الطريق المسلوك في حكم اللباس المشكوك
تقرير بحث المرجع الفقيد
آية الله العظمى البروجردي (قدس سره)
تأليف: آية الله أحمد الصابري الهمداني
نشر
مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
وليعلم القرّاء الكرام، و الفضلاء العظام، إنّي لم أك بصدد طبع ما كتبت من أبحاث الاُستاذ(رحمه الله) و نشره، إذ ليس كلّما يكتب يطبع، و لا كلّما يقرّر ينشر، فإنّ من المطبوعات ما لايزيد إلاّ ضرراً و ضراراً، و منها ما لايوجب إلاّ تعباً و خساراً، أو ضلالا و تباراً، لكنّي لمّا ألّفت الرسالة، عرضتها على الاُستاذ(قدس سره) فنظر فيها ساعة، و استحسنها و أعجب بها، ثمّ قال بمحضر عدّة من العلماء العظام: لم يعرض عليّ إلى الآن من أبحاثي مثلها.
ثمّ دعى لي بالعافية و حسن العاقبة، و هو عندي خير الصلة، أرجو الله الاستجابة، فصار كلّ ذلك سبباً لإقدامي على الطبع و النشر، لما علمت أنّ فيه رضى الاُستاذ، و أداء لبعض حقوقه.
و مع كلّه فإنّي مقرّ بقصور البيان، و غلبة السهو و النسيان، على كافّة الإنسان إلاّ من عصمه الله الملك المنّان.
فلو وجد فيها غلط أو قصور خلط و فتور، فنسبته إلى المستفيد و المستفيض، أولى من المفيد و المفيض، إذ الاُستاذ عليه الرحمة و الرضوان، كان ذا أفكار عالية، و تحقيقات غالية، و تدقيقات فائقة، لم يسبقه إليها إلاّ الأوحدي من الفقهاء، ممّن صفى ذهنه و زكى قلبه، و هو الّذي أحيى طريقة القدماء في الفقه و الاستنباط و أضاء منهج الإجتهاد، و سلك طريقاً في بحثه و اتّخذ رويّة في دراساته، لم يكن معهوداً في عصره، و جدّد ما درس و دثر، بالتفكير و دقّة النظر، و من المأسوف عليه أنّ الدهر ذو عبر و غير.
لم يبق لنا هذه الشخصية الإسلامية، و اُخذت منّا هذه الدرّة الثمينة، توفّي رحمه الله في ثالث عشر من شهر الشوال، سنة 1380 من الهجرة النبويّة، و دفنت معه فضائل جمّة، و فواضل مهمّة، و هاجت بنا الأحزان بعده، و المحنة والشدّة
و هذه صورة ما كتبته للاُستاذ عند عرض الرسالة عليه:
«سيّدنا الأعظم، و المولى المعظّم، بعد الثناء الأكمل و الأتمّ، فإنّي كتبت كثيراً من أبحاثكم، و أفردت منها رسالة في حكم اللباس المشكوك، و ما تراه بعضها، فلو تفضّلت بالنظر إلى صفحات منها، لنشكرك بجميل الثناء، و ندعو لك بطول العمر و البقاء».
أحمد الصابري الهمداني
ألحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و اللعن على أعدائهم أجمعين.
أمّا بعد، فيقول العبد الراجي رحمة ربّه الباري، أحمد الصابري الهمداني: لمّا انتهى بحث سيّدنا الاُستاذ، و منّ عليه اليوم الاعتماد و إليه في الاُمور الشرعيّة الاستناد، آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي «مدّ ظلّه العالى» إلى حكم اللباس المشكوك، و كان الإبتلاء به في عصرنا عاماً، و التوجّه منه دام ظلّه، إلى بيان الحكم تاماً أحببت أن أفرد فيه رسالة، لعلّ الله ينفعني بها، و ساير إخواني من الفضلاء، مقتصراً على ما استفدته منه متجنّباً عن الإطناب المملّ، و الإيجاز المخلّ.
تنقيح موضوع البحث
قال الاُستاذ مدّظلّه: لابدّ قبل الخوض في المسألة من تقديم اُمور:
الأمر الأوّل: أنّها لم تكن معنونة في كتب أصحابنا أصلا، إلى زمان المحقّق و العلاّمة(رحمهما الله)، و أمّا بعدهما فقد اشتهرت الفتوى على عدم جواز الصلاة فيما يشكّ أنّه من أجزاء ما لايؤكل لحمه، نعم ناقش سيّد المدارك في أدلّة المانعين، لكنّ المناقشة صارت متروكة مهجورة، إلى أن انتهى الأمر إلى السيّد المجدّد الشيرازى، فاستدلّ على الجواز بوجوه، و شيّد أركانه: و أفتى به، و ما أنكر عليه إلاّ تلميذه المحقّق الميرزا محمّد التقي الشيرازي(1).
- 1 . الأقوال في المسألة أربعة:
أحدها: عدم الجواز مطلقاً، كما هو المحكيّ عن المشهور، بل في المدارك أنّه المقطوع به بين الأصحاب.
و الثاني: الجواز كذلك، كما عن جمع من محقّقي المتأخّرين، كالمحقّق الأردبيلي و النراقي و المجلسي و لكنّه كان يعدّ من الشواذ، إلى زمان الميرزا محمّد حسن الشيرّازي، فبنى عليه وأفتى به، فخرج عن الشذوذ بل انعكس الأمر و انقلب.
و الثالث: التفصيل بين نغس اللباس و ما عليه من الشعرات كما عن صاحب الجواهر، فحكم بالمنع في الأوّل، و الجواز في الثاني.
الرابع: التفصيل بين ما أحرز و علم أنّه من أجزاء الحيوان و شكّ في كونه من أجزاء ما يؤكل لحمه و ما لايؤكل، فيحكم بالمنع، و بين ما لم يعلم ذلك، بأن شكّ في كونه من قطن أو من أجزاء ما لايؤكل لحمه، فيحكم بالجواز، و لكنّ الاُستاذ(قدس سره) كما في المتن، لم يفرّق بين صور المسألة.
و امّا بناء المنع و الجواز في المسألة على استفادة شرطية مأكول اللحم، أو مانعية غير المأكول، فليس تفصيلا في المسألة، بل نقل القول: بعدم الجواز حتّى على القول بالمانعية، المقرّر.
و تبع السيّد من بعده، و أفردوا فيه رسالات، فانقلبت الشهرة إلى الجواز، بعد ما كانت قائمة على العدم.
الأمر الثاني: أنّه قد بان ممّا ذكر، أنّ الشهرة الثابتة في المسألة منعاً و جوازاً، ليست متّصلة بزمان المعصوم(عليه السلام) حتّى يكشف بها قوله(عليه السلام)أو وجود نصّ معتبر، فلا تكون حجّة لأحد القولين بناء على حجّية الشهرة.
الأمر الثالث: أنّ البحث في المسألة، إنّما هو على حسب مقتضى القواعد الفقهيّة، و الاُصول الشرعيّة، لا من جهة التعبّد و النصّ الخاص، فإنّ أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم، لم يذكروا هذه المسألة في كتبهم المعدّة لذكر فتاوى المتلقّاة من أئمّة الشرع(عليهم السلام) و إنّما ذكروها فيما أعدّت لذكر الفروع النظرية الاجتهادية، و لم يستندوا في بحثهم أيضاً على نصّ أو خبر.
الأمر الرابع: لا فرق في حكم المسألة بين ما اُحرز أنّه من أجزاء الحيوان، و شكّ في أنّه ممّا يؤكل لحمه، و بين ما لم يحرز ذلك، ضرورة أنّ البحث غير مختصّ بما يكون كلا طرفي الشكّ الحيوان و يشكّ في أنّه ممّا يؤكل لحمه أو لايؤكل، بل يجري حتّى فيما لايكون كذلك، كما
لو شكّ في لباس أنّه من قطن، أو من أجزاء حيوان يحرم أكله، و فيما لايكون أحد الطرفين حيواناً أصلا كما لو شكّ في لباس أنّه من حرير أو ذهب أو من غيرهما، بالنسبة إلى الرجال، فمن التزم بجواز الصلاة ثمّة، لابدّ من الإلتزام به هنا أيضاً، لاتّحاد المناط و الملاك و عدم الفرق بين الصور، و إذا عرفت تلك الاُمور فنقول:
كلام العلاّمة(قدس سره)
قال العلاّمة(قدس سره) على ما نقل عنه في المنتهى : إنّه لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر، من مأكول اللحم، أو من غيره، لم تجز الصلاة فيه، لأنّها مشروطة بستر العورة بما يؤكل، و الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط، إنتهى كلامه(1).
وتقريب الاستدلال: إنّ الاشتغال اليقيني بصلوة صحيحة مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه يقتضي الفراغ عنه يقيناً، و مع الشكّ في كون الساتر ممّا يؤكل لحمه، لايعلم الفراغ كذلك، كما لو شكّ في أنّ صلاته وقعت مع الطهارة أو بدونها، و العقل حاكم حينئذ بوجوب تحصيل الفراغ عن الذمّة يقيناً، و لايقطع به مع الشكّ في تحقّق شرط أو جزء يعتبر في المأمور به، هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به استدلال العلاّمة ولكنّ كلامه(قدس سره) لايخلو عن الخلل من وجوه:
- 1 . منتهى المطلب 4:236.
الأوّل: أنّه جعل البحث و المسألة من فروع وجوب الستر في الصلاة، و هو لايختصّ بالساتر، بل يعمّ جميع ما يلبسه المصلّي في الصلاة، فإنّ مقتضى اعتبار عدم كون لباس المصلّي من أجزاء ما لايؤكل لحمه، عدم الفرق بين الساتر و غيره إذ ربما يمكن الالتزام بحصول الستر بأجزاء البدن و الطين و غيرهما، و مع ذلك يشترط أن لايكون لباس المصلّي ممّا لايؤكل لحمه و تعرّض الفقهاء لشرائط اللباس في مسألة الساتر، ليس من جهة اختصاص ذلك به، بل إنّما هو لمناسبة المقام، و لذا لو كان للمصلّي لباس يستر ما فوق الحقو، أو ما يسمّى بالفارسية به «نيم تنه»، يعتبر أن لايكون ممّا لايؤكل لحمه بلاخلاف فيه، فالبحث في المقام يعمّ الساتر و غيره كما أنّ اشتراط طهارة اللباس و غيرها من الشرائط أيضاً كذلك و لا اختصاص لها بالستر و الساتر(1).
الثاني: أنّ وقوع الصلاة فيما يؤكل لحمه ليس من الشرائط المعتبرة في تحقّق عنوان الصلاة، كي يستلزم الشكّ في وجود الشرط
- 1 . لايبعد أن يقال إنّ جعل المسألة من فروع الساتر، من جهة أنّ ما يجب على المصلّي أن يتّخذه لباساً في حال الصلاة هو الساتر فقط، و هو الّذي يشترط فيه أن يكون من غير ما لايؤكل و أمّا غير الساتر فلايجب لبسه حتّى يشترط فيه ما يشترط في الساتر فيجب عليه تحصيله مع شرطه، فلايجب لبسه حتّى يراعي، و إن كان يشترط فيه أيضاً ما يشترط فى الساتر إذا لبسه، و لكنّ المستفاد من النصوص أنّ وقوع الصلاة فيما لايؤكل، يخلّ بها و يفسدها بنفسه و لا ربط له بالستر و الساتر، المقرّر.
الشكّ في المشروط، كما صرّح به في كلامه، و إنّما المعتبر عدم وقوع الصلاة في أجزاء غير المأكول، و لذا تصحّ الصلاة في القطن و غيره بلا إشكال فيه كما يظهر من كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ(عليه السلام): يا عليّ لاتصلّ في جلد ما لايشرب لبنه، و لايؤكل لحمه(1).
إذ الظاهر بل الصريح من كلامه(صلى الله عليه وآله )، إنّ وقوع الصلاة في غير المأكول موجب لبطلانها و مقتضى لفسادها لا أنّ وقوعها فيما يؤكل لحمه، شرط في تحققّ عنوان المأمور به وبين الأمرين فرق بيّن، و بون مبيّن.
نعم، قد يستفاد من موثّقة ابن بكير ذلك، و لكنّه ممّا قد علم خلافه بالضرورة من الفقه، بل هو ممّا يوهن الموثّقة و يخلّ بالاستدلال بها على ذلك، مضافاً إلى وهن آخر في الموثّقة، و هو قوله: لايقبل الله تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا يؤكل لحمه، إذ الظاهر منه أنّ المصلّي لو صلّى صلاة فيما لايؤكل، لايقبلها الله إلاّ إذا صلّى صلاة فيما يؤكل، فيكون سبباً لصحّة الصلاة الواقعة في غير المأكول و هذا ممّا لم يقله أحد، و لايلتزم به الفقيه، و لابدّ من التوجيه، بأنّ طبيعة الصلاة لاتقبل، إلاّ أن تقع هذه الطبيعة فيما يؤكل، و بالجملة وقوع الصلاة في أجزاء مأكول اللحم ليس شرطاً لها، بل وقوعها في أجزاء غير مأكول اللحم مانع عن تحقّق عنوان الصلاة.
- 1 . الوسائل، ج 3، الباب 7 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.
روى محمّد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير، قال: سئل زرارة أباعبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله، إنّ الصّلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه، فاسد، لاتقبل تلك الصلاة، حتّى يصلّي في غيره، ممّا أحلّ الله أكله، ثمّ قال يا زرارة، هذا عن رسول الله فاحفظ ذلك، يا زرارة فإن كان ممّا يؤكل لحمه، فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكّي ذكّاه الذبح، و إن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله و حرم عليك أكله، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه(1).
الثالث: أنّ العلاّمة(قدس سره) جعل الوجه في بطلان الصلاة في اللباس المشكوك فقدان الشرط، والحال أنّه ليس كذلك، فإنّ الموجب لفساد الصلاة و بطلانها في المقام إنّما هو تحقّق أمر وجودي مانع عن انطباق عنوان الصلاة على الأجزاء المأتي بها، لا فقدان شيء كان مؤثّراً في تحقّق الوجود و دخيلا فيه، و تفصيل ذلك، أنّ الشرط ما له دخل في تحقّق ماهيّة المشروط و مقوّم للعلّة و متمّم لها، و ما نحن فيه ليس كذلك، إذ المعتبر في المقام من الشرع عدم كون لباس المصلّي من
- 1 . الوسائل، ج 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.
أجزاء غير المأكول، كما يعتبر أن لايكون من الذهب و الحرير الخالص بالنسبة إلى الرجال، و من البيّن أنّ عدم كونه من أجزاء غير المأكول، و كذا عدم كونه من الحرير و الذهب، لا تأثير له في ماهيّة الصلاة بوجه، و لا دخل له في قوام العلّة و تتميمها، إذ الأعدام لاتؤثّر و لاتتأثّر، نعم وجود تلك الأعدام مانع عن انطباق عنوان الصلاة على الأجزاء المأتي بها، لما يحصل من الخساسة و النقيصة و الدنائة فيها بسببه، و العقل إنّما يعتبر عدمها في حصول العنوان المأمور به تخيّلا، لا بما أنّ تلك الأعدام مؤثّرات في حصوله، كتأثير شرطيّة الاستقبال، و الطهارة من الحدث و الخبث فيه.
و الحاصل، أنّ العدم من حيث هو ليس معتبراً و مؤثّراً في ماهيّة الصلاة و ذاتها، بل وجود أجزاء غير المأكول في لباس المصلّي، مانع عن تحقّق عنوان الصلاة.
لايقال: بناء على ما ذكر، من أنّ أجزاء غير الماكول في لباس المصلّي مانع عن حصول عنوان الصلاة، لا أنّ كونه من مأكول اللحم شرطاً في تحقّقه، يصحّ التمسّك بالأصل في كلّ مورد يشكّ في وجود المانع، و يحكم بصحّة الصلاة من دون حاجة إلى دليل آخر وارد من الشرع، و تجشّم الاستدلال.
فإنّه يقال: ليس الأمر بهذه السهولة و اليسارة حتّى يكون كلّ مورد يشكّ في وجود المانع فيه، صالحاً لأن يتمسّك بالأصل، و يحكم
بعدم وجود المانع و يستراح من تجشّم الاستدلال بل لابدّ من النظر في خصوصيات المورد، و الجهات المتصوّرة فيه كما سيأتي.
يمكن تقريب إستدلال العلاّمة(رحمه الله) بنحو يسلم عن الإشكال و الإيراد المتقدّم، بأن يقال: إنّ المكلّف مأمور شرعاً بالصلاة المشتملة على الأجزاء و الشرائط المتوقّفة في انطباق عنوان الصلاة عليها، على عدم وقوعها في أجزاء ما لايؤكل لحمه، فكما يجب إحراز وجود الأجزاءفي مقام الامتثال،فكذلك يجب إحراز عدم وقوعها فيما لايؤكل لحمه يقيناً، و لايكتفي بالمشكوك، لأنّ الاشتغال اليقيني بالصلاة يقتضي العلم بالفراغ عنها كذلك، فلو شكّ في إتيان جزء من تلك الأجزاء المعتبرة في الصلاة أو علم بوجودها و لكنّه شكّ في اقترانها بما يمنع عن انطباق عنوان الصلاة عليها، لايصحّ الاكتفاءبها في رفع اليد عن الاشتغال اليقيني، و الحكم بفراغ الذمّة ،بل يجب العلم به المتحصّل من القطع بوجود الأجزاءوخلوّهامن الموانع،وكلّ ما يوجب الخساسة و المنقصة فيها; هذا هو الطريق الّذي سلكه المتأخّرون عن العلاّمة، حيث قالوا: إنّ الاشتغال بالصلاة الصحيحة يقتضي البرائة منها، و هو لايحصل إلاّ إذا علم بإتيان جميع الأجزاء و الشرائط المعتبرة و بعدم اقتران تلك الأجزاء و الشرائط بما يمنع عن انطباق عنوان الصلاة عليها، و ما يوجب الخساسة و المنقصة كما قدّمناه.
فاستدلال العلاّمة(رحمه الله) متين في بادي النظر بعد إصلاحه بما تقدّم، من عدم اختصاص البحث بالساتر، و عدم كون المأكول شرطاً، و
وجهه عند الشكّ، و قد عرفت أنّه مقتضى الاشتغال بالشيء، أما ترى أنّه لو شكّ في إتيان صلاة الظهر قبل غروب الشمس يجب الإتيان بها، و كذا لو شكّ في الركوع قبل التجاوز عن محلّه، أو شكّ في الطهارة قبل الصلاة، يجب الإحراز و لايكتفي بالمشكوك وجوده هذا غاية تقريب إستدلال المانعين لعدم جواز الصلاة فيما يشكّ أنّه من أجزاء المأكول أو غيره، بأنّ ذلك مقتضى الأصل الأوّلي.
إستدلال بعض تلامذة الشيرازي(قدس سره)
ثمّ إنّ بعض تلامذة الميرزا الشيرازي(رحمه الله) إختار جواز الصلاة في اللباس المشكوك، و ذهب إلى أنّه مقتضى البرائة الأصلية، و مهّد له مقدّمات.
المقدّمة الاُولى: أنّ المكلّف إذا شكّ في التكليف، يجري البرائة في حقّه سواء كان وجوبيّاً أو تحريميّاً، و الشبهة كانت حكميّة أو موضوعيّة، و سواء كان منشأ الشكّ في الشبهة الحكمية عدم النصّ، أو إجماله، أو تعارضه.
و مبنى هذه المقدّمة البناء على جريان البرائة في جميع صور الشكّ سواء كانت الشبهة وجوبيّة حكميّة، كما إذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو موضوعيّة، و كما إذا دلّ دليل على وجوب الزكاة على من ملك مقدار النصاب، و شكّ في أنّه مالك لهذا المقدار أم لا، أو دلّ دليل على وجوب الحجّ على المستطيع و شكّ في
أنّه مستطيع أم لا؟ لأنّ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم)(صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيّته لعليّ(عليه السلام): «لاتصلّ في جلد ما لايشرب لبنه و لايؤكل لحمه»(1) ظاهر في المنع عن الصّلاة فيما علم أنّه من أفراد ما لايؤكل لحمه، دون ما يشكّ كونه منها كما أنّ قول الصادق(عليه السلام): لاتصلّ في الثعلب ولا في الأرانب(2) ظاهر في مانعيّة الفرد الّذي علم أنّه من أجزاء ما ذكر، فعلى هذا، ما علم المكلّف أنّه من أجزاء غير المأكول لاتصحّ الصلاة فيه، و ما لم يعلمه أنّه منهاإنّما يكون الشكّ في مانعيّته، و حيث أنّ الشبهة بدويّة حكميّة لعدم شمول أدلّة المنع للفرد المشكوك بالفرض، يجرى البرائة عقلا و نقلا.
نعم، منع شيخنا الاُستاذ(رحمه الله) في الكفاية، جريان البرائة عقلا عند الشكّ في الشرطيّة و المانعيّة، لكنّه التزم بالبرائة النقلية، و قد حقّقنا في الاُصول في موضعه، أنّ الصواب جريانها عقلا و نقلا كما يأتي في الاُصول، إن شاءالله.
و بالجملة: مراد هذا المستدلّ أنّ الشكّ في مانعيّة شيء كالشكّ في حرمته تكليفاً فكما تجري البرائة في الثاني، كذلك تجري في الأوّل.
يظهر هذا المشي في الاستدلال عن صاحب المدارك(رحمه الله) و لكنّ المحقّق القمي(قدس سره) صرّح به حيث قال: إنّ الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول لاتشمل الفرد المشكوك، بل تدلّ على مانعيّة ما
- 1 . الوسائل، ج 3، الباب 7 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.
2 . نفس المصدر، الحديث 12.
علم أنّه منها، و أمّا ما سواه فيما يشكّ في أنّه من أجزاء غير المأكول أم لا، فمرجع الشكّ فيه، إلى أنّ الشارع هل جعله مانعاً أم لا، فيكون المرجع هو البرائة و يحكم بصحّة الصلاة فيه، و لايخفى أنّ الشبهة في المقام ليست في مصداق المانع حتّى يقال: إنّ الصلاة الّتي تقع في اللباس المشكوك كونه من أجزاء غير المأكول لم يعلم أنّها مصداق للمأمور به أم لا، بل الصلاة وقعت في شيء يشكّ في أنّ الشارع جعله مانعاً عن تحقّق عنوان الصلاة و مفسداً لها أم لا، و هذه شبهة حكميّة بدويّة، يكون المرجع فيها البرائة كما لايخفى، هذا هو المحصّل من الاستدلال، وقد تبعه جماعة من المتأخّرين أيضاً.
وليعلم أنّ الطريق الّذي سلكه المحقّق القمي(رحمه الله) غير الّذي سلكه الميرزا الشيرازي(قدس سره) و من تبعه، لإثبات ما اختاره من صحّة الصلاة في المشكوك كونه من غير المأكول، فإن أمكن لنا إثباته فهو طريق واسع، و عليه لم يتعلّق الأمر الإلزامي بما يشكّ في جزئيّته و لا النهي بما يشكّ في مانعيّته.
و تفصيل ذلك كما أشرنا إليه في الاُصول، أنّ الأمر الواحد المتعلّق بمركّب خارجي له أجزاء عديدة، يلاحظ الآمر متعلّق أمره مع كثرته و تشتّته بالذات شيئاً واحداً، و يفرضه أمراً وحدانيّاً، بحسب الاعتبار و اللحاظ، ثمّ يجعل تلك الاُمور المتكثّرة بالذات، الواحدة بالاعتبار متعلّقاً لأمر واحد و طلب فارد، و لكنّ هذا الأمر أيضاً ينحلّ إلى أوامر عديدة بعدد أجزاء المركّب، و يعبّر عن كلّ
واحد منها بالأمر الضمني الّذي يتفاوت في التنجّز وعدمه و إجراء الأصل الأوّلي و عدمه.
فعلى هذا، لو علم تعلّق الأمر الأوّل ببعض من المركّب، و لم يعلم تعلّقه ببعض آخر منه، يكون منجّزاً بالنسبة إلى المعلوم، و غيرمنجّز في غيره، و معنى تنجّز الأمر الواحد في بعض أجزاء المركّب، و عدمه في بعض آخر صحّة مؤاخذة المولى عبده على مخالفة أمره بترك ما علم شموله له و تعلّقه به و عدم صحة العقوبة و قبحها على مخالفة الأمر بترك ما لم يعلم تعلّقه به، و شموله له، و إن كان في نفس الأمر شاملا له و متعلّقاً به، و له نظائر كثيرة في العرف، كما لو علم العبد تعلّق أمر مولاه بشيء و شكّ في تعلّقه بأوسع من ذلك و أكثر منه، فإنّه تصحّ عقوبته على مخالفة المعلوم و لايقبل الاعتذار عن تركه باحتمال دخل شيء آخر في غرض المولى من الأمر به، نعم لو ترك المشكوك و اعتذر في ذلك بعدم العلم بتعلّق الأمر به يقبل منه، و يحكم العرف و العقلاء بقبح عقوبته عليه، و هذا هو المراد من تبعّض الأمر الواحد مع وحدة المتعلّق بالمركّب الّذي لوحظ فيه الوحدة اعتباراً كما يتصوّر ذلك في الخارجية الحقيقية، فإنّ ماء البحر مع وحدته حقيقياً، يتصوّر له أبعاض كثيرة يمكن اختلافها في الآثار أيضاً، و إيراد بعض مقرّري بحثنا بأنّا لانتعقّل تبعّض الأمر الواحد، و انحلاله إلى أوامر عديدة، و أنّ قياسه بالخارجية قياس مع الفارق، لكون المقيس أمراً اعتبارياً لا كثرة فيه، في غير محلّه، إذ لانقول: أنّه
|أمر حقيقي خارجي نظير المركّبات الخارجية، والاُمور القارّة، و أنّ لكلّ أمر و جزء وجود مستقلّ، و عين ثابت، بل نقول: إذا صحّ و أمكن تصوّر الأبعاض في الواحد الحقيقي الخارجي ففي الواحد الإعتباري بطريق أولى.
و على كلّ حال، هذا غاية تقريب تحقيق تبعّض الأمر الواحد المتعلّق بالمركّب الخارجي الواحد إعتباراً.
أدلّة المجوّزين
أمّا القائلون بالجواز ـ أي صحّة الصلاة فيما يشكّ أنّه من أجزاء المأكول أو غيره ـ فقد سلكوا في المسألة طريقين: منهم من ينكر الأصل الأوّلي المدّعى في أدلّة المانعين، و يدّعي أنّه البرائة لا الاشتغال، و منهم من لاينكره، و لكن يدّعي أنّ الصحّة إنّما هو بمقتضى الأصل الثانوي الحاكم على قاعدة الاشتغال و على الأصل الأوّلي.
و ليعلم أنّ المراد من الجواز هنا الجواز الوضعي، أي الصحّة و تماميّة الصلاة، لا الجواز التكليفي، إذ لا حرمة للصلاة في اللباس المشكوك كونه من غير المأكول، فمعنى الجواز هنا صحّة الصلاة، و عدمه البطلان، كما هو الواضح.
أمّا الطائفة الاُولى من القائلين بالجواز، فقد استدلّ بعض منهم بعدم شمول الأدلّة الدالّة على مانعيّة غير المأكول للمصاديق
المشكوكة بدعوى ظهورها في مانعيّة ما علم أنّه من أجزاء غير المأكول، لا ما هو فرد منه في الواقع و مصداقه في نفس الأمر، و إن لم يتعلّق العلم به ظاهراً سواء كانت الشبهة تحريمية حكمية و المثال واضح، أو تحريمية موضوعية كما لو شكّ في مائع أنّه خمر أم ليس بخمر بعد العلم بحرمة كلّ خمر، بدعوى أنّ العقل يحكم بالبرائة في جميع صور الشكّ في التكليف، و لايفرق بين كون منشأ الشكّ الاُمور الخارجية أو غيرها.
و وجه ذلك أنّ الأدلّة الدالة على وجوب الشيء أو حرمته بمنزلة الكبرى الكليّة، فما لم تضمّ إليها الصغرى الجزئيّة لاتفيد شيئاً، و لا تكون حجّة.
و قد تعرّض له العلاّمة الأنصاري(رحمه الله) في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة، و حكم بجريان البرائة فيها، و أرسله إرسال المسلّمات، و تلقّاه من بعده أيضاً بالقبول، ثمّ استشكل(رحمه الله)، بأنّ البيان هنا موجود لوجود عموم الدليل على حرمة الخمر، ثمّ أجاب عنه بأنّ العام لايكون حجّة ما لم ينضمّ إليه الصغرى، بأن يعلم أنّ هذا الشيء مصداق للعام، و نظير هذا الإشكال في العام و الخاص إذا شكّ في مصداق المخصّص مثلا لو ورد أكرم العلماء، ثمّ ورد لاتكرم الفساق، و شكّ في فرد من العلماء أنّه من الفساق أم لا.
قد يقال: بشمول عموم لاتكرم الفساق لمورد الشكّ و كونه بياناً و حجّة فيه، لو كان في نفس الأمر داخلا في العموم.
و اُجيب عنه هناك: بأنّ العامّ ما لم يحرز مصداقه في الخارج لايكون بياناً و حجّة، لتوقّفه على العلم بالكبرى الكلّية و الصغرى الجزئية، و إذا اختل أحدهما أو كلاهما لايكون حجّة على المكلّف و لايتمّ بيان عليه، هذا تمام الكلام في المقدّمة الاُولى من المقدّمات الّتي مهّدها بعض تلامذة الميرزا(رحمه الله).
و أمّا المقدّمة الثانية: أنّه لافرق في الرجوع إلى البرائة عند الشكّ في التكليف بين كونه نفسيّاً، كما لو شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو وجوب الصلاة عند ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(صلى الله عليه وآله وسلم)، و بين كونه ضمنياً، كما لو شكّ في وجوب السورة في الصلاة، أو شكّ في أنّها مشروطة بأمر وجودي كالاستقبال و الطهارة، أو مقيّدة بأمر عدمي أم لا، فتجري البرائة في جميع ذلك، إذا لم يعلم تعلّق الأمر أو النهي بالمشكوك، و قد قلنا في الاُصول في مقدمة الواجب و يأتي في الأقّل و الأكثر الارتباطي إن شاءالله، و تقدّم أيضاً إنّ الأمر الواحد إذا تعلّق باُمور لوحظ فيها الوحدة الاعتبارية، يمكن أن يكون منجّزاً بالنسبة إلى بعضها و غيرمنجّز إلى بعضها الآخر، على حسب تفاوت تعلّق العلم و الجهل بها من المكلّف، فلو علم العبد تعلّق الأمر بعدّة أجزاء، و شكّ في الأكثر من ذلك يجري البرائة في المشكوك على مقتضى المقدّمة الاُولى و الثانية.
لايقال: إذا كان تعلّق الأمر متيقّناً بالنسبة إلى أجزاء مشخّصة و شرائط معلومة، لايكون الأمر الصادر من المولى مشكوكاً حتّى
تجري البرائة فيه، و لايكون العقاب بلابيان فيكون قبيحاً.
فإنّه يقال: إنّ معنى كون الأمر و تعلّقه بالزائد مشكوكاً مع فرض العلم بشموله لعدّة أجزاء معيّنة، عدم صحّة مؤاخذة العبد و قبحها على المخالفة، بترك الجزء المشكوك، دون ما هو المعلوم، و هذه مسألة مهمّة صرفت إليها أفكار المحقّقين من الاُصوليين في الأقلّ و الأكثر الإرتباطيين، و صارت معركة للآراء و الأنظار، ذهب جمع منهم إلى الإشتغال و عدم حصول البرائة من عهدة التكليف إلاّ بالإتيان بالجزء المشكوك، و ذهب قوم إلى البرائة وادّعوا جريانها عقلا و نقلا، و فصّل ثالث بجريانها شرعاً لا عقلا، منهم شيخنا الاُستاذ العلاّمة(قدس سره) في الكفاية، و كنّا نورد عليه في درسه، بأنّه لو صحّ و أمكن تنجّز الأمر الواحد المتعلّق بالمركّب بالنسبة إلى بعض أجزاء المركّب و عدم تنجّزه بالنسبة إلى بعض آخر كما أشرنا إليه، لصحّ دعوى جريان البرائة في الزائد المشكوك بقسميه العقلي و النقلي، إذ العقل لايفرّق بينهما و لايحكم بصحّة واحد دون آخر، بل حكمه مساو بالنسبة إليهما، وإن لم يمكن ذلك فلايجري في أيّ منهما و لافرق بينهما.
ثمّ إنّ الوجه في صحّة جريان البرائة في الزائد المشكوك لو سلّمناه ليس انحلال العلم الإجمالي إلى القطع التفصيلي، للقطع بتنجّز الأقلّ و لو في ضمن الأكثر، بل الوجه ما فصّلناه و حقّقناه من أنّ الأمر الواحد المتعلّق بالمركّب يتبعّض و ينحلّ إلى أوامر عديدة، يكون منجّزاً بالنسبة إلى بعض الأجزاء و غير منجزّ في بعض آخر،
و حيث أنّه لافرق بين التكليف النفسي و الضمني في جريان البرائة عند الشكّ فيه كما فصّلناه، فيجري الأصل في الزائد المشكوك، لعدم تمام البيان و الحجّة فيه، و يجب الإتيان بالأقل المعلوم، لتماميّة البيان و الحجّة على المكلّف، الصادر من الشرع المعلوم تنجّزه بالنسبة إليه دون غيره، هذا هو الطريق المسلوك في القول بالبرائة و إجراء الأصل في مسألة الشكّ في الأقلّ و الأكثر الإرتباطيين.
أدلّة القائلين بالاشتغال في المسألة
و أمّا القائلون بالاشتغال في تلك المسألة، و أنّ الأصل لايجري فيما إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، فأقوى أدلّتهم و عمدة مستندهم أنّ المكلّف به إذا تردّد بين الأقلّ و الأكثر، يجب الإتيان بالأكثر، لحكم العقل و قضائه بذلك، و لعدم القطع بالبرائة من التكليف الثابت عليه إلاّ به، لأنّ الأكثر مشتