فإنّنا نركّز في هذا المجال على البحث الدلالي للروايات:
1 ـ سألته عن رجل يشكّ بعدما سجد أنّه لم يركع، قال(ع): (يمضي في صلاته)[189].
في هذه الرواية يُسأل الإمام(ع)عن حكم من شكّ بعدما سجد في أنّه هل ركع أولا؟ وقد أجاب الإمام(ع)بأنّ صلاته صحيحة ولا يعتني بشكّه. وعلى هذا فإنّ هذه الرواية نصٌّ في الشك في وجود الركوع (الشك في وجود الجزء) وهو مجرى قاعدة التجاوز ولا يمكن أن تستفاد منها قاعدة الفراغ بوجه من الوجوه.
2 ـ الرواية الثانية شبيهة بالرواية السابقة: (في رجلٍ شكّ بعدما سجد أنّه يركع، فقال(ع): (يمضي في صلاته حتى يستقين)[190] وهي أيضاً صريحة في الشك في وجود الركوع حيث يقول الإمام(ع): لا يجب الاعتناء بهذا الشك حتّى يتيقّن بعدم إتيانه.
3 ـ (في الذي يذكر أنّه لم يكبّر في أول صلاته، قال(ع): (إذا استيقن أنّه لم يكبّر فَليُعِدْ ولكن كيف يستيقن)[191].
النقطة الأولى في هذه الرواية هي أنّ مراد السائل من قوله: (يذكر أنّه لم يكبّر) الشك في الإتيان بتكبيرة الإحرام بمعنى أن يخطر في ذهن المكلّف سؤال بأنّه هل كبّر أولا؟ وليس المراد أنّ المكلّف متيقّن من أنّه لم يكبّر لتجب عليه إعادة الصلاة حينئذٍ. وذلك كما يصرّح به الإمام(ع).
والنقطة الثانية في الرواية أنّ معنى قوله(ع): (ولكن كيف يستيقن)؟ هو أنّ المكلّف الشاكّ كيف يمكنه الوصول إلى حالة اليقين بهذه السرعة أي لا يمكن الاستيقان بهذه السرعة بالنسبة لمن شكّ في إتيان عملٍ ما.
4 ـ الرواية الرابعة صحيحة زرارة: (رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال(ع): (يمضي) قلت: رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال(ع): (يمضي) قلت: رجلٌ شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال(ع): (يمضي) قلت: شك في القراءة وقد ركع: قال(ع): (يمضي) قلت: شك في الركوع وقد سجد؟ قال(ع): (يمضي على صلاته) ثمّ قال(ع): (يا زرارة إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيءٍ)[192].
صدر هذه الرواية نصٌّ في قاعدة التجاوز وقد بيّنت خمسة من موارد قاعدة التجاوز إلاّ أنّ ذيلها في مقام بيان كبرى كلّية مبتنية على أنّه (إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء).
وقد سبق في المقدمة الأولى من مباحث مقام الإثبات أنّ الخروج عن الشيء ظاهر في الخروج عن كلّ الشيء وجميع المركّب بمعنى أنّ هذه العبارة من الرواية إذا خرجت من الشيء ثمّ شك فيه ـ لو كان لها الانصراف في الشك في الصحة حيث لو أكمل عملاً ثمّ دخل في غيره لم يجب الاعتناء بذلك الشك حصل التعارض حينئذٍ بين صدر الرواية وذيلها فكيف يمكن حلّ هذا التعارض؟
يقول الإمام الخميني[193] في حلّ هذا التعارض: بأنّ ذيل الرواية منفصل عن صدرها تماماً فإنّ صدر الرواية يدلّ على الشك في الوجود بينما يدلّ ذيلها على الشك في الصحة.
هذا وإن كان(ع)قد ذكر أولاً بأنّه من غير المستبعد أن نجعل صدر الرواية قرينة على التصرف في ذيلها ونحكم بأنّ المراد من عبارة (الخروج من الشيء) الواردة في الرواية هو الخروج من جزء الشيء والتجاوز عن محلّه. لكنّه ذكر في الأدلّة بأنّ هذه التوجيه لا يخلو من مناقشة وإشكال يتمثّل في أنّ صدر الرواية وذيلها لكلّ منها ظهور غير ظهور الآخر والظهوران يتعارضان ثمّ يتساقطان فلا يمكن الاستدلال بأيّ واحدٍ من الظهورين.
والذّي أعتقده هو أنّ ظهور الصدر والذيل إذا تساويا وتكافا صارت الرواية مجملةً، هذا ويمكن جعل كلّ من صدر الرواية وذيلها قرينة على الآخر حيث إنّ صدر الرواية نصٌ في الشك في الصحّة بينما ذيل الرواية ظاهرٌ في الشك في الوجود فيُقدّم الصدر على الذيل لكونه نصّاً أو أظهر.
ومن ناحية أخرى يمكن القول بأنّ الإمام الخميني(ع)إنّما كان كلامه حول ذيل الرواية في مقام إفادة قاعدة كلّية، ومن هنا ذكر عدّة موارد على سبيل المثال مما يكون ذلك قرينة على التصرف في صدر الرواية إذ كلّما ذُكر في الكلام أمران أحدهما على نحو التمثيل والآخر على نحو القاعدة الكلّيّة فإنّ العرف يحكم بأنّ القاعدة قرينة على الأمثلة قطعاً ولا يحكم ـ فيما لو ذكر المتكلّم مثالاً ثمّ بيّن القاعدة الكلّية ـ بأن القاعدة منحصرة في هذا المثال بل يرى أنّ القاعدة تجاوزت عن حدود هذا المثال بحيث سرتْ إلى سائر الموارد.
وبهذين التقريرين يمكن إخراج الرواية من إجمالها ولكنّ الإنصاف أن التقرير الأوّل هو الأولى والأرجح إذ أنّ في صدر هذه الرواية ذكرت ثلاثة موارد على سبيل المثال ثمّ ذكرت القاعدة الكلّيّة مما يدل ذلك على أنّ هذه الموارد قرينة على انحصار القاعدة في هذه الأمثلة.
والذي ندّعيه هو أنّه لو ورد في الكلام مثال واحد لم تكن القاعدة منحصرة به بل تتعدّى إلى سائر الموارد.
أمّا لو وردت في صدر الرواية موارد عديدة على سبيل المثال ثمّ ذكرت في ذيل الرواية قاعدة كلّيّة فإنّ الكلام يكون ظاهراً في أنّ القاعدة مطابقة للأمثلة ومنحصرة فيها وتكون كثرة الموارد المذكورة في صدر الرواية قرينة عند العرف على هذا الانحصار والاختصاص. وفيما نحن فيه لمّا كانت الأمثلة المذكورة في صدر الرواية متعلّقة بالشك في الوجود وقاعدة التجاوز فإنّ القاعدة الكلّية المذكورة في ذيلها يجب حملها على قاعدة التجاوز أيضاً.
والحاصل أنّ ثلاثاً من هذه الروايات الخمس تدلّ على جريان قاعدة التجاوز في خصوص الصلاة والرواية الرابعة ظاهرة في جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، والرواية الخامسة لها سعة وشمولية وليست مختصّة بالصلاة وذلك بملاحظة القاعدة المذكورة في ذيل هذه الرواية.
ب ـ روايات قاعدة الفراغ:
الطائفة الثانية هي الروايات الظاهرة في قاعدة الفراغ ولا يستفاد منها قاعدة التجاوز:
1 ـ الرواية الأولى الدالة على قاعدة الفراغ: (في الرجل يشك بعدما ينصرف من صلاته قال: فقال(ع): (لا يعيد ولا شيء عليه)[194] والسؤال فيها عمّن فرغ من صلاته ثمّ شكّ في صحّتها وعليه يكون مورداً لقاعدة الفراغ والإمام(ع)يحكم بصحّة صلاته وعدم الاعتناء بشكّه.
2 ـ (كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد)[195] قد سبق الكلام في هذه الرواية في المباحث السابقة وقلنا بأنّ قوله(ع): (كلّ ما شككت فيه) له إطلاق يشمل الشك في إتيان الجزء كما يشمل الشك في كلّ المركّب، ولما ذكر في تتمة الرواية قوله(ع): (بعد ما تفرغ من صلاتك) يتّضح لنا أنّ المراد من الشك هو الشك في مجموع المركّب بعد الفراغ من العمل ومن هنا: حكم الإمام(ع)بأنّه لو شك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها لا يعتنى بالشك وتكون صلاته صحيحة.
يرى الإمام الخميني(ع)أنّ هذه الرواية من مصاديق قاعدة التجاوز وتدلّ على أنّ المكلّف إذا شك في العمل المأتي به بعد الفراغ منه سواء كان الشك في الأجزاء أو الشرائط أم كان الشك في الوجود والصحة لابد من عدم الاعتناء بذلك الشك ـ وهو يصرّح: بأنّ التجاوز عن مجموع العمل هو الملاك طبقاً لهذه الرواية. هذا ولكنّ الظاهر أنّ هذا الاستنتاج خلاف الظاهر لظهور قوله(ع): (بعدما تفرغ من صلاتك) في قاعدة الفراغ.
3 ـ (كلّ ما شككت فيه مّما قد مضى فامضه كما هو)[196].
وفي هذه الرواية تكون عبارة (مّما قد مضى) قرينة على أنّ المراد بالشك هو الشك في صحة الكلّ والمجموع، وعليه يكون ذيل الرواية قرينة على اختصاص الرواية بقاعدة الفراغ.
4 ـ (رجلٌ شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة، قال(ع): (يمضي على صلاته ولا يعيد)[197].
لو شكّ المكلّف بعد أن فرغ من صلاته في أنّه هل توضّأ أولا، أجاب الإمام(ع)لا يعتني بشكّه وصلاته صحيحة ولا حاجة إلى الإعادة. وهذه الرواية أيضاً صريحة في قاعدة الفراغ لحصول الشك بعد الفراغ من العمل.
5 ـ صحيحة زرارة: (قال(ع): إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلتَ ذراعيك أم لا فأعدْ عليهما، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى من الصلاة أو غيرها فشككت فلا شيء عليك)[198].
في هذه الراوية يبدو لأوّل وهلة أنّها من روايات باب قاعدة الفراغ بقرينة قوله(ع): (فرغت) كما يظهر ذلك من أكثر الأعاظم لكنّ الذي يقتضيه دقيق النظر ـ كما بيّنا ذلك في مقدّمات البحث في مقام الإثبات ـ إن مجرّد استعمال كلّمتي الفراغ والتجاوز في الرواية لا يكون دليلاً على حمل الرواية على تلك القاعدة بل لابّد من ملاحظة الملاك الموجود في الرواية فإن كان متعلّقاً بالشك في صحة كلّ المركّب كانت الرواية مختصّة بقاعدة الفراغ وإن كان الملاك شاملاً للشك في إتيان الجزء كانت الرواية مبنيّة لقاعدة التجاوز.
المشهور في قاعدة الفراغ أنّها تجري عند الشك في الصحة بعد إكمال العمل إلاّ أنّ في صحيحة زرارة يقع البحث في أنّ المكلّف قد شكّ في وجود غسل اليدين ليكون المراد بالشك الوارد في صدر الرواية هو الشك في وجود الجزء ويكون ذلك قرينة على ذيل الرواية القائل: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه) لكون الذيل تفريعاً على الصدر.
نقد مبنی الإمام الخميني في تعدد القاعدتين
والسؤال المطروح هنا هو أن هذه الصحيحة مختصّة بقاعدة الفراغ أو التجاوز؟ وكيف يمكن توجيه ذلك؟
يمكن القول بأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الوجود سواء كان هذا الشك بعد تمامية العمل أم في أثناء العمل كما ذهب إلى ذلك المرحوم الإمام الخميني(ع)[199] من أنّ القاعدتين في أصل المسألة قاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز الجارية في الشك في الوجود والشك في الصحّة، أثناء العمل وبعد الانتهاء منه. فلو التزمنا بهذا المبنى أمكن لنا استفادة قاعدة التجاوز من التعبير بالفراغ في هذه الرواية.
هذا ولكنّ الذي أراه هو أنّ هذا المبنى ورأي المرحوم الإمام الخميني(ع)لا يتلاءم مع مجموع الرواية، لأنّ قاعدة الفراغ التي تتعلّق بالشك في صحّة مجموع العمل تشمل ما لو كان الشك في مجموع العمل ناشئاً من الشك في الجزء أو الشرط المعيّن وما لم يكن ناشئاً من الشك في الجزء المعيّن بل شكّ بعد الفراغ من العمل في أنّ العمل المأتي به هل كان صحيحاً أولا؟ ويستفاد هذا المطلب من صحيحة زرارة بشكل واضح.
هذا مضافاً إلى وجود رواية أخرى يستفاد منها أيضاً هذا المطلب وهي: (رجل شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة، قال(ع): (يمضي في صلاته ولا يعيد)[200] فعلى ما يستفاد من هاتين الروايتين يكون مورد قاعدة الفراغ أعمّ من الشك في الصحة والشك في إتيان جزءٍ معين وعدمه وبالتالي تكون صحيحة زرارة مختصّة بقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز خلافاً لما ذهب إليه المرحوم الإمام(ع)من أنّها مختصّة بقاعدة التجاوز.
الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز:
فالأنسب هنا بيان الفارق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز. فإنّ القائلين بتغاير القاعدتين كالمرحوم المحقق الهمداني والمرحوم المحقق العراقي والمرحوم الأخوند الخراساني يرون الفارق من جهة متعلّق الشك ويوجّهون التغاير بين القاعدتين عن طريق التغاير بين الشك في الوجود والشك في الصحة بمعنى أنّ قاعدة التجاوز تختص بمورد الشك في الوجود والإتيان، بينما تختص قاعدة الفراغ بالشك في الصحّة.
وعلى مبنى هؤلاء الأعاظم تكون النسبة بين قاعدتي الفراغ والتجاوز عموماً من وجه، مادّة الافتراق من جهة قاعدة التجاوز ما إذا شك المكلّف حالة الصلاة في أنّه هل أتى بالجزء السابق أولا؟ ففي هذا المورد تجري قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ.
وأمّا مادّة الافتراق من جهة قاعدة الفراغ ففيما لو شك المكلّف بعد الانتهاء من الصلاة في صحّتها من جهة فوات الموالاة أو الإخلال بالترتيب حيث تجري هنا قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.
وأمّا مادّة الاجتماع فهي فيما لو شك المكلّف بعد الفراغ من العمل في إتيان جزءٍ معيّن حيث تجري هنا قاعدة التجاوز من جهة الشك في الوجود كما تجري قاعدة الفراغ من جهة الشك في وجود ذلك الجزء يؤدّي إلى الشك في صحّة مجموع المركّب وعدم صحّته.
لكنّ الظاهر أنّ هذا المبنى لا يستفاد من الروايات، والّذي يستفاد منها بعد المزيد من التأمّل.
أولاً بأنّ الفرق بين هاتين القاعدتين إنّما يتجسّد في حصول الشك بعد الانتهاء من العمل أو في أثنائه بمعنى أنّ الشك بعد انتهاء العمل موردٌ لجريان قاعدة الفراغ سواء كان الشك في صحّة العمل أم في وجود الجزء المعيّن، أمّا لو حصل الشكّ أثناء العمل جرت قاعدة التجاوز، ومن هنا فلو لم تكن روايات قاعدة التجاوز لكان الواجب بمفاد روايات قاعدة الفراغ أن يُرتّب الأثر على الشك حين العمل ويجب الاعتناء به.
وعلى هذا يكون بين القاعدتين نسبة التباين ولا تجمعهما مادّة الاجتماع أبداً، لأنّ القاعدتين حينئذٍ متغايرتان تماماً، مضافاً إلى أنّ الفراغ من العمل في قاعدة الفراغ يُعتبر ملاكاً عرفياً وعقلائياً حيث لو شكّ في العمل بعد الانتهاء منه لا يعتنى بالشك، أمّا في قاعدة التجاوز فهي مجرّد تعبّد من الشارع حيث حكم بعدم الاعتناء تعبداً بالشك فيما لو تجاوز محلّ الجزء المشكوك.
ثانياً: بناءاً على مفاد الروايات فإنّ قاعدة الفراغ تجري في الشك في الصحة كما تجري في الشك في الوجود، أمّا قاعدة التجاوز فالظاهر اختصاص مدلول روايات التجاوز المطابقي بالشك في الوجود ولا تجري قاعدة الفراغ في هذه الموارد لاختصاص الشك بما بعد العمل.
لكنّنا في مثل هذه الموارد نتمسّك بمفهوم الأولوية لقاعدة التجاوز ونقول: لو جرت قاعدة التجاوز عند الشك في أصل وجود جزءٍ في أثناء العمل فأنّها تجري بطريق أولى عند الشك في صحّة ذلك الجزء فالمدلول المطابقي لقاعدة التجاوز يختص بالشك حين العمل في وجود الجزء لا في صحّة الجزء الموجود. أمّا موارد الشك في الصحة فيستفاد حكمها من مفهوم الأولوية لهذه القاعدة.
ثالثاً: إنّ قاعدة التجاوز لا تجري في جميع أنواع الأجزاء فإنّ هناك نوعين من الأجزاء لا تشملها هذه القاعدة:
1 ـ الأجزاء غير المستقلّة: والمراد بها ما كان كالترتيب والموالاة في الصلاة، فلو شككنا أثناء الصلاة في أنّه هل روعي الترتيب أو الموالاة في الصلاة أولا، لم يمكن لنا إثبات صحة الصلاة بقاعدة التجاوز، نعم لو وقع هذا الشك بعد الانتهاء من الصلاة جرت قاعدة الفراغ وصحّت الصلاة بها.
والدليل على عدم جريان قاعدة التجاوز في الأجزاء غير المستقلّة هو قوله(ع): (خرج منه ودخل في غيره) الذي له ظهور واضح في الأجزاء المستقلّة.
2 ـ الجزء الأخير للمركب: هو من الأجزاء التي لا تجري فيها قاعدة التجاوز كالتسليم في الصلاة، فلو شكّ المكلّف في أصل تسليم صلاته لم يصدق عليه(ع): (خرج منه ودخل في غيره) لأنّه لم يدخل في عمل آخر.
دراسة وتحليل رأي الإمام الخميني(ع) في استفادة قاعدة التجاوز من الروايات
المسألة الاخری تحليل رأي المرحوم الإمام حول استفادة قاعدة التجاوز من خلال الروايات وأنّ التجاوز أعمّ مطلق من الفراغ:
ذكرنا أنّ الإمام الخميني(ع)حمل صحيحة زرارة[201] على قاعدة التجاوز وصرّح بأنّ التجاوز عن المحل والفراغ من العمل لا مدخلية لهما كملاك للقاعدتين[202].
والذي أراه أن نظرية الإمام الخميني(ع)غير قابلة للاستفادة من الروايات. أُولى هذه الروايات وعمدتها التي يمكن التمسّك بها موثقة إسماعيل بن جابر:
(إسماعيل بن جابر، قال: قال أبو جعفر(ع): إنْ شكّ في الركوع بعدما سجد فليمض وإن شك في السجود بعدما قام فليمض، كلّ شيءٍ شك فيه مّما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه)[203].
فهو يرى بمقتضى هذه الرواية أنّ قاعدة التجاوز أعمّ مطلق باعتبار شمولها للشك في الصحة والشك في الوجود، كما تشمل الشك في أثناء العمل والشك بعد العمل، وهذا المعنى العام يستوعب مدلول قاعدة الفراغ ومن هنا فلا حاجة إلى جعل قاعدة مستقلّة بعنوان قاعدة الفراغ.
مناقشة نظرية الإمام الخميني(ع):
والظاهر أنّ استفادة هذا المطلب من موثقة إسماعيل بن جابر غير تام لأنّ صدر الرواية إنّما بيّن موردين من الشك (الشك في الركوع بعد إكمال السجود والشك في السجود بعد القيام) وكلاهما يعودان إلى الشك في أثناء العمل وهاذان الموردان قرينة على أنّ المراد من ذيل الرواية حيث يقول الإمام(ع): (كلّ شيءٍ شك فيه مما قد جاوزه) فيراد به أيضاً الشك في أثناء العمل وإن كان إطلاق (كلّ شيءٍ شك فيه) من غير ملاحظة تتمة الرواية شاملاً للشك بعد العمل والشك في الصحة الذي هو مجرى قاعدة الفراغ.
إنّ عبارة (مما قد جاوزه ودخل في غيره) ظاهرة في الشك حين العمل ومن أنكر هذا الظهور فإنّ أقصى ما يمكن أن يدّعيه هو أنّ الرواية مجملة من هذه الجهة.
وقد ذكرنا فيما سبق أنّ المتكلّم إذا ذكر مثالاً واحداً قبل بيان الكبرى الكلّيّة فإنّ ذكر الكبرى يكون قرينةً على تعدّي الحكم عن ذلك المثال الواحد أمّا لو ذکر أمثلة متعددة ولها محور واحد كانت الأمثلة قرينة على الكبرى وانحصرت القاعدة الكلّيّة في تلك الأمثلة، وفي هذه الرواية ذكر الإمام(ع)قبل بيان القاعدة الكلّيّة مثالين لهما محور واحد وهو الشك حين العمل فلابدّ من أن تختص الكبرى المذكورة في الرواية بالشك حين العمل.
الرواية الثانية التي تمسّك بها الإمام الخميني هي موثقة محمد بن مسلم (كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو)[204] قائلاً: (ليس معناه كلّما شككت في صحّته بعد الفراغ منه بل معناه أنّه كلّما شككت في وجوده جزءاً كان أو شرطاً أو نفس العمل ممّا قد مضى محلّه المقرّر الشرعي فأمضه كما هو فيكون مفاده إعطاء قاعدة التجاوز)[205].
فالإمام الخميني(ع)يرى أنّ الضمير في (فيه) الوارد في الرواية يعود إلى وجود العمل سواء كان نفس العمل أو جزئه أو شرطه ولا يعود الضمير إلى صحة العمل.
مناقشة رأي الإمام الخميني(ع):
الظاهر أنّ رأي المرحوم في هذه الرواية يمكن الإشكال عليه من جهات عديدة:
1 ـ إنّ هذا الكلام منه يحتاج إلى تقدير كثير من الألفاظ لكونه خلاف الظاهر.
2 ـ إنّ لفظة ـ من ـ المذكورة في الرواية بيانيّة لا تبعيضية فتكون الرواية ظاهرة في كلّ العمل فيكون المراد بالشك الشك بعد العمل، وعليه تختصّ الرواية بقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.
3 ـ إنّ ما تفضّل به الإمام الخميني(ع)في تفسير الرواية من أنّ معنى (قد مضى) أي قد مضى محلّه المقرّر الشرعي فهل يصدق تجاوز محل العمل على تجاوز العمل نفسه أولا؟ ذلك أنّ المحلّ أمر تعبّدي ولا يمكننا أن نعرف متى يتحقق التجاوز عن المحل ولابد للشارع من أن يوضّح لنا ذلك، فمثلاً يستفاد من كلمات الشارع أنّ محلّ الركوع قد تجاوز عند تحقق السجود، أمّا العرف فلا يفهم ذلك كما لا يدرك العرف الفرق بين الجزء الركني وغير الركني.
4 ـ مضافاً إلى كون مضيّ المحل أمراً تعبّدياً فإنّ العرف لا يرى صدق تجاوز المحلّ على ما لو فرغ المكلّف من العمل فلا يقال فيه: مضى محلّه بل يقال: مضى أصله وكلّه.
ولهذا كلّه (أي للإشكالات المذكورة) ذهب المشهور إلى أن معنى (كلّما شككت فيه) هو أنّه كلّما شككت في نفس العمل لا في جزئه أو شرطه، ولعلّ هذا هو السر في أن يحتمل الإمام الخميني(ع)بعد أسطر من كلامه السابق أنّ الرواية مختصّة بالشك في العمل فلا تشمل الشك في الجزء أو الشرط فهو يقول:
(يقرب احتمال آخر في قوله (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو) وهو أنّه بصدد بيان موردٍ من موارد قاعدة التجاوز أي الشك الحادث بعد مضي العمل المتعلّق بكلّ ما اعتبر فيه... فالشك الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مضيّ المحلّ لا اعتبار به...)[206].
فهو في كلماته هذا يرى أنّ الموثّقة مختصّة بالشك بعد مضي العمل، وعليه تكون الرواية في صدد بيان أحد موارد التجاوز وهو الشك بعد الانتهاء من العمل، وحينئذٍ فلا دلالة لها على الشك في أثناء العمل.
5 ـ الإشكال الخامس هو أنّه(ع)استند إلى كلمة (مضى) في هذه الرواية بأنّ لها معنى عاماً يشمل مضيّ الجزء كما يشمل مضيّ كلّ العمل ونحن نقول بأنّ التعبيرات المختلفة قد وردت في الروايات من أمثال (بعدما ينصرف) (بعدما يصلّي) (بعدما يفرغ) وهي غير قابلة للحمل على معنى التجاوز بل لها ظهور في قاعدة الفراغ، ومن البعيد جدّاً أن يستفاد عنوان التجاوز عن المحلّ من هذه التعبيرات.
الرواية الثالثة التي استند إليها الإمام الخميني(ع)موثقة ابن أبي يعفور: (وعن المفيد، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبدالكريم بن عمرو، عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع)قال: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيءٍ إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه)[207].
حيث يقول الإمام الصادق(ع)في هذه الرواية بأنّك كلّما شككت في جزءٍ من الوضوء ولم تدخل في غيره فشكّك لا يعتنى به ثمّ يبيّن الإمام(ع)قاعدة كلّيّة بقوله: (إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) يعني أن الشك إنّما يعتنى به فيما لو لم يتجاوز محل المشكوك ولم يدخل في غيره.
وفي هذه الرواية بحثان لابدّ من التدقيق فيهما: أحدهما في الضمير الغائب في (غيره)، والآخر في القاعدة الكلّيّة التي بيّنها الإمام(ع)في ذيل الرواية.
أمّا البحث الأوّل فيتمثّل في السؤال عن مرجع الضمير الغائب في قوله(ع)(دخلت في غيره) فإن كان مرجعه لفظ (شيء) بمعنى أنّ الإمام(ع)يقول: (إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غير الشيء) كان مفاد الرواية قاعدة التجاوز وحينئذٍ يرد الإشكال على هذا الاحتمال بأنّه مخالف للفتاوى والنصوص لقيام الإجماع القطعي على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.
والاحتمال الثاني أن يكون مرجع الضمير الغائب كلمة الوضوء بمعنى أنّ الإمام(ع)يقول: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غير الوضوء) وعليه يكون مفاد الرواية قاعدة الفراغ.
هذا ولكنّ الذي ينبغي أن يذكر هو أنّ الرواية الظاهرة في معنى لا يمكن رفع اليد عن ظهورها بسبب مخالفة هذا الظهور للفتاوى، ولا يمكن التصرّف في ظاهر الرواية بواسطة الإجماع فالإجماع أو الفتاوى لا يكون قرينة على التصرف في المراد الاستعمالي والمراد الجدّي بل يمكن الالتزام بطرح الرواية المخالفة للإجماع. وهذا ينطبق على هذه الرواية مورد البحث.
البحث الثاني هو أنّ ذيل الرواية (إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) يمكن أن يؤيّد رأي الإمام الخميني(ع)في أنّ الروايات ناظرة إلى قاعدة التجاوز والملاك الوحيد هو التجاوز عن المحلّ، لأن ذيل الرواية بقرينة كلمة إنّما الظاهرة في الحصر عند مشهور الأدباء يحصر الشك المعتنى به في الشك فيما لم يتجاوز عن الشيء، ولاسيما إذا التزمنا في البحث الأوّل بأنّ مرجع الضمير الغائب هو الوضوء ليكون مفاد الرواية قاعدة الفراغ. ذلك أنّ ملاك قاعدة الفراغ هو التجاوز عن المحل بحسب الرواية في هذه الصورة دون الفراغ منه.
ولابد من الالتفات إلى ما ذكرناه في البحث الأوّل من أنّ مخالفة رواية للفتاوى والإجماع لا توجب رفع اليد عن ظهورها فلا يمكن التصرّف في مدلول الرواية بسبب الإجماع والفتاوى والطريق الوحيد الذي يمكن التصرف به في مدلول الاستعمالي هو وجود رواية أخرى ناظرة إلى هذه الرواية وطالما أنّ هكذا رواية مفقودة في المقام فإنّ موثقة ابن أبي يعفور تكون مؤيدة لرأي الإمام الخميني(ع)وإنْ لم يؤكّد عليه هو. فبما لم نجد جواباً عن ذلك كانت نظرية الإمام الخميني(ع)راسخة صحيحة إلاّ أنّ التحقيق يقتضي عدم قدرة الرواية على إثبات رأي الإمام الخميني(ع)وذلك:
أ ـ إذ لو كان صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة التجاوز لوجب بحسب ظاهرها جريان هذه القاعدة في الوضوء أيضاً مع أن صحيحة زرارة نفت جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، كما أنّ إجماع الفقهاء على خلاف هذا الجريان.
نعم لا يمكن أن يكون هذا الإجماع سبباً للتصرّف في المدلول الاستعمالي للرواية إلاّ أنّه يُسقطها عن الحجية فإذا صار صدر الرواية مختصّاً بقاعدة التجاوز وجب اختصاص ذيلها الوارد لبيان القاعدة الكلّية بقاعدة التجاوز بقرينة السياق.
وبعبارة أخرى أنّ لفظة (شيء) الواردة في ذيل الرواية هي نفس لفظة (شيء) الواردة في صدرها فإذا كانت هذه اللفظة في صدر الرواية بمعنى الجزء (شيء من الوضوء أي جزء من الوضوء) كان كذلك في ذيل الرواية.
ب ـ حتى لو قيل في الاحتمال الثاني بأن صدر الرواية ذو احتمالين حيث يحتمل أن يكون ناظراً إلى قاعدة التجاوز وكذلك إلى قاعدة الفراغ فإنّ الرواية على هذا تصبح مجملة لقابلية حملها على كلا الاحتمالين على حدّ سواء فلابد من طرحها.
فعلى مبنى صحة التفکيك في حجية الروايات[208] كما نذهب إليه فإنّنا نوضّح المراد من ذيل الرواية ولا علاقة لنا بصدرها فإنّ المدّعى هو أن قوله(ع): (إنما الشك في شيءٍ لم تجزه) ظاهر في نفسه في أجزاء المركب ويشمل مجموع المركب فيختص ذيل الرواية بقاعدة التجاوز ولا علاقة له بقاعدة الفراغ، إذ لو عمّت الرواية لقاعدة الفراغ التي تتعلّق بصحة العمل بعد الانتهاء منه كان مفاد الرواية حينئذٍ أنّه لو تجاوزتْ العمل فلا تعتن بشكّك وإلاّ فاعتن به ـ ولمّا كان ملاك التجاوز هو الدخول في الجزء الآخر أي أنّ (لم تجزه) بمعنى لم تدخل في غيره، فلو أنّ المكلّف شكّ في صحّة صلاته بعد الانتهاء من صلاته وقبل الدخول في أي عمل مناف آخر وهو جالس على مصلاه فلابدّ من الحكم بعدم الاعتناء بشكّه بمفاد هذا الرواية مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يلتزم بذلك ولم يُفت به.
ج ـ لو سلّمنا بموافقة موثقة ابن أبي يعفور لما ذهب إليه الإمام الخميني(ع)من أنّ كلمة الشيء الواردة في الرواية تشمل كلّ العمل وجزأه وإن جملة (لم تجزه) أعمّ من التجاوز عن المحل والتجاوز من نفس الشيء كانت موثقة ابن أبي بكير دالة حينئذٍ على القدر الجامع بين القاعدتين لا أنّها دالة على قاعدة واحدة.
ومن هنا فإنّ الروايات الواردة في باب قاعدتي الفراغ والتجاوز ثلاث طوائف:
إحداها: تختص بقاعدة الفراغ والشك بعد العمل.
والثانية: تتعلّق بقاعدة التجاوز والشك حين العمل.
والثالثة: روايات تعمّ كلّتا القاعدتين بمعنى أنّ مفادها يشمل الشك بعد العمل وكذلك الشك حين العمل، ومن هذا القسم الثالث موثقة ابن أبي يعفور.
دراسة رواية موثقة بكير بن أعين:
بقيت رواية أخرى وهي موثقة بكير بن أعين التي لابدّ من دراستها بدقّة وإمعان لعل المستفاد منها الملاك الواحد على كلتا القاعدتين.
وهذا نص الرواية: (عن بكير بن أعين، قال: قلت له: الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ قال(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك)[209].
ولابد من البحث في عدة نقاط من هذه الرواية:
1 ـ ما هو متعلّق الشك في قوله: (الرجل يشك بعدما يتوضّأ)؟ هل شك المكلّف في صحة مجموع العمل بمعنى أنّه يعلم بإتيانه جميع أجزاء الوضوء إلاّ أنّه يشك في صحّتها أو أنّه قد شك في وجود جزءٍ من أجزاء الوضوء أو أنّه يشمل الأعم منهما ـ الشك في وجود الجزء والشك في صحّة مجموع العمل؟ الظاهر أنّ الاحتمال الثالث هو الصحيح من بين هذه الاحتمالات الثلاثة، وعليه يمكن أن يكون متعلّق الشك صحة مجموع المركّب، وكذا الجزء المعيّن من أجزاء العمل، وعليه فإنّ مورد الرواية هو الشك بعد العمل ـ في الوجود أو في صحّة العمل ـ الذي هو مجرى قاعدة الفراغ لأنّ ملاك قاعدة الفراغ كما ذكرنا سابقاً هو الشك بعد الانتهاء من العمل.
2 ـ النقطة الثانية هي: أنّ ملاك الأذكرية هل يوجد في قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز؟
للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من القول بأنّ التعبير بقوله(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك) ليس تعبّداً شرعياً وليس الإمام(ع)فيه بصدد بيان الملاك الشرعي، بل في هذا التعبير إشارة إلى أمر واقعي عقلائي، وعليه فلابد من الرجوع إلى العقلاء لمعرفة أنّ الأذكرية عندهم هل هي معتبرة بعد العمل فقط بمعنى أنّهم يقولون: إذا شككت في صحة العمل أو في وجود جزء من أجزاء العمل بعد الانتهاء من العمل فلا تعتن بشكّك لأنّك حين العمل كنت أذكر، أو أنّ العقلاء يلتزمون بهذا المقال في الشك في أثناء العمل أيضاً فيقولون مثلا: لو سجد المكلّف ثمّ شك في أنّه ركع لم يعتن بشكّه لأنّه حين الركوع كان أذكر؟
والذي نعتقده هو أنّ الأذكرية تامّة قطعاً في الشك بعد العمل إذ كلّ عامل حين اشتغاله بالعمل أذكر من زمن الفراغ من العمل، ذلك أنّ المكلّف حين العمل يركز كلّ اهتمامه على إتيان العمل على ما هو عليه.
أمّا في أثناء العمل فإنّ الأذكرية بالنسبة إلى الجزء السابق فمحل تأمّل، إذ لو وجب القبول بالأذكرية هنا لوجب القبول بها قبل الدخول في المحل والجزء الآخر أيضاً، فمن هوى إلى السجود مثلاً وشك في الركوع قبل أن يضع جبهته على ما يصحّ السجود عليه فلابد من الالتزام بأنّه في حالة الركوع كان أذكر وعليه فلو جرت الأذكرية في قاعدة التجاوز وجب الالتزام بجريأنها قبل الدخول في الجزء الآخر أيضاً، وهو محلّ تأمل وغير قابل للقبول.
لو سلّمنا جريان ملاك الأذكرية في قاعدة التجاوز أيضاً فهل يمكن أن تكون وحدة الملاك في القاعدتين سبباً لاتّحاد القاعدتين؟ وهل يتوقّف تغاير القاعدتين على تغاير الملاك فيهما؟
الجواب بالنفي وليست وحدة الملاك دليلاً على وحدة القاعدتين لوجود موارد كثيرة في الفقه يجمعها ملاك واحد مع بقاء التعدّد والتغاير على حاله، فمثلاً في باب الخيارات فإنّ الملاك في خيار الغبن وخيار العيب وخيار تخلّف الشرط واحد وهو (لا ضرر) فهذه الخيارات المتعدّدة ملاكها واحد وهي متغايرة ومتعدّدة.
وعليه فالحاصل أنّ الأذكرية إنّما تجري في قاعدة الفراغ فقط ولو جرت في قاعدة التجاوز أيضاً لزم التالي الفاسد مضافاً إلى أنّ ذلك لا يوجب وحدة قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ، ومن هنا فإنّ موثقة بكير بن أعين لا يمكن إثبات وحدة القاعدتين بها أيضاً.
وبالجملة فإنّ المستفاد من الروايات أيضاً هو وجود قاعدتين مستقلتين لهما ملاكان مختلفان وهما الشك بعد العمل والشك حين العمل.
ثمّ أنّه لابد هنا من التعرض لإشكالين تكملة للبحث وإثباتاً للمدّعى.
الإشكال الأوّل: ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري(ع)وبعض الأعلام[210] تبعاً له وهو أنّ في خمس عشرة رواية من روايات هذا الباب تکون وحدة السياق والتعبير، ومن المعلوم أنّ السياق قرينة عرفية على جعل الشارع المقدس حكماً واحداً.
جواب الإشكال الأوّل:
الظاهر أنّ هذا الإشكال غير وارد:
أولاً: لأنّ قرينية السياق محلّ تأمل وإشكال فمثلاً في القرآن الكريم وردت قبل آية التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[211] آيات عديدة تتحدّث عن أمور تتعلق بنساء النبي(ص)فلو سلّمنا قرينية السياق لزم القول بشمول الضمير (عنكم) في آية التطهير لجميع نساء النبي(ص)والحق يقتضي خلاف ذلك وأنّ آية التطهير لا تشمل نساء النبي(ص).
ثانياً: لو سلّمنا قرينية السياق فأنّها في كلام المتكلّم الواحد بحيث تكون الجمل متّصلة لا في الجمل المنفصلة كما هو الشأن فيما نحن فيه حيث إنّ الرواية من الإمام الباقر(ع)والأخرى من الإمام الصادق(ع)حتى الروايات الواصلة من الإمام الواحد كالإمام الصادق(ع)فإنّ رواتها مختلفون فلا يمكن للسياق أن يكون قرينة مع وجود هذا الاختلاف.
ثالثاً: الأهمّ من الجوابين السابقين هو أنّه لا وجود لوحدة التعبير في روايات الباب فإنّ البحث في روايات قاعدة التجاوز إنّما هو عن التجاوز عن المحل المقرّر الشرعي حيث يقول مثلاً: (يشك في السجدة حينما قام ـ أو ـ شكّ في الركوع حينما سجد).
وأمّا البحث في روايات قاعدة الفراغ فهو إتمام العمل والانتهاء منه فمثلاً يقول: بعدما ينصرف من صلاته ـ بعدما يفرغ من صلاته) فهل هذه التعبيرات واحدة؟ كلّا ليس كذلك بل الموجود في صحيحة زرارة کلمتان مختلفتان حيث يقول: (إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليها... فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو... لا شيء عليك فيه)[212] حيث ذُكر فيها تعبيران مختلفان كلّ منهما موضوع لحكم مختلف عن الآخر، وعليه فلا مصداقية لوحدة السياق والتعبير.
الإشكال الثاني: ما يستفاد من كلمات بعض أهل النظر وهو أنّ الملاك في قاعدة التجاوز هو الشك في الوجود، والتحقيق أنّ الشك في الوجود راجع إلى الشك في الصحة عكس ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري.
توضيح الإشكال هو أنّه عندما يُشك في وجود جزءٍ معيّن والمفروض وجود سائر الأجزاء، وعليه فإنّ الشك في إتيان ذلك الجزء يوجب الشك في صحّة سائر الأجزاء فيرجع الشك في الوجود إلى الشك في الصحّة، وبعبارة أخرى أنّ التعبّد بوجود الجزء عند الشك في وجوده إنّما هو في الواقع تعبّد بصحّة سائر الأجزاء.
جواب الإشكال الثاني:
أولاً: ذكرنا سابقاً بأنّ الشك في الصحة لا يرجع إلى الشكّ في الوجود ولا العكس بل هما عنوانان مستقلاّن لكلّ منهما آثاره المختلفة.
ثانياً: ما قيل في الإشكال لا يتوافق مع ظاهر روايات قاعدة التجاوز ففي روايةٍ من باب المثال حيث يسأل السائل: أشكّ أثناء السجود في أنّي هل ركعت أولا؟ ويجيب الإمام(ع): (إنّك قد ركعت).
فإنّ الإمام(ع)هنا لم يلاحظ سائر الأجزاء بل تعبّدنا بأنّ نبني على إتيان الركوع.
إلى هنا أثبتنا أنّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتان مستقلّتان متغايرتان ونحن نعتقد بتعدد القاعدتين.
ثمرة بحث تعدّد القاعدتين أو وحدتهما:
ثمّ أنّه بعد أن اتّضح لنا بأنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدتان مستقلتان بحسب مقام الإثبات بقي أن نتساءل عن ثمرة هذا التعدد.
وسنذكر في المباحث الآتية ثمراتٍ لهذا البحث من قبيل أن يقال بأنّ الدخول في الغير شرط في قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ أو يقال بأنّ قاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب الفقه أمّا قاعدة التجاوز فهي مختصّة بالعبادات وتجري في باب الصلاة بالخصوص وغير ذلك من الثمرات التي سنذكرها.
وبغض النظر عن هذه الثمرات فإنّ المحقق العراقي ذكر في كتابه نهاية الأفكار ثمرة جيّدة لهذا البحث نذكرها هنا فهو يقول: فيما لو تيقّن المكلّف بأنّه ترك سجدة واحدة أو التشهّد من صلاته مّما جعله يشكّ في الإخلال بالترتيب أو الموالاة في صلاته فإن جعلنا الفراغ والتجاوز قاعدتين مستقلّتين أجرينا قاعدة الفراغ هنا وحكمنا بصحّة الصلاة، ثمّ حكمنا بوجوب قضاء السجدة الفائتة أو التشهد الفائت بواسطة تلك القاعدة.
وبعبارة أخرى فإنّ المكلّف بعد علمه بعدم إتيان السجدة الواحدة يشك في صحة باقي الأجزاء من جهة الإخلال بالترتيب فنحكم حينئذٍ بصحّة باقي الأجزاء بمقتضى قاعدة الفراغ ومن آثار الصحة وجوب قضاء السجدة المنسيّة.