المبحث الثاني : الرهن والارتهان والإقراض والاقتراض
المشهور بين الفقهاء أنّه يجوز للوليّ رهن(1) مال الصبيّ وأخذ الرهن ، وهكذا الإقراض والاقتراض له إذا افتقر إلى ذلك مع مراعاة المصلحة .
قال الشيخ(رحمه الله) : «وأمّا رهن ماله; فإنّه لا يجوز إلاّ أن يكون به حاجة إلى مال ينفقه عليه في كسوته وطعامه، أو يرمّ ما استهدم من عقاره ، ويخاف إن تركه هلاكه وعظيم الخسران وله مال غائب يرجو قدومه، أو غلّة تدرك إذا بيعت بطل كثير
منها ، فإذا تركت حتّى يدرك توفّر ثمنها ; فإنّ الوليّ يستقرض له هاهنا ويرهن من ماله ويقضيه من غلّته أو ما تقدّم عليه ، وإن لم يكن له حاجة إلى شيء من ذلك وكان بيع العقار أصلح باعه ولم يرهن»(2) .
وفي الشرائع : «يجوز لوليّ الطفل رهن ماله إذا افتقر إلى الاستدانة مع مراعاة المصلحة ، كأن يُسْتَهْدَم عقاره فيروم رمّه ، أو يكون له أموال يحتاج إلى الإنفاق
-
(1) الرهن اسم للشيء المرهون الذي يجمع على رهان ، كسهم وسهام ، ومعناه في اللُغة الثبوت والدوام ، رهن الرجل الدّابة أي أثبته وأدامه ، ورهن فلان عند فلان الشيء حبسه عنده بدين. يقال : رهنته لساني أي كففته وحبسته، فهو مرهون ورهين ، المعجم الوسيط : 378 ، المصباح المنير: 242 .
وعرّفه الفقهاء : بأنّه وثيقة دين المرتهن ، أو عقد شرِّع لاستيثاق على الدّين ، تذكرة الفقهاء 13 : 87 ، شرائع الإسلام 2 : 75 ، قواعد الأحكام 2 : 108 ، الدروس الشرعيّة 3 : 383 ، جامع المقاصد 5 : 44 ، الأحكام الواضحة للشيخ الفقيه الفاضل اللنكراني : 356 .
وقال في الجواهر 25 : 94 في شرح كلام المحقّق(قدس سره): إنّ الرّهن وثيقة لدين المرتهن « لكن لا يريدون بذلك أنّه حقيقة شرعيّة، بل المراد حقيقة عند المتشرّعة» ثمّ ذكر المناقشات على التعريف والجواب عنها إلى أن قال: «وعلى كلّ حال فلا ينبغي الالتفات إلى هذه المناقشات بعد أن كان الرهن باقياً على معناه اللغوي ، وإنّما اعتبر الشارع فيه شرائط للصحيح منه، فهو حينئذ هنا حبس العين باللفظ المخصوص ».
(2) المبسوط للطوسي 2 : 201 .
لحفظها من التلف أو الانتقاص ، فيرهن بذلك ما يراه من أمواله إذا كان استبقاؤها
أعود»(1) . وكذا في المختصر النافع(2) .
وبه قال الشهيد في الدروس ، حيث قال : «ويجوز لوليّ الطفل رهن ماله إذا افتقر إلى الاستدانة لإصلاح مال استبقاؤه ( استيفاؤه خ ل ) أعود أو لنفقته»(3) .
وكذا في اللمعة(4) .
ونحو ذلك قول العلاّمة : «يجوز لوليّ الطفل أن يرهن ماله إذا افتقر إلى الاستدانة مع المصلحة ، مثل أن يستهدم عقاره فيحتاج في إصلاحه إلى الاستدانة أو يكون له ما يحتاج إلى الإنفاق عليه ، أو تكون به حاجة إلى نفقة وكسوة ، أو يخاف من تلف بعض ماله فيستدين الوليّ لحفظه ويرهن ما يراه مصلحة ، وله أن يقبض الرهن مع المصلحة أيضاً»(5) .
وكذا في الإرشاد(6) والتذكرة(7). وبه قال المحقّق الأردبيلي(8) والشهيد في المسالك(9) والروضة(10) والمحقّق العاملي في مفتاح الكرامة(11) والمحقّق السبزواري
-
(1) شرائع الإسلام 2 : 78 .
(2) المختصر النافع : 167 .
(3) الدروس الشرعيّة 3 : 403 .
(4) اللمعة الدمشقيّة : 80 .
(5) تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 474 .
(6) إرشاد الأذهان 1 : 392 .
(7) تذكرة الفقهاء 2 : 14 ، الطبعة الحجريّة.
(8) مجمع الفائدة والبرهان 9 : 151 .
(9) مسالك الأفهام 4 : 33 .
(10) الروضة البهيّة 4 : 73 .
(11) مفتاح الكرامة 5 : 110 .
في الكفاية(1). وهكذا في الجواهر(2) والرياض(3) والوسيلة(4) وتحريرها(5) وجامع المدارك(6) ومنهاج الصالحين(7) ومبانيه(8) ومهذّب الأحكام(9) .
ويستفاد من كلماتهم أنّ مراعاة المصلحة إنّما تكون بحسب نظر الوليّ ، وهي لا تنضبط لاختلاف المصالح باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال ، كما نبّه عليه في الجواهر(10) .
أدلّة جواز رهن مال الصّبي
ويمكن الاستدلال لإثبات هذا الحكم بوجوه :
الأوّل : إطلاق قوله تعالى : (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(11)حيث نهى عن القرب إلاّ بالتي هي أحسن ، والفرض أنّ في رهن مال الصبيّ مصلحة له .
الثاني : إطلاق أدلّة ولاية الوليّ الشاملة لذلك .
-
(1) كفاية الأحكام : 108 .
(2) جواهر الكلام 25 : 160 .
(3) رياض المسائل 5 : 358 .
(4) وسيلة النجاة 2 : 96 .
(5) تحرير الوسيلة 2: 55 مسألة 3.
(6) جامع المدارك 3 : 349 .
(7) منهاج الصالحين للسيّد الخوئي 2 : 176 .
(8) مباني منهاج الصالحين 9 : 210 .
(9) مهذّب الأحكام 21 : 77 .
(10) جواهر الكلام 25 : 160 .
(11) سورة الأنعام 6: 152.
الثالث: ظاهرالمسالكوالجواهرالإجماع عليه،حيث قال الشهيد: «وهذا الحكم ممّا لا خلاف فيه عندنا، وإنّما خالف فيه بعض الشافعيّة، فمنع رهن ماله مطلقاً»(1) .
ومثله في الجواهر(2). وفي مهذّب الأحكام: «للإجماع واقتضاء ولايته ذلك»(3).
الرابع : أنّه يجوز للوليّ الاتّجار بمال الصبيّ كما تقدّم ، والرهن والارتهان من شؤون التجارة .
فإذن للوليّ التصرّف في مال اليتيم مع المصلحة ، ولا فرق في جواز التصرّف بين أقسامه ، ولكن لمّا كان جواز ذلك الرهن مع مراعاة المصلحة التي هي الأحسن الذي نهى الله(4) عن القرب إلى مال اليتيم بدونه ، فلابدّ أن يكون وضع الرهن على يد عدل يجوز إيداعه منه ، أو في يد من يطمئنّ به عليه من التلف ونحوه(5). وأشار إلى ذلك الشهيد الثاني أيضاً(6) .
الارتهان للصغير
ممّا قلنا ظهر أنّه يجوز لوليّ اليتيم أخذ الرهن له ، صرّح بذلك غير واحد من الفقهاء(7).
-
(1) مسالك الأفهام 4 : 33 .
(2) جواهر الكلام 25 : 160 .
(3) مهذّب الأحكام 21 : 77 .
(4) سورة الأنعام 6 : 152 .
(5) جواهر الكلام 25 : 160 .
(6) مسالك الأفهام 4 : 33 .
(7) شرائع الإسلام 2 : 79 ، تذكرة الفقهاء 2 : 14 ، الطبعة الحجريّة، تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 474 ، مسالك الأفهام 4 : 34 ، مجمع الفائدة والبرهان 9 : 151 ، جواهر الكلام 25 : 160 ، وسيلة النجاة للسيّد أبو الحسن الاصفهاني 2 : 96 ، تحرير الوسيلة 2 : 55 مسألة 3 .
قال في المبسوط ـ بعد الحكم بجواز تصرّف الأولياء على وجه
الاحتياط والحظّ للصغير المولّى عليه ـ : «والارتهان له، فلا يخلو من
أحد أمرين : إمّا أن يكون في بيع ماله أو قرضه . فإن كان في بيع ماله ففيه ثلاث
مسائل :
إحداها : أن يبيع سلعة تساوي مائة درهم نقداً بمائة درهم إلى أجل ويأخذ به رهناً ، فهذا باطل; لأنّه لا حظّ للمولّى عليه فيه .
والثانية : أن يبيع ما يساوي مائة نقداً بمائة وعشرين ، مائة نقداً يعجّلها وعشرين مؤجّلة يأخذ بها رهناً ، فهذا صحيح والرهن صحيح; لأنّ فيه الحظّ .
والثالثة : أن يبيع بمائة وعشرين مؤجّلة ويؤخذ بالجميع رهناً ، فمن الناس من قال : يجوز ; لأنّ الوليّ نصب للتجارة في مال المولّى عليه وطلب الفضل والربح له ، ولا يمكنه إلاّ هكذا . ومنهم من قال : لا يجوز ; لأنّ فيه تغريراً بالأصل ، والأوّل أصحّ ; لأنّ الرهن وثيقة وفيه العائدة، فليس فيه تغرير .
وأمّا القرض; فإنّه لا يجوز إلاّ في موضع الضرورة ; وهو أن يكون في البلد نهب أو حرق أو غرق يخاف على مال الصغير أن يتلف، فيجوز له أن يقرضه بشرطين :
أحدهما : أن يقرضه ثقة يؤمن أن يجحد .
والثاني : أن يكون مليّاً يقدر على قضائه .
وأمّا أخذ الرهن به ينظر، فإن كان الحظّ في أخذه أَخَذَه ، وإن كان في تركه تَرَكَهُ ، وأخذه أحوط ; لأنّ عندنا إذا تلف الرهن لا يسقط به الدين ، وعلى هذا يجوز بيع ماله نسيئة وأخذ الرهن به إذا كان له فيه الحظّ»(1) .
- (1) المبسوط للطوسي 2 : 200 ـ 201 .
اشتراط كون الرهن مساوياً لمال الصغير أو أزيد
وفي المسالك(1) والروضة(2) والرياض(3): أنّه يعتبر كون الرهن مساوياً أو أزيد ، وكونه بيد الوليّ أو عدل ، والإشهاد على الحقّ ، فلو أخلّ ببعض هذه ضمن مع الإمكان .
وفي الكفاية : « إنّ الأحوط الإقراض من الثقة المليّ والارتهان والإشهاد مع الإمكان »(4) .
واقتصر في الشرائع(5) والإرشاد(6) واللمعة(7) ورهن التذكرة(8) وحجر القواعد(9) على أنّه يجوز له مع المصلحة كالخوف أن يقرضه ويرتهن .
ومقتضى كلام هؤلاء أنّه مع إمكان الرهن لا يعتبر كون المقترض ثقة مليّاً ; لانضباط الدَين بالرهن .
وفي حجر التذكرة : «أنّه لو تمكّن من الارتهان ورضي بالكفيل ولم يرتهن ضمن»(10) .
-
(1) مسالك الأفهام 4 : 34 .
(2) الروضة البهيّة 4 : 74 .
(3) رياض المسائل 5 : 358 .
(4) كفاية الأحكام : 108 .
(5) شرائع الإسلام 2 : 79 .
(6) إرشاد الأذهان 1 : 392 .
(7) اللمعة الدمشقيّة : 80 .
(8) تذكرة الفقهاء 2 : 14 ، الطبعة الحجريّة.
(9) قواعد الأحكام 2 : 136 .
(10) تذكرة الفقهاء 2 : 81 ، الطبعة الحجريّة.
وفي الشرائع(1) والقواعد(2) واللمعة(3) والروضة(4) والمسالك(5): أنّه لو تعذّر الرهن في موضع الخوف والضرورة والحاجة أقرضه من ثقة غالباً .
ومقتضى كلماتهم أنّه إذا تعذّر الثقة لا يجوز الاقتراض .
ولقد أجاد في مفتاح الكرامة بالإيراد عليه : «بأنّ الإقراض أولى ; لأنّه مرجوّ الحصول في الدنيا أو الآخرة، بخلاف التلف من الله سبحانه»(6) .
وفي مجمع الفائدة والبرهان : «إن تعذّر الرهن يكتفى بالملاءة والثقة ، ومع التعذّر يسقط ، ومع وجودهما يمكن تقديم الثقة ، ويحتمل المليّ أيضاً»(7) .
والحاصل : أنّ كلّ ذلك بحسب نظر الوليّ وظنّه والعادة والعرف .
وقد ظهر ممّا ذكرنا في الرهن والارتهان حكم الإقراض والاقتراض
للصبي فلا نعيده ، ولكن بقي اقتراض الوليّ مال الصبيّ لنفسه، وسنذكره قريباً
إن شاء الله .
آراء فقهاء أهل السنّة في المسائل التي تقدّمت
المشهور عندهم أنّه يجوز للوليّ أن يرهن مال الصبيّ أو يرتهن له ، وكذلك يجوز الاقراض في ماله والاقتراض له مشروطاً بالشرائط التي يلزمونها ، فنذكر شطراً من كلماتهم على الترتيب التالي :
-
(1) شرائع الإسلام 2 : 79 .
(2) قواعد الأحكام 2 : 136 .
(3) اللمعة الدمشقيّة : 80 .
(4) الروضة البهيّة 4 : 74 .
(5) مسالك الأفهام 4 : 35 .
(6) مفتاح الكرامة 5 : 112 .
(7) مجمع الفائدة والبرهان 9 : 151 .
أ ـ الحنفيّة
قال في الهداية : «إذا رهن الأب متاع الصغير فأدرك الابن ومات الأب ليس للابن أن يردّه حتّى يقضي الدين ; لوقوعه لازماً من جانبه ، إذ تصرّف الأب بمنزلة
تصرّفه بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه» .
وقال أيضاً : «لو رهن الوصيّ متاعاً لليتيم في دين استدانه عليه ، وقبض المرتهن ، ثمّ استعاره الوصيّ لحاجة اليتيم ، فضاع في يد الوصيّ ; فإنّه خرج من الرهن وهلك من مال اليتيم ; لأنّ فعل الوصيّ كفعله بنفسه بعد البلوغ ; لأنّه استعاره لحاجة اليتيم .
ولو استعاره لحاجة نفسه ضمنه للصبيّ ; لأنّه متعدٍّ ; إذ ليس له ولاية الاستعمال لحاجة نفسه»(1) .
وفصّل في المبسوط بعد الحكم بجواز الرهن من مال الصغير(2) بين رهن الأب متاع الصغير لنفسه، وبين الوصيّ .
فقال: «إذا رهن الأب من نفسه متاع الصغير فهو جائز، كما يجوز بيعه مال الصغير بخلاف الوصيّ ; لأنّ الأب يملك التصرّف مع نفسه وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة بخلاف الوصيّ ; لأنّ الأب غير متّهم بإغرار نفسه على الولد والوصيّ متّهم بذلك»(3) .
وفي الهداية : «وإن استدان الوصيّ لليتيم في كسوته وطعامه فرهن به متاعاً لليتيم جاز ; لأنّ الاستدانة جائزة للحاجة ، والرهن يقع إيفاءً للحقّ فيجوز ،
وكذلك لو اتّجر لليتيم فارتهن أو رهن ; لأنّ الأولى له التجارة تثميراً لمال اليتيم ،
-
(1) الهداية 4: 477 ، أحكام الصغار : 354 .
(2) المبسوط للسرخسي 21 : 102 .
(3) نفس المصدر .
فلا يجد بدّاً من الارتهان والرهن ; لأنّه إيفاء واستيفاء»(1) .
وفصّل في البدائع بين إقراض الوليّ من مال الصبيّ فإنّه لا يجوز، بخلاف
القاضي فإنّه يجوز له ذلك ، حيث قال : ليس للوليّ أن يقرض مال الصبيّ ; لأنّ القرض إزالة الملك من غير عوض للحال . ولكن بخلاف القاضي; فإنّه يقرض مال اليتيم... لأ نّ توى(2) الدين بالإفلاس أو بالإنكار ، والظاهر أنّ القاضي يختار أملى الناس وأوثقهم، وله ولاية التفحّص عن أحوالهم ، فيختار من لا يتحقّق إفلاسه ظاهراً وغالباً .
وكذا القاضي يقضي بعلمه ، فلا يتحقّق التوى بالإنكار(3) .
وبه قال السرخسي(4) والأستروشني(5) والشيخ نظام(6) .
وفي الأب روايتان : الأولى: أنّه لا يملك الإقراض ; لأنّه تبرّع، وليس للصغير فيه منفعة ظاهرة .
الثانية : أنّه يملك ذلك ; لأنّه غير متّهم في حقّ ولده(7) .
ب ـ الحنابلة
قال الحجاوي والبهوتي : للوليّ رهنه ـ أي مال الصغير ـ عند ثقة لحاجة(8) .
وفي الإنصاف : «يجوز رهن مالهما للحاجة عند ثقة، وللأب أن يرتهن
-
(1) الهداية 4 : 477 .
(2) التوى وزان الحَصَى، وقد يمدّ : الهلاك . المصباح المنير : 79 .
(3) بدائع الصنائع 4 : 350 .
(4) المبسوط للسرخسي 21 : 103 .
(5) أحكام الصغار : 192 .
(6) الفتاوى الهنديّة 2 : 244 .
(7) المبسوط للسرخسي 21 : 103 ، أحكام الصغار : 191 .
(8) الإقناع 2 : 225 ، كشف القناع 3 : 524 .
مالهما ـ أي الصبيّ والمجنون ـ من نفسه، ولا يجوز لغيره على المذهب»(1) .
وقالوا أيضاً : إنّ للوليّ قرض مال الصبيّ لمصلحة فيه(2); بأن يكون الثمن المؤجّل أكثر ممّا يباع به حالاً ، وذلك لحاجة سفر أو خوف على المال من نهب أو غرق أو غيرهما ، فيجوز حينئذ ولو بلا رهن ولا كفيل به .
فإن ضاع المال أو تلف بسبب ترك الرهن والكفيل لم يضمن الوليّ; لأنّ الظاهر السلامة(3) .
وفي الإنصاف : «قال في المغني والشرح : يقرضه لحاجة سفر أو خوف عليه ، أو غيرهما»(4) .
ج ـ الشافعيّة
جاء في الحاوي الكبير : «فأمّا المولّى عليه لصغر أو سفه أو جنون، فلا يجوز له التصرّف في ماله برهن ولا ارتهان ، ويتولّى ذلك وليّه من أبيه، أو وصيّ للورثة، أو أمين حاكم»(5) .
وقال الرافعي: «رهن الوليّ مال الصبيّ والمجنون والمحجور عليه بالسفه وارتهانه لهم مشترط بالمصلحة والاحتياط ». ثمّ بيّن صور المصلحة في الرهن والارتهان(6) .
وقريب من ذلك في روضة الطالبين(7) والمجموع شرح المهذّب(8)
-
(1) الإنصاف 5 : 330 .
(2) الفروع 4 : 243 ، الإنصاف 5 : 328 ، المحرّر 1 : 347 ، المغني 4 : 295 ، الشرح الكبير 4 : 522 .
(3) كشّاف القناع 3 : 524 ، الإقناع 2 : 224 ، المغني 4 : 295 ، الشرح الكبير 4 : 522 .
(4) الإنصاف 5 : 328 .
(5) الحاوي الكبير 7 : 114 .
(6) العزيز شرح الوجيز 4 : 469 ـ 470 .
(7) روضة الطالبين 3 : 352 ـ 354 .
(8) المجموع شرح المهذّب 13 : 250 و 251 .
ومغني المحتاج(1).
وجاء في المهذّب : «ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة ; لأنّه يخرجه من يده فلم يجز ، فإن خاف من نهب أو حريق أو غرق، أو أراد سفراً وخاف عليه جاز الإيداع والإقراض ، فإن قدر على الإيداع دون الإقراض أودع، ولا يودع إلاّ ثقة ، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه، ولا يقرضه إلاّ ثقة مليّاً; لأنّ غير الثقة يجحد وغير المليّ لا يمكن أخذ البدل منه»(2)، وبه قال النووي(3)
والرافعي(4).
وهكذا يجوز للوليّ أن يستقرض للصبيّ لحاجة إلى النفقة أو الكسوة أو لإصلاح عقاره أو مرمّتها ارتقاباً لغلّتها أو غيرها(5) .
د ـ المالكيّة
قال في مواهب الجليل : «وللوصيّ أن يرهن مال اليتيم رهناً فيما يبتاع له من كسوة أو طعام ، وليس للوصيّ أن يأخذ عروض اليتيم بما أسلفه رهناً»(6) .
وكذا في التاج والإكليل(7) والحاشية للدسوقي(8) ، وقال ابن شاس : «يصحّ الرهن ممّن يصحّ منه البيع»(9) .
-
(1) مغني المحتاج 2 : 175 .
(2) المهذّب في فقه الشافعي 1 : 329 .
(3) روضة الطالبين 3 : 480 ، المجموع شرح المهذّب 14 : 133 .
(4) العزيز شرح الوجيز 5 : 83 .
(5) العزيز شرح الوجيز 4 : 469 ، المجموع شرح المهذّب 13 : 251 ، روضة الطالبين 3 : 353 ، نهاية المحتاج 4 : 236 ، المهذّب في فقه الشافعي 1 : 330 .
(6 ـ 7) مواهب الجليل 6 : 538 .
(8) حاشية الدسوقي 3 : 232 .
(9) عقد الجواهر الثمينة 2 : 585 .
اقتراض الوليّ من مال الصبيّ
المشهور بين الفقهاء أنّه يجوز للوليّ الاقتراض من مال الصبيّ لنفسه، كإقراضه لغيره إذا كان ذلك مصلحة له .
قال الشيخ : «ومتى اتّجر الإنسان بمال اليتيم نظراً لهم وشفقةً عليهم فربح كان الربح لهم وإن خسر كان عليهم . . . ومتى اتّجر به لنفسه وكان متمكِّناً في الحال من ضمان ذلك المال وغرامته، إن حدث به حادث جاز ذلك وكان المال قرضاً عليه ، فإن ربح كان له، وإن خسر كان عليه . . . ومتى اتّجر لنفسه بمالهم وليس بمتمكّن في الحال من مثله وضمانه كان ضامناً للمال ، فإن رَبِحَ كان ذلك للأيتام، وإن خسِرَ كان عليه دونهم»(1) .
وجاء في الوسيلة : «وإن اتّجر لنفسه كان له الربح وعليه الخسران إذا كان مليّاً بمثل المال ، وإن لم يكن مليّاً أو تصرّف فيه غيرُ مَنْ له التصرّف كان الربح لليتيم والخسران على المتصرّف»(2) .
وقد ذكر القولين في التحرير من دون ترجيح(3) . وفي الجامع للشرائع وحجر التذكرة اشتراط الملاءة والمصلحة للطفل(4) .
واحتمل ذلك في المسالك(5) والكفاية(6) وأ نّهما قالا: إنّه كإقراضه لغيره ، ولأنّه تصرّف في مال اليتيم وهو مشروط بالمصلحة ، واحتملا جواز إقراضه مع عدم الضرر على الطفل وإن لم يكن له مصلحة .
-
(1) النهاية للطوسي: 361 ـ 362 .
(2) الوسيلة لابن حمزة: 279 .
(3) تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 544 .
(4) الجامع للشرائع : 281 ، تذكرة الفقهاء 2: 80 ـ 83 ، الطبعة الحجريّة.
(5) مسالك الأفهام 4 : 35 .
(6) كفاية الأحكام : 108 .
وفي الجواهر(1) : «لا ينبغي التأمّل في جواز ذلك للوليّ في الجملة ».
وأضاف : «أنّ الأحوط الاقتصار في تصرّف الأولياء على كونه الأحسن ، لمقتضى إطلاق الآية الكريمة»(2) .
وقال المحدّث البحراني : «متى كان وليّاً مليّاً فإنّه يجوز له الاقتراض من مال
الطفل والاتّجار لنفسه ، وأنّ الربح له والنقيصة عليه»(3) .
أدلّة جواز اقتراض الوليّ من مال الصبيّ
وتدلّ على هذا الحكم نصوص :
منها : ما رواه منصور بن حازم في الصحيح عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل ولّى مال يتيم أيستقرض منه؟ فقال : «إنّ عليّ بن الحسين(عليهما السلام) قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره ، فلا بأس بذلك ».
ورواه أيضاً في الكافي والتهذيب بسند صحيح عن أبي الربيع ، ودلالتها واضحة(4).
ومنها : خبر منصور الصيقل قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن مال اليتيم يعمل به ؟ قال : فقال : «إذا كان عندك مال وضمنته فلك الربح وأنت ضامن للمال ، وإن كان لا مال لك وعملت به فالربح للغلام وأنت ضامن للمال»(5) .
وقوله(عليه السلام) : «فلك الربح وأنت ضامن للمال» يدلّ على جواز الاقتراض
-
(1) جواهر الكلام 25 : 165 .
(2) سورة الأنعام 6 : 152 .
(3) الحدائق الناضرة 18 : 330 .
(4) وسائل الشيعة 12: 192 الباب 76 من أبواب ما يكتسب به، ح1، نقلاً عن الكافي 5: 131 ـ 132، ح5، 6و 8 ، وتهذيب الأحكام 6 : 341 ح953 .
(5) وسائل الشيعة 6 : 58 الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة، ح7 .
من مال اليتيم ، ولكن اعتبرت الملاءة في الرواية .
ومنها : خبر أبي العطارد الخيّاط قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : مال اليتيم يكون عندي فأتّجر به ؟ فقال : «إذا حرّكته فعليك زكاته» . قال : قلت : فإنّي أُحرّكه ثمانية أشهر وأدعه أربعة أشهر ، قال : «عليك زكاته»(1) .
وقوله(عليه السلام) : «عليك زكاته» ظاهر في الاتّجار لنفسه ، فيدلّ على جواز اقتراض الوليّ والاتّجار بمال اليتيم لنفسه .
عدم جواز الاقتراض من مال الصبيّ
قال ابن إدريس ـ بعد بيان ما قاله الشيخ في النهاية(2) من جواز اقتراض الوليّ من الصبيّ لنفسه ـ : «هذا غير واضح ولا مستقيم، ولا يجوز له أن يستقرض شيئاً من ذلك ; سواء كان متمكِّناً في الحال من ضمانه وغرامته، أو لم يكن ; لأنّه أمين ، والأمين لا يجوز أن يتصرّف لنفسه في أمانته بغير خلاف بيننا معشر الإماميّة ، ولايجوز له أن يتّجر فيه لنفسه على حال من الأحوال ، وإنّما أورد شيخنا ذلك إيراداً لا اعتقاداً ، من جهة أخبار الآحاد»(3) .
نقول : منع ابن إدريس مردود بالنصوص الواردة في المقام كما تقدّم ، ولذلك قال العلاّمة ردّاً لابن إدريس: «والوجه: أنّ الاقتراض إن كان مصلحة لليتيم جاز فعله ; لأنّه يجوز له أن يقرض غيره مع المصلحة ، فجاز أن يقترض معها ; لأنّ مناط الجواز حصول المصلحة ، وإذا اقترض خرج عن كونه أميناً في ذلك المال . والإجماع غير مناف لذلك»(4) .
-
(1) نفس المصدر 6 : 57 الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ، ح3 .
(2) النهاية : 361 .
(3) السرائر 2 : 212 .
(4) مختلف الشيعة 5 : 66 .
وقال المحدّث البحراني : «منع ابن إدريس هنا من اقتراض الوليّ مردود بالأخبار»(1) .
اقتراض الوليّ من مال الصبيّ عند فقهاء أهل السنّة
قال النووي : «ولا يلزم الأب والجدّ الارتهان من نفسهما للصبيّ والدين عليهما إن باعا ماله لأنفسهما نسيئةً ; لأنّهما أمينان في حقّه ـ ثمّ قال ـ : إذا باع الأب مال ولده من نفسه بالنسيئة لم يحتجّ إلى الارتهان»(2) .
وقال في موضع آخر ـ نقلاً عن الطبري في تفسيره(3)ـ : واختلفوا في «المعروف» الذي أذِن الله جلّ ثناؤه لولاة أموالهم أكلُها به(4) إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها. فقال بعضهم : هو القرض يستقرضه من ماله ثمّ يردّه . . . وعن ابن عبّاس قال : هو القرض . وعن عبيدة السلماني: الذي ينفق من مال اليتيم يكون عليه قرضاً(5) .
وفي نهاية المحتاج : «لا يلزم الأب والجدّ الارتهان من نفسهما والدين عليهما، كأن باعا ماله لنفسهما نسيئةً ; لأنّهما أمينان في حقّه»(6) .
وبه قال في الروضة(7) والعزيز شرح الوجيز(8).
-
(1) الحدائق الناضرة 18 : 326 .
(2) المجموع شرح المهذّب 14 : 130 و 131 .
(3) تفسير الطبري 4 : 171 .
(4) في قوله تعالى: (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).
(5) المجموع شرح المهذّب 14 : 139 .
(6) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4 : 378 .
(7) روضة الطالبين 3 : 477 .
(8) العزيز شرح الوجيز 5 : 81 .
المبحث الثالث : إيداعُ(1) مال الصبيّ وعاريته
يستفاد من كلمات بعض الفقهاء ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ أنّه يجوز(2) للوليّ أن يودع مال الصبيّ عند ثقة أمين إذا كانت فيه مصلحة وغبطة .
قال العلاّمة في التحرير : «ولو أراد الوليّ السفر لم يصحبه(3) ، بل ينبغي إقراضه من الثقة ، ولو لم يجد المقترض أودعه ، وله إيداعه مع وجود المقترض ، ولا ضمان عليه»(4) ، فإنّه قد يكون الإيداع أنفع له من القرض .
وفي التذكرة : «ولو أراد الوليّ السفر لم يسافر به وأقرضه من مليٍّ مأمون وهو أولى من الإيداع ; لأنّ الوديعة لا تضمن ، ولو لم يوجد المقترض بهذه الصفة أودعه من ثقة أمين، فهو أولى من السفر به ; لأنّه موضع الحاجة والضرورة ، ولو أودعه من الثقة مع وجود المقترض المليّ المأمون لم يكن مفرطاً ولا ضمان عليه ; فإنّه قد يكون الإيداع أنفع له من القرض»(5) .
وكذلك يستظهر من بعض كلمات الأصحاب أنّه يجوز للوليّ إعارة(6) مال
-
(1) أودع الشيء: صانه ، أودعت زيداً مالاً دفعته إليه ليكون عنده وديعة ، والوديعة فعلية بمعنى مفعولة ، ما استودع، وجمعها ودائع، المعجم الوسيط : 1020 ، المصباح المنير: 653 . وقد عرّفها الفقهاء بأنّها استنابة في الحفظ ، شرائع الإسلام 2 163 ، تذكرة الفقهاء 2 : 196 الطبعة الحجريّة ، كشف الرموز 2 : 24 ، مسالك الأفهام 5 : 77 ، الحدائق الناضرة 21 : 398 .
(2) بل يجب الإيداع فيما إذا أراد السفر ولم يصحبه. م ج ف.
(3) أي استصحاب الوليّ مال الصبيّ في السفر .
(4) تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 545 .
(5) تذكرة الفقهاء 2 : 82 ، الطبعة الحجريّة .
(6) أعار الشيء إعارةً ، أعطاه إيّاه عاريةً المعجم الوسيط : 636 والعارية بالتشديد وقد يخفّف في الشعر ، قال بعضهم: وهي إسم من الإعارة، سمّيت عاريةً لأنّها عار على صاحبها، أو مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها من يد صاحبها ، مجمع البحرين 2 : 1292 ـ 1293 ، لسان العرب 4 : 464 .
وقد عرّفها الفقهاء بأنّها عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة، أو هي عقد شُرّع لإباحة الانتفاع بعين من الأعيان على وجه التبرّع ، شرائع الإسلام 2 : 171 ، تذكرة الفقهاء 2 : 209 الطبعة الحجريّة ، مسالك الأفهام 5 : 131 ، الحدائق الناضرة 21 : 476 ، جواهر الكلام 27 : 161 .
الصبيّ لو كان فيها الحظّ والمصلحة لليتيم، لأنّه ناظر في مصلحته وهذا من ذاك .
جاء في الشرائع : «لا تصحّ إعارة الصبيّ ولا المجنون ، ولو أذِن الوليّ جاز للصبيّ مع مراعاة المصلحة»(1) .
وفي التحرير : «لو كان الصبيّ مميّزاً أو أذِن له الوليّ في الإعارة جاز مع المصلحة»(2) .
وكذا في اللمعة(3) والإرشاد(4) .
وقال الشهيد الثاني : «قد تقدّم في البيع أنّ عقد الصبيّ لا عبرة به وإن أذِنَ له الوليّ . وإنّما جاز هنا لأنّ العارية لمّا كانت جائزة ولا تختصُّ بلفظ ، بل كلّ ما دلّ على رضا المعير(5) وهو هنا الوليّ ، كان إذنه للصبيّ بمنزلة الإيجاب ، فالعبرة حينئذ بإذنه لا بعبارة الصبيّ . . . والمراد بالمُعار هنا ملك الصبيّ كما يدلّ عليه مراعاة
المصلحة . وتتحقّق المصلحة بكون يد المستعير أحفظ من يد الوليّ في ذلك الوقت ، لخوف ونحوه ، أو لانتفاع الصبيّ بالمستعير بما يزيد عن المنفعة ، أو لكون العين ينفعها الاستعمال ويضرّها تركه ونحو ذلك» (6).
-
(1) شرائع الإسلام 2 : 171 .
(2) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 210 .
(3) اللمعة الدمشقيّة : 91 .
(4) إرشاد الأذهان 1 : 439 .
(5) المدار في العارية على رضا المالك; وهو الوليّ هنا .
(6) مسالك الأفهام: 5 / 136.
وتوضيح ذلك : أنّ إذن الوليّ لا يجعل مسلوب العبارة غير مسلوب كما هو مفروغ عنه في غير المقام ، ولكنّه يجعل إذنُ الوليّ فعلَ الصبيّ فعلاً للوليّ، كما جعلَ
أمره للصبي بأفعال الحجّ موجباً للصحّة في الجملة ، إلاّ أنّ هذا الحكم مختصٌّ بالعارية ولا يجري في سائر العقود ، للسيرة المعتضدة بهذه الكلمات من الأصحاب ، وإرسالهم إرسال المسلّمات(1) .
أدلّة جواز إيداع مال الصبيّ
ويمكن الاستدلال لإثبات هذا الحكم بإطلاق قوله تعالى :
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(2) .
لأنّ في الفرض الإيداع والإعارة كانا بمصلحة الصبيّ ويصيران موجبين لحفظ ماله ، فيدخل في الاُمور التي أمر الله تعالى بعدم جواز قرب مال اليتيم إلاّ بها ، وهو المطلوب .
وهكذا تدلّ على ذلك إطلاق ما دلّ على عموم ولايته الشامل لما نحن فيه .
وكذا يمكن الاستدلال بعموم ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام); أي قوله : «لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(3) .
ومثل ذلك خبر عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله(عليه السلام)(4) .
الإيداع والعارية في مال الصبيّ عند فقهاء أهل السنّة
قال ابن قدامة : «إن أراد الوليّ السفر لم يكن له المسافرة بماله ، وقرضه لثقة أمين أولى من إيداعه ; لأنّ الوديعة لا تضمن إذا تلفت ، فإن لم يجد من يستقرضه
-
(1) اقتباس من جواهر الكلام 27 : 161 .
(2) سورة الأنعام 6 : 152 .
(3 ، 4) وسائل الشيعة 13 : 297 و299 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات، ح1 و5 .
على هذه الصفة فله إيداعه; لأنّه موضع حاجة»(1) .
وفي الفروع : «وله إيداعه مع إمكان قرضه ، ذكره في المغني ، وظاهره متى جاز قرضه جاز إيداعه ، وظاهر كلام الأكثر يجوز إيداعه ; لقولهم : يتصرّف بالمصلحة ، وقد يراه مصلحة ، ولهذا جاز مع إمكان قرضه»(2) .
وبه قال المرداوي(3) وابن مفلح(4) .
وفي الإقناع : «وإن أراد أن يودع ماله فقرضه أولى ، وإن أودعه مع إمكان قرضه جاز ، ولا ضمان عليه»(5) ، وكذا في شرحه(6) .
وجاء في البيان : «فإن خاف على ماله من نهب أو غرق أو حريق ولم يقدر الوليّ على المسافرة به، أو أراد الوليّ ا لسفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤونة مجحفة جاز أن يودعه»(7) .
وبه قال النووي في المجموع(8) وروضة الطالبين(9) ، والرافعي في العزيز(10)وكذا في المهذّب(11) للشيرازي .
وقال في البدائع : «وله أن يعير ماله استحساناً، والقياس لا يجوز ، وجه
-
(1) المغني 4 : 296 ، الشرح الكبير 4 : 522 ، الكافي في فقه أحمد 2 : 108 .
(2) الفروع 4 : 243 .
(3) الإنصاف 5 : 329 .
(4) المبدع 4 : 339 .
(5) الإقناع 2 : 225 .
(6) كشّاف القناع 3 : 524 .
(7) البيان في مهذّب الإمام الشافعي 6 : 214 .
(8) المجموع شرح المهذّب 14 : 133 .
(9) روضة الطالبين 3 : 481 .
(10) العزيز شرح الوجيز 5 : 83 .
(11) المهذّب 1 : 329 .
القياس : أنّ الإعارة تمليك المنفعة بغير عوض فكان ضرراً ، ووجه الاستحسان: أنّ هذا من توابع التجارة وضروراتها فتملك بملك التجارة ، ولهذا ملكها المأذون ، وله أن يودع ماله ; لأنّ الإيداع من ضرورات التجارة»(1) .
إيضاح
قد ذكرنا في البحث عن ولاية الأب والجدّ وغيرهما على تزويج الصغار ، جواز الاستنابة والتوكيل فيه خاصّة، وبيّنا في خلال البحث جواز الاستنابة في شؤون الطفل عموماً ، ومنها الاستنابة والتوكيل في التصرّف في أموالهم فلا نعيده .
- (1) بدائع الصنائع 4 : 351 و 352 .
الفصل الثالث
في إجارة الوليّ الصبيّ أو ماله
من التصرّفات التي تجوز للوليّ إجارة الصبيّ نفسه أو ماله; سواء كان أباً أو جدّاً أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينه .
قال الشيخ(رحمه الله) في الخلاف : «إذا آجر الأب أو الوصيّ الصبيّ أو شيئاً من ماله مدّة صحّت الإجارة بلا خلاف ، فإن بلغ الصبيّ قبل انقضاء المدّة كان له ما بقي، ولم يكن للصبيّ فسخه»(1) .
وفي المبسوط : « إذا آجر الأب أو الوصيّ الصبيّ أو ماله صحّ ذلك، كما يصحّ بيع ماله ، فإذا بلغ وقد بقي من مدّة الإجارة بعضها كان له فسخها فيما بقي . وقيل : إنّه ليس له ذلك، وهو الأقوى»(2). وكذا في السرائر(3) .
ولكن قال العلاّمة في جملة من كتبه، كالمختلف(4) والتحرير(5) والتذكرة(6)
-
(1) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 .
(2) المبسوط للطوسي 3 : 240 .
(3) السرائر 2 : 472 .
(4) مختلف الشيعة 6 : 124 .
(5) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 69 .
(6) تذكرة الفقهاء 2: 327 الطبعة الحجريّة.
والقواعد(1): إنّ له الفسخ، وتبعه المحقّق الثاني في شرحه عليها(2) .
وكذا المحقّق الأردبيلي على وجه ، حيث قال : «ولكن يحتمل عدم البطلان وكونه موقوفاً على إجازته بعد البلوغ والرشد بناءً على جواز الفضولي»(3) .
واختاره الشهيد الثاني في المسالك(4) والمحقّق العاملي في مفتاح الكرامة(5)والمحقّق اليزدي في العروة، وقال به أيضاً عدّة من فقهاء العصر في تعليقاتهم عليها(6).
وقال في الشرائع : «ولو آجر الوصيّ صبيّاً مدّةً يعلم بلوغه فيها ، بطلت في المتيقّن وصحّت في المحتمل ، ولو اتّفق البلوغ فيه هل للصبيّ الفسخ بعد بلوغه؟ قيل : نعم ، وفيه تردّد»(7) .
وقال الشهيد في القواعد : «لو آجر الوليّ الطفل مدّة، فبلغ ورشد في الأثناء، أو آجر ماله يحتمل البقاء ; لأنّ تصرّفه كان للمصلحة فيلزم ، وحينئذ هل له خيار الفسخ؟ نظر ، ويحتمل البطلان; لتبيّن خروج هذه المدّة عن الولاية ، وهو الأقرب»(8) .
ومثل هذا في الجواهر ، حيث قال ـ بعد نقل قول الشيخ بلزوم الإجارة
-
(1) قواعد الأحكام 2 : 283 .
(2) جامع المقاصد 7 : 99 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 10 : 67 .
(4) مسالك الافهام 5 : 228 .
(5) مفتاح الكرامة 7 : 99 .
(6) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء 5 : 31 .
(7) شرائع الإسلام 2 : 188 .
(8) القواعد والفوائد 2 : 275 .
وصحّتها لو اتّفق بلوغ الطفل في أثنائها ـ : «وفيه ما عرفت من أنّه بالنسبة
إلى الحال المفروض ليس من أهلها ولا في محلّها ، والجهل لا مدخليّة له في تغيّر حكم الموضوع واقعاً . نعم ، لو فرض(1) إجارة الوليّ المدّة الزائدة على سنّ البلوغ في مصلحة الطفل قبل بلوغه كان المتّجه لزومها، وكذا الكلام في ماله ، وليس مفروض المسألة هنا كذلك»(2) .
وفي تحرير الوسيلة: « لو آجر الوليّ الصبيّ المولّى عليه، أو ملّكه مدّةً مع مراعاة المصلحة والغبطة، فبلغ الرشد قبل انقضائها ، فله نقض الإجارة وفسخها بالنسبة إلى ما بقي من المدّة، إلاّ أن تقتضي المصلحة اللازمة المراعاة فيما قبل الرشد، الإجارة مدّةً زائدةً على زمان تحقّقه ، بحيث تكون بأقلّ منها خلاف مصلحته ، فحينئذ ليس له فسخها بعد البلوغ والرشد»(3) .
وبه قال الشيخ الفقيه الفاضل اللنكراني دام ظلّه(4) .
والحاصل : أنّ الفقهاء رضوان الله عليهم اتّفقوا في أصل المسألة ـ أي جواز إجارة الوليّ الصبيّ أو ماله ـ ولم نجد فيها مخالفاً وإن اختلفوا في حكم بعض شقوقها التي سنذكرها خلال البحث عنها إن شاء الله .
وللتحقيق في بيان صور المسألة عقدنا هذا الفصل ، ونطرح فيه مبحثين :
المبحث الأوّل : في إجارة الوليّ نفس الصبيّ وتمليك منافع بدنه .
-
(1) والظاهر أنّ تشخيص المصلحة مقيّدة بحال الصغر، وإنّما هو بيد الوليّ. وأمّا المصلحة بالنسبة إلى بعد البلوغ فليس في دائرة ولايته وتشخيصه; فإنّا إذا التزمنا بعدم ذلك فيستلزم ثبوت ولايته إلى آخر عمر الصّبي، وهو كما ترى. م ج ف.
(2) جواهر الكلام 27 : 333 ـ 334 .
(3) تحرير الوسيلة 2 : 547 مسألة 12 .
(4) تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 212 ـ 216 .
المبحث الثاني : في إجارة مال الصبيّ .
ونذكر في آخر هذا الفصل مبحثاً ثالثاً يرتبط بكلّ المباحث التي ذكرناها سابقاً في الفصول الثلاثة الأخيرة، وكذا بعدها ، ونحقّق فيه عن حكم جواز أخذ الاُجرة للمتولّي من مال الطفل .
المبحث الأوّل : إجارة الوليّ نفس الصبيّ
تُتصوّر في المسألة ثلاث صور :
الصورة الاُولى : أنّه لو آجره مدّة يعلم بعدم بلوغه ورشده، فلا خلاف في صحّة الإجارة واقعاً وظاهراً ; لأنّه لا شكّ بأنّ للحرّ سلطنة على تمليك منافعه ، والوليّ قائم مقام الصبيّ في هذه السلطنة ، فله السلطنة على تمليك منافع الصغير وإجارتها .
الصورة الثانية : أنّه لو آجره مدّة يعلم ببلوغه ورشده فيها; فإنّه تصحّ الإجارة إلى وقت البلوغ والرشد ، ثمّ يتخيّر الصبيّ بين الفسخ والإمضاء ، مثلاً لو كان عمر الصبيّ عشراً وآجره عشراً; فإنّ الإجارة لا تكون لازمة بعد البلوغ ، بل تتوقّف على إجازة الصبيّ بعد بلوغه ورشده ; لأنّها وقعت على ما ليس له ولاية عليه ، فتصرّف الوليّ حينئذ فضولي إن لم يعتبر في صحّته وجود المجيز حال العقد ، وإلاّ كان العقد باطلاً .
ويمكن أن يستدلّ لهذا الحكم بوجوه :
الأوّل : الإجماع الذي ادّعاه المحقّق الرشتي(قدس سره)(1) .
الثاني: ماذكره السيّدالخوئي(رحمه الله) من أنّه لا دليل للولاية على مثل هذا التصرّف،
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 346 .
ومجرّد عدم الدليل على الولاية كاف في عدم النفوذ والافتقار إلى الإجازة(1) .
وقال المحقّق الرشتي : «إنّ عموم الولاية لمثل هذا المال غير ثابت»(2) .
وفي كتاب الإجارة للمحقّق الفقيه الآشتياني(رحمه الله) : «وليس في المقام دليل على ثبوت الولاية بالنسبة إلى جميع منافع الصغير ، حتّى الموجودة في زمان كبره»(3) .
الثالث : ما ذكره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) من أنّ «المنافع المصادفة لزمان كبره فهي منافع الكبير ، والمفروض عدم السلطنة للولي إلاّ على الصغير ومنافعه لا على الكبير ومنافعه ، وهذا هو الوجه في المنع . لا أنّ المنافع الآتية ليست أموالاً فعليّة للصغير .
فإنّ نظر المانع إن كان إلى عدم كونها مملوكة للصغير، فالمنافع التي تصادف زمان صغره أيضاً غير مملوكة له . وإن كان ـ نظر المانع ـ إلى عدم ماليّتها إلاّ في ظرف وجودها; فإنّ الملكيّة تتقدّم على ذات المملوك، والماليّة منتزعةٌ من ذات المنفعة، فلا تتقدّم عليه .
ففيه: أنّ المنافع المصادفة لزمان صغره أيضاً كذلك، مع أنّه يصحّ تمليكها .
فالوجه للمنع ما ذكرناه من عدم السلطنة على تمليك منافع الكبير ، ولا يعقل أن تكون المنافع الآتية منافع الصغير .
إلاّ أن يقال : إنّ الصغَرَ لو لم يكن مانعاً شرعاً لكان للصغير فعلاً تمليك جميع منافعه المصادفة لزمان صغره وكبره ، والشارع لمكان مانعيّة الصغر في نظره جعل هذه السلطنة لوليّه . وحينئذ فيجاب عنه بما أجبنا به في إجارة أملاكه من عدم
-
(1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 138 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 346 .
(3) كتاب الإجارة للشيخ مرتضى الآشتياني : 268 .
المقتضي للولاية المطلقة»(1) .
نقول : مقصوده(قدس سره) أنّه لم يكن لهذه الولاية مقتض ; لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يجعل الشارع الحكيم للصبيّ وليّاً، لئلاّ يفوت عليه ما يتعلّق
بنفسه وماله من المصالح في صغره ، والمصلحة الراجعة إلى أملاكه في زمان كبره لا تفوت بترك إجارة الوليّ، بل قابلة لأن يستوفيها الصغير بعد كبره ، فلا مقتضي للولاية على مثل هذا التصرّف .
وقال المحقّق الآشتياني : « إنّ منافع الصغير قبل الإجارة ليست من الأموال ، وإنّما تصير بوجودها الاعتباري مالاً حين الإجارة لتصحيح تعلّق الملكيّة بها ، وليس في المقام دليل على ثبوت الولاية بالنسبة إلى جميع منافع الصغير، حتّى الموجودة في زمان كبره ولو بوجودها الاعتباري حال صغره. هذا، مضافاً إلى خلوّها بالنسبة إلى الموجودة في زمان كبره عمّا هو الحكمة لتشريعها من قصور الصبيّ ; إذ ليس له قصور بالنسبة إلى أمواله الموجودة في زمان كبره»(2) .
وقال الشيخ الفقيه الفاضل اللنكراني: « منافع البدن التي يكون مقتضى إيجاره تمليكها فهي تغاير الأموال ، من جهة عدم كونها مملوكة على حدّ الأموال، غاية الأمر ثبوت السلطنة لنفس الحرّ على إيجاره ، والوليّ لا يكون إلاّ قائماً مقامه عند وجود نقص فيه كالصغر ونحوه ، وعليه: فدائرة الولاية محدودة بما يكون المولّى عليه ناقصاً بالإضافة إليه .
وبعبارة اُخرى : الوليّ ليس له الولاية إلاّ بالنسبة إلى منافع الصغير ، والمنافع بعد البلوغ لا تكون معنونة بهذه العنوان ; لأنّها ليست إلاّ منافع الكبير ، فالفرق بين الأموال ومنافع البدن إنّما هو في كون الأموال مملوكة للصغير فعلاً، ومقتضى الولاية
-
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 299، مع تصرّف يسير .
(2) كتاب الإجارة للشيخ مرتضى الآشتياني : 268 .
أو الوصاية جواز التصرّف فيها مطلقاً إذا كان موافقاً للمصلحة . وأمّا المنافع
فليست منافع الصغير إلاّ المقدار المقارن لزمان الصغر ، وما عداها فهو خارج عن دائرة الولاية»(1) .
الصورة الثالثة : أنّه لو آجره مدّة لا يعلم بلوغه ورشده فيها(2)، فتصحّ الإجارة بلا خلاف كما في الخلاف(3) ; بمعنى الحكم بصحّته ظاهراً لتحقّق الولاية المقتضية لصحّة ذلك(4) .
قال المحقّق الرشتي : «لأصالة عدم البلوغ»(5) وقال الفقيه الآشتياني : «لأصالة عدم بلوغه ورشده ، وأصالة بقاء ولايته المقتضية لصحّة ذلك»(6) .
وقال بعض الأعلام : «والوجه فيه إنّما هو استصحاب عدم البلوغ الجاري في جميع أجزاء ذلك الزمان» وأضاف بأنّه «ربما يستشكل في ذلك تارةً: من أجل أنّ احتمال البلوغ في بعض مدّة الإجارة مع عدم ثبوت الولاية له بالإضافة إلى ما بعد البلوغ موجب لتحقّق الغرر وثبوت الجهالة ; لأنّ مدّة الإجارة حينئذ غير معلومة ، ولكن هذا الإشكال إنّما يبتني على بطلان الإجارة في الزمان المصادف للبلوغ واقعاً ; ضرورة أنّه على فرض الصّحة في ذلك الزمان أيضاً لا يتحقّق غرر(7)
-
(1) تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 213 .
(2) والظاهر أنّ المقصود من هذه الصورة عدم العلم بالبلوغ والرشد في تلك المدّة حتّى بعد تماميّة المدّة; بمعنى أنّه بعد انقضاء المدّة لا نعلم بلوغه أو رشده، وإلاّ إذا انكشف بعد الإجارة أنّ مقداراً من المدّة واقع في زمن البلوغ فيرجع إلى الصورة الثانية، فتدبّر. م ج ف.
(3) جواهر الكلام 27 : 333 ، الخلاف 3 : 500، مسألة 21 .
(4) القواعدوالفوائدللشهيد2: 275، تحريرالأحكام الشرعيّة 3: 69، العروة مع تعليقات عدّة من الفقهاء5: 31.
(5) كتاب الإجارة للرشتي : 346 .
(6) كتاب الإجارة للآشتياني : 266 .
(7) وعدم العلم بتحقّق الإجازة من الصبيّ بعد البلوغ لا يوجب غرراً منهيّاً عنه، وإلاّ يلزم أن تكون جميع المعاملات الفضوليّة غرريّاً، وهو كما ترى. م ج ف.
ولا تثبت جهالة أصلا . واُخرى: بأنّ الاُصول العمليّة التي منها الاستصحاب
وإن قلنا بالإجزاء فيها في الأحكام التكليفيّة، ولكنّها لاتصلح لإثبات الأحكام الوضعيّة مع انكشاف الخلاف وعدم المصادفة للواقع، فلا مجال للاتّكاء على استصحاب عدم البلوغ، والحكم باللزوم وعدم الوقوف على الإجازة بالإضافة إلى ما بعد البلوغ أيضاً...
والظاهر عدم ورود هذا الإشكال أيضاً ; لأنّ ملاك الإجزاء في الأحكام التكليفيّة موجود في الأحكام الوضعية أيضاً ; فإنّ مناط الإجزاء هناك هو التصرّف ـ بمقتضى دليل اعتبار الأصل العملي ـ في الأدلّة الأوّلية الدالّة على الأجزاء والشرائط ، وتعميم دائرة الشرط والجزء بحيث لا يكون لهما اختصاص بالواقعين منهما ، وهذا المناط موجود هنا ، فإنّ مفاد دليل اعتبار الاستصحاب يرجع إلى التصرّف في دليل ثبوت الولاية وتعميم دائرتها لصورة الشكّ(1) وإن كان مصادفاً للبلوغ واقعاً»(2) .
جواز فسخ الصبيّ بعد بلوغه ورشده
لو اتّفق بلوغ الصبيّ ورشده في مدّة الإجارة فهل له الفسخ ؟ بمعنى عدم إجازته عقد الإجارة بالنسبة إلى ما بعد البلوغ لكونه حينئذ فضولياً.
فيه قولان بل ثلاثة أقوال :
الأوّل : أنّه يجوز الفسخ ، وبه قال جماعة، منهم: الشيخ في المبسوط في أوّل
-
(1) وبعبارة اُخرى: بالاستصحاب نحرز عدم البلوغ، والإحراز ولو كان تعبّديّاً يكفي في صحّة الولاية والإجارة. م ج ف.
(2) تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة ، 214 ـ 215 .
كلامه(1) ، والعلاّمة في المختلف(2) والتذكرة(3) والتحرير(4) والقواعد والإرشاد(5) ، والشهيد في القواعد والفوائد(6). وكذا في المسالك(7) ومجمع الفائدة والبرهان(8)وجامع المقاصد(9) والجواهر(10) وتحرير الوسيلة(11). وكذا في العروة والتعليقات عليها إلاّ السيّدان الفقيهان الاصفهاني والگلپايگاني(12). وتردّد في الشرائع(13) .
وفي تفصيل الشريعة: « والظاهر أنّ هذا الفرع انّما يتفرّع على تقدير صحّة الإجارة في جميع المدّة المحتملة، حتى المصادفة منها للبلوغ واقعاً . وعليه: فيكون المراد بالفسخ هو الفسخ الاصطلاحي الذي موضوعه العقد الصحيح ، لا الفسخ بمعنى ردّ العقد المساوق للبطلان في المقام»(14) .
وبالجملة : علّلوا هذا الحكم بأنّ العلم والجهل لا مدخل لهما في ثبوت الولاية وعدمهما ، وأنّ الولاية إنّما تكون قبل الكمال ، فيكون نفوذ تصرّف الوليّ مقصوراً على ذلك الزمان، ولا ولاية له فيما بعد ذلك ، وأنّه ليس الصبيّ حينئذ قاصراً بالنسبة
-
(1) المبسوط للطوسي 3 : 240 .
(2) مختلف الشيعة 6 : 124 .
(3) تذكرة الفقهاء 2 : 328 ، الطبعة الحجريّة.
(4) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 69 .
(5) قواعد الأحكام2 : 283، إرشاد الأذهان 1 : 425 .
(6) القواعد والفوائد 2 : 275 .
(7) مسالك الأفهام 5 : 228 .
(8) مجمع الفائدة والبرهان 10 : 67 .
(9) جامع المقاصد 7: 99.
(10) جواهر الكلام 27 : 333 .
(11) تحرير الوسيلة 2 : 80 .
(12) العروة مع التعليقات لعدّة من الفقهاء 5 : 31 .
(13) شرائع الإسلام 2 : 188 .
(14) تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 215 و216 .
إلى السلطنة على نفسه، وإلى التصرّف في ماله ومحجوراً عنه كي يحتاج إلى الوليّ ، فيكون العقد بالنسبة إليه فضوليّاً، وللصبيّ إجازته وعدمها .
قال السيّد الفقيه الخوئي : «وأمّا بالنسبة إلى الصبيّ نفسه فلم يدلّ أيّ دليل على ولاية الوليّ حتّى بالإضافة إلى ما بعد البلوغ . نعم ، في خصوص النكاح قام الدليل على الولاية على تزويج الصبيّ أو الصبيّة ولو كان الزواج دائماً. وأمّا في غيره فلم يثبت له هذه الولاية بحيث يتمكّن من إيجاره للخدمة عشرين سنة مثلاً»(1) .
عدم جواز فسخ الصبيّ بعد بلوغه ورشده
الثاني : أنّه إذا بلغ الصبيّ قبل انقضاء مدّة الإجارة لم يكن له فسخها . وبه قال الشيخ في الخلاف وقوّاه في المبسوط ، وتبعه ابن إدريس(2) ، واختاره السيّد أبو الحسن الاصفهاني في وسيلة النجاة(3). وقال(قدس سره) في تعليقته على العروة : «هذا القول لا يخلو من قوّة، خصوصاً في إجارة أملاكه ; لأنّ المولّى عليه في زمان عدم بلوغه مالك لجميع المنافع حتّى ما كانت بعد بلوغه ، فقد وقع تصرّف الوليّ فيما هو ملك للمولّى عليه فعلاً ، فإذا كان مصلحة له كما هو المفروض نفذ ولزم، وليس له ردّه بعد بلوغه»(4) ووافقه السيّد الفقيه الگلپايگاني(5) .
وقال السيّد الحكيم : «مقتضى ولايته على الطفل في جميع ماله الولاية عليه من ماله ونفسه ـ صحّة ما ذكره الشيخ وأتباعه ـ إذ لا ريب في أنّ للإنسان السلطنة على منافعه المستقبلة ، فتكون لوليّه السلطنة عليها . . . فالأقوى حينئذ عدم جواز
-
(1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 139 .
(2) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 ، المبسوط 3: 240 ، والسرائر 2 : 472 .
(3) وسيلة النجاة 2 : 52 .
(4 ، 5) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5 : 31 .
فسخه ، ونفوذ تصرّف الوليّ ».
ولكنّه(قدس سره) استشكل في آخر كلامه من جهة ثبوت إطلاق الدليل(1) .
أدلّة هذا القول
ويمكن أن يستدلّ لإثبات هذا الحكم بوجوه :
الأوّل : ما ذكره الشيخ(قدس سره) من أنّ الإجارة وقعت من أهلها في محلّها ، ومن ادّعى أنّ له الفسخ بعد بلوغه فعليه الدلالة(2) .
الثاني : أنّ الإجارة عقد لازم بحقّ الولاية، فلم تبطل بالبلوغ .
الثالث : أنّه كان وليّاً حين تصرّف للمصلحة، فيلزم كما لو زوّجه ثمّ بلغ .
الرابع : استصحاب الصحّة قبل البلوغ والرشد(3) ، وما قاله الفقيه الرشتي في ردّها: أنّ الكلّ كما ترى لا ينبغي الالتفات إليه(4)، جيّدٌ .
الخامس : أنّ المستفاد من أدلّة الولاية أنّها قبل البلوغ مطلقة غير مقيّدة بشيء غير المصلحة، فله قبل البلوغ ما للمولّى عليه لو كان بالغاً مع مراعاة المصلحة، فيكون البلوغ غايةً للولاية لا قيداً لما فيه الولاية. أشار إليه السيّد الفقيه الگلپايگاني(5).
وفيه : أنّه لم يثبت إطلاق لأدلّة الولاية على نفس المولّى عليه بالنسبة إلى بعد البلوغ ولا أقل من الشكّ في ذلك ، وهو كاف لعدم صحة الإجارة في ذلك الزمان
-
(1) مستمسك العروة الوثقى 12 : 36 .
(2) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 .
(3) مفتاح الكرامة 7 : 99; كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 347 .
(4) كتاب الإجارة ، للرشتي : 347 .
(5) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5: 31 ، تعليقة مسألة 4 .
من رأسها ، فلا يبقى محلّ للفسخ حتّى يقال بأنّه يجوز أم لا ، وبهذا يردّ أيضاً الوجوه الأربعة المتقدّمة .
القول الثالث : أنّه تبطل الإجارة من رأس، لا أنّ الزيادة تبطل فقط ، ولعلّ الوجه فيه وجود الجهالة والغرر الناشئ من احتمال بلوغه في كلّ جزء من الأزمنة ، فلا يعلم أيّ قدر من الزمان واجد لشرط الصحّة ، كما عن القواعد فيما لو استأجر عبداً يعلم موته قبل انقضاء الإجارة، فحكم ببطلان الإجارة من أصلها للجهالة(1) .
وقال في الإرشاد : «وتبطل ـ أي الإجارة ـ بالبلوغ»(2) ومراده(قدس سره) أنّه يصحّ للوليّ إجارة الصبيّ بحيث لا يكون زمان البلوغ داخلاً في المدّة، وإلاّ فتبطل الإجارة للجهالة .
ولكن يحتمل أن يكون مراده(قدس سره) من البطلان كونها موقوفةً على إجازة الصبيّ بعد البلوغ والرشد ، لا البطلان من رأس(3) .
وتردّد فيه في الشرائع، حيث قال : «ولو آجر الوصيّ صبيّاً مدّة يعلم بلوغه فيها بطلت في المتيقّن، وصحّت في المحتمل ولو اتّفق البلوغ فيه ، وهل للصبيّ الفسخ بعد بلوغه؟ قيل : نعم ، وفيه تردّدٌ»(4) .
لأنّ فيه وجهان : أمّا وجه ثبوت الفسخ له أنّ زمان الولاية إنّما يكون قبل الكمال ، فيكون نفوذ تصرّف الوليّ مقصوراً على ذلك الزمان دون ما سواه ، فلا ولاية له في هذا الحال، ويكون التصرّف فيه فضوليّاً.
-
(1) قواعد الأحكام 2 : 288 .
(2) إرشاد الأذهان 1 : 425 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 10 : 67 ، جواهر الكلام 27 : 334 ، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 347 .
(4) شرائع الإسلام 2 : 188 .
أمّا وجه عدم كون الفسخ له، أنّ الوليّ كان وليّاً حين تصرّف للمصلحة
فلزم، كما لو زوّجه ثمّ بلغ ، ولأنّ الإجارة عقد لازم بحقّ الولاية، فلم تبطل
بالبلوغ .
وعلى كلّ حال، ففي هذه المسألة لو مات أو انتقلت الولاية إلى غيره لم تبطل الإجارة به ; لأنّ تصرّف الوليّ بمنزلة تصرّف المالك بقيامه مقامه ، وقد حقّق في محلّه أنّ المالك إذا آجر ثمّ مات فالإجارة بحالها ، وكذا لو آجره الوليّ مدّة ثمّ انتقلت الولاية بموت ، أو طروّ مانع; فإنّها لا تبطل ; لأنّ الوليّ نائب عن المولّى عليه ، ففعله بمنزلة فعله، فلا يفسد بطروّ مانع كما لو فعله بنفسه(1) .
- (1) قواعد الأحكام 2 : 283 ، جامع المقاصد 7 : 99 ، جواهر الكلام 27 : 334 ، تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 70 ، تذكرة الفقهاء 2 : 328، الطبعة الحجريّة ، مفتاح الكرامة 7 : 100 .
المبحث الثاني : إجارة الوليّ ما يملكه الصبيّ
في هذه المسألة أيضاً ثلاث صور: التي تقدّم ذكرها في بيان إجارة نفس الصبيّ .
أمّا الصورة الاُولى : فلا خلاف في صحّة الإجارة واقعاً وظاهراً .
وأمّا الصورة الثانية : وهي أنّه لو آجر أمواله مدّة يعلم ببلوغه ورشده فيها ; فإنّه تصحّ الإجارة إلى وقت البلوغ والرشد . وأمّا بالإضافة إلى ما بعد زمان البلوغ ففيه وجهان، بل قولان :
الأوّل : أنّه يبطل في الزائد بعد البلوغ ; بمعنى أنّه لا يكون لازماً بل يتوقّف على إجازة الصبيّ وعدمها ; لعدم كونه وليّاً فيها، فتصرّفه حينئذ فضولي .
قال الشيخ في المبسوط : «ومتى آجر الوصيّ صبيّاً أو شيئاً من ماله مدّةً يتيقّن أنّه يبلغ قبل مضيّها ، مثل أن يكون للصبيّ أربع عشرة سنةً فآجره ثلاث سنين ; فإنّه يبلغ باستكمال خمس عشرة سنة ; فإنّ السنة الواحدة يكون العقد صحيحاً، وما زاد عليه يكون باطلاً»(1) .
وكذا في التحرير(2) والتذكرة(3). وبه قال الشهيد الأوّل(4) والمحقّق الثاني(5)والأردبيلي(6) . وهكذا في العروة مع تعليقات عدّة من الفقهاء(7) .
-
(1) المبسوط للطوسي 3 : 240 .
(2) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 69 .
(3) تذكرة الفقهاء 2 : 327 ، الطبعة الحجريّة.
(4) القواعد والفوائد 2 : 275 .
(5) جامع المقاصد 7: 99.
(6) مجمع الفائدة والبرهان 10 : 67 .
(7) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5 : 31 .
وأمّا أدلّة بطلان هذه الإجارة، فقد تقدّمت في المقام الأوّل من الإجماع ، وعدم
عموم الأدلّة ، وعدم المقتضي لجعل هذه الولاية .
والعمدة هنا هي أنّ المنافع المصادفة لزمان بلوغه ممّا يملكه الكبير ، ولا ولاية للوليّ إلاّ على ما يملكه الصغير .
ولكنّ المحقّق الاصفهاني(قدس سره) قال في دفع هذا الاستدلال : «إنّ المنافع المستقبلة للدار ونحوها مملوكة لمالك العين فعلاً ، وإنّما المتأخّر ذات المملوك ، لا أنّ الملكيّة لتدرّجيّة المنافع لابدّ من أن تكون مقارنة لها، لئلاّ يلزم ملك المعدوم كما توهّم . وعليه: فتصرّف الوليّ إنّما هو فيما يملكه الصغير، لا فيما يملكه في زمان كبره ، والمفروض أنّ الوليّ له ولاية التصرّف في كلّ ما يملكه الصغير فعلاً ، فمقتضى القاعدة نفوذ تصرّفه مطلقاً وإن كان بتمليك المنافع المصادفة بذاتها لزمان البلوغ(1) .» إلاّ أنّه(قدس سره) رجع عن هذا الدليل لقوله : «فلا مقتضي للولاية على مثل هذا التصرّف»(2) .
نقول : أمّا الإجماع، فلا اعتبار به ; لكون المسألة ذات دليل . وأمّا سائر الأدلّة، فلاتنهض في قبال الآية الكريمة : (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3); لأنّه لو فرض أنّ في إجارة الوليّ المدّة الزائدة على سنّ البلوغ مصلحة للطفل قبل بلوغه ، مثل أن يكون إدخال زمان البلوغ من مقدّمات حفظ ماله ، فقد صرّح غير واحد بصحّة الإجارة ونفوذها على الصبيّ بعد البلوغ(4) بمقتضى إطلاق الآية الكريمة ، فلا وجه لما استدلّ به القائلون بالبطلان .
الثاني : هو صحّة الإجارة ونفوذها، وأنّه ليس للصبيّ الفسخ عند ما يبلغ ، وهو
-
(1 ، 4) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 298.
(3) سورة الأنعام 6: 152.
(4) تحرير الوسيلة 1 : 547 ، كتاب الإجارة مسألة 12 ، تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 213 .
مقتضى إطلاق كلام الشيخ في الخلاف، حيث قال : «إذا آجر الأب أو الوصيّ الصبيّ أو شيئاً من ماله مدّةً ، صحّت الإجارة بلا خلاف ، فإن بلغ الصبي
قبل انقضاء المدّة كان له ما بقي ، ولم يكن للصبي فسخه» واستدلّ (قدس سره) بـ «أنّ العقد على عين الصبيّ أو على ماله وقع صحيحاً بلا خلاف ، فمن ادّعى أنّ له الفسخ بعد بلوغه فعليه الدلالة»(1). ووافقه في ذلك في السرائر(2) . وبه قال المحقّق النائيني(3)وعدّة من فقهاء العصر(4) والدليل على ذلك إطلاق أدلّة الولاية .
قال السيّد الفقيه الخوئي: «أمّا بالنسبة إلى الأموال، فلاينبغي الإشكال في النفوذ، وأنّه ليس للصبي الفسخ عندما بلغ ، وذلك للإطلاق في أدلّة الولاية; فإنّها وإن كانت مقيّدةً بحال الصغر، فلا ولاية للوليّ بعدما بلغ الصبيّ ، إلاّ أنّ متعلّق هذه الولاية مطلقٌ يشمل حال مابعد البلوغ، كماقبله بمناطواحد;وهورعاية الغبطة والمصلحة(5)، والوليّ إنّما جعل وليّاً لذلك ، فكما أنّ له البيع وإخراج المال عيناً ومنفعةً عن ملكه إلى الأبد إذا اقتضته المصلحة ، فكذلك له أن يبقي العين ويُخرج المنفعة خاصّةً لمدّةً قصيرة أو طويلة حسبما يجده من المصلحة وإن عمّت ما
-
(1) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 .
(2) السرائر 2 : 472 .
(3) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء 5 : 31 .
(4) مستمسك العروة الوثقى 12 : 36 ، تفصيل الشريعة ، كتاب الإجارة : 213 .
(5) ولا يخفى أنّ هذا البيان يجري في إجارة نفس الصبيّ حرفاً بحرف، ولم يظهر لي وجه الفرق بينها وبين إجارة أمواله.
هذا، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّه وان كان الأصل عدم الولاية، إلاّ أنّها ثابتة عند العقلاء; بمعنى أنّ ثبوت أصل الولاية أمر عقلائي وإن تصرّف الشارع في الوليّ وخصّصها بالأب مثلا أو الحاكم، ولكن أصلها أمر ثابت عند العقلاء بالنسبة إلى الصبيّ، وعلى هذا يجب الرجوع إلى ما هو المرتكز عندهم; وهو عدم ثبوت الولاية بالنسبة إلى ما بعد البلوغ، وكون التصرّف لما بعده تصرّفاً فضوليّاً. والقول بلزوم رعاية المصلحة ـ وإن اقتضت المصلحة الإجارة إلى ما بعد البلوغ ـ أيضاً ممّا لم يسمع; لإمكان تصرّف الصبيّ بعد البلوغ وإجازته في فرض وجوبه المصلحة، فتدبّر. م ج ف ـ .
بعد البلوغ»(1) .
وأمّا الصورة الثالثة : وهي أنّه إذا آجر الوليّ مال الصبيّ مدّةً لا يتيقّن أنّه يبلغ قبل مضيّها ، مثل أن يؤجره سنةً أو سنتين وله عشر سنين ; فإنّه يجوز أن يبلغ
بالاحتلام قبل مضيّ الإجارة، فتصحّ الإجارة بلا خلاف كما في الخلاف(2) ; بمعنى الحكم بصحّته ظاهراً لتحقّق الولاية المقتضية لصحّة ذلك(3) .
والمستند لإثبات حكم هذه الصورة ما قلناه في الصورة الثالثة من إجارة نفس الصبيّ ، ولا تفاوت في المقامين .
ولو اتّفق البلوغ والرشد في هذا الزمان المحتمل، فهل للصبيّ الفسخ ; بمعنى عدم إجازة العقد الفضولي المفروض صحّته التي هي القابلة لترتيب الأثر ؟ فيه قولان :
قال بعضهم بالبطلان ; بمعنى أنّ الصبيّ يتخيّر فيها بعد البلوغ بين الإجازة وعدمها، كما اختاره الشيخ في المبسوط(4) ، والعلاّمة في أكثر كتبه(5) ، والشهيد في قواعده(6) ، والمحقّق الثاني(7) وغيرهم(8) .
وبعض آخر بأنّه لا يكون له الفسخ بعد بلوغه ورشده .
-
(1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 139 .
(2) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 .
(3) جواهر الكلام 27 : 333 .
(4) المبسوط للطوسي 3 : 240 .
(5) مختلف الشيعة 6 : 124 ، تذكرة الفقهاء، 2 : 327 الطبعة الحجريّة ، إرشاد الأذهان 1 : 425 ، تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 69 ، قواعد الأحكام 2 : 283 .
(6) القواعد والفوائد 2 : 275 .
(7) جامع المقاصد 7 : 99 .
(8) مفتاح الكرامة 7 : 99 ، مجمع الفائدة والبرهان 10 : 67 ، جواهر الكلام 27 : 333 .
قال به الشيخ في الخلاف(1) وتبعه ابن إدريس(2) والمحقّق النائيني(3). وهكذا بعض فقهاء العصر(4) .
والدليل على إثبات القولين في هذه المسألة أيضاً ما قلناه في تقرير الصورة الثالثة من إجارة نفس الصبيّ ، فراجع .
فرع
إنّ القائلين بعدم صحّة إجارة الوليّ مال الصبيّ أو نفسه مدّةً يعلم أو
يحتمل البلوغ فيها، استثنوا صورة واحدة عن ذلك ; وهي ما إذا كان ذلك هو مقتضى المصلحة اللازمة المراعاة ، بحيث كانت إجارته مقتصرةً على عهد الصغر خاليةً من المصلحة ، بل متضمّنةً للمفسدة . وأمّا مع ضمّ شيء من زمان البلوغ ففيه المصلحة الملزمة ، فحينئذ تكون الإجارة نافذةً ولازمة ليس له فسخها بعد البلوغ(5) .
ولقد أجاد السيّد الخوئي(رحمه الله) في الردّ عليهم ، حيث يقول : ولكنّه غير واضح; نظراً إلى أنّ مجرّد وجود المصلحة ـ ولو كانت بالغة حدّ اللزوم ـ غير كافية في ثبوت الولاية ما لم يقم عليها دليل من الخارج ، والمفروض قصور الدليل وعدم شموله لما بعد انقضاء عهد الصبا .
-
(1) الخلاف 3 : 500 مسألة 21 .
(2) السرائر 2 : 472 .
(3) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5 : 31 .
(4) العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5 : 31 ، وسيلة النجاة 2 : 52 ، مهذّب الأحكام 19 : 49 ، مستمسك العروة الوثقى 12 : 36 .
(5) مفتاح الكرامة 7 : 100 ، جواهر الكلام 27 : 334 ، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 346 ، كتاب الإجارة للشيخ فيّاض الدّين زنجاني : 162 ، العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام 5 : 31 .
وبتعبير آخر: أنّ المصلحة بمجرّدها لا تجوّز التصرّف في سلطان الغير مالم تثبت الولاية عليه بدليل ، والمفروض انتفاؤه . نعم ، لو بلغت المصلحة الملزمة حدّ الوجوب; مثل مالو توقّف حفظ حياة الصبيّ على إجارته مدّة تزيدعلى زمان بلوغه، بحيث لولاه لكان معرضاً للهلاك، اندرج ذلك في الاُمور الحسبيّة ورجعت الولاية حينئذ إلى الحاكم الشرعي، لاإلى الوليّ أوالوصيّ من غيرفرق بين الصغير والكبير(1) .
إجارة الوليّ نفس الصبيّ أو ماله عند فقهاء أهل السنّة:
ذهب فقهاء أهل السنّة أيضاً إلى أنّه يجوز للوليّ إجارة الطفل أو ماله ـ أباً كان أو قيّماًـ إذا رأى المصلحة فيها ، فنذكر شطراً من كلماتهم :
أ : الشافعيّة
جاء في الوجيز للغزالي : «لو آجر الوليّ الصبيّ أو دابّته مدّةً تجاوز البلوغ لم يجزء ، فإن قصرت فبلغ بالاحتلام على قرب فالأقيس أنّه لا ينفسخ ، إذ بنى العقد له على المصلحة»(2) .
وقال العمراني في البيان : «وإن أجّر رجل صبيّاً له عليه ولاية ، أو أجّر ماله مدّةً ، ثمّ بلغ الصبيّ قبل انقضاء المدّة، فهل تنفسخ الإجارة؟ اختلف أصحابنا فيه :
فمنهم من قال : لا تنفسخ ، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق(3) ; لأنّه عقده في حال ولايته عليه ، فصار كما لو زوّجه ثمّ بلغ .
ومنهم من قال : تنفسخ ; لأنّه بان بالبلوغ أنّ تصرّف الوليّ عليه إلى هذا الوقت . وبه قال الخطيب الشربيني(4) والنووي(5) .
-
(1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 140 مع تلخيص .
(2) الوجيز 1 : 414 .
(3) المهذّب 1 : 407، حيث قال : «الصحيح عندي في المسائل كلّها أنّ الإجارة لا تبطل ».
(4) مغني المحتاج 2 : 356 .
(5) المجموع شرح المهذّب 15 : 419 .
ومنهم من قال : ينظر فيما عقد عليه الوليّ من المدّة . فإن تحقّق أنّ الصبيّ يبلغ قبل انقضائها ، مثل: أن يكون له أربع عشر سنة ، فأجّره سنتين ; فإنّه لا يصحّ في السنة الأخيرة ; لأنّه يتحقّق أنّه يبلغ بخمس عشرة سنة ، وهل يصحّ في الاُولى؟ على قولين في تفريق الصفقة .
وإن كانت مدّةً لا يتحقّق بلوغه فيها ، مثل: أن يؤجّره وله أربع عشرة سنة، فبلغ فيها بالاحتلام ، لم تنفسخ الإجارة، وكانت لازمةً له»(1) .
وكذا في حلية العلماء(2) والتهذيب(3) .
ب : الحنفيّة
قال الكاساني : «لو آجر نفسه أو ماله ثمّ بلغ الصبيّ في المدّة ، فله الخيار في إجارة النفس إن شاء مضى عليها وإن شاء أبطلها ، ولا خيار له في إجارة المال .
ووجه الفرق : أنّ إجارة مال الصغير تصرّف في ماله على وجه النظر ، فيقوم الأب فيه مقامه، فلا يثبت له خيار الإبطال بالبلوغ . وأمّا إجارة نفسه، فتصرّف على نفسه بالإضرار وكان ينبغي أن لا يملكه الأب، إلاّ أنّه ملكها من حيث إنّها نوع رياضة وتهذيب للصغير وتأديب له ، والأب يلي تأديب الصغير ، فوليها على أنّها
تأديب، فإذا بلغ فقد انقطعت ولاية التأديب ، وهو الفرق »(4) .
وبه قال في مختصر اختلاف العلماء(5) .
-
(1) البيان 7 : 376 .
(2) حلية العلماء 5 : 425 .
(3) التهذيب في فقه الشافعيّ 4 : 440 .
(4) بدائع الصنائع 4 : 351 .
(5) مختصر اختلاف العلماء 4 : 109 .
ج : الحنابلة
جاء في المقنع : «فإذا أجر الوليّ اليتيمَ أو السيّد العبدَ ثمّ بلغ الصبيّ وعتق العبد لم تنفسخ الإجارة ، ويحتمل أن تنفسخ»(1) .
وقال المرداوي في شرحه عليه : «هذا المذهب ، وعليه الأصحاب وقطع به كثير منهم»(2) .
وكذا في المغني والشرح الكبير ، وبيّن وجه الاحتمالين «بأنّه عقد لازم عَقَده بحقّ الولاية ، فلم يبطل بالبلوغ كما لو باع داره أو زوّجه ، ويحتمل أن تبطل الإجارة فيما بعد زوال الولاية على ما ذكرنا في إجارة الوقف ، ويحتمل أن يفرّق بين ما إذا آجره مدّةً يتحقّق فيها بلوغه في أثنائها، مثل أن آجره عامين وهو ابن أربع عشرة، فتبطل في السادس عشر ; لأنّنا نتيقّن أنّه آجره فيها بعد بلوغه . وهل تصحّ في الخامس عشر؟ على وجهين ، بناءً على تفريق الصفقة .
وبين ما إذا لم يتحقّق بلوغه في أثنائها ، كالذي آجره في الخامس عشر وحده فبلغ في أثنائه، فيكون فيه ما قد ذكرناه في صدر الفصل»(3) . وكذا في المبدع(4)ومنتهى الإرادات(5) والتوضيح(6) .
وفي الإنصاف : «أنّ محلّ الخلاف فيما إذا لم يعلم بلوغه عند فراغها . فأمّا إن آجره مدّةً يعلم بلوغه فيها، فإنّها تنفسخ على الصحيح من المذهب»(7) .
-
(1) المقنع : 138 .
(2) الإنصاف 6 : 36 .
(3) المغني والشرح الكبير 6 : 44 ـ 45 .
(4) المبدع 5 : 83 .
(5) منتهى الإرادات 3: 88.
(6) التوضيح 2 : 739 .
(7) الإنصاف 6 : 37 .
وفي المبدع : «إذا مات الوليّ أو عزل وانتقلت عنه الولاية إلى غيره ، لم يبطل عقده ; لأنّه تصرّف ، وهو من أهل التصرّف فيما له الولاية عليه، فلم يبطل تصرّفه»(1) . وكذا في المغني والشرح الكبير(2) .
د : المالكيّة
جاء في مختصر خليل : «وبِرشد صغير عقد عليه أو على سِلَعِهِ ولّي ، إلاّ لظنّ عدم بلوغه وبقي كالشهر»(3) ، أي كذلك تنفسخ الإجارة برشد الصبيّ إذا آجره وليّه أو آجر سلعته كداره أو دابّته . . . إلاّ أن يظنّ عدم بلوغه قبل انقضاء المدّة وقد بقي من مدّة الإجارة شهر وأيام يسيرة، فيلزمه بقيّة المدّة بالنظر للعقد على نفسه .
وفي المدوّنة : إذا آجر الوليّ الصبيّ مدّة فبلغ قبل انقضائها ، انفسخت الإجارة عنه ولم يلزمه باقي المدّة ، إلاّ أن يكون الشيء الخفيف نحو الأيّام والشهر وما أشبهه فيلزمه ذلك(4) . هذا بالنسبة إلى إجارة نفس الصبيّ .
وأمّا إن أجر الوليّ سلعته كداره ودوابّه، أو رقيقه وعقاره سنين، فاحتلم بعد مضيّ سنة ، فإن كان يظنّ أنّ الصبيّ لا يحتلم في مثل تلك السنين ـ وذلك ظنّ الناس أنّه لا يحتلم في مثل تلك السنين ـ فاحتلم بعد مضيّ سنة، فلا فسخ له وجاز ذلك عليه ; لأنّ الوصيّ إنّما صنع من ذلك ما يجوز له في تلك الحال . وأمّا إن عقد عليه هذه الأشياء وهو يعلم أنّ الصبيّ يحتلم قبل ذلك، لا يجوز ذلك عليه(5) .
-
(1) المبدع 5 : 83 .
(2) المغني والشرح الكبير 6 : 44 و 45 .
(3) مختصر خليل الجندي : 148 .
(4) المدوّنة الكبرى 4 : 455 .
(5) عقد الجواهر الثمينة 2 : 861 ، المدوّنة الكبرى 4 : 455 ، مواهب الجليل 7 : 564 ، التاج والإكليل 7 : 565 ، حاشية الخرشي 7 : 272 ، الذخيرة 5 : 539 .
المبحث الثالث : جواز أخذ الاُجرة من مال الطفل
المشهور بين الفقهاء أنّه يجوز لمن يتولّى أموال اليتيم ـ من الجدّ والوصيّ والحاكم وأمينه وعدول المؤمنين وغيرهم ـ أخذ الاُجرة منها ، بشرط أن لا يكون بعمله متبرّعاً(1) ، بل الظاهر أنّ هذا الحكم في الجملة متّفقٌ بينهم وإن اختلفوا في قدر ما يجوز الأخذ منها على أقوال .
والتحقيق في هذه المسألة يستدعي أن يبحث عنها في مقامين :
الأوّل : أن يكون المتولّي فقيراً .
الثاني : أن يكون المتولّي غنيّاً .
المقام الأوّل: أن يكون المتولّي فقيراً
إذا كان المتولّي(2) في أموال الطفل فقيراً، هل يجوز له أخذ أُجرة مثل عمله ، أو يجوز له أن يأخذ بقدر كفايته ، أو يجب عليه أن يأخذ أقلّ الأمرين من الاُجرة والكفاية ، فيه ثلاثة أقوال :
الأوّل : أنّه يجوز أن يأخذ قدر كفايته ، وهو قول الشيخ(رحمه الله) في النهاية، حيث قال : «لا يجوز التصرّف في أموال اليتامى إلاّ لمن كان وليّاً لهم . . . فمن كان وليّاً يقوم بأمرهم وبجمع أموالهم وسدّ خلاّتهم وجمع غلاّتهم ومراعاة مواشيهم ، جاز له حينئذ أن يأخذ من أموالهم قدر كفايته وحاجته من غير إسراف ولا تفريط»(3) .
-
(1) جواهر الكلام 28 : 437 .
(2) والمراد بالمتولّي لمال اليتيم من له عليه ولاية شرعيّة ; سواء كان بالأصالة كالأب والجدّ، أم لا كالوصيّ . مسالك الأفهام 6 : 275 .
(3) النهاية للطوسي : 361 .
وجعله أحد الأقوال في التبيان(1). واختاره في الوسيلة(2) .
ويدلّ عليه ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(3)والمعروف ما لا إسراف فيه ولا تقتير .
جاء في السرائر : «والذي يقوى في نفسي أنّ له قدر كفايته كيف ما دارت القضيّة ، لقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) فالتلزّم(4) بظاهر التنزيل ، هو الواجب دون ما سواه; لأنّه المعلوم، وما عداه إذا لم يقم عليه دليل مظنون»(5) .
ويرد عليه أوّلاً : أنّ معنى الكفاية غير مضبوط ولا معروف ، ولم يذكر له ضابطة معيّنة ; لأنّ الكفاية تختلف بحسب الأشخاص والحالات والأزمنة والأمكنة .
قال المحدّث الكاشاني : «وقيل : أقلّ الأمرين من الاُجرة والكفاية، وهو حسن لو كان للكفاية معنى مضبوط، ولكنّه مجمل(6) جدّاً»(7) . وكذا في المسالك(8) .
وثانياً : هذا الحكم على إطلاقه غير تامّ ، لأنّ العمل ربما كان قليلاً والحاجة كثيرة ، فيؤدّي إلى الإضرار باليتيم .
وثالثاً: هل المراد بالكفاية مايكفيه لنفسه(9) وعياله، أو يقتصر على نفسه
-
(1) تفسير التبيان 3 : 119 .
(2) الوسيلة لابن حمزة : 279 .
(3) سورة النساء 4: 6.
(4) وفي المختلف 5 : 64 « فالملتزم بظاهر التنزيل» وفي هامش المصدر: الالتزام ، وهو الأنسب ظاهراً ، كما أنّ في المصدر: «كيف ما دارت القصة». ولعلّ الأنسب ما أثبتناه في المتن .
(5) السرائر 2 : 211 .
(6) لا إجمال في الكفاية بعد كونها منوطة بالمعروف، وهو في كلّ عمل أو مال بحسبه. م ج ف.
(7) مفاتيح الشرائع 3 : 188 .
(8) مسالك الافهام 6 : 276 .
(9) إذا كان المعروف بحسب المال والعمل، فلا يلاحظ فيه ما عداهما. م ج ف.
خاصّةً، فيه أيضاً إجمال .
ورابعاً : قد يكون المال والعمل قليلين، كلبن شاة إذا حلبها ، فلو أكل بقدر كفافه منه يلزم أن يكون قد أكل كلّه، وهو غير جائز قطعاً . ويظهر ذلك من خبر أبي الصباح الكناني ; لأنّ في ذيله : «فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً»(1) .
قال في مفتاح الكرامة : «ولعلّ معناه أنّه يأخذ اُجرة مثل ذلك، أو أنّ مثل ذلك لا اُجرة له عرفاً»(2) .
القول الثاني : أن يأخذ أقلّ الأمرين من الاُجرة والكفاية .
فإن كانت الكفاية أقلّ من اُجرة المثل، فله قدر الكفاية دون اُجرة المثل ، وإن كانت اُجرة المثل أقلّ من الكفاية، فله اُجرة المثل دون الكفاية .
قال في المبسوط : «الوليّ إذا كان فقيراً جاز له أن يأكل من مال اليتيم أقلّ الأمرين من كفايته أو أجرة مثله، ولا يجب عليه قضاؤه»(3). وكذا في الخلاف(4). وبه قال الشهيد في الروضة(5) .
وقال العلاّمة في التذكرة : « وإن كان فقيراً جاز أن يأخذ إجماعاً، وفي قدره خلاف ، الأقرب أن يقول يستحقّ اُجرة المثل . . . لكن يستحبّ له
أن يأخذ أقلّ الأمرين»(6). وفي جامع المقاصد: وهو الأصحّ(7). وفي التنقيح الرائع(8)
-
(1) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح3 .
(2) مفتاح الكرامة 5 : 265 .
(3) المبسوط للطوسي 2 : 163 .
(4) الخلاف 3: 179 مسألة 295.
(5) الروضة البهيّة 5 : 80 .
(6) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
(7) جامع المقاصد 5 : 188 و11 / 302 .
(8) التنقيح الرائع 2 : 396 .
وكنز العرفان(1): وهو أولى ; لأنّه أحسن .
وفي كشف الرموز هو أحسن الأقوال وأجود من التهجّم على أموال اليتامى(2).
ويمكن الاستدلال لهذا الحكم ، بأنّ الكفاية إن كانت أقلّ من الاُجرة; فإنّه مع حصولها يصير غنيّاً . ومن كان غنيّاً يجب عليه الاستعفاف ; لظاهر قوله ـ تعالى ـ (3) : (وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)(4) والأمر للوجوب ، فيجب عليه الاستعفاف عن بقيّة الاُجرة ، وأمّا إذا كانت اُجرة المثل أقلّ ; فإنّما يستحقّ عوض عمله، فلا يحلّ له أخذ ما زاد عليه»(5) .
ويرد عليه بأنّ المراد من الأكل في الآية إن كان معناه الحقيقي ـ أي بلعُ الطعام بعد مضغه(6) وجعله مختصّاً بالوليّ ، بأن يأكل هو بمقدار قوته ولا يتعدّى إلى عياله ـ فلا منافاة بين الفقر وحصول الكفاية منه بهذا المعنى ; لأنّ حصول القوت يحتاج معه إلى بقيّة مؤونة السنة من نفقة وكسوة ومسكن وغيرها ، حتّى يتحقّق ارتفاع الفقر ، وحينئذ فقولهم ـ في الاستدلال لثبوت أقلّ الأمرين : إنّه مع حصول الكفاية يكون غنيّاً، فيجب عليه الاستعفاف عن بقيّة الاُجرة ـ غير صحيح .
وإن كان المراد بالأكل مطلق التصرّف والأخذ ; لأنّ الأكل يستعمل كثيراً فيما
هو أعمّ من المعنى الحقيقي، كما هو المراد من قوله ـ تعالى ـ : (وَلاتَأْكُلُوهاإِسْرافاً
-
(1) كنز العرفان 2 : 105 .
(2) كشف الرموز 2 : 81 .
(3) والظاهر أنّ الآية تدلّ على من كان غنيّاً قبل أخذ الاُجرة أو مقدار الكفاية. وعليه: فلا مجال للاستدلال بها، فتدبّر. م ج ف.
(4) سورة النساء 4 : 6 .
(5) اقتباس من الروضة البهيّة 5 : 80 وجامع المقاصد 11 : 302 .
(6) مجمع البحرين 1 : 56 ; لسان العرب 1 : 88 مادّة أكل .
وَبِداراً)(1) ، (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(2). (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً)(3) وغير ذلك ، فقيد «المعروف» من ذلك غير واضح المراد حتّى يعتبر أقلّ الأمرين ويجب الاقتصار عليه ; لأنّ التصرّف على هذا الوجه يختلف باختلاف الأشخاص والحاجة .
فعلى كلا المعنيين للأكل لا يتمّ الاستدلال بهذه الآية للقول بأنّه يجوز أقلّ الأمرين ; لأنّ العمل ربما كان قليلاً والقوت كثيراً، فيؤدّي إلى الإضرار باليتيم ، كما أشار إلى بعض ذلك في المسالك(4) والجواهر(5) .
القول الثالث : وهو أجود الأقوال وأصحّها ـ أن يأخذ اُجرة مثل عمله .
اختاره الشيخ في موضع من النهاية، فقال : « والمتولّي لأموال اليتامى والقيّم باُمورهم، يستحقّ اُجرة مثله فيما يقوم به من مالهم من غير زيادة ولا نقصان ، فإن نقص نفسه كان له في ذلك فضل وثواب ، وإن لم يفعل كان له المطالبة باستيفاء حقّه من اُجرة المثل . فأمّا الزيادة فلا يجوز له أخذها على حال »(6) .
واختاره الكيدري(7) والمحقّق(8) .
وقال العلاّمة في التحرير : «ويجوز لمن يتولّى أموال اليتامى أن يأخذ اُجرة
-
(1) سورة النساء 4 : 6 .
(2) سورة البقرة 2 : 188 .
(3) سورة النساء 4 : 10 .
(4) مسالك الأفهام 6 : 276 مع تصرّف يسير .
(5) جواهر الكلام 28 : 443 .
(6) النهاية للطوسي : 362 .
(7) إصباح الشيعة : 297 .
(8) شرائع الإسلام 2 : 258 ، المختصر النافع : 191 .
المثل عن نظره في ماله»(1). وكذا في التذكرة(2) والقواعد(3). وبه قال أيضاً
الشهيدان(4).
وفي تفسير مجمع البيان قوله ـ تعالى ـ : (وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً)(5) . «معناه لا تأكلوا من مال اليتيم فوق ما تحتاجون إليه ; فإنّ لوليّ اليتيم أن يتناول من ماله قدر القوت إذا كان محتاجاً على وجه الاُجرة على عمله في مال اليتيم ـ إلى أن قال: ـ والظاهر في روايات أصحابنا أنّ له اُجرة المثل; سواء كان قدر كفايته أو لم يكن»(6) .
وكذا اختاره المحقّق العاملي(7) والمحقّق الأردبيلي(8) وصاحبا الرياض(9)والجواهر(10) . وبه قال أيضاً جمع من فقهاء العصر(11) .
أدلّة جواز أخذ الوليّ اُجرة المثل
ويمكن الاستدلال لهذا الحكم بوجوه :
-
(1) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 382 .
(2) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
(3) قواعد الأحكام 2 : 567 .
(4) الدروس الشرعيّة 2 : 327 ، اللمعة الدمشقيّة : 107 ، مسالك الأفهام 6 : 277 .
(5) سورة النساء 4 : 6 .
(6) مجمع البيان 3 : 19 ـ 20 .
(7) مفتاح الكرامة 5 : 262 .
(8) زبدة البيان 2 : 612 .
(9) رياض المسائل 6: 288.
(10) جواهر الكلام 28 : 440 .
(11) مهذّب الأحكام 22: 227، منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، المعاملات 2: 222، وسيلة النجاة 2: 151، تحرير الوسيلة 2: 94 مسألة 59، تفصيل الشريعة، كتاب الوقف والصدقة والوصيّة: 200، مباني منهاج الصالحين 9: 353.
الأوّل : الظاهر من الأكل بالمعروف في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(1)هو أخذ اُجرة المثل كما هو مقتضى القاعدة أيضاً .
قال في الجواهر : «نعم ، أعلى أفراد الأكل بالمعروف شرعاً وعرفاً اُجرة المثل ، فإن نقص عنها زاد في المعروف وقد أحسن إلى اليتيم ، بل إن لم يأخذ شيئاً فقد زاد في الإحسان ولم يكن من الأكل بالمعروف، الذي قد رخّص فيه في مقابلة العمل للفقير . . . فالمراد حينئذ أنّ الفقير إن أراد الأكل فلا يأكل إلاّ بالمعروف ، وهو أن يكون في مقابلة عمل له في مال اليتيم ، وأن لا يزيد على اُجرة المثل ، وكلّما نقص عن ذلك فهو من المعروف ، بل لعلّ ذلك هو المراد من النصوص»(2) .
وفي مفتاح الكرامة : «فالمعروف في الشرع والعرف اُجرة عمله الذي هو حفظ الأولاد والأموال ، فلا يجوز له إلاّ ذلك المقدار فيأخذه ، وإن كان زائداً عمّا يحتاج إليه من سدّ الخلّة»(3) .
الثاني : الإجماع كما ادّعاه في التذكرة(4) ومفتاح الكرامة(5) ومهذّب الأحكام(6). وفي الرياض: «لا خلاف فيه»(7) .
نقول : لا اعتبار بهذا الإجماع ; لأنّ النصوص التي سنذكرها قريباً كانت مدركاً له ، مضافاً إلى أنّه لا يمكن إثباته مع ذهاب جمع من الفقهاء على خلافه .
-
(1) سورة النساء 4 : 6 .
(2) جواهر الكلام 28 : 439 .
(3) مفتاح الكرامة 5 : 264 .
(4) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
(5) مفتاح الكرامة 5 : 262 .
(6) مهذّب الأحكام 22 : 227.
(7) رياض المسائل 6 : 288 .
الثالث : أصالة احترام العمل(1).
قال في المختلف : «والوجه عندي أنّ له اُجرة المثل; سواء كان غنيّاً أو فقيراً ـ إلى أن قال: لنا: أنّه فعل تصحّ المعاوضة عليه ، فاستحقّ فاعله الاُجرة إذا لم يتبرّع»(2) .
وفي الرياض : «لأنّه عمل محترم غير متبرّع به، فكان له اُجرة مثله»(3) . وكذا في جامع المقاصد(4) .
وقال في تفصيل الشريعة : « وذلك; لأنّ عمل المسلم محترم وله أجر فيما إذا كان بأمر من له الأمر ، وإن كان الأحوط الأولى للغني غير المحتاج عدم الاستفادة من مال اليتيم، الذي جعل أكله ظلماً أكلا(5) في بطونهم النار في الكتاب العزيز(6)وهو يدلّ على كمال مراقبة مال اليتيم ولزوم التحفّظ والاجتناب منه»(7) .
الرابع : السيرة كما ادّعاه في المهذّب(8) .
الخامس : النصوص:
-
(1) الظاهر أنّه لا مجال للاستدلال بهذا الدليل; فإنّ مقتضاه استحقاق الاُجرة من دون أن يشترط بالفقر; بمعنى أنّ هذا الدليل يدلّ على الاستحقاق حتّى في صورة الغناء، مع أنّه مخالف لصريح الآية الشريفة، إلاّ أن يقال: إنّ الاستعفاف مستحبّ وليس بواجب، وهذا بقرينة المقابلة; بمعنى أنّ قوله ـ تعالى ـ : (فليأكل)لا يدلّ على الوجوب، مضافاً إلى أنّ الإعادة قرينة على الاستحباب كما سيأتي إن شاءالله. م ج ف.
(2) مختلف الشيعة 5 : 65 .
(3) رياض المسائل 6 : 288 .
(4) جامع المقاصد 11 : 302 .
(5) هكذا في المصدر، والأنسب أكلاً للنار في بطونهم .
(6) سورة النساء 4 : 10 .
(7) تفصيل الشريعة ، كتاب الوصيّة : 200 .
(8) مهذّب الأحكام 22 : 222 .
1 ـ خبر هشام بن الحكم أو صحيحه على قول(1) قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عمّن تولّى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال : «ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم، فليأكل بقدر ذلك»(2) . ودلالتها على المقصود صريحة .
2 ـ خبر أبي الصباح الكناني أو صحيحه، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(3) فقال : «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً » الحديث(4) .
3 ـ موثّقة سماعة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : «من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له ما
-
(1) لأنّه ليس في السند من لم يغمض عنه إلاّ علي بن السندي ، ووثّقه الكشّي، حيث إنّه عنون «عليّ بن إسماعيل» ثمّ قال : نصر بن صباح قال: علي بن إسماعيل ثقة وهو علي بن سندي ، رجال الكشّي : 598 .
وقال الفاضل الخراساني في ذخيرة المعاد : 52 في حكم من وجد على جسده أو ثوبه المختصّ منيّاً : وما رواه الشيخ عن أبي بصير في القوي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصيب بثوبه منيّاً . . . الحديث ، وسائل الشيعة 1 : 480 الباب 10 من أبواب الجنابة ح3، مع أنّه وقع في سند هذا الحديث علي بن السندي .
وقال المحقّق الفقيه القمّي : وخصوص رواية هشام بن الحكم . . . والظاهر أنّها صحيحة ; لأنّه ليس في السند من يتأمّل فيه إلاّ علي بن السندي ، والظاهر أنّه علي بن إسماعيل بن عيسى بن فرج السندي أو السرّي، كما حقّقه شيخنا(رحمه الله) في تعليقته الرجاليّة ـ «منهج المقال» الرجال الكبير «ومعه تعليقات للبهبهاني : 234» الطبعة الحجريّه . وهو ثقة ـ وكذا ظاهر ما حكى عن الذخيرة من أنّه حسن كالصحيح ، جامع الشتات 2 : 475 .
وفي الرجال الكبير : 226 علي بن إسماعيل ، نصر بن الصباح قال : علي بن إسماعيل ثقة; وهو علي بن سندي، فلُقّب إسماعيل بالسندي ، وفي الكشّى السّدي بدل السندي. وقال الأسترابادي في موضع آخر : والظاهر اتّحاد الكُلّ ، رجال الكبير : 233 .
(2) تهذيب الأحكام 6: 343 ح960، وسائل الشيعة 12: 186 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به، ح5.
(3) سورة النساء 4 : 6 .
(4) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح3 .
يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر ولا يسرف ،
وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج بنفسه فلا يرزأنّ(1) من أموالهم شيئاً»(2) .
4 ـ صحيحة عبدالله بن سنان قال : سُئل أبو عبدالله(عليه السلام) وأنا حاضر عن القيّم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم ، ألَهُ أن يأكل من أموالهم؟ فقال : «لابأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله ـ تعالى ـ في كتابه : (وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(3) هو القوت ، وإنّما عنى فليأكل بالمعروف الوصيّ لهم والقيّم في أموالهم ما يصلحهم»(4) .
5 ـ موثّقة حنّان بن سدير قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : «سألني عيسى بن موسى عن القيّم للأيتام في الإبل وما يحلّ له منها ، فقلت له : إذا لاط(5) حوضها وطلب ضالتها وهنأ(6) جرباها(7) ، فله أن يصيب من لبنها في غير نهك لضرع ، ولا فساد لنسل»(8) .
6 ـ ما رواه محمّد بن مسلم، عن أحدهما(عليهما السلام) قال : سألته عن رجل بيده
-
(1) رزأه ماله : أصاب منه شيئاً فنقصه ، المعجم الوسيط : 340 .
(2) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح4 .
(3) سورة النساء 4 : 6 .
(4) تهذيب الأحكام 9 : 244 ، ح42 .
(5) لُطْتُ الحوض بالطين لوطاً ، أي ملطتُهُ به وطيّنْتُهُ ، الصحاح للجوهري 2 : 902 مادّة لوط .
(6) هنأت البعير : إذا طليته بالقطران والقطران دواء للجرب ، الصحاح 1 : 84 .
(7) الجَرَب بالتحريك : داءٌ معروف ، يقال جرب البعير جَرَباً من باب تعب . . . وناقة جرباء ، مجمع البحرين 1 : 281 مادّة جرب .
(8) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح2 .
ماشية لابن أخ له يتيم في حجره ، أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال : «إن كان يليط
حوضها ويقوم على مهنتها ويردّ نادتها، فيشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ، ولا مضرّ بالولد»(1) .
7 ـ الأخبار المرويّة في تفسير العيّاشي(2); لأنّ صريح بعضها: أنّ الرجل يحبس نفسه في أموالهم ويقوم في ضيعتهم ويشغل نفسه عن طلب المعيشة
فلا يحترث لنفسه، فليأكل بالمعروف من مالهم. ونقل في الوسائل «فلا يحترف لنفسه»(3).
فالظاهر من النصوص أنّ للوليّ أكل ما هو المعروف من مال اليتيم . والأكل بالمعروف ـ كما بيّناه سابقاً ـ هو اُجرة المثل ، بمعنى أنّه يجوز أن يأكل الوليّ في مقابل ما عمل في مال اليتيم، وأن لا يزيد على اُجرة المثل ، وكلّما نقص عن ذلك فهو من المعروف كما في الجواهر(4) .
ثمّ إنّه يظهر(5) من بعض النصوص المتقدّمة خلاف المدّعى ، وأنّ له أكل القوت فقط، كصحيحة عبدالله بن سنان(6). والمستفاد من بعض الآخر: أنّه إذا كان فقيراً وليس له ما يقيمه يجوز له الأخذ بالمقدار الذي يقيمه، كموثّقة سماعة(7). ومقتضى
-
(1) نفس المصدر، ح6 .
(2) تفسير العيّاشي 1 : 221 ـ 222 ح29 ـ 32 .
(3) وسائل الشيعة 12 : 187 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به، ح10.
(4) جواهر الكلام 28 : 439 .
(5) والحقّ المستفاد من الروايات أنّ له اُجرة مثل عمله; سواء كانت زائدة على قدر الكفاية أم لا، والمقصود من المعروف في الآية بقرينة الروايات هو اُجرة المثل، وبعبارة اُخرى: صحيحة هشام بن الحكم صريحة في اُجرة المثل، وبها يتصرّف في بقيّة الروايات الواردة حتّى التعبير بالقوت; فإنّه وإن كان ظاهراً في مقدار كان موجباً لحفظ الوليّ وعدم تلفه، ولكن يأوّل باُجرة المثل. م ج ف.
(6) وسائل الشيعة 12 : 184 و 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح1 .
(7) نفس المصدر .
إطلاقها الجواز حتّى في صورة كون المقدار المذكور أكثر من اُجرة المثل ، فيقع التعارض بينهما .
فيمكن أن يقال بأنّ الترجيح مع موثّقة سماعة ، لكونها موافقة للكتاب فيؤخذ بها ، وإن أبيت عن هذا الجمع نقول : يقع التعارض وبعد التساقط يرجع إلى إطلاق الكتاب .
وبالجملة : فالمستفاد من مجموع الأدلّة(1) أنّه يجوز للوليّ أن يأخذ من مال اليتيم بالنحو المعروف ، والمقدار المعروف ـ على ما بيّنا ـ ما لا إسراف فيه ولا تقتير ، وهو الحدّ الأوسط ، أي اُجرة المثل ، بل يستفاد المدّعى من موثّقة سماعة أيضاً، حيث قيّد الجواز بعدم السرف ، بل يمكن أن يُقال : إنّ هذا هو المتفاهم العرفي عند إطلاق هذا اللفظ .
نعم ، لو لم يكن لفعله اُجرة في العادة، كوضع الدراهم والدنانير عنده ، أو كان المال قليلاً غير محتاج إلى عمل له اُجرة يعتدّ بها عرفاً ، لم يأخذ شيئاً كما في الجواهر(2) ومفتاح الكرامة(3) . وكما يظهر ذلك من ذيل رواية الكناني ، حيث قال : «فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً»(4) .
وكذا ذيل رواية أبي بصير، حيث قال(عليه السلام) : «ليس له ذلك في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة»(5) .
-
(1) والتحقيق أنّ المستفاد من مجموع الآيات والروايات جواز أخذ الوليّ شيئاً ما، فيما إذا كان فقيراً، وهذا المقدار يكون أقلّ من اُجرة المثل غالباً بل دائماً، ولا فرق في الجواز بين قصد التبرّع وعدمه. م ج ف.
(2) جواهر الكلام 28: 443.
(3) مفتاح الكرامة 5 : 263 .
(4) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به، ح3 .
(5) نفس المصدر 12 : 187 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح9 .
المقام الثاني: أن يكون الوليّ غنيّاً
وأمّا إذا كان وليّ الصبيّ غنيّاً هل يستحقّ الاُجرة أم لا؟ فيه قولان :
القول الأوّل : أنّه لا يجوز له أخذ شيء من مال الصبيّ في مقابل إدارة أمواله .
ففي المبسوط : «الوليّ إذا كان فقيراً جاز له أن يأكل من مال اليتيم»(1) .
وقال ابن إدريس : «فأمّا إن كان غنيّاً، فلا يجوز له أخذ شيء من أموالهم»(2) .
وفي المسالك : «أمّا لو كان غنيّاً، فالأقوى وجوب استعفافه مطلقاً»(3) .
وبه قال السيوري(4) والمحقّق الثاني(5) والمحدّث الكاشاني(6) والمحقّق الأردبيلي(7) وصاحب الرياض(8). وكذا هو ظاهر المختصر النافع(9) وكشف الرموز(10) واللمعة(11) وغيرها(12) .
واستدلّ للحكم المذكور بوجوه :
الأوّل : ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)(13) ; لأنّ الأمر
-
(1) المبسوط للطوسي 2 : 163 .
(2) السرائر 2 : 211 .
(3) مسالك الأفهام 6 : 277 .
(4) التنقيح الرائع 2 : 396 .
(5) جامع المقاصد 5 : 188 و ج 11 : 302 .
(6) مفاتيح الشرائع 3 : 189 .
(7) زبدة البيان 1 ـ 2 : 611 .
(8) رياض المسائل 6 : 289 .
(9) المختصر النافع : 119 .
(10) كشف الرموز 2: 80.
(11) اللمعة الدمشقيّة : 107 .
(12) الروضة البهيّة 5 : 280 .
(13) سورة النساء 4 : 6 .
للوجوب ، كما في المبسوط(1) والمسالك(2) وجامع المقاصد(3) .
قال المحدّث الكاشاني : «والأقوى وجوب التعفّف ; لظاهر الأمر في الآية »(4).
الثاني : أصل عدم استباحة مال الغير إلاّ بدليل ، ولا يوجد هنا دليل كما في التنقيح الرائع(5) .
وفي الرياض: «وأمّامع غناه فالأحوط بل اللاّزم...أن لايأخذشيئاً، للأصل»(6).
الثالث : موثّقة سماعة المتقدِّمة عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(7) قال : «من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى(8) أموالهم ويقوم في ضيعتهم ، فليأكل بقدر ولا يسرف » الحديث(9) .
فقد قيّد الحكم بما إذا كان الوليّ محتاجاً .
المناقشة في الاستدلال بالآية
الآية المباركة وإن كان ظاهرها يوهم اشتراط كون الوليّ فقيراً ; لأنّ الأمر للوجوب ، ولكن مادّة الاستعفاف تدلّ على الرجحان .
-
(1) المبسوط للطوسي 2 : 163 .
(2) مسالك الأفهام 6 : 277 .
(3) جامع المقاصد 5 : 188 و ج 11 : 302 .
(4) مفاتيح الشرائع 3: 189.
(5) التنقيح الرائع 2 : 396 .
(6) رياض المسائل 6 : 289 .
(7) سورة النساء 4 : 6 .
(8) تقاضاه الدين قبضه منه ، لسان العرب 5 : 277 .
(9) وسائل الشيعة 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح4 .
قال العلاّمة في المختلف : «وقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)(1)لا إشعار فيه بالوجوب ، بل يدلّ بمفهومه على الأولويّة»(2) .
وفي التذكرة : «الوليّ إن كان غنيّاً استحبّ له أن يستعفف عنه»(3) .
وجاء في المسالك : «حملوا الأمر بالاستعفاف على الاستحباب ، وادّعوا أنّ لفظ الاستعفاف مشعر به ، وله وجه»(4) .
وفي مفتاح الكرامة : «أنّه يستحبّ له التعفّف مع الغنى . . . لقرينة العفّة الظاهرة في الجواز»(5) .
وفي الجواهر : «لكن المادّه تشعر بالندب»(6) .
ولعلّ أنظار هؤلاء الأعلام ـ قدّس الله أسرارهم ـ متّجهة إلى أنّ معنى الاستعفاف طلب العفاف ، كما ورد في الحديث «أفضل العبادة العفاف»(7) .
وفي مجمع البحرين : «العفاف ـ بفتح العين ـ والتعفّف : كفّ النفس عن المحرّمات وعن سؤال الناس . . . الاستعفاف طلب العفاف»(8). وكذا في النهاية لابن الأثير(9). ولا شكّ أنّ طلب العفاف ليس بواجب بل هو مستحبّ .
-
(1) سورة النساء 4 : 6 .
(2) مختلف الشيعة 5 : 65 .
(3) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
(4) مسالك الأفهام 6 : 277 .
(5) مفتاح الكرامة 5 : 262 .
(6) جواهر الكلام 28 : 439 .
(7) الكافي 2 : 79، ح3 .
(8) مجمع البحرين 2 : 1238 عفف .
(9) النهاية لابن الأثير 3 : 264 .
ولذا قال المحقّق القمّي : «معنى الاستعفاف كفّ النفس أو استعداد النفس لترك شيء ، ولا شكّ أنّ الذي يجب على الإنسان ترك الحرام . وأمّا استعداد النفس لترك
الحرام فهو مستحبّ».
ثمّ قال(قدس سره) : «وفي قوله ـ تعالى ـ: (وَ لْيَسْتَعْفِفِ) ينافي مدلول المادّة مع الهيئة وتقديم المادّة على الهيئة أولى ، فيحمل الأمر على الاستحباب»(1) . فلا تدلّ الآية على اشتراط الفقر .
ويؤيّده ما في الكشّاف من أنّ معنى (وَ لْيَسْتَعْفِفِ)(2) أي ليجتهد في العفّة وظلف النفس(3)، كأن المستعفّ طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه(4) .
وكذا ما في كنز العرفان «(وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي إن كان الفقير يخاف زيادة الفقر بالنكاح ، فليجتهد في قمع الشهوة وطلب العفّة بالرياضة لتسكين شهوته»(5) .
المناقشة في الاستدلال بالموثّقة
ويرد على الاستدلال بموثّقة سماعة: أ نّ فيها تقييداً بكون الوليّ محتاجاً وليس له ما يقيمه .
وبأنّ لفظ «محتاج» الوارد في الموثّقة وكذا لفظ «فقيراً» الذي ورد في الآية
-
(1) جامع الشتات 2 : 477 .
(2) سورة النور 24: 33.
(3) ظلف نفسه عن الشيء أي منعها. وظلفت نفسي عن كذا أي كفّت ، الصحاح 2 : 1070 .
(4) الكشّاف 3 : 237 .
(5) كنز العرفان 2 : 138 .
المباركة ليس معناهما الفقر الشرعيّ(1) ، بل الظاهر(2) أنّ المراد منهما في الآية
والموثّقة من كان مشتغلاً بإصلاح أموال الصبيّ أو اليتيم ، وكانت أوقاته مستغرقة في تدبير شؤونه بحيث يشغله ذلك عن تحصيل معيشته والاشتغال لنفسه ، ويدلّ على ذلك صريحاً قوله(عليه السلام) في الموثّقة : «وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج بنفسه فلا يرزأنّ(3) من أموالهم شيئاً»(4) .
وهكذا يستفاد هذا المعنى من الروايات الكثيرة الواردة عنهم(عليهم السلام) في بيان معنى الآية الكريمة التي فيها المعتبرة ، مثل قوله(عليه السلام) في خبر أبي الصباح الكناني المتقدّمة : «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم»(5) .
والأخبار الواردة في تفسير العيّاشي، مثل ما رواه أبو اُسامة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) فقال : «ذلك رجل يحبس نفسه على أموال اليتامى فيقوم لهم فيها ويقوم لهم عليها، فقد شغل نفسه عن طلب المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح أموالهم» الحديث(6).
-
(1) الفقير في الاصطلاح : هو الذي لا يملك قوت سنته لا فعلاً ولا قوّةً ، القاموس الفقهي : 160 ، أو هو من لم يملك مؤونة نفسه وعياله الواجبي النفقة مقدار سنة كاملة،القواعدالفقهيّة للمحقّق البجنوردي 6 : 372.
(2) الظاهر أنّ المستفاد من الموثقة قيدان: الاحتياج، وعدم وجود شيء يقيمه، وليس الثاني تفسيراً للأوّل. هذا، مضافاً إلى أنّ استغراق الأوقات في تدبير شؤونه لا يستفاد من الروايات جدّاً. نعم، قد ورد التعبير بأنّه قد شغل نفسه عن طلب المعيشة، ولكنه لا يدلّ على ذلك; فتدبّر. م ج ف.
(3) أي فلا يصيبنّ .
(4) وسائل الشيعة 12 : 186 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح4 .
(5) نفس المصدر 12 : 185 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح3 .
(6) تفسير العيّاشي 1 : 221 ح29 ، البرهان 1 : 344 ح14.
وكذا ما رواه أبو بصير، عنه(عليه السلام)(1) .
وما رواه زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)(2) .
وما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله(عليه السلام)(3) .
وهكذا صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة التي رواها الشيخ في التهذيب بإسناده عن الحسن بن محبوب قال : سُئل أبو عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا حاضر ـ عن القيّم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، أله أن يأكل من أموالهم؟ فقال : «لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله ـ تعالى ـ في كتابه» الحديث(4) .
والحاصل : أنّه إذا تأمّلت ما تقدّم من النصوص الكثيرة التي اختلفت ألفاظها ، ولكنّها اشتملت على معنى مشترك بينها ، يحصل لك الاطمئنان بذلك القدر المشترك ، ويصحّ أن يقال ، إنّ جميع الأخبار المتقدّمة مطلقة بالنسبة إلى الفقير والغنيّ إلاّ موثّقة سماعة; فإنّ فيها: «من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له مايقيمه . . . فليأكل بقدر ولا يسرف» وقد عرفت معنى المحتاج في هذه الموثّقة .
وبالجملة : المتحصّل من الآية الشريفة بضميمة ـ الروايات الواردة في تفسيرها ـ هو أنّ المتولّي لأمر الصغار إذا كان مشتغلاً بإصلاح أموالهم وتدبير شؤونهم ، بحيث يشغله ذلك عن كسبه وتحصيل معيشته وتدبير مال نفسه ، فيجوز له أن يأخذ من أموالهم بالقدر المعروف ; سواء كان غنيّاً أو فقيراً ، والمقدار المعروف هو اُجرة المثل ; لأنّ المراد بالأكل أعمّ من المعنى الحقيقي ، فيشمل مطلق التصرّف كالأخذ والتملّك وغيرهما ، كما أنّ المعروف ما عرف عند الناس . وبعبارة اُخرى : المعروف ما يكون عند العقلاء متعارفاً، وأخذ اُجرة المثل متعارف عندهم .
-
(1) تفسير العيّاشي 1 : 222 ح31 و32 ; وسائل الشيعة 12 : 187 الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، ح9.
(2 ، 2) تفسير العيّاشي 1 : 222 ح32 و224 ح43 ; البرهان 1: 344، ح19.
(4) تهذيب الأحكام 9 : 244 ح42 ، البرهان 1 : 344 ، ح8 .
وأمّا إذا كان قادراً على كلا الأمرين ، وهو يقدر على تحصيل معاشه وتدبير اُمور الصغار فيستحبّ له التعفّف .
جواز أخذ الاُجرة
القول الثاني: ـ وهو الأقوى ـ أنّه إذا كان المتولّي لاُمور الصبيّ غنيّاً
يجوز له أخذ الاُجرة، كما هو ظاهر النهاية(1) والوسيلة(2) وإصباح الشيعة(3)والشرائع(4) والقواعد في موضعين(5) والتحرير(6) .
وصرّح بذلك في التذكرة، فقال : «الوليّ إمّا أن يكون غنيّاً أو فقيراً ، فإن كان غنيّاً استحبّ له أن يستعفف عنه فلا يأكل منه شيئاً، عملاً بالآية، وهل يسوغ له مع الاستغناء أخذ شيء من ماله؟ الأقرب ذلك على سبيل اُجرة المثل، ولايأخذ زيادة عليه»(7).
وفي مفتاح الكرامة : «وحقّه أن لا يفرّق في جواز الأخذ بين الغنيّ والفقير; لأنّ محطّ نظره هو العمل دون الفقر . . .»(8) .
وكذا صرّح بذلك في الجواهر(9) ووسيلة النجاة(10) ومهذّب الأحكام(11) .
-
(1) النهاية للطوسي : 361 .
(2) الوسيلة لابن حمزة : 279 .
(3) إصباح الشيعة : 297 .
(4) شرائع الإسلام 2 : 258 .
(5) قواعد الاحكام 2 : 135 ـ 567 .
(6) تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 543 .
(7) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
(8) مفتاح الكرامة 5 : 262 .
(9) جواهر الكلام 28 : 440 .
(10) وسيلة النجاة 2 : 151 .
(11) مهذّب الأحكام 22 : 228 .
وفي المسالك(1) : أنّ له وجه .
ويظهر هذا أيضاً من كلام السيّد المحقّق الخوئي في منهاج الصالحين(2)
ولكن أشكل(قدس سره) في موضع آخر وقال : «إذا كان غنيّاً ففيه إشكال، والأحوط الترك»(3) .
وقال في تحرير الوسيلة: « يجوز للقيّم الذي يتولّى اُمور اليتيم أن يأخذ من ماله اُجرة مثل عمله; سواء كان غنيّاً أو فقيراً ، وإن كان الأحوط الأولى للأوّل التجنّب»(4) . وكذا في تفصيل الشريعة(5) .
أدلّة جواز أخذ الاُجرة مع الغنى
ويمكن أن يستدلّ للقول الثاني بوجوه :
الأوّل : إطلاق الأخبار الواردة في هذا الباب، التي تقدّم ذكرها في المباحث السابقة .
الثاني : قاعدة(6) احترام عمل المسلم(7); وهي أنّ عمل المسلم محترمٌ
-
(1) مسالك الأفهام 6 : 277 .
(2) منهاج الصالحين 2 : 227 .
(3) نفس المصدر 2 : 211 .
(4) تحرير الوسيلة 2 : 102 ، كتاب الوصية مسألة 59 .
(5) تفصيل الشريعة ، كتاب الوصيّة : 200 .
(6) وفي الاستدلال بهذه القاعدة تأمّل جدّاً; فإنّ التصرّف فى أموال اليتامى إنّما هو في مقابل جعل الولاية ومن آثار الولاية، وليست معاوضةً في الواقع. م ج ف
(7) وفي تحرير المجلّة : من أسباب الضمان احترام عمل المسلم ، فمن عمل عملاً لمصلحتك مع الإذن من حاكم الشرع أو مطلقاً، أو أمرته بأن يعمل لك عملاً فقام ، فليس معناه أنّه عمله مجّاناً ، بل عليك اُجرة المثل له ; لأنّ عمل المسلم محترم إلاّ إذا قصد التبرّع ، تحرير المجلّة 1 : 88 .
والأصل في هذه القاعدة قوله(صلى الله عليه وآله) : لا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه ، وسائل الشيعة 3 : 425 الباب 3 من أبواب مكان المصلّي ، ح3 مع اختلاف في اللفظ ، وعوالي اللئالي 2 : 113 ح309 . وأنّ حرمة ماله كحرمة دمه ، وسائل الشيعة 8 : 599 الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، ح9 .
قال العلاّمة المحقّق الاصفهاني في حاشية المكاسب 2 / 290: «وأمّا قاعدة الاحترام، فتارةً يستند فيها إلى قوله(صلى الله عليه وآله): «لايحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه» إمّا بدعوى أنّه لا يحلّ بلا عوض... واُخرى: يستند إلى قوله(عليه السلام): «وحرمة ماله كحرمة دمه».
وقال السيّد الفقيه الخوئي: إذا أمر أحد لعامل بإتيان عمل ذي اُجرة فعمله بدون قصد المجّانيّة كان الآمر ضامناً للاُجرة، وذلك لقاعدة الاحترام.
وفيه ما لا يخفى: فإنّ معنى الاحترام عدم كون مال المسلم بمثابة المباحات الأصليّة بحيث لا حرمة لها، ويسوغ لأيّ أحد أن يستولي عليها ويستوفيها عن قهر وجبر، وأنّه لو أجبره على عمل استحقّ المجبور بدله ولزمه الخروج عن عهدته. مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 390 ـ 391.
ومأجور ، فليؤدّ اُجرته إذا لم يقصد به التبرّع(1). وهذا الاحترام بلحاظ رعاية
سلطنة المسلم على عمله ; ومعنى احترام العمل هنا عدم جواز أمره بالعمل بلا جعل اُجرة له .
قال الشيخ الأعظم : «كلّ عمل وقع من عامل لأحد بحيث يقع بأمره وتحصيلاً لغرضه ، فلابدّ من أداء عوضه ; لقاعدتي الاحترام ونفي الضرار»(2) وكذا في تفصيل الشريعة(3) .
وفي مهذّب الأحكام : «إنّ قاعدة احترام العمل من القواعد النظاميّة المقرّرة شرعاً المتقنة ، لاتصلح للتقييد بمثل الآية الكريمة المجملة من هذه الجهة ، وكذا ماسيقت مساقها من الأخبار كما لا يخفى على اُولي الأبصار»(4) .
-
(1) القواعد الفقهية للسيّد كاظم المصطفوي : 24 .
(2) المكاسب ضمن تراث الشيخ الأعظم 16 : 190 .
(3) تفصيل الشريعة ، كتاب الوصيّة : 200 .
(4) مهذّب الأحكام 22 : 228 .
الثالث : قاعدة نفي الضرر(1) ; لأنّ المنفي بالقاعدة إمّا هو ا لحكم الضرري ، أو المنفي بها هو الحكم بنفي موضوعه الضرري ، وعلى كلّ حال أمر الشارع للوليّ والقيّم بتولية أموال الصبيّ بلا جعل عوض واُجرة له إضرار(2) بالوليّ والقيّم ; لأنّ الوليّ يصرف أوقاته بحفظ أموال الصبيّ وإصلاح اُموره وتدبير شؤونه ، فإذا كان كلّ ذلك بلا عوض واُجرة تضرّر به ، وهذا منفي بقاعدة نفي الضرر .
كما أشار إلى ذلك في المختلف(3) .
وقال المحقّق الفقيه القمّي (رحمه الله) في جامع شتاته : «الاختلاف في المسألة من جهة الاختلاف في الأخبار والتفهّم في الآيات القرآنية ، والأرجح عندي هو القول بثبوت اُجرة المثل مطلقاً(4) .
والدليل على ذلك أنّه عمل غير محرّم ومحترم وكان مأذوناً فيه ، بل هو مطلوب الشارع وأمر به، فيستحقّ الوليّ الاُجرة ; لأنّ المفروض أنّه لم يقصد التبرّع ، وأيضاً لو لم نقل بالاُجرة يلزم الإضرار للولي ; لأنّه صرف أوقاته لاُمور اليتيم من دون اُجرة وعوض . . . ولو لم يهتمّ باُمور الصغار يلزم الإضرار لليتيم ، والضرر منفي في الإسلام»(5) .
اُمور هامّة ينبغي ذكرها
الأوّل : قال في الجواهر : «لا ينبغي ترك الاحتياط في هذه المسألة ; لشدّة التأكيد كتاباً وسنّة في التجنّب عن أموال اليتامى ، خصوصاً بعد خبر رفاعة المروي
-
(1) وسائل الشيعة 17 : 340 الباب 12 من كتاب إحياء الموات ، ح3 و4 و5 .
(2) إضرار بهما في صورة الفقر دون الغنى. م ج ف.
(3) مختلف الشيعة 5 : 65 .
(4) أي سواء كان الوليّ فقيراً أو غنيّاً .
(5) جامع الشتات 2 : 474 .
عن تفسير العيّاشي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)
قال : كان أبي يقول : إنّها منسوخة(1) .
بل عن مجمع البيان، عن جماعة من أهل السنّة تفسيرها بأخذ قدر الحاجة من مال اليتيم على جهة القرض ثمّ يردّ عليه ما أخذ إذا وجد ، قال: هو المرويّ عن الباقر(عليه السلام)(2) .
وإن كان الثابت عندنا خلافهما كما تقدّم»(3) .
الثاني : قال في القواعد: « يجوز أن يجعل للوصيّ جعلا ، ولو لم يجعل جاز له أخذ اُجرة المثل عن نظره في ماله »(4) ، وكذا في التحرير(5) ، والدروس(6) . وفي المختصر النافع: « إذا أذن له في الوصيّة جاز »(7) .
وقال المحقّق الثاني : « لا ريب في جواز بذل جعل للوصيّ على عمله كما في الوصاية . . . فلو لم يجعل له فتولّى اُمور الأطفال وقام بمصالحهم كان له أن يأخذ عن تصرّفه عوضاً »(8) .
وبه قال في مفتاح الكرامة(9) .
ويدلّ عليه ما تقدّم من الأدلّة. هذا مع نيّة أخذ العوض بعمله . وهكذا لو ذهل
-
(1) تفسير العيّاشي 1 : 222 ح33 .
(2) مجمع البيان 3 : 20 .
(3) جواهر الكلام 28 : 441 .
(4) قواعد الأحكام 2 : 567 .
(5) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 382 .
(6) الدروس الشرعيّة 2 : 327 .
(7) المختصر النافع : 266 .
(8) جامع المقاصد 11 : 301 .
(9) مفتاح الكرامة 5 : 262 .
عن القصد فالظاهر جواز الأخذ ; لأنّه مأمور بالعمل من الشارع فيستحق عوضه .
وأمّا لو نوى التبرّع بعمله لم يكن له أخذ شيء مطلقاً، كما في المسالك(1) . وفي الرياض : « بشرط أن لا يكون بعمله متبرّعاً(2) » ، وكذا في مفاتيح الشرائع(3)والجواهر(4) .
وهكذا لم يجز للوصيّ أخذ شيء من أموال الأيتام ، إذا عيّن الموصي مقدار المال الموصى به وطبّقه على مصرفه المعيّن المقدّر ، بحيث لم يُبق شيئاً لاُجرة الوصي واستلزم أخذ الاُجرة إمّا الزيادة عن المال الموصى به، أو النقصان في مقدار المصرف ، كما إذا أوصى بأن يصرف ثلثه، أو عيناً معيّناً من تركته أو مقداراً من المال، كألف درهم في استئجار عشرين سنة عبادة كلّ سنة كذا مقداراً، وقد ساوى المال مع المصرف كما في الوسيلة(5) للسيّد الفقيه الاصفهاني . وكذا في تحريرها(6). وفي تفصيل الشريعة في شرح كلام الماتن: « لم يجز له أن يأخذ الاُجرة ـ ولو اُجرة المثل ـ لنفسه ; لأنّه بقبوله الوصيّة الكذائيّة، أو بعدم ردّها مع الإمكان، كأنّه تبرّع بإجراء الوصيّة وتنفيذها وعدم أخذ الاُجرة أصلا »(7) .
الثالث : قال السيوري : «إذا جعل الموصي للوصيّ شيئاً لحقّ سعيه ، فإن كان اُجرة مثله من غير زيادة صحّ بلا خلاف . وإن زاد، فإن خرجت الزيادة من الثلث
-
(1) مسالك الأفهام 6 : 278 .
(2) رياض المسائل 6 : 288 .
(3) مفاتيح الشرائع 3 : 188 .
(4) جواهر الكلام 28 : 240 .
(5) وسيلة النجاة 2 : 151ـ 152 .
(6) تحرير الوسيلة 2 : 102 مسألة 59 .
(7) تفصيل الشريعة ، كتاب الوصيّة : 201 .
صحّ أيضاً، وإلاّ اعتبرت إجازة الوارث»(1). وكذا في الجواهر(2) والرياض(3) .
الرابع : في مفتاح الكرامة : هذا النزاع في الوليّ الذي لم يكن أميناً للحاكم كالأب والجدّ والوصي وغيرها . وأمّا من يجعله الحاكم أميناً فيمكن أن يكون له أخذ أُجرة المثل وإن كان غنيّاً ، ويجوز للحاكم أن يعيّن له ذلك إذا لم يوجد المتبرّع(4) .
وفي الجواهر : « ما لم يوجد المتبرّع الجامع للشرائط ، فلا يجوز للحاكم مثلا أن يجعل النظر إلى غيره ممّن يريد الاُجرة بلا مصلحة لليتيم »(5) .
آراء فقهاء أهل السنّة في جواز أخذ الاُجرة من مال الطفل:
اشتهر بينهم أنّه لا يجوز للغني أخذ الاُجرة من مال الطفل، وللفقير أن يأكل بالمعروف من غير إسراف . فنذكر كلماتهم في ذلك :
أ ـ الحنفيّة
جاء في بدائع الصنائع : «لا خلاف في أنّه ـ أي وليّ اليتيم ـ إذا كان غنيّاً لا يأكل لقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)(6) .
فأمّا إذا كان فقيراً فهل له أن يأكل على سبيل الإباحة، أو ليس له أن يأكل إلاّ قرضاً، اختلف فيه الصحابة»(7). فعندهم فيه قولان :
-
(1) التنقيح الرائع 2 : 396 .
(2) جواهر الكلام 28 : 441 .
(3) رياض المسائل 6 : 288 .
(4) مفتاح الكرامة 5 : 262 ، زبدة البيان 2 : 612 .
(5) جواهر الكلام 28 : 437 .
(6) سورة النساء 4 : 6 .
(7) بدائع الصنائع 4 : 352.
الأوّل : أنّه يأكل على سبيل الإباحة ، واستدلّ له بظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(1) .
أطلق الله عزّ شأنه لوليّ اليتيم أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف ، وهو الوسط من غير إسراف .
وبما روي أنّ رجلاً سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : لا أجد شيئاً وليس لي مالٌ ولي يتيمٌ؟ قال: «كُلْ من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل» ، قال : وأحسبه، قال : «ولا تقي مالك بماله »(2) (3) .
وبه قال في أحكام الصغار(4) .
وفي مختصر اختلاف العلماء : «ويستقرض الوصيّ من مال اليتيم إذا احتاج إليه ثمّ يقضيه ، ويأكل الوصي من مال اليتيم بقدر عمله فيه إذا لم يضرّ بالصبيّ» (5) .
الثاني : أنّه لا يأكل إلاّ قرضاً ، واستدلّ له بقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ)(6) أمر سبحانه وتعالى بالإشهاد على الأيتام عند دفع المال إليهم . ولو كان المال في أيدي الأولياء بطريق الأمانة ، لكان لا حاجة إلى الإشهاد ; لأنّ القول قول الوليّ إذا قال : دفعت المال إلى اليتيم عند إنكاره . وإنّما
-
(1) سورة النساء 4 : 6 .
(2) سنن ابن ماجة 3 : 321 ح2718 ، سنن أبي داود 3 : 197 ح2872 ، سنن النسائي 6 : 256 .
(3) وجاء في سنن أبي داود : «كُلْ من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مباذر ، ولا متأثل». وفي هامشه : قال الشيخ : قوله : «غير متأثل» أي غير متّخذ منه أصل مال . وأثلة الشيء: أصله .
ووجه إباحته الأكل من مال اليتيم أن يكون ذلك على معنى ما يستحقّه من العمل فيه والاستصلاح له ،
وأن يأخذ منه بالمعروف على قدر مثل عمله .
وقوله : «ولا تقي مالك بماله»: أي لا تحفظ مالك بصرف مال اليتيم في حاجتك .
(4) أحكام الصغار : 358 .
(5) مختصر اختلاف العلماء 5 : 79 .
(6) سورة النساء 4 : 6 .
الحاجة إلى الإشهاد عند الأخذ قرضاً ليأكل منه ; لأنّ في قضاء الدين القول قول
صاحب الدَين ، لا قول من يقضي الدَين(1) .
وفيه : أنّ هذا الاشهاد مستحبّ ; لأنّ القول قول الوليّ لأنّه أمين ، وأمر الله تعالى بالإشهاد تنبيهاً على التحصين وزوالاً للتهم .
ب ـ الشافعيّة
وفي المهذّب : « إن أراد أن يأكل من ماله نظرت ، فإن كان غنيّاً لم يجز ، لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)(2). وإن كان فقيراً جاز أن يأكل ; لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ(3)) »(4) .
قال النووي في شرحه : «قوله: (وَ لْيَسْتَعْفِفِ) يقال : عفّ عن المسألة ، واستعفّ ; أي كفّ ـ إلى أن قال: ـ وقيل : يجوز للوصيّ أن يأخذ من مال اليتيم قدر عمالته ... وقيل : لا يأكل منه إلاّ عند الحاجة»(5) . وبه قال في الوجيز(6) .
وعند الرافعي والنووي : «أنّه ليس للوليّ أخذ اُجرة ولا نفقة من مال الصبيّ إن كان غنيّاً ، وإن كان فقيراً، فإن قطع بسببه عن اكتسابه فله أخذ قدر نفقته . وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنّه يأخذ أقلّ الأمرين من قدر النفقة واُجرة المثل»(7) .
وكذا في مغني المحتاج(8) ونهاية المحتاج(9) .
-
(1) اُنظر بدائع الصنائع 4 : 352 ـ 353 .
(2) سورة النساء 4 : 6 .
(3) سورة النساء 4 : 6 .
(4) المهذّب لأبي إسحاق الشيرازي 1 : 330 .
(5) المجموع شرح المهذّب 14 : 138 .
(6) الوجيز 1 : 345 .
(7) العزيز شرح الوجيز 5 : 82 ، روضة الطالبين 3 : 478 ، المجموع 14 : 140 .
(8) مغني المحتاج 2 : 176 .
(9) نهاية المحتاج 4 : 380 .
ج ـ الحنابلة
إنّهم قالوا ـ كالشافعيّة تقريباً ـ : «إنّ للوليّ أن يأكل من مال الصبيّ بقدر عمله إذا احتاج إليه ، وليس له إلاّ أقلّ الأمرين من اُجرة مثله ، أو قدر كفايته»(1) .
قال ابن قدامة في المقنع : « وللوليّ أن يأكل من مال المولّى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه »(2) .
وفي الكافي : « وليس له إلاّ أقلّ الأمرين من اُجرته أو قدر كفايته ; لأنّه يستحقّه بالعمل والحاجة معاً »(3) .
وجاء في الشرح الكبير : «وللوليّ أن يأكل من مال المولّى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه ، وإن كان غنيّاً لم يجز له ذلك إذا لم يكن أباً ; لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(4). وإذا كان فقيراً فله أقلّ الأمرين : اُجرته، أو قدر كفايته ; لأنّه يستحقّه بالعمل والحاجة جميعاً ، فلم يجز أن يأخذ إلاّ ما وجدا فيه». وكذا في المغني(5) .
وفي الإنصاف : « والصحيح من المذهب : أنّه لا يأكل إلاّ الأقلّ من اُجرة مثله أو قدر كفايته »(6) .
د ـ المالكيّة
ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز أن يأكل الوليّ من مال الصبيّ بقدر اُجرة عمله
-
(1) الإقناع 2 : 228 ، كشّاف القناع 3 : 531 ، الفروع 4 : 245 ، المحرّر 1 : 347 ، المبدع 4 : 345 ، منتهى الإرادات 2 : 508 .
(2) المقنع في فقه أحمد لابن قدامة : 126 .
(3) الكافي في فقه أحمد لابن قدامة 2 : 107 .
(4) سورة النساء 4 : 6 .
(5) الشرح الكبير 4 : 531 ، المغني 4 : 295 .
(6) الإنصاف 5 : 304 .
أو قدر كفايته، إلاّ أن يكون غنيّاً فلا يجوز .
قال القرافي : «جوّز... وأن يأكل الأمين والوليّ من مال اليتيم إلاّ أن يكونا غنيّين لقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ)»(1) .
وجاء في المعونة : « إذا كان وصيّ اليتيم أو الأمين محتاجاً جاز أن يأكل من مال اليتيم بقدر أجر مثله »(2) .
قال الكشناوي : «قوله : فإن كان فقيراً فله اُجرة مثله ; أي لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). قال الحافظ السيوطي : بقدر اُجرة عمله ; أي ما لم تزد على كفايته ، وإلاّ فله كفايته فقط ، وهذا مذهب الشافعي . وعند مالك: له اُجرة مثله مطلقاً زادت على كفايته أو لا»(3) .
-
(1) الذخيرة 8 : 240 .
(2) المعونة على مذهب عالم المدينة 2 : 163 .
(3) أسهل المدارك 2 : 160 .
الفصل الرابع
في استيفاء حقوق الطفل
تمهيد
قد تقدّم ثبوت ولاية الأولياء في التصرّف في مال الصغير ونفسه، فكذلك لهم الولاية في استيفاء حقوقه ، ويدلّ على ذلك إطلاق التعليل الوارد في ذيل صحيحة محمّد بن مسلم ومعتبرة عبيد بن زرارة : «لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(1). وأمر الصبيّ مطلق يشمل المال والنفس والحقّ .
مضافاً إلى أنّ نفس جعل الولاية للصغار تقتضي ذلك .
بتعبير آخر : بما أنّ الصغار ليسوا من أهل التصرّف ويحتاجون في جميع شؤونهم إلى من يعينهم ، جعل الله تعالى الولاية لهم حتّى يتصرّف الأولياء في كلّ ما ارتبط بهم من الأموال والأنفس. وكذلك استيفاء حقوقهم ، مثل حقّ الشفعة ، وحقّ الخيار ، وحقّ القصاص ، وقطع الدعاوى ، وقبول الهبة ، والصدقة ، والوصيّة ، والوقف وغير ذلك .
وللتحقيق في ذلك عقدنا هذا الفصل. ونظراً لاختلاف هذه الحقوق من حيث الحكم والأثر نقسّمه إلى مباحث :
- (1) وسائل الشيعة 13 : 297 و 299 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات، ح1 و5 .
المبحث الأوّل : استيفاء حقّ الشفعة
الشفعة حق ثابت بالسنّة والإجماع ، ولصاحبه المطالبة به أو تركه .
وقد صرّح الأصحاب بثبوت الشفعة للصبيّ (1)، ويتولّى وليّه الأخذ بها مع الغبطة ، ولا يجب أن ينتظر بلوغه ورشاده .
قال الشيخ في النهاية : «والشفعة تثبت . . . للصغير كما تثبت للكبير ، وللمتولّي الناظر في أمر اليتيم أن يطالب بالشفعة إذا رأى ذلك صلاحاً له»(2). وكذا في المبسوط(3) والخلاف(4). وبه قال الصدوق(5) والمفيد(6). واختاره أيضاً ابن زهرة(7) والقاضي(8) وأبو الصلاح الحلبي(9) وابن إدريس(10) .
وقال المحقّق(قدس سره) : «وتثبت ـ الشفعة ـ للغائب والسفيه ، وكذا المجنون والصبيّ ،
-
(1) الشفعة ـ كغرفة ـ وهي في الأصل التقوية والإعانة ، القاموس الجامع : 285 . وقال ابن منظور: «وهي مشتقّة من الزيادة; لأنّ الشفيع يضمّ المبيع إلى ملكه فيشفعه به » . لسان العرب : 3 / 451 .
والمقصود منها في اصطلاح الفقهاء:«كلّ شيء كان بين شريكين من ضياع أو عقار أو حيوان أو متاع، ثمّ باع أحدهما نصيبه، كان لشريكه المطالبة بالشفعة، ووجب عليه مثل ثمنه الذي بيع به» النهاية للطوسي: 423 ـ 424.
(2) النهاية للطوسي : 424 .
(3) المبسوط للطوسي 3 : 122 .
(4) الخلاف 3 : 443 .
(5) المنقع : 406 .
(6) المقنعة : 618 .
(7) غنية النزوع : 237 .
(8) المهذّب 1 : 454 .
(9) الكافي في الفقه : 362 .
(10) السرائر 2 : 391 .
ويتولّى الأخذ وليّهما مع الغبطة»(1) .
واختاره العلاّمة في جملة من كتبه(2) وجماعة من المتأخّرين(3) وبعض المعاصرين(4) .
قال في تحرير الوسيلة : « وكذا تثبت للصغير والمجنون وإن كان المتولّي للأخذ بها عنهما وليّهما . نعم ، لو كان الوليّ ، الوصيُّ ليس له ذلك إلاّ مع الغبطة والمصلحة ، بخلاف الأب والجدّ، فإنّه يكفي فيها عدم المفسدة »(5) .
أدلّة استيفاء حق الشفعة للصبيّ
يمكن الاستدلال لإثبات هذا الحكم باُمور :
الأوّل : الإجماعات التي حكاها الشيخ(6) والعلاّمة(7) والسيّد أبو المكارم(8)وصاحب الجواهر(9) .
الثاني : النصوص التي تدلّ على ثبوت الشفعة للشريك(10) .
-
(1) شرائع الإسلام 3 : 255 ، المختصر النافع : 258 .
(2) قواعد الاحكام 2 : 244 ، مختلف الشيعة 5 : 378 ، تذكرة الفقهاء 1 : 593 الطبعة الحجريّة ، إرشاد الأذهان 1 : 385 .
(3) الدروس الشرعيّة 3 : 360 ، اللمعة الدمشقيّة : 99 ، جامع المقاصد 6 : 367 ، مسالك الأفهام 12 : 286 ، الروضة البهيّة 4 : 400 ، مجمع الفائدة والبرهان 9 : 24 ، رياض المسائل 8 : 382 ، كفاية الأحكام : 105 ، مفتاح الكرامة 6 : 336 ، الحدائق الناضرة 20 : 313 ، جواهر الكلام 37 : 290 .
(4) منهاج الصالحين للسيّد الخوئي 2 : 74 ـ 75 ، مهذّب الأحكام 18 : 139 .
(5) تحرير الوسيلة 1 : 531 ، كتاب الشفعة مسألة 11 .
(6) الخلاف 3 : 443 .
(7) تذكرة الفقهاء 1 : 593، الطبعة الحجريّة .
(8) غنية النزوع : 237.
(9) جواهر الكلام 37 : 290 .
(10) وسائل الشيعة 17 : 315 الباب 1 من كتاب الشفعة، ح1 وص316 الباب 3، ح1 و 2 وص320 الباب 7، ح1 و2 .
فقد ورد في بعضها أنّه قال(عليه السلام) : «الشفعة لكلّ شريك لم يقاسم»(1) ، فعمومه يشمل الصبيّ أيضاً ، وكلّ حقٍّ هو للصبيّ يتولاّه الوليّ .
الثالث : بعض الأخبار الخاصّة ، مثل خبر السكوني ـ الذي رواه المشايخ الثلاثة ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين : «وصيّ اليتيم بمنزلة أبيه ، يأخذ له الشفعة إذا كان له رغبةً»(2) .
وضعفه منجبر بعمل الأصحاب . قال في مجمع الفائدة والبرهان : «ولا يضرّ عدم الصحّة ; لأنّها مقبولة ومؤيّدة»(3) .
للصبي أخذ الشفعة بعد البلوغ
لو ترك الوليّ المطالبة بالشفعة مع كونها مصلحة للصغير، فله الأخذ بها بعد بلوغه بلا خلاف ولا إشكال ، كما في المبسوط(4) والخلاف(5) والمقنعة(6) والغنية(7)والسرائر(8) والشرائع(9) والنافع(10) والتذكرة(11) والدروس(12) واللمعة(13)
-
(1) نفس المصدر : الباب 3 من كتاب الشفعة، ح3 .
(2) نفس المصدر : الباب 6 من كتاب الشفعة، ح2 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 9 : 24 .
(4) المبسوط للطوسي 3 : 122 .
(5) الخلاف 3 : 444 .
(6) المقنعة : 618 .
(7) غنية النزوع: 237.
(8) السرائر 2 : 391 .
(9) شرائع الإسلام 3 : 255 .
(10) المختصر النافع : 258 .
(11) تذكرة الفقهاء 1 : 593، الطبعة الحجريّة .
(12) الدروس الشرعيّة 3 : 360 .
(13) اللمعة الدمشقيّة: 99.
والروضة(1) وغيرها(2) .
ودليله ـ بعد الإجماع(3) ـ : أنّ التأخير وقع لعذر ، وهو الصبا ، وتقصير الوليّ بالتراخي لا يسقط حقّ المولّى عليه ، والحقّ ليس متجدّداً له عند الكمال ، بل هو مستمرّ ، وإنّما المتجدّد أهلية الأخذ لا أصل الحقّ .
قال في الجواهر : «ولا ينافيه أيضاً الضرر على المشتري بطول الانتظار ; إذ هو كالاجتهاد في مقابل النصّ والفتوى ، خصوصاً بعد أن كان هو السبب في إدخال الضرر على نفسه ذلك(4) ، وخصوصاً بعد ثبوت مثله في الغائب .
بل لعلّ الأقوى أيضاً جواز تجديد الوليّ الأخذ وإن ترك سابقاً أو عفا; لبطلان تركه وعفوه، فلا يترتّب على أحدهما أثر ، وليس هما من التراخي المسقط للشفعة قطعاً ; لأنّ تقصيره السابق بمنزلة عدمه بعد فرض بقاء حقّ الشفعة للمولّى عليه(5) . وكذا في المسالك(6) .
ليس للصبي أخذ الشفعة بعد البلوغ
لولم يكن في أخذ الوليّ بالشفعة مصلحة ، لم يكن للصبيّ بعد البلوغ الأخذ بها.
ففي المسالك : «إن باعه بأكثر من ثمن المثل أو به ولم يكن للمولّى عليه مال ، واحتاج إلى بيع عقار هو أجود من المأخوذ ونحو ذلك ، لم يصحّ الأخذ ; لأنّ فعله
-
(1) الروضة البهيّة 4 : 400 .
(2) جامع المقاصد 6 : 367 ، مجمع الفائدة والبرهان 9 : 24 ، مفتاح الكرامة 6 : 336 ، كفاية الأحكام : 105 ، رياض المسائل 8 : 382 ، جواهر الكلام 37 : 291 .
(3) غنية النزوع: 237.
(4) أي بشرائه شقص شريك اليتيم .
(5) جواهر الكلام 37 : 291 .
(6) مسالك الأفهام 12 : 286 .
مقيّد بالمصلحة»(1) .
وفي جملة من كتب العلاّمة(2) والروضة(3) وجامع المقاصد(4): أنّه لا شفعة للصبي بعد الكمال إذا كان الترك من الوليّ أصلح من الأخذ .
واستدلّ في المختلف : بـ «أنّ فعل الوليّ مع المصلحة ماض ، وليس للصبيّ نقضه بعد رشده وقد ترك ، فلم يكن للصبيّ الأخذ كغيره من التصرّفات»(5) .
وأمّا لو جهل الحال أنّ ذلك كان لمصلحة أولا؟
ففي استحقاق الصبيّ الأخذ بعد الكمال نظراً إلى وجود السبب ; أي بيع الشريك ، فيستصحب ثبوت الشفعة بنفس البيع ، أو عدم استحقاقه للشفعة ; لأنّها مقيّدة بالمصلحة ولم تُعلَم، وجهان : أوجههما الثاني ، وهو عدم استحقاقه للشفعة بعد الكمال، كما قال به الشهيد الثاني(6) .
وقال في جامع المقاصد : «وفي استحقاقها المطالبة والحال هذه نظرٌ ; لأنّ المطالبة فرع الثبوت حينئذ ، والثبوت إنّما يتحقّق مع المصلحة ، والفرض جهالة الحال ، فلا مقتضى للثبوت ، وهذا وجيه»(7) .
أخذ الوليّ الشفعة عند فقهاء أهل السنّة
الظاهر أنّه لا خلاف بينهم أيضاً في أنّ الوليّ يأخذ للصبي بالشفعة أو يترك بحسب المصلحة ، ولنذكر شطراً من كلماتهم في ذلك الباب :
-
(1) نفس المصدر 12 : 287 .
(2) تذكرة الفقهاء 1 : 593، الطبعة الحجريّة ، قواعد الأحكام 2 : 244 ، مختلف الشيعة 5 : 378 .
(3) الروضة البهيّة 4 : 400 .
(4) جامع المقاصد 6 : 367 .
(5) مختلف الشيعة 5 : 378 .
(6) الروضة البهيّة 4 : 400 .
(7) جامع المقاصد 6 : 367 .
أ ـ الشافعيّة
جاء في البيان : «وإن بيع شقصٌ في شركة الصبيّ ، فإن كان للصبيّ حظّ في الأخذ ; بأن كان له مال يريد أن يشتري له به عقاراً ، أخذ له بالشفعة . وإن كان الحظّ له بالترك ; بأن كان لا مال له يريد أن يشتري له به . . . لم يأخذه له بالشفعة . فإن أخذ له الوليّ في موضوع يرى له الحظّ في الأخذ فبلغ الصبيّ ، وأراد أن يردّ ما أخذ له الوليّ ، لم يملك ذلك ; لأنّ ما فعله الوليّ ممّا فيه الحظّ لا يملك الصبيّ بعد بلوغه ردّه ، وإن ترك الوليّ الأخذ له في موضع رأى الحظّ له في الترك ، فأراد الصبيّ بعد بلوغه أن يأخذه، ففيه وجهان :
أحدهما : من أصحابنا من قال : له ذلك ; لأنّه بعد بلوغه يملك التصرّف فيما له فيه حظٌّ ، وفيما لا حظّ له فيه .
الثاني : . . . أنّه ليس له ذلك ; لأنّ الوليّ قد اختار الترك بحسن نظره ، فلم يكن له نقض ذلك»(1) .
وبه قال الرافعي(2) والنووي(3) والخطيب الشربيني(4) والأنصاري(5) .
ب ـ المالكيّة
ففي التاج والإكليل: «قال مالك : وللصغير الشفعة يقوم بها أبوه أو وصيّه ، فإن لم يكونا فالإمام ينظر له ، وإن لم يكن له أب ولا وصيّ وهو بموضع لا سلطان فيه ، فهو على شفعته إذا بلغ ـ إلى أن قال: ـ فإذا وجبت الشفعة للصغير ، كان الأمر
-
(1) البيان 6 : 212 .
(2) العزيز شرح الوجيز 5 : 81 .
(3) روضة الطالبين 3 : 478 ، المجموع شرح المهذّب 14 : 129 ، منهاج الطالبين 2 : 127 .
(4) مغني المحتاج 2 : 176 .
(5) نهاية المحتاج 4 : 379 .
فيها لوليّه من أب أو وصيّ أو حاكم من أخذ وترك .
فإن رشد الصبيّ بعد ذلك لم يكن له أخذ ما ترك ، ولا ترك ما أخذ ، إلاّ أن يتبيّن أنّ الأخذ لم يكن من حسن النظر لغلائه»(1) .
وبه قال الدسوقي(2) والزرقاني(3) وابن شاس(4) والقرافي(5) . وكذا في حاشية الخرشي(6) .
ج ـ الحنفيّة
جاء في المبسوط : «إنّ الشفعة تثبت للصغير ، وأنّ وليّه يقوم مقامه في الأخذ له ; لأنّه أخذ بطريق التجارة ، وفيه دفع الضرر عن اليتامى ، وتوفير المنفعة عليهم ، ولهذا المقصود أقام الشرع وليّه مقامه»(7) .
وفي البدائع : «إذا بيعت دار والصبيّ شفيعها ، كان لوليّه أن يطالب بالشفعة ويأخذ له ; لأنّ الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء من المشتري ، والوليّ يملك ذلك كما يملك الشراء ، فإن سلّم الشفعة صحّ التسليم ، ولا شفعة للصبي إذا بلغ عند أبي حنيفة وأبي يوسف... ; لأنّ الوليّ يتصرّف في مال الصبيّ على وجه المصلحة ، والمصلحة قد تكون في الشراء، وقد تكون في تركه ، والوليّ أعلم بذلك فيفوّض إليه»(8) .
-
(1) مواهب الجليل والتاج والإكليل 7 : 388 ، المدوّنة الكبرى 5 : 403 .
(2) حاشية الدسوقي 3 : 301 .
(3) شرح الزرقاني 3: 300.
(4) عقد الجواهر الثمينة 2 : 630 .
(5) الذخيرة 8 : 240 .
(6) حاشية الخرشي 6 : 245 .
(7) المبسوط للسرخسي 14 : 91 .
(8) بدائع الصنائع 4 : 115 .
وكذا في أحكام الصغار(1) ومختصر اختلاف العلماء(2) .
د ـ الحنابلة
قال في المغني : «إذا بيع في شركة الصغير شقص(3) ثبتت له الشفعة في قول عامّة الفقهاء ، منهم الحسن ومالك والأوزاعي والشافعي . . . وقال ابن أبي ليلى : لاشفعة له وروى: ذلك عن النخعيّ و . . . لأنّ الصبيّ لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتّى يبلغ ; لما فيه من الإضرار بالمشتري ، وليس للوليّ الأخذ ; لأنّ من لا يملك العفو لا يملك الأخذ . . . ثمّ قال في ردّ هذا الاستدلال : قولهم : لا يمكن الأخذ، غير صحيح ; فإنّ الوليّ يأخذ بها كما يردّ المعيب ، وقولهم : لا يمكنه العفو، يبطل بالوكيل فيها وبالردّ بالعيب ، فإنّ وليّ الصبيّ لا يمكنه العفو ويمكنه الردّ .
واستدلّ لقول عامّة الفقهاء بعموم الأحاديث(4) . وبأنّه خيارٌ جُعِلَ لإزالة الضرر عن المال ، فيثبت في حقّ الصبيّ كخيار الردّ بالعيب .
ثمّ قال : إن لم يأخذ الوليّ انتظر بلوغ الصبيّ ، كما ينتظر قدوم الغائب ، وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب(5) .
-
(1) أحكام الصغار : 233 .
(2) مختصر اختلاف العلماء 4 : 244 ، الرقم 1955 .
(3) الشقص والشقيص : النصيب في العين المشتركة من كلّ شيء ، النهاية لابن الأثير 2 : 490 . وفي القاموس 2 : 318، الشقص بالكسر : السهم والنصيب .
(4) صحيح البخاري 3 : 49 ح2213 ، 2214 ، ص63 ح2257 ، سنن الترمذي 3 : 604 ح1315 .
(5) المغني 5 : 495 ـ 496 ، الشرح الكبير 5 : 487 .
المبحث الثاني : استيفاء حقّ الخيار للصبيّ
وللوليّ أيضاً استيفاء حقّ الخيار(1) للصبي كسائر تصرّفاته مثل خيار المجلس والشرط والحيوان ، ولعلّه مثل خيار العيب والرؤية وغيرها أيضاً ; لأنّ الوليّ هو المتبايع ، والمتبايعان بالخيار .
قال في المبسوط : « إذا أراد أن يشتري لولده من نفسه ، وأراد الانعقاد ، ينبغي أن يختار لزوم العقد عند انعقاد العقد ، أو يختار بشرط بطلان الخيار »(2) .
وكذا في المهذّب(3) .
وفي الدروس : «والعاقد عن اثنين له الخيار ، ويبطل بما يبطل به خيار المتعاقدين»(4) .
وقال في التذكرة : « إذا باع مال نفسه من ولده الصغير أو بالعكس، فالأقرب ثبوت الخيار هنا ـ وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ـ ; لأنّ الوليّ هنا قائم مقام الشخصين في صحّة العقد ، فكذا في الخيار . . . والثاني : لا يثبت ; لأنّ لفظ الخبر: «البيّعان» وليس هنا إثنان . والجواب: أنّه ورد على الغالب .
وعلى ما قلناه يثبت الخيار للوليّ وللطفل معاً ، والوليّ نائب عن الطفل ،
-
(1) الخيار: اسم بمعنى طلب خير الأمرين ، ويقال : هو بالخيار: يختار ما يشاء ، المعجم الوسيط: 264. وفي مجمع البحرين 1 : 566 . والخيار: هو الاختيار، ويقال : هو اسم من تخيّرت الشيء ... والاختيار الاصطفاء . وعرّفه الفقهاء : بأنّه ملك إقرار العقد وإزالته بعد وقوعه مدّة معلومة، جواهرالكلام 23 : 3 ، أو بأنّه «ملك فسخ العقد »، كتاب المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18: 11 ، «والأولى أن يقال : إنّ الخيار حقّ اصطفاء الفسخ »، كتاب البيع للإمام الخميني 4 : 5 و8 .
(2) المبسوط للطوسي 2 : 78 .
(3) المهذّب للقاضي ابن البرّاج 1 : 353 .
(4) الدروس الشرعيّة 3 : 265 .
فإن التزم لنفسه وللطفل لزم . وإن التزم لنفسه بقي الخيار للطفل ، وإن التزم للطفل
بقي لنفسه» .
ثمّ قال : «وكذا لو باع مال أحد ولديه على الآخر وهما صغيران ، والبحث كما تقدّم »(1) واحتمله أيضاً في المختلف(2) . وبه قال المحقّق(3) والشهيد الثاني(4) .
أدلّة ثبوت حقّ الخيار للصبيّ
ويمكن الاستدلال لإثبات هذا الحكم بوجوه :
الأوّل : الإجماع على ثبوته في كلّ بيع ، كما حكي عن الغُنية معتضداً بالشهرة العظيمة في المقام(5). ولكنّ الموجود فيما عندنا من نسخ كتاب الغنية ما يقرب من ذلك وليس صريحاً به(6) .
الثاني : عموم النصوص الواردة من طريق الخاصّة والعامّة ، مثل:
صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «البيّعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيّام»(7) .
وكذا صحيحة زرارة(8) وصحيحة فضيل وغيرها(9) .
وما رواه الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال : «في الحيوان كلّه شرط ثلاثة
-
(1) تذكرة الفقهاء 11 : 9 ـ 10 .
(2) مختلف الشيعة 5 : 96 .
(3) شرائع الإسلام 2 : 22 .
(4) مسالك الأفهام 3 : 197 .
(5) مفتاح الكرامة 4 : 545 ، جواهر الكلام 23 : 20 .
(6) وجاء في الغنية : «إذا جنّ من له الخيار أو اُغمي عليه انتقل الخيار إلى وليّه ، بدليل الإجماع المشار إليه ». غنية النزوع : 221 .
(7 ـ 9) الوسائل 12 : 345 الباب 1 من أبواب الخيار، ح1 ـ 3 .
أيّام للمشتري، فهو بالخيار فيها إن اشترط أو لم يشترط»(1) .
وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «المؤمنون عند شروطهم»(2) .
وفي سنن ابن ماجة : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(3) .
وما ورد من طريق أهل السنّة من أنّ المتبايعين كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه إلاّ بيع الخيار(4) . ولا شكّ أنّ عنوان البيع أو المتبايع يصدق على الوليّ الذي باع عن المولّى عليه .
قال الشيخ الأعظم في إثبات الخيار للوكيل : «وإن كان وكيلاً في التصرّف المالي كأكثر الوكلاء ، فإن كان مستقلاًّ في التصرّف في مال الموكّل بحيث يشمل فسخ المعاوضة بعد تحقّقها ـ نظير العامل في القراض وأولياء القاصرين ـ فالظاهر ثبوت الخيار له ; لعموم النصّ . ودعوى تبادر المالكين ممنوعة ، خصوصاً إذا استندت إلى الغلبة ; فإنّ معاملة الوكلاء والأولياء لا تحصى»(5) .
الثالث : أنّ مناط الخيار ـ وهو البيع ـ موجود في المقام ، للقطع بعدم الفرق بين كون البائع هو المالك الأصلي أو وليّه .
الرابع : أنّ الخيار من توابع العقد ، وهو الظاهر من الأخبار المتقدّمة . بتعبير آخر : يصدق على الوليّ أنّه بائع ، والخيار ثابت للبائع بمقتضى الأخبار .
وبالجملة : ثبوت هذا الخيار للوليّ ممّا لم نجد فيه خلافاً .
-
(1) الفقيه 3 : 126، ح549، ورواه في تهذيب الأحكام 7 : 24، ح101 بتفاوت .
(2) تهذيب الأحكام 7 : 371، ح1503 ، وسائل الشيعة 15: 30 الباب 20 من أبواب المهور ح4.
(3) سنن ابن ماجة 3 : 29 الرقم 2183 و2182 .
(4) صحيح البخاري 3 : 24 الرقم 2111 ، السنن الكبرى للبيهقي 8 : 97 الرقم 10567 ـ 10569 ، سنن ابن ماجة 3 : 29 الرقم 2181 ، سنن الترمذي 3 : 547 الرقم 1248 و 1249 .
(5) كتاب المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18 : 30 ـ 31 .
ثبوت الخيار للوليّ في حال كونه موجباً وقابلاً باعتبارين
ما تقدّم ـ من أنّ ثبوت حقّ الخيار للصبيّ واستيفاؤه للوليّ ممّا لا خلاف فيه ـ يختصّ بما إذا كان الوليّ بائعاً أو مشترياً نيابةً عن الصغير ، أمّا إذا كان الوليّ بنفسه بائعاً ومشترياً باعتبارين ، كمن باع مال الطفل ولايةً لنفسه ، أو باع ماله للصبيّ ، أو باع مال أحد الصبيّين للآخر ، فهل يثبت الخيار للوليّ أم لا؟
فيه ثلاثة أقوال :
الأوّل : ثبوت الخيار للوليّ ما لم يشترط سقوطه، أو يلتزم بالعقد، أو يفارق المجلس الذي عقد فيه .
اختاره في المبسوط(1) ، والمهذّب(2) ، والشرائع(3) ، والتذكرة(4) ، والدروس(5)والمسالك(6) والجواهر(7) .
واستدلّ لهذا القول بالإجماع على ثبوت الخيار في كلّ بيع ، كما حكي عن الغنية(8) . وبأنّ المقتضي في صورة تعدّد المتبائعين هو البيع ، وهذا المقتضي في بيع العاقد الواحد أيضاً موجود ، فليلحق به تنقيحاً لمناط الحكم ، للقطع بعدم
الفرق بين صورة الاتّحاد ، وصورة التعدّد ، وأنّ النصوص التي تكون على
صيغة التثنية وردت مورد الغالب(9) . والافتراق الذي يكون معتبراً في سقوط
-
(1) المبسوط للطوسي 2 : 78 .
(2) المهذّب للقاضي ابن البرّاج 1 : 353 .
(3) شرائع الإسلام 2 : 22 .
(4) تذكرة الفقهاء 11 : 10 .
(5) الدروس الشرعيّة 3 : 265 .
(6) مسالك الأفهام 3 : 197 ـ 198 .
(7) جواهر الكلام 23 : 20 .
(8) حكاه في مفتاح الكرامة 4 : 545 وفي جواهر الكلام 23 : 20 .
(9) مفتاح الكرامة 4 : 545 .
الخيار يحصل هنا بمفارقة مجلس العقد ; لأنّه مشبه بمفارقة أحد المتبايعين(1) .
القول الثاني : عدم ثبوت الخيار للوليّ أصلاً
وبه قال فخر المحقّقين(2) والمحقّق الأردبيلي(3) والفاضل الخراساني(4). وفي الحدائق : «والظاهر أنّه أقرب»(5) . واستظهره المحقّق التستري(6) .
وقال السيّد الخوئي : «ففي ثبوت الخيار إشكال، بل الأظهر العدم»(7) .
واستدلّ له في مجمع البرهان بأنّه: لا إجماع فيه على ما يظهر . والأخبار التي هي المستند لا تشملهما; لقوله(عليه السلام) : «البيّعان». ولأنّه جعل له غاية لا يمكن هنا ، وهي تفرّق أحدهما عن الآخر ، وقد مرّ أنّ أصل العقد يقتضي اللزوم»(8) .
واستدلّ المحدّث البحراني : بـ «أنّ ظاهر الأخبار المتقدّمة هو المغايرة بين المتعاقدين والتعدّد فيها(9) ، ودعوى عموم ذلك الوكيل أو الوليّ عن اثنين خروج عن ظاهر اللفظ . . . . ويؤيّد ما ذكرناه ـ ما قدّمنا ذكره ـ من أنّ مقتضى العقد اللزوم كتاباً وسنّةً ، وإثبات الخيار الموجب للخروج عن ذلك ، يحتاج إلى دليل واضح ، والركون إلى هذه التعليلات العليلة وبناء الأحكام الشرعيّة عليها مجازفة ظاهرة»(10) .
-
(1) الحدائق الناضرة 19 : 14 .
(2) إيضاح الفوائد 1 : 481 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 389 .
(4) كفاية الأحكام 1: 463. وفيه : «هذا القول لا يخلو عن قوّة ».
(5) الحدائق الناضرة 19 : 13 .
(6) مقابس الأنوار : 241 .
(7) منهاج الصالحين 2 : 28 .
(8) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 389 .
(9) الظاهر أنّ الصحيح «فيهمل».
(10) الحدائق الناضرة 19 : 15 ـ 16.
القول الثالث: ـ ولعلّه هو الأقوى ـ التوقّف في المسألة
قال العلاّمة في التحرير : «لو كان المشتري هو البائع; بأن يبيع عن ولده لنفسه أو بالعكس ، قيل : لا خيار ، عملاً بالأصل السالم عن معارضة النصّ ، لوروده بصيغة التثنية مقرونة بالافتراق... ، وقيل : لا يسقط . ويعتبر مفارقة مجلس العقد ، وعندي في ذلك نظر»(1) .
وقال المحقّق الثاني بعدالبحث في المسألة: «وأنافي هذه المسألة من المتوفّقين»(2).
وذكر في القواعد الاحتمالات الثلاثة ولم يرجّح أحدها(3) .
وقال الشيخ الأعظم : «والأولى التوقّف ، تبعاً للتحرير وجامع المقاصد»(4) .
فرع
قال العلاّمة : «للوليّ بذل مال الطفل في مصالحه ، كاستكفاف الظالم بالرشوة ، وتخليص ماله من تعويقه ، وإطلاق زرعه ، وماء شربه ، وأشباه ذلك . ولو طمع السلطان في مال اليتيم فأعطاه الوصيّ شيئاً منه ، فإن كان يقدر على دفعه بدون المدفوع ضمن، وإلاّ فلا»(5) .
استيفاء حقّ الخيار عند فقهاء أهل السنّة
واعلم أنّهم ـ بحسب تتبّعنا ـ لم يطرحوا مسألة استيفاء حقّ الخيار للصبيّ بخصوصها ، ولكن يستفاد من كلمات بعضهم في مسائل مختلفة أنّ للوليّ ذلك .
-
(1) تحرير الأحكام الشرعيّة 2 : 284 .
(2) جامع المقاصد 4 : 287 .
(3) قواعد الأحكام 2 : 65 .
(4) كتاب المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18 : 37 .
(5) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة.
فنذكر بعض عباراتهم التي دلّت على هذا المعنى :
قال النووي من فقهاء الشافعيّة : «إذا باع ماله لولده أو بالعكس ، ففي ثبوت خيار المجلس وجهان : أصحّهما يثبت، فعلى هذا، يثبت خيار للأب ، وخيار للولد ، والأب نائبه .
فإن ألزم البيع لنفسه وللولد لزم ، وإن ألزم لنفسه، بقي الخيار للولد ، وإذا فارق المجلس لزم العقد . . »(1) .
وقال الخطيب الشربيني : «لو اشترى الوليّ لطفله شيئاً فبلغ رشيداً قبل التفرّق لم ينتقل إليه الخيار . . . ويبقى للوليّ على الأوجه من وجهين حكاهما في البحر»(2) .
وفي المجموع : «إذا مات صاحب الخيار وقلنا : ينتقل إلى الورثة ، فكانوا أطفالاً أو مجانين ، قال الروياني وغيره : ينصب القاضي فيما يفعل ما هو المصلحة من الفسخ والإجازة»(3). وبه قال الخطيب الشربيني(4) .
وفي البحر الرائق في الفقه الحنفي : «قال أبو يوسف : إذا اشترى الأب أو الوصيّ شيئاً لليتيم وشرط الخيار لنفسه فبلغ الصبيّ في المدّة تمّ البيع . . .
وعن محمّد، أنّ للوصيّ أن يفسخ بعد بلوغ الصغير، وليس له أن يجيز إلاّ برضاه»(5) .
وقد جاء في البدائع : «ولو بلغ الصبيّ في مدّة خيار الشرط للأب أو الوصيّ
-
(1) روضة الطالبين 3 : 149 .
(2) مغني المحتاج 2 : 46 .
(3) المجموع شرح المهذّب 9 : 199 .
(4) مغني المحتاج 2 : 45 .
(5) البحر الرائق 6 : 29 .
لنفسه في بيع مال الصبيّ هل يبطل الخيار؟
قال أبو يوسف : يبطل ويلزم العقد ، وقال محمّد : تنقل الإجازة إلى الصبيّ... وجه قول محمّد: أنّ الوليّ يتصرّف في مال الصغير بطريق النيابة عنه شرعاً ; لعجزه عن التصرّف بنفسه ، وقد زال العجز بالبلوغ فتنتقل الإجازة إليه . . .
ووجه قول أبي يوسف: أنّ الخيار يثبت للوليّ ، وهو ولاية الفسخ والإجازة وقد بطل بالبلوغ ، فلا يحتمل الانتقال إلى الصبيّ ـ إلى أن قال: ـ ولو اشترى الأب أو الوصيّ شيئاً بدين في الذمّة وشرط الخيار لنفسه ثمّ بلغ الصبيّ ، جاز العقد عليهما والصبيّ بالخيار . . .
أمّا الجواز عليهما فلأنّ ولايتهما قد انقطعت بالبلوغ ، فلا يملكان التصرّف بالفسخ والإجازة ، فيبطل خيارهما وجاز العقد في حقّهما .
وأمّا خيار الصبيّ; فلأنّ الجواز واللزوم لم يثبت في حقّه ، وإنّما يثبت في حقّهما، فكان له خيار الفسخ والإجازة»(1) .
هذا ما عثرنا عليه من كلمات الشافعيّة والحنفيّة ، ولم نعثر للمالكيّة والحنابلة على نصٍّ في هذه المسألة .
- (1) بدائع الصنائع 4 : 535 ـ 536 .
المبحث الثالث : الولاية على القبول والقبض في الهبة
وفيه مطلبان :
المطلب الأوّل : الولاية على قبول الهبة
هل تحتاج الهبة إلى الإيجاب والقبول ؟ في المسألة قولان .
الأوّل: المشهور بين الفقهاء بل ادّعي الاتّفاق منهم بأنّ الهبة(1) من العقود الجائزة وتحتاج إلى الإيجاب والقبول . جاء في الغنية «تفتقر صحّة الهبة إلى الإيجاب
-
(1) قال ابن الأثير : «الهبة : العطيّة الخالية عن الأعواض والأغراض ، فإذا كثرت سمّي صاحبها وهّاباً ». النهاية 5 : 231 .
وفي موضع آخر : «نحل فيه . . . النُحل: العطيّة والهبة ابتداءً من غير عوض ولا استحقاق، يقال : نحله ينحله نحلاً بالضمّ، والنحلّة بالكسر : العطيّة» النهاية 5 : 29 .
«وأهدى الهديّة إلى فلان وله: بعث بها إكراماً له وهدّى الهديّة إلى فلان وله: أتحفه بها ». المعجم الوسيط : 978 .
وأمّا في الاصطلاح عرّف المحقّق الهبة بأنّها «هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض، تمليكاً منجّزاً مجرّداً عن القربة ». شرائع الإسلام 2 : 229 .
وزاد في الجواهر : «أو الأثر الحاصل منه ولو بالمعاطاة ». جواهر الكلام 28 : 159 ، وعرّفها بعض فقهاء أهل السنّة بأنّها «تمليك المال بلا عوض حال حياة المالك ». في هامش حلية العلماء 6 : 42ـ 43 .
وقال بعض آخر : هو على ثلاثة أقسام : الهبة والهديّة والصدقة .
التمليك بلا عوض هبة ، فإن انضمّ إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظاماً له أو إكراماً فهو هديّة ، وإن انضمّ إليه كون التمليك للمحتاج تقرّباً إلى الله تعالى وطلباً لثواب الآخرة، فهو صدقة . روضة الطالبين 5 : 3 ، منهاج الطالبين 2 : 293 .
وبه قال الشيخ في المبسوط 3 : 303 و314. وفي المهذّب 2 : 97. وفقه القرآن للراوندي 2 : 295 «صدقة التطوّع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام». وفي تحرير الأحكام الشرعيّة 3: 273، «الهديّة والهبة والصدقة بمعنى واحد... غير أنّه إذا قصد الثواب والتقرّب إلى الله تعالى بالهبة سمّيت صدقة ، وإن قصد بها التودّد والمواصلة سمّيت هدية»، فعلى هذا الهبة والعطية والهديّة والنحلة والصدقة واحد معنى في اصطلاح الفقهاء.
والقبول »(1) وبه قال ابنا حمزة(2) وإدريس(3) .
وفي جامع الشرائع : « الهبة والنحلة واحد ، وهي عقد على مال بغير عوض ، وشرط صحّته الإيجاب والقبول »(4) وكذا في الشرائع والمختصر النافع(5) . وبه قال أيضاً جماعة من المتأخرين(6) .
قال العلاّمة في التذكرة : « الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول باللفظ كالبيع وسائر التمليكات »(7). وكذا في الإرشاد(8) والقواعد(9) .
وفي المسالك : « ظاهر الأصحاب الاتّفاق على افتقار الهبة مطلقاً إلى العقد القولي في الجملة »(10) .
وجاء في الكفاية للفاضل الخراساني : « يفتقر الهبة إلى الإيجاب والقبول عند الأصحاب ، والإيجاب كلّ لفظ قصد به التمليك المذكور ، والقبول كلّ لفظ يدلّ على قبوله »(11) .
الثاني: ـ وهو الأقوى ـ أنّ الهبة لاتحتاج إلى الإيجاب والقبول اللفظي، بل يكفي فيها المعاطاة ، قال الشهيد(قدس سره) : « ويحتمل عدم الحاجة إلى الإيجاب والقبول لفظاً ،
-
(1) غنية النزوع : 300 .
(2) الوسيلة : 378 .
(3) السرائر 3 : 173 .
(4) الجامع للشرائع : 365 .
(5) شرائع الإسلام 2 : 229 ، المختصر النافع : 187 .
(6) الروضة البهيّة 3 : 192 ، التنقيح الرائع 2 : 339 .
(7) تذكرة الفقهاء 2 : 415 ، الطبعة الحجريّة.
(8) إرشاد الأذهان 1 : 450 .
(9) قواعد الأحكام 2 : 405 .
(10) مسالك الأفهام 6 : 10 .
(11) كفاية الأحكام 2 : 27 .
ويكفي الفعل الدّال عليهما »(1) .
وقد استقرب العلاّمة في التحرير في أوّل الباب عدم الاستغناء في الهبة عن الإيجاب والقبول ، وأباح له ـ أي المهدى إليه ـ التصرّف عملا بالإذن المستفاد عن العادة(2).
وقال في آخر الباب : « ولو قيل بعدم اشتراط القبول نطقاً كان وجهاً ، قضاءً للعادة لقبول الهدايا من غير نطق »(3) . وقال في المسالك : هذا حسن»(4) .
وفي جامع المقاصد : «هذا قويّ متين »(5) . وفي الرياض : « لابدّ في الهبة من الإيجاب الدّال على تملّك العين . . . والقبول الدّال على الرضا . . . إن اريد مطلق مايدلّ عليهما ولو فعلا ، ويشكل إذا اريد ما يدلّ عليهما لفظاً »(6) .
وفي الجواهر : « الهبة هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض تمليكاً منجّزاً مجرّداً عن القربة، أو الأثر الحاصل منه ولو بالمعاطاة أو فعل الواهب »(7). وبه قال أيضاً بعض فقهاء العصر .
قال السيّد الفقيه الخوئي(قدس سره) : « وهي عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، ويكفي في الإيجاب كلّ ما دلّ على التمليك المذكور من لفظ أو فعل أو إشارة ... ويكفي في القبول كلّ ما دلّ على الرضا بالإيجاب من لفظ أو فعل أو نحو ذلك »(8) .
-
(1) الدروس الشرعيّة 2 : 291 .
(2) تحرير الأحكام الشرعيّة 3 : 273 .
(3) نفس المصدر : 285 .
(4) مسالك الأفهام 6 : 11 .
(5) جامع المقاصد 9 : 142 .
(6) رياض المسائل 6 : 170 .
(7) جواهر الكلام 28 : 159 .
(8) منهاج الصالحين 2 : 204 .
وقال الإمام الخميني(رحمه الله) : « والأقوى وقوعها بالمعاطاة بتسليم العين وتسلّمها
بعنوانها »(1) .
وكذا في تفصيل الشريعة(2) .
أدلّة جواز الهبة بالمعاطاة
ويمكن أ ن يستدلّ للحكم المذكور بوجوه :
الأوّل : أ نّ الهبة لمّا كانت من العقود الجائزة في أكثر مواردها وسّعوا المجال فيها ولم يضيّقوها على حدّ العقود اللازمة ، فاكتفوا بكلّ ما دلّ على التمليك حتّى لو قال : هذا لك مع نيّة الهبة كفى وإن لم يكن بصيغة الماضوية ، كما توسّعوا في عقد الرهن ; لأنّه كان جائزاً من أحد الطرفين(3).
الثاني : أ نّ دليل المعاطاة في غير الهبة ، من دعوى السيرة القطعية متحقّق في المقام أيضاً ، فلا محيص عن القول بمشروعيّة المعاطاة في الهبة كمشروعيّتها في باب البيع (4).
الثالث : أنّه يصدق الهبة مع عدم اللفظ الدالّ على الإيجاب والقبول حقيقةً(5).
الرابع : أنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من كسرى وقيصر وسائر الملوك(6). ولم ينقل أنّه(صلى الله عليه وآله) راعى العقد ، ويبعد حمله على الإباحة ; لأنّه(صلى الله عليه وآله) كان
-
(1) تحرير الوسيلة 2 : 54 .
(2) تفصيل الشريعة ، كتاب الهبة: 469.
(3) مسالك الأفهام 6 : 9 ـ 10 ، مفتاح الكرامة 9 : 156 .
(4) جواهر الكلام 28 : 159 .
(5) رياض المسائل 6 : 170 .
(6) بحار الأنوار 22 : 193 ، سنن الترمذي 3 : 69 ح1624 ، مسند أحمد بن حنبل 1 :96 .
يتصرّف فيها تصرّف الملاّك(1). ووقع عنه(صلى الله عليه وآله) ما ينافي الإباحة وهو الوطء، كما في مارية القبطيّة اُمّ ولده ، مع أنّه روي أنّها كانت من الهدايا(2) وأُهدي إليه حلّةٌ فأهداها لعليّ(عليه السلام)(3). من غير أن يُنقل عنه قبول لفظي ولا عن الرسل إيجاب ، وهذا كلّه يدلّ على استفادة الملك في الجملة لا الإباحة . أشار إلى ذلك في التذكرة(4) .
فيحمل ما تقدّم في كلمات الأصحاب من أنّ الهبة عقد يحتاج إلى الإيجاب والقبول على إرادة بيان أنّ الهبة من أقسام العقود لا الإيقاعات وإن تحقّقت بما يتضمنّ معنى الإيجاب والقبول من الأفعال ، أو يحمل ذلك على بيان قسم العقدي من الهبة ، أي الهبة اللازمة .
إيضاح
قال في القواعد : « الهديّة كالهبة في الإيجاب والقبول والقبض »(5).
وقال المحقّق الثاني في شرحه : « الهديّة ضرب من الهبة مقرونة بما يشعر بإعظام المهدى إليه وتوقيره ... وهل يشترط فيها الإيجاب والقبول والقبض ؟ اختلف الأصحاب في ذلك ، فاختار المصنّف هنا الاشتراط ; لأنّها نوع من الهبة، فيشترط فيها ما يشترط في الهبة»(6) .
قال الشيخ في المبسوط : « من أراد الهديّة ولزومها وانتقال الملك فيها إلى المهدى إليه الغائب فليوكّل رسوله في عقد الهديّة معه ، فإذا مضى وأوجب له وقبل
-
(1) الدروس الشرعيّة 2 : 291 ، جامع المقاصد 9 : 142 .
(2) المبسوط للطوسي 4 : 157 ، طبقات ابن سعد 1 : 134 ، المغني لابن قدامة 1 : 249 ـ 255 .
(3) نيل الأوطار 6 : 3 .
(4) تذكرة الفقهاء 2 : 215 ، الطبعة الحجريّة.
(5) قواعد الأحكام 2 : 405.
(6) جامع المقاصد 9 : 141 ـ 142 .
المهدى إليه وقبضه إيّاه ، لزم العقد وملك المهدى إليه الهديّة »(1) .
والأظهر أنّ الهديّة كالهبة لا تحتاج إلى العقد القولي ; لأنّه لم يقم دليل على ذلك ، بل الدليل على خلافه ثابت، كما يظهر من كلام العلاّمة في التذكرة(2) . وقوّاه في جامع المقاصد(3). وهو ظاهر الرياض أيضاً ، حيث استدلّ له بأنّ السيرة واستقامة الطريقة على ذلك من عهد النبي(صلى الله عليه وآله) إلى الآن ، ولذلك يبعثونها على أيدي الصبيان الذين لا يعتدّ بعباراتهم، ومارية القبطيّة كانت من الهدايا(4) .
وقد أهدى المختار لزين العابدين(عليه السلام) جارية أولدها زيداً عليه الرحمة والرضوان(5) .
ويؤيّده أنّ الهديّة مبنيّة على الحشمة والإعظام ، وذلك يفوت مع اعتبار الإيجاب والقبول وينقص موضعها من النفس ، وأنّ ظاهر الأخبار أنّ المدار على التراضي من الطرفين وأنّه العمدة في البين ، وقد ثبت في محلّه أنّ بيع المعاطاة لايشترط فيه أزيد من رضا الطرفين بما يتفقان عليه ، وجعل الهديّة من المعاطاة يقتضي كونها كذلك(6) .
قبول الوليّ الهبة والهدية للصبي
بعد إثبات اعتبار القبول في الهبة والهديّة ـ وكونهما أعمّ من أن يكونا باللفظ أو بالفعل الدالّ على الرضا ـ نقول : إذا وُهِبَ أو اُهدي للصبيّ فللوليّ أن يقبلهما ;
-
(1) المبسوط للطوسي 3 : 315 .
(2) تذكرة الفقهاء 2 : 415 ، الطبعة الحجريّة.
(3) جامع المقاصد 9 : 142 .
(4) رياض المسائل 6 : 171 .
(5) الإمام زيد لمحمّد أبو زهرة : 22 ـ 23 ، الحدائق الناضرة 22 : 298 .
(6) مفتاح الكرامة 9 : 156 ـ 157 مع تصرّف .
لأنّ الصبيّ مسلوب العبارة والأفعال ولا اعتبار بقوله وفعله .
جاء في المبسوط : «إذا وُهِبَ للصبيّ المولّى عليه شيءٌ ، نُظِرَ : فإن كان الواهب غير وليّه قَبِلَ الوليّ; سواء كان بغير تولية مثل الأب والجدّ، أو بتولية كالوصيّ ، وإن وهب الوليّ للصبي ، فإن كان وليّاً بغير تولية قبلها أيضاً ، ويصحّ ذلك كما يصحّ منه في البيع أن يكون موجباً وقابلاً ، وهذا هو مذهبنا ، وإن كان بتولية لم يصحّ أن يقبلها كما لا يصحّ أن يبيع من الصبيّ شيئاً بنفسه أو يشتري منه ، وينصب الحاكم أميناً يقبل منه هبته للصبيّ ، فإذا قبلها صحّت الهبة»(1) .
وقال العلاّمة : «إذا كان الواهب الوليّ للصبي ، فإن كان بغير تولية ـ كالأب والجدّ ـ قبلها الواهب أيضاً ، وإن كان بتولية، قال في المبسوط : لا يصحّ أن يقبلها ، كما لا يصحّ أن يبيع من الصبيّ شيئاً بنفسه أو يشتري منه ، وينصب الحاكم أميناً يقبل منه هبته للصبي ، فإذا قبلها صحّت الهبة .
والوجه : التسوية بينه وبين الأب ; لأنّ له أن يقبل هبة غيره، فكذا يقبل هبة نفسه ، لعموم ولايته ، فلا وجه لاختصاصها بغيره»(2) . واختاره في الحدائق(3)والجواهر(4).
وفي تحرير الوسيلة : « يصحّ قبول الوليّ عن المولّى عليه الموهوب له »(5).
وفي تفصيل الشريعة : « إذا كان الموهوب له صغيراً كالولد جديد الولادة ـ المتعارف في زماننا إهداء الهدايا إليه ـ يصحّ قبول الوليّ عن المولّى عليه،
-
(1) المبسوط للطوسي 3 : 305 .
(2) مختلف الشيعة 6 : 244 .
(3) الحدائق الناظرة 22 : 318 .
(4) جواهر الكلام 28 : 175 .
(5) تحرير الوسيلة 2 : 54 ، كتاب الهبة ، مسألة .
خصوصاً إذا كان غير قابل للقبول، كأوائل ولادته »(1) .
ويدلّ على هذا الحكم عموم أدلّة ولاية الوليّ ، وكذا بعض النصوص التي سنذكرها في البحث عن ولاية الوليّ على قبض الهبة للصبيّ.
والحاصل : أنّه لا إشكال ولا خلاف في المسألة ، ولعلّ ترك التصريح بها في كلماتهم لوضوحها .
فرع
لو وهب شخص إلى صغير ولم يقبل عنه وليّه، بطلت الهبة طعاماً كان الموهوب أو غيره . والظاهر أنّه لو تصرّف فيه الصغير فلا ضمان عليه في الحال ولا بعد البلوغ ، ولا ضمان على وليّه أيضاً ; لأنّ دفع المالك المال الموهوب إلى الصغير وتسليطه عليه بسبب هبة باطلة ، كان بمنزلة الإقدام منه على إتلاف ماله ، فتصرّف الصغير لم يوجب الضمان .
نظير ما قاله الفقهاء في اشتراء الصبيّ ، قال العلاّمة في التذكرة : «لو اشترى الصبيّ وقبض أو استقرض وأتلف فلا ضمان عليه ; لأنّ التضييع من الدافع، فإن كان المال باقياً ردّه وعلى الوليّ استرداد الثمن ، ولا يبرأ البائع بالردّ إلى الصبيّ»(2) .
وكذا في النهاية(3) .
وأمّا لو أهدى إلى صغير ولم يقبل عنه وليّه فهل تبطل الهديّة ، أو توجب إباحة التصرّف ؟ أفتى الشيخ(رحمه الله) في المبسوط بالثاني، حيث قال : «إذا وصلت الهديّة إلى المهدى إليه لم يملكها بالوصول ولم تلزم ، ويكون ذلك إباحةً من المُهدي ، حتّى أنّه
-
(1) تفصيل الشريعة ، كتاب الهبة : 470.
(2) تذكرة الفقهاء 1 : 462 ، الطبعة الحجريّة .
(3) نهاية الإحكام 2 : 454 .
لو أهدى إليه جارية لم يجز أن يستمتع بها ; لأنّ الإباحة لا تدخل في الاستمتاع»(1) .
ويستظهر هذا من كلام العلاّمة في التذكرة أيضاً، حيث نقل عن قوم من أهل السنّة أنّه لا حاجة في الهديّة إلى الإيجاب والقبول ، إلى أن قال : «ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة والوصيّة ، واعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلك كان إباحةً لا تمليكاً»(2) .
نقول : هذا هو الأقوى ، والظاهر أنّ الهبة أيضاً كذلك ; لأنّه لا فرق بينهما حقيقة ، ففي فرض المذكور كانت الهبة الباطلة إباحةً من المُهدي للصغير .
آراء فقهاء أهل السنّة في المسألة
يستفاد من كلماتهم أنّه لا يشترط في صحّة الهبة القبول اللفظي ، بل تصحّ بالمعاطاة والفعل الدالّ على القبول أيضاً .
قال ابن قدامة : «وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة بما يدلّ عليها»(3) .
وفي المغني : «والصحيح أنّ المعاطاة والأفعال الدالّة على الإيجاب والقبول كافية ولا يحتاج إلى لفظ . وهذا اختيار ابن عقيل .
فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يهدي ويُهدى إليه ويعطي ويُعطى ، ويفرّق الصدقات ويأمر سعاته بتفريقها وأخذها ، وكان أصحابه يفعلون ذلك ولم ينقل عنهم في ذلك إيجاب ولا قبول، ولا أمر به ولا تعليمه لأحد ، ولو كان ذلك شرطاً لنقل عنهم نقلاً
-
(1) المبسوط للطوسي 3 : 315 .
(2) تذكرة الفقهاء 2 : 415، الطبعة الحجريّة.
(3) المقنع في فقه أحمد بن حنبل : 165 .
مشهوراً ـ إلى أن قال: ـ
وقال ابن عقيل : إنّما يشترط الإيجاب والقبول مع الإطلاق وعدم العرف القائم بين المعطي والمُعطى ; لأنّه إذا لم يكن عرف يدلّ على الرضا ، فلابدّ من قول دالٍّ عليه ، أمّا مع قرائن الأحوال والدلائل، فلا وجه لتوقيفه على اللفظ ، ألا ترى أ نّا اكتفينا بالمعاطاة واكتفينا بدلالة الحال في دخول الحمّام ; وهو إجارة وبيع أعيان ، فإذا اكتفينا في المعاوضات مع تأكّدها بدلالة الحال وأنّها تنقل الملك من الجانبين فلأن نكتفي به في الهبة أولى»(1) وكذا في الشرح الكبير(2) .
كما أنّ عندهم للأب والجدّ والوصيّ والحاكم أو أمينه ولاية في قبول الهبة عن الصغار ، وسنذكر في البحث عن قبض الهبة زيادة توضيح في بيان آرائهم إن شاءالله.
المطلب الثاني : الولاية على قبض الهبة
المشهور بين الفقهاء أنّه يشترط في صحّة الهبة قبضها ، ويتولّى ذلك الوليّ عن الصغار ; سواء وهبه نفسه أو ذوو أرحامه أو غيرهم ، فإن وهب الواهب للصغير من ذوي أرحامه وقبّضها وليّه لم يكن له بعد ذلك رجوع فيها .
ففي المقنعة : «وإذا نحل الوالد ولده شيئاً ولم يقبضه الولد وكان كبيراً لم تستقرّ الهبة ، وكان للأب الرجوع فيها . وكذلك القول فيما يهبه لذوي أرحامه كلّهم ، فإن كان الولد صغيراً مضت الهبة وكان قبض الوالد قبضاً للولد . وإن وهب لصغير من ذوي أرحامه شيئاً فلم يقبضه وليّه له ، كان له الرجوع فيه ، فإن قبضه الوليّ مضت الهبة ولم يجز له الرجوع فيها»(3) .
-
(1) المغني لابن قدامة 6 : 252ـ 253 .
(2) الشرح الكبير 6 : 249 ـ 250 .
(3) المقنعة : 658 .
وفي النهاية بعد تقسيم الهبة على ضربين : « فأمّا الذي ليس له فيه رجوع، فهو كلّ هبة وهبها الإنسان لذي رحمه، ولداً كان أو غيره إذا كان مقبوضاً . . . إلاّ أن تكون الهبة على ولده ويكونوا صغاراً ; فإنّه لا يكون له فيها رجوع على حال; لأنّ قبضه قبضهم ـ إلى أن قال :ـ فإن وهب للصغير من ذوي أرحامه وقبّضه وليّه لم يكن له بعد ذلك رجوع فيها على حال »(1) وكذا في المبسوط(2) .
ولكنّه قال في الخلاف : « إذا وهب الوالد لولده وإن علا الوالد، أو الاُمّ لولدها وإن علت، وقبضوا إن كانوا كباراً أو كانوا صغاراً لم يكن لهما الرجوع فيه»(3) .
وفي السرائر: «والذي يقتضيه مذهبنا، أنّ هبة الوالد تكون كما قال ـ الشيخ(رحمه الله) ـ فأمّا هبة الاُمّ للولد الكبير البالغ، فإذا قبض فليس لها رجوع . وأمّا هبتها لولدها الصغير، فلابدّ من تقبيض وليّه ، فإذا قبض الوليّ الهبة إمّا أبوه، أو وصيّه، فليس لها رجوع ، فإذا لم يقبض فلها الرجوع بخلاف الأب; لأنّ قبض الأب قبضه»(4) .
وفي المختلف : «والظاهر أنّ مقصود الشيخ ذلك ; للعلم به، فلهذا لم يفصّل; لظهوره وعدم خفائه»(5) .
وبه قال القاضي في المهذّب(6) وابنا حمزة(7) وسعيد(8) وسلاّر(9) والحلبي(10) .
-
(1) النهاية للطوسي : 602 .
(2) المبسوط للطوسي 3 : 305 .
(3) الخلاف 3 : 566 المسألة 11 .
(4) السرائر 3 : 174 و 175 .
(5) مختلف الشيعة 6 : 242 .
(6) المهذّب 2 : 95 .
(7) الوسيلة : 379 .
(8) الجامع للشرائع : 365 .
(9) المراسم العلويّة: 202.
(10) الكافي في الفقه: 322 .
وقال المحقّق : «لو وهب الأب أو الجدّ للولد الصغير ، لزم بالعقد ; لأنّ قبض الوليّ قبض عنه .
ولو وهبه غير الأب أو الجدّ ، لم يكن له بُدٌّ من القبض عنه ; سواء كان له ولاية أو لم تكن ، ويتولّى ذلك الوليّ أو الحاكم»(1) .
وقال العلاّمة في جملة من كتبه : « لو وهب الأب ولده الصغير شيئاً في يده صحّ ولم يحتجّ إلى قبول ولا قبض مستأنف ولا مضيّ زمان له ، ولا يجب على الأب وضع الموهوب على يد غيره »(2) . وبه قال الشهيدان(3) وجماعة من المتأخّرين(4)ومتأخّري المتأخّرين(5) .
قال في الرياض : « لو وهب الأب أو الجدّ للولد الصغير الذي تولّيا عليه ما هو ملكهما ومقبوضهما قبل الهبة لزم بلا خلاف ; لأنّه مقبوض بيد الوليّ، فيكفي عن القبض الجديد »(6) .
وقال في تحرير الوسيلة : « لو كان الواهب وليّاً على الموهوب له ـ كالأب والجدّ للولد الصغير ـ وقد وهبه ما في يده صحّ . . . ولو وهبه غير الوليّ فلابدّ من القبض ويتولاّه الوليّ»(7).
-
(1) شرائع الإسلام 2 : 230 ، المختصر النافع : 187 .
(2) تحرير الأحكام 2 : 278 ، إرشاد الأذهان 1 : 450 ، مختلف الشيعة 6 : 244 ، تبصرة المتعلّمين : 125 ، قواعد الأحكام 2 : 407 ، تذكرة الفقهاء 2 : 415، الطبعة الحجريّة .
(3) الدروس الشرعيّة 2 : 289 ، اللمعة الدمشقيّة : 59 ، مسالك الأفهام 6 : 24 ـ 25 .
(4) جامع المقاصد 9: 140 و152 ـ 153 .
(5) كفاية الأحكام : 2 : 29 ، مفتاح الكرامة 9 : 177 ، جواهر الكلام 28 : 175 ـ 176 ، وسيلة النجاة 2 : 123 ، منهاج الصالحين للسيّد الخوئي 2 : 204 .
(6) رياض المسائل 6 : 176 .
(7) تحرير الوسيلة 2 : 55 ، مسألة 3 .
وكذا في تفصيل الشريعة وزاد: «بأنّه لا معنى لاعتبار القبض هنا بعد كون اللاّزم قبض الوليّ ، وهو حاصل»(1) .
أدلّة قبض الوليّ الهبة للصبيّ
ويمكن الاستدلال لهذا الحكم ـ مضافاً إلى عموم ولاية الوليّ ـ بالنصوص ، وهي ما يلي :
1 ـ صحيحة أو معتبرة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الصدقة إذا لم تقبض هل تجوز لصاحبها؟ قال : «إذا كان أب تصدّق بها على ولد صغير، فإنّها جائزة ; لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً » الحديث(2) .
2 ـ موثّقة داود بن الحصين ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «الهبة والنحلة مالم تقبض حتّى يموت صاحبها ، قال : هو ميراث ، فإن كانت لصبيّ في حجره فأشهد عليه فهو جائز»(3) .
3 ـ وخبر جميل بن درّاج ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن (في خ ل) رجل وهب لابنه شيئاً هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال : «نعم ، إلاّ أن يكون صغيراً»(4) .
4 ـ ومرسلة أبان، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «النحل والهبة ما لم تقبض حتّى يموت صاحبها ، قال : هي بمنزلة الميراث ، وإن كان لصبيّ في حجره وأشهد عليه فهو جائز»(5) .
-
(1) تفصيل الشريعة ، كتاب الهبة : 474.
(2) الوسائل 13 : 338 الباب 5 من كتاب الهبات، ح5، ووجه الدلالة: أنّ الصدقة تشمل الهبة والهديّة كما سيأتي .
(3 ـ 5) الوسائل 13 : 337 الباب 5 من كتاب الهبات ، ح1 و 2 .
(5) نفس المصدر الباب 4 من كتاب الهبات ، ح1 .
5 ـ ما ورد في أخبار الصدقة من أنّ قبض الأب والجدّ كاف في صحّة الصدقة ولا رجوع فيها بعد ، كقوله(عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم : « وإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ; لأنّ والده هو الذي يلي أمره . وقال : لا يرجع في الصدقة إذا ابتغى بها وجه الله عزّ وجلّ، وقال : الهبة والنحلة يرجع فيها إن شاء ، حيزت أو لم تحز إلاّ لذي رحم; فإنّه لا يرجع فيه»(1).
وقريب من هذا معتبرة عبيد بن زرارة(2).
وفي معتبرة جميل قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يتصدّق على
ولده بصدقة وهم صغارٌ، أ له أن يرجع فيها ؟ قال: «لا ، الصدقة لله عزّ
وجلّ»(3) .
قال في الحدائق : « وبالجملة : فإنّ الحكم لا إشكال فيه ولا خلاف نصّاً وفتوىً فيما أعلم ، فإنّ القبض السابق على الهبة كاف عن القبض الطارئ بعدها ، وأيّده بأنّ اليد المستدامة أقوى من اليد المبتدأة »(4) .
ويدلّ على عدم جواز الرجوع في الهبة ـ إذا كان المتّهب صغيراً ذا رحم بعد إقباض الوليّ له بخصوصه ـ الإجماع أيضاً، كما ادّعاه في التذكرة(5) وجامع المقاصد(6) .
-
(1) تهذيب الأحكام 9 : 135 ، ح16 ، وسائل الشيعة 13 : 297 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح1 وص338، الباب 6 من كتاب الهبات ح2 .
(2) وسائل الشيعة 13 : 299 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح5 . وليس في السند من لا توثيق له إلاّ قاسم بن سليمان ، وهو معتبر; لكثرة نقل الأجلّة عنه، مع أنّه من رجال تفسير القمّي وكامل الزيارات .
(3) تهذيب الأحكام 9 : 135 ح17 ، وسائل الشيعة 13 : 298 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح2 .
(4) الحدائق الناضرة 22 : 316 .
(5) تذكرة الفقهاء 2 : 418 ، الطبعة الحجريّة .
(6) جامع المقاصد 9 : 157 .
اشتراك الصدقة والهبة في القبض
يشترط في صحّة الصدقة أيضاً قبضها ; لأنّ الهبة قد يعبّر عنها بالنحلة والعطيّة ، ويطلق كلّ منهما على مطلق الإعطاء المتبرّع به ، فيشمل الوقف والصدقة والهدية والهبة ، والهبة أعمّ من الصدقة ; لاشتراط الصدقة بالقربة دون الهبة . والهديّة أخصّ من الهبة ; إذ يعتبر في الهديّة أن يحمل الموهوب من مكان الواهب إلى مكان الموهوب منه إكراماً له ، ولذا لا يطلق الهديّة على العقارات الممتنع نقلها(1) .
وقال الشيخ في المبسوط : «إنّ الهبة والصدقة والهديّة بمعنى واحد»(2) .
والظاهر أنّه خلاف التحقيق ، وكيف كان لا يلزم شيء من الصدقة والهبة والهديّة إلاّ بالقبض ، ويتولّى الأب أو الجدّ ذلك عن الصغير .
فروع
الأوّل: هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحّض القبض للهبة أو لا يعتبر؟ قولان :
الأوّل: ـ وهو ظاهر العلاّمة في القواعد ـ اعتبار ذلك، حيث قال :
«وشرطه إذن الواهب وإيقاع القبض للهبة ، فلو قبض من غير إذنه لم ينتقل الملك إليه وإن كانا في المجلس ، وكذا لو أقبضه الواهب لا للهبة ويقبل قوله في القصد»(3); لأنّ المال المقبوض في يد الوليّ له ، فلا ينصرف إلى الطفل إلاّ بصارف ، وهو القصد .
-
(1) كفاية الأحكام : 2 : 26 .
(2) المبسوط للطوسي 3 : 303 .
(3) قواعد الأحكام 2 : 406 .
الثاني: وهو الأقوى، ما يظهر من كلمات كثير من الفقهاء ـ كما تقدّم ذكرها ـ عدم اعتبار إيقاع القبض للهبة والاكتفاء بمطلق القبض ، فلا يعتبر عندهم قصد القبض عن الطفل; لصدق اسم القبض عليه وصلاحيّته للهبة ، ولم يدلّ دليل على أزيد من ذلك .
قال في الرياض : « يكفي مطلق القبض السابق ولو خلّي حين العقد أو بعده عن نيّة القبض عن المتّهب له بالكليّة »(1).
وفي المسالك : « عدم قصد القبض لغيره يكفي »(2).
وفي كفاية الأحكام : « لم يفتقر إلى تجديد القبض ولا قصد القبض عن الطفل على الأشهر الأقوى »(3) .
الفرع الثاني : أنّه هل للوصيّ أن يتولّى القبض عن الطفل أم لا؟ قولان :
قال في المبسوط : «إن وهب الوليّ للصبيّ ، فإن كان وليّاً بغير تولية قبلها . . . وإن كان بتولية لم يصحّ أن يقبلها كما لا يصحّ أن يبيع من الصبيّ شيئاً بنفسه أو يشتري منه ، وينصب الحاكم أميناً يقبل منه هبةً للصبي ; فإذا قبلها صحّت الهبة»(4) . ووافقه المحقّق(5) .
وفي مقابله قول من قال بصحّة قبض الوصيّ أيضاً ، وهذا هو الأقوى ، كقول العلاّمة وغيره، حيث قال : «والوجه: التسوية بينه ـ أي الوصيّ ـ وبين الأب ; لأنّ
-
(1) رياض المسائل 6 : 177 .
(2) مسالك الأفهام 6 : 25 .
(3) كفاية الأحكام 2 : 29 .
(4) المبسوط للطوسي 3 : 305 .
(5) شرائع الإسلام 2 : 230 .
له أن يقبل هبة غيره فكذا يقبل هبة نفسه، لعموم ولايته; فلا وجه لاختصاصها بغيره»(1).
وفي المسالك : «والأصحّ أنّ حكم الوصيّ حكم الأب والجدّ»(2) . واختاره أيضاً في الحدائق(3) .
وفي الجواهر : بل ولاية الوصيّ في الحقيقة من ولاية الأب والجدّ ، مع أنّ ولاية الحاكم هنا منتفية ; لأنّه وليّ من لا وليّ له ، وفي الفرض المذكور وصيّ أحد الأبوين موجود(4) .
وأجاب العلاّمة عمّا استدلّ به الشيخ بالمنع من حكم الأصل ; فإنّ له أن يبيع ويقبل الشراء . وأيضاً بوجود الفرق بينهما ; فإنّ المعاوضة قد يحصل فيها التغابن ، وأمّا الهبة; فإنّها عطيّة محضة، فكانت المصلحة فيها ظاهرةً(5) .
الفرع الثالث : قال العلاّمة : «وللوليّ أن يهب مال الطفل بشرط الثواب مع المصلحة ، إمّا مع زيادة الثواب على العين، أو مع تحصيل أمر من المتهّب ينتفع به الطفل نفعاً يزيد على بقاء العين له»(6) .
آراء فقهاء أهل السنّة في الولاية على قبض الهبة
إنّهم قائلون بأنّ الأولياء ـ الأب والجدّ ووصيّهما والاُمّ في بعض الأحوال ـ وكلّ من يعول الصبيّ من الأخ والعمّ وغيرهما يتولّى في قبول الهبة وقبضها عن
-
(1) مختلف الشيعة 6 : 244 مسألة 19 .
(2) مسالك الأفهام 6 : 26 .
(3) الحدائق الناضرة 22 : 218 .
(4) جواهر الكلام 28 : 177 .
(5) مختلف الشيعة 6 : 244 مسألة 19 .
(6) تذكرة الفقهاء 2 : 83 ، الطبعة الحجريّة .
الصبيّ . فنذكر شطراً من كلماتهم على الترتيب التالي :
أ ـ الحنفيّة
جاء في الهداية : «إذا وهب الأب لابنه الصغير هبةً ملكها الابن بالعقد ; لأنّه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة ، ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو يد مودّعه ; لأنّ يده كيده ، بخلاف ما إذا كان مرهوناً أو مغصوباً أو مبيعاً بيعاً فاسداً ; لأنّه في يد غيره أو في ملك غيره . والصدقة في هذا مثل الهبة . وكذا إذا وهبت اُمّه وهو في عيالها والأب ميّتٌ ولا وصيّ له. وكذلك كلّ من يعوله»(1) .
وفي شرح الهداية : «لأنّ الذي وهبه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة، فلايحتاج إلى قبض آخر . ولا يشترط فيه الإشهاد، إلاّ أنّ فيه احتياطاً للتحرّز عن جحود الورثة بعد موته ، أو جحوده بعد إدراك الولد . وقال عبد البرّ : أجمع الفقهاء على أنّ هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض جديد»(2) .
وفي البحر الرائق: «وتتمّ الهبة بقبض الأُمّ أو الأجنبي بشرط أن يكون في حجر القابض; لأنّ للاُمّ الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله، وللأجنبيّ يد معتبرة»(3).
وبه قال الطحاوي(4) والسرخسي(5) والأستروشني(6) وابن نجيم والسمرقندي(7) وابن عابدين(8) والشيخي زاده(9) .
-
(1) الهداية للمرغيناني 3 : 253 .
(2) البناية 9 : 216 .
(3) البحر الرائق 7 : 491 .
(4) مختصر اختلاف العلماء 4 : 140 .
(5) المبسوط للسرخسي 12 : 61 .
(6) أحكام الصغار : 171 .
(7) البحر الرائق 7 : 490 ، تحفة الفقهاء 3 : 168 ، مجمع الأنهر 3 : 497 .
(8) حاشية ردّ المحتار 8 : 449 .
(9) مجمع الأنهر 3 : 497 .
ب ـ الحنابلة
ففي المغني لابن قدامة : «إن كان الموهوب له طفلاً أو مجنوناً لم يصحّ قبضه ولا قبوله ; لأنّه من غير أهل التصرّف ، ويقبض له أبوه إن كان أميناً ; لأنّه أشفق عليه وأقرب إليه ، فإن لم يكن له أب قبض له وصي أبيه . . . وإن كان الأب غير مأمون، أو كان مجنوناً، أو مات عن غير وصيّ، فأمينه الحاكم . . . ولا يصحّ القبض من غير هؤلاء ـ إلى أن قال : ـ ويحتمل أن يصحّ القبول والقبض من غيرهم عند عدمهم ; لأنّ الحاجة داعيةٌ إلى ذلك ; فإنّ الصبيّ قد يكون في مكان لا حاكم فيه وليس له أب ولا وصيّ ، ويكون فقيراً لا غنى به عن الصدقات ، فإن لم يصحّ قبض غيرهم له انسدّ باب وصولها إليه فيضيع ويهلك ، ومراعاة حفظه عن الهلاك أولى من مراعاة الولاية، فعلى هذا للاُمّ القبض له وكلّ من يليه من أقاربه وغيرهم»(1).
ومثل ذلك في منتهى الإرادات(2) وكشّاف القناع(3) والفروع(4) .
وفي المبدع : «يصحّ قبض المميّز وقبوله بلا إذن وليّه»(5) .
ولكن قال في الإقناع(6) والإنصاف(7): لا يصحّ قبض طفل ولو مميّزاً، بل وليّه الأمين يقوم مقامه .
ويستفاد من كلماتهم أنّه يجوز للأب وغيره أن يوجب ويقبل ويقبض ; بأن كان هو نفسه واهباً للصبي ويقبل ويقبض عنه(8) .
-
(1) المغني 6 : 258 ـ 259 ، الشرح الكبير 6 : 257 ـ 258 .
(2) منتهى الإرادات 3 : 396 ـ 397 .
(3) كشّاف القناع 4 : 364 .
(4) الفروع 4 : 486 .
(5) المبدع 5 : 365 .
(6) الإقناع 3 : 31 .
(7) الإنصاف 7 : 125 .
(8) نفس المصادر السابقة .
ج ـ الشافعيّة
عندهم القبض من أركان الهبة، فقد قال في الوجيز : «وبه يحصل الملك ، فإن مات الواهب قبل القبض تخيّر الوارث في الإقباض»(1) .
وفي منهاج الطالبين : «ولا يملك موهوب إلاّ بقبض»(2) .
وقال الماوردي : «أمّا القبض، فهو من تمام الهبة لا تملك إلاّ به»(3) .
فلو كان الموهوب له طفلاً لم يصحّ قبضه ولا قبوله ; لأنّه من غير أهل التصرّف، ولذا قال الشافعي : ويقبض للطفل أبوه(4) .
وفي العزيز : «إذا كانت الهبة لمن(5) ليس له أهليّة القبول ، كالطفل فينظر: إن كان الواهب أجنبيّاً قبل له من يلي أمره من وليّ ووصيّ وقيّم ، وإن كان الواهب من يلي أمره ، فإن كان غير الأب والجدّ قبل له الحاكم أو من ينيبه .
وإن كان أباً أو جدّاً تولّى الطرفين . . . ولا اعتبار بقبول المتعهّد الذي لا ولاية له على الطفل»(6) . وبه قال النووي(7) .
وفي الحاوي الكبير : «إن كان الواهب للطفل أبوه . . . فيكون في البذل والإقباض نائباً عن نفسه وفي القبول والقبض نائباً عن ابنه ، فأمّا أمين الحاكم فلا يصحّ ذلك منه إلاّ أن يقبله منه قابل ويقبضه منه قابض ، وكذلك وصيّ الأب»(8) .
-
(1) الوجيز 1 : 430 .
(2) منهاج الطالبين 2 : 295 .
(3) الحاوي الكبير 9 : 401 .
(4) مختصر المزني : 134 .
(5) في المصدر : «ممّن» والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصواب كما في روضة الطالبين.
(6) العزيز شرح الوجيز 6 : 309 .
(7) روضة الطالبين 5 : 5 .
(8) الحاوي الكبير 9 : 404 .
وجاء في روضة الطالبين : أنّ الصدقة كالهدية بلا فرق بينهما; سواء كانت الهديّة الأطعمة أو غيرها(1) .
د ـ المالكيّة
فقد خالفوا رأي الشافعيّة ، وقالوا بلزوم الهبة بدون القبض ، ففي البيان : «قال مالك : تلزم الهبة بالإيجاب والقبول من غير قبض ، فإن امتنع الواهب من الإقباض دفعه الموهوب له إلى الحاكم ليجبره على الإقباض»(2) .
ومثل ذلك في حلية العلماء(3) والمغني والشرح(4) والتهذيب(5) .
وقال ابن رشد : «قول مالك ومن تابعه أنّ الهبة تنعقد بالقول وتلزم به ، ولا تتمّ إلاّ بالحيازة»(6) .
ولكن مع ذلك يجوز عندهم أن يحوز ويقبض الأب الهبة والصدقة للصبيّ .
ففي المدوّنة : «قلت : فإن وهب الأب لولده وهم صغار ثمّ أشهد لهم، أهو الجائز في قول مالك؟ قال : نعم»(7) .
وفي الكافي : إذا وهب الرجل لابنه الصغير فلا حيازة عليه فيما وهب له إلاّ الإشهاد بالهبة والإعلان بها ; لأنّه هو الحائز له(8) . وكذا في غيره(9) .
-
(1) روضة الطالبين 5 : 5 .
(2) البيان 8 : 114 .
(3) حلية العلماء 6 : 48 .
(4) المغني والشرح 6 : 251 .
(5) التهذيب في فقه الشافعي 4 : 527 .
(6) المقدّمات الممهّدات 2 : 413 .
(7) المدوّنة الكبرى 6 : 133 .
(8) الكافي في الفقه المالكي : 530 .
(9) الشرح الصغير مع بلغة السالك 4 : 44 ، عقد الجواهر الثمينة 3 : 61 .
المبحث الرابع :
الولاية على القبض في الوقف على الأطفال
وفيه مطلبان :
المطلب الأوّل : أن يتولّى الأب أو الجدّ أو الوصيّ القبض عن الصغير
لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط صحّة الوقف(1) بالقبض ، فلو وقف على أولاده الأصاغر جاز ، ويتولّى القبض عنهم .
قال الشيخ(رحمه الله) : «إن وقف ما يملك ولا يخرجه من يده ولم يُقَبّضه الموقوف عليه أو من يتولّى عنهم ، لم يصحّ الوقف وكان باقياً على ما كان عليه من الملك ، فإن مات والحال ما ذكرناه كان ميراثاً . وإذا وقف على ولده الكبار فلابدّ من تقبيضهم الوقف . . . وإن كان أولاده صغاراً ، جاز الوقف وإن لم يُقَبِّضُهم إيّاه ; لأنّه الذي يتولّى القبض عنهم»(2) .
وفي المختصر النافع : «لو ـ أي الوقف ـ كان على طفل قبضه الوليّ ، كالأب والجدّ للأب أو الوصيّ ، ولو وقف عليه الأب أو الجدّ صحّ ; لأنّه مقبوض بيده»(3) .
-
(1) الوقف يجمع على وقوف وأوقاف، وهو في اللغة الحبس . تقول : وقفت كذا إذا حبسته . لسان العرب 6 : 477 ، وعرّفه المحقّق بأنّه عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة . شرائع الإسلام 2 : 211 . وقال بعض آخر : إنّ الوقف شرعاً حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه . نهاية المحتاج 5 : 358 .
(2) النهاية للطوسي : 595 .
(3) المختصر النافع : 183 ، شرائع الإسلام 2 : 217 .
وبه قال جماعة من المتقدِّمين(1) والمتأخِّرين(2) وبعض فقهاء العصر(3) .
جاء في تحرير الوسيلة : « لو وقف الأب على أولاده الصغار ما كان تحت يده ـ وكذا كلّ وليّ إذا وقف على المولّى عليه ما كان تحت يده ـ لم يحتجّ إلى
قبض حادث جديد ، لكن الأحوط أن يقصد كون قبضه عنه ، بل لا يخلو من وجه »(4).
وكذا في تفصيل الشريعة(5) .
وجاء في المسالك : «لمّا كان المعتبر من القبض رفع يد الواقف ووضع يد الموقوف عليه ، وكانت يد الوليّ بمنزلة يد المولّى عليه ، كان وقف الأب والجدّ وغيره ـ ممّن له الولاية على غير الكامل لما في يده ـ على مولّى عليه متحقّقاً بالإيجاب والقبول ; لأنّ القبض حاصل قبل الوقف»(6) .
وفي الرياض : «بلا خلاف في الأب والجدّ»(7). وكذا في الجواهر(8). وادّعى الفاضل المقداد الإجماع عليه(9) .
-
(1) المهذّب لابن البرّاج 2 : 88 ، غنية النزوع : 298 ، إرشاد الأذهان 1 : 452 ، قواعد الأحكام 2 : 388 ـ 389 ، الدروس الشرعيّة 2 : 266 .
(2) جامع المقاصد 9 : 22 ، مفتاح الكرامة 9 : 26 ، الحدائق الناضرة 22 : 146 ، كفاية الأحكام : 140 ، جواهر الكلام 28 : 64 .
(3) وسيلة النجاة 2 : 128 ، منهاج الصالحين للسيّد الخوئي 2 : 233 .
(4) تحرير الوسيلة 2 : 62 ، كتاب الوقف ، مسألة 10 .
(5) تفصيل الشريعة ، كتاب الوقف : 22 .
(6) مسالك الأفهام 5 : 360 .
(7) رياض المسائل 6 : 88 .
(8) جواهر الكلام 28 : 64 .
(9) التنقيح الرائع 2 : 302 .
أدلّة هذا الحكم
ويمكن الاستدلال لهذا الحكم بوجوه :
الأوّل : الإجماع الذي أشرنا إليه .
الثاني ـ وهو العمدة ـ : النصوص .
1 ـ صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال في الرجل يتصدّق على وُلده وقد أدركوا : «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ; لأنّ والده هو الذي يلي أمره» الحديث(1) .
2 ـ صحيحة جميل قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يتصدّق على بعض ولده بصدقة وهم صغار، أله أن يرجع فيها؟ قال : «لا ، الصدقة لله تعالى»(2) .
3 ـ معتبرة عبيد بن زرارة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال في رجل تصدّق على وُلد له قد أدركوا ، قال : «إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ; لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره ». الحديث(3) .
ومثلها الصحيحة الثانية لجميل(4) وصحيحة صفوان(5) ورواية علي بن جعفر(6).
فإنّ هذه الأخبار ـ مع التعليل في بعضها ـ صريحة في المقام ، والمراد من التصدّق هو الوقف .
المطلب الثاني : اعتبار قصد القبض أو عدمه عن الصبيّ
هل يعتبر قصد كون القبض في الوقف عن المولّى عليه أم لا، بل يكفي نفس
-
(1 ، 2) وسائل الشيعة 13 : 297 و 298 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح1 و2 .
(3 ، 4 ، 5) نفس المصدر 13 : 298 و 299 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح4 و5 و7 .
(6) مسائل علي بن جعفر : 195 ح411، وسائل الشيعة 13 : 338 الباب 5 من كتاب الهبات، ح5 .
كونه مقبوضاً له وإن تجرّد عن القصد وتجديد النيّة ؟ وجهان ، بل قولان :
القول الأوّل : أنّه يشترط في القبض عن الصبيّ أن يقصد الوليّ كون القبض قبضاً عن الصبيّ ، احتمله الشهيد الثاني في المسالك(1). ولكن جزم به في موضع آخر منه، حيث قال : «لو وقف الأب أو الجدّ ما بيدهما على المولّى عليه اعتبر قبضهما عن الطفل ، ولا يكفي استصحاب يدهما ; لأنّ القبض السابق محسوب لنفسه لا لغيره»(2) .
وذهب إليه المحقّق الثاني، حيث قال : المتبادر من قوله : «كان قبضه قبضاً عنهم» أنّ مجرّد كونه مقبوضاً في يده كاف في حصول القبض عنهم وإن لم يقصد القبض عنهم . ويشكل بأنّ القبض إنّما يحسب لذي اليد ما لم يقصده لغيره ممّن له ولاية عليه ونحوه(3) .
وفي موضع آخر : «وكذا ـ أي لا يعتدّ بالقبض من دون القصد ـ لو وقف الوليّ ما بيده وذهل عن القبض للطفل ; لأنّ القبض محسوب للواقف ، فما لم يحصل قصد يقتضي صرفه إلى الطفل ، لم ينصرف إليه ، وكذا القول في الوكيل»(4) .
وهكذا استظهره من الرواية في مفتاح الكرامة، حيث قال : «قلت في صحيح صفوان ما يظهر منه اعتبار قصده القبض عنهم، حيث قال(عليه السلام) : وإن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى يبلغوا فيحوزها لهم(5) ; لأنّ الظاهر من سياق الخبر ظهور لا يكاد ينكر : أنّ المراد قصد ولايتها لهم إلى أن يبلغوا .
وفي خبر عليّ بن جعفر في كتابه : إذا كان أب تصدّق على ولد صغير فإنّها
-
(1 ، 2) مسالك الأفهام 5 : 373 و 360 .
(3) جامع المقاصد 9 : 23 .
(4) نفس المصدر 9 : 25 .
(5) وسائل الشيعة 13 : 298 الباب 4 من كتاب الوقوف والصدقات ، ح4 .
جائزة ; لأنّه يقبض لولده إذا كان صغيراً(1) ، وهو كصحيح صفوان ، ولعلّهم لو ظفروا به ما أطلق ولا اختلف اثنان»(2) .
وقال المحدّث الكاشاني : «فلو وقف على أولاده الأصاغر ، سقط اعتبار القبض ; لحصوله قبل الوقف فيستصحب ، لكن الأولى أن يقصد بعد ذلك القبض عنهم للوقف»(3) .
وفي الجواهر : «اللّهمَّ إلاّ أن يُراد من نحو العبارة ـ اى عبارة الشرائع ـ صيرورة قبضه قبضاً عنهم شرعاً، ولكن فيه حينئذ أنّه خلاف ظاهر الأدلّة خصوصاً صحيح صفوان الظاهر في اعتبار الحيازة لهم المتوقّف على النيّة ، بل لعلّ ذلك هو المراد من التعليل، لا إرادة عدم الاحتياج إلى قصد ، كما هو واضح لمن أوهبه الله تعالى الانتقاد»(4) .
وقال به أيضاً في جامع المدارك(5) وتحرير الوسيلة(6) .
القول الثاني ـ وهو الحقّ ـ : أنّه لا يعتبر قصد كون القبض عن الصبيّ ، كما استظهره الشهيد الثاني في موضع من المسالك(7) .
وقال المحقّق القمّي في جامع شتاته : « لو وقف لولده الصغير يكفي قبض الوليّ له ، وظاهر الأحاديث المعتبرة وإطلاق كلمات أكثر العلماء عدم الافتقار إلى قصد جديد»(8) .
-
(1) نفس المصدر 13 : 338 الباب 5 من كتاب الهبات ، ح5 .
(2) مفتاح الكرامة 9 : 26 .
(3) مفاتيح الشرائع 3 : 215 .
(4) جواهر الكلام 28 : 65 .
(5) جامع المدارك 4 : 6 .
(6) تحرير الوسيلة 2 : 62 مسألة 9 .
(7) مسالك الأفهام 5 : 360 .
(8) جامع الشتات 4: 2 .
وفي الرياض : «وإطلاقهما(1) ـ كالعبارة وكثير من عبائر الجماعة ـ يقتضي الاكتفاء بقبضهما وإن تجرّد عن نيّة القبض عنهما»(2) .
وفي كفاية الأحكام : «الأقرب أنّه لا يفتقر إلى نيّة القبض عن المولّى عليه»(3) .
وفي منهاج الصالحين : كون العين الموقوفة في يد الوالد يكفي في تحقّق القبض(4) .
وفي تفصيل الشريعة : « يكفي في الجواز والمضي مجرّد كون الواقف هو الأب والموقوف عليه ولده الصغير أو أولاده كذلك ـ إلى أن قال: ـ فالقبض والإقباض حقيقة لا يعقل هنا; لاتّحاد الشّخص »(5) .
أدلّة عدم اعتبار قصد القبض عن الصبيّ
ويدلّ على هذا الحكم إطلاق الأخبار الواردة المتقدّمة في هذا المقام .
واستدلّ المحدّث البحراني بعدم الدليل عليه، حيث قال : «لا يجب تجديد النيّة
والقصد في كونه قبضاً عن المولّى عليه ; لعدم الدليل عليه ، وإطلاق النصوص يقتضي العدم»(6) .
وكذا في المسالك(7) .
وأمّا ما ذكره القائلون باعتبار القصد والنيّة من الاستدلال بصحيحة صفوان
-
(1) أي إطلاق صحيح صفوان وعبيد بن زرارة .
(2) رياض المسائل 6 : 89 .
(3) كفاية الأحكام : 140 .
(4) منهاج الصالحين للسيّد الخوئي 2 : 233 .
(5) تفصيل الشريعة ، كتاب الوقف : 22 .
(6) الحدائق الناضرة 22 : 146 .
(7) مسالك الأفهام 5 : 360 .
ومعتبرة عليّ بن جعفر ، فيمكن أن يقال : إنّهما تشعران بذلك ; لأنّه يحتمل أن يكون المراد قصد ولايتهم وقصد القبض عنهم ، فلابدّ حينئذ من تجديد النيّة .
لكن لابدّ من البحث في حقيقة القبض; وأنّه بماذا يتحقّق القبض الذي يترتّب عليه أحكام في البيع والوصيّة والرهن والهبة والوقف وغيرها ، وحيث لم يرد فيه
نصٌّ كلّيٌ حتّى نستفيد منه الحكم الشرعي، فلا مناص من الرجوع إلى العرف ; لأنّ من عادة الشرع ردّ الناس إلى ما هو متعارف ومتداول من الاصطلاحات فيما لم ينصّ على مقصوده باللفظ .
فقد جاء في مجمع البحرين : «قوله ـ تعالى ـ : (وَ اْلأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(1) أي في ملكه ، مثل قولهم : قد صار الشيء في قبضتك ، أي في ملكك»(2) .
وفي لسان العرب : «القبض: تحويلك المتاع إلى حيّزك ، القبض : التناول للشيء بيدك ملامسة ، في قبضي وقبضتي أي في ملكي .
وقوله ـ عزّوجلّ ـ : (وَاْلأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال ثعلب : هذا كما تقول : هذه الدار في قبضتي ويدي ، أي في ملكي»(3) .
ولأجل هذا قال الشيخ في المبسوط في كيفيّة القبض : «ينظر في المبيع، فإن كان ممّا لا ينقل ولا يحوّل ، فالقبض فيه التخلية مثل العقار . . .»(4) .
وفي الدروس : «القبض في غير المنقول التخلية بعد رفع اليد»(5) . والذي ذكر
-
(1) سورة الزمر 39 : 67 .
(2) مجمع البحرين 3 : 1432 مادّة قبض .
(3) لسان العرب 5 : 190 مادّة قبض .
(4) المبسوط للطوسي 2 : 120 .
(5) الدروس الشرعيّة 3 : 213 .
هو مقتضى العرف واللغة . وبه قال بنو حمزة(1) والبرّاج(2) وزهرة(3) . وادّعى السيّد أبو المكارم الإجماع على ذلك(4) .
وقال العلاّمة : «إن لم يكن منقولاً، فالقبض فيه: التخلية لنا : أنّ العرف يقضي بما قلناه»(5) .
وفي الرياض : «اتّفق الأصحاب على أنّ القبض هو التخلية بينه وبينه بعد رفع اليد عنه فيما لا ينقل خاصّة كالعقار ونحوه»(6) .
فالقبض فيما لا ينقل ولا يحوّل هو التخلية ، ومعنى التخلية كون الشيء تحت يده وفي سلطانه واستيلائه على نحو المالك الذي لا إشكال في كون ماله مقبوضاً له; بمعنى كونه في قبضه وإن كان له شريك فيه ، فمتى خلّي بينه وبينه ورفع المالك اليد عنه فقد تحقّق القبض(7) .
ولا شكّ أنّ الضيعة الواردة في صحيح صفوان ممّا لا ينقل ولا يحوّل ،
ومعنى القبض فيها : التخلية كما حققناه ، فحيازة الوليّ للأولاد أن تكون التخلية بين الضيعة وبين الوليّ ورفع الواقف يده عنها ، وتكون الضيعة في يد
الوليّ وتحت سلطانه واستيلائه ، وقصد هذا المعنى للوليّ أمر قهريٌّ لا ينفكّ
عنه الوليّ الواقف; لأنّه بحسب الطبيعة والجبلّة من كان له ملك وأزال ذلك
-
(1) الوسيلة : 252 .
(2) المهذّب 1 : 385 .
(3) غنية النزوع : 229 .
(4) نفس المصدر .
(5) مختلف الشيعة 5 : 301 .
(6) رياض المسائل 5 : 150 .
(7) ومقتضى هذا البيان أنّ القبض ليس من الاُمور القصديّة، مع وضوح كونه منها، وعلى هذا فاللازم أو لا أقلّ الاحتياط يقتضي لزوم قصد القبض وتجديد النيّة. م ج ف.
الملك عن نفسه بنقله إلى الموقوف عليه ممّن له الولاية عليه; فإنّه لابدّ من تغيير قصده ، ونيّته في وضع اليد عليه من أنّه بالملك في الأوّل وبالولاية في الثاني ، فاختلاف القصد بين الحالة الاُولى والثانية أمر جبلّي طبيعي، كما أشار إليه في الحدائق(1) .
ويؤيّده أنّ المفيد(2) والشيخ(3) والقاضي ابن برّاج(4) والمحقّق(5) والعلاّمة(6)عبّروا بأنّ قبض الوالد قبض الولد .
وبه قال السيّد الفقيه السبزواري(رحمه الله)، حيث قال : «إنّ تحقّق الاستيلاء الكافي في القبض تكوينيّ ، وتجدّد العنوان بعد تجدّد جهة القبض والاستيلاء قهريٌّ ، لا أن يكون قصديّاً اختياريّاً»(7) .
فلا يجب تجديد النيّة والقصد في كون القبض قبضاً عن الصبيّ ، ولكنّ الأحوط أن يقصد كون قبضه عن الصبيّ ; لأنّه حسن في كلّ حال .
كما احتاط في هذه المسألة السادة الفقهاء : اليزدي(8) والاصفهاني(9) والإمام الخميني(10) والفاضل المامقاني(11) .
-
(1) الحدائق الناضرة 22 : 146 .
(2) المقنعة : 658 .
(3) النهاية: 602.
(4) المهذّب 2 : 95 .
(5) شرائع الإسلام 2 : 230 .
(6) قواعد الأحكام 2 : 389 .
(7) مهذّب الأحكام 22 : 20 .
(8) تتمّة العروة 2 : 181 .
(9) وسيلة النجاة 2: 128.
(10) تحرير الوسيلة 2 : 62 مسألة 10 .
(11) مناهج المتّقين : 324 .
فرع
قال في الحدائق : «الظاهر أنّه لا فرق في الاكتفاء بقبض الوليّ بين كون الوليّ أباً أو جدّاً أو وصيّهما أو حاكماً شرعيّاً وإن كان مورد الأخبار المتقدّمة الأب ; فإنّها إنّما خرجت مخرج التمثيل لا الاختصاص ، إذ العلّة مشتركة بين الجميع ، وتردّد بعض الأصحاب(1) في إلحاق الوصيّ بالمذكورين ، نظراً إلى ضعف يده وولايته بالنسبة إلى غيره .
قال في المسالك في ردّ هذا المقال : ولا وجه للتردّد ; فإنّ أصل الولاية كاف في ذلك ، والمعتبر هو تحقّق كونه تحت يدي الواقف، مضافاً إلى ولايته على الموقوف عليه ، فتكون يده كيده ، ولا يظهر لضعف اليد وقوّتها أثر في ذلك(2) ، انتهى وهو جيّدٌ»(3) .
وجاء في مفتاح الكرامة : «وقد عرفت . . . بكفاية قبض الوليّ . . . وقد دلّت على ذلك الأخبار في الأب ، ولا فارق ولا وجه لتردّد بعضهم في الوصيّ»(4) .
ولقد أجادوا فيما أفادوا(رحمهم الله) .
الولاية على القبول والقبض في الوقف عند أهل السنّة
أ ـ الولاية على القبول
اختلف الشافعيّة في ماهيّة الوقف إذا كان على آدمي معيّن ، فمنهم من قال : إنّه عقد لا يتمّ إلاّ بالقبول كالوصيّة والهبة ، ومنهم من قال : إنّه إيقاع لايحتاج لتمامه
-
(1) هو المحقّق في شرائع الإسلام 2 : 217 .
(2) مسالك الأفهام 5 : 360 .
(3) الحدائق الناضرة 22 : 147 .
(4) مفتاح الكرامة 9 : 10 .
أن وقع القبول من الطرف الآخر . وقال بعض الحنابلة: إنّ فيه وجهان.
قال ابن قدامة : «وإن كان على آدميّ معيّن ففي اشتراط القبول وجهان :
أحدهما : اشتراطه ، لأنّه تبرّع لآدمي معيّن ، فكان من شرطه القبول كالهبة والوصيّة ، يحقّقه أنّ الوصيّة إذا كانت لآدمي معيّن وقفت على قبوله ، وإذا كانت لغير معيّن أو لمسجد أو نحوه لم تفتقر إلى قبول ، كذا هنا .
والوجه الثاني : لا يشترط القبول . . . لأنّه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث ، فلم يعتبر فيه القبول ، كالعتق . . .»(1) .
ومثل ذلك في التهذيب(2) ونهاية المحتاج(3) والعزيز(4).
فعلى القول باشتراط القبول في الوقف، لابدّ في الوقف على الصبيّ أن يقبل وليّه عنه ; لأنّ الصبيّ ليس من أهل التصرّف .
ففي مغني المحتاج : «والأصحّ أنّ الوقف على معيّن يشترط فيه قبوله
متّصلاً بالإيجاب إن كان من أهل القبول، وإلاّ فقبول وليّه كالهبة
والوصيّة»(5) .
وكذا في نهاية المحتاج(6) .
والمشهور بين المالكيّة أنّ الوقف على معيّن إيقاع ، وليس القبول إلاّ شرط
-
(1) المغني 6 : 188 ـ 189 ، الكافي في فقه أحمد 2 : 254 ، الشرح الكبير 6 : 200 ، مطالب اُولي النّهى 6 : 31 ، كشّاف القناع 4 : 306 .
(2) التهذيب في فقه الشافعيّ 4 : 517 .
(3) نهاية المحتاج 5 : 372 .
(4) العزيز شرح الوجيز 6 : 265 .
(5) مغني المحتاج 2 : 383 .
(6) نهاية المحتاج 5 : 372 .
للاستحقاق فقط .
قال الخرشي : «وأمّا لو كان الوقف على معيّن كزيد مثلاً ، وهو أهل للردّ
والقبول ; فإنّه يشترط في صحّة الوقف عليه قبوله . فإن لم يكن أهلاً لذلك كالمجنون والصغير، فإنّ وليّه يقبل له ، فإن لم يكن له وليٌّ أُقيم له من يقبل عنه ، كما في الهبة ، فإن ردّ الموقوف عليه المعيّن ما وقفه الغير عليه في حياة الواقف أو بعد موته; فإنّ الوقف يرجع حبساً للفقراء والمساكين»(1) .
وكذا في تبيين المسالك(2) وجواهر الإكليل(3) .
وبه قال أيضاً في الشرح الصغير(4) وعقد الجواهر(5) والتاج والإكليل(6) .
وهكذا الوقف على المعيّن عند الحنفيّة إيقاع ، فليس القبول شرطاً في صحّته بل هو شرط للاستحقاق .
قال ابن نجيم : «ولو وقفه على ولد عبدالله ونسله فلم يقبلوا كانت الغلّة للفقراء ، ولو حدثت الغلّة بعد ذلك فقبلوا كانت الغلّة لهم»(7) .
وبه قال في الإسعاف(8) والمبسوط(9) والبناية(10) وغيرها(11) .
-
(1) حاشية الخرشي 7 : 385 .
(2) تبيين المسالك 4 : 255 .
(3) جواهر الإكليل 2 : 208 .
(4) الشرح الصغير مع بلغة السالك 4 : 15 ، الشرح الكبير مع الدسوقي 4 : 88 .
(5) عقد الجواهر الثمينة 3 : 32 .
(6) التاج والإكليل مع مواهب الجليل 7 : 648 .
(7) البحر الرائق 5 : 333 .
(8) الإسعاف في أحكام الأوقاف: 17.
(9) المبسوط للسرخسي 12 : 38 وما بعده .
(10) البناية في شرح الهداية 7 : 112 .
(11) بدائع الصنائع 5 : 326 وما بعده .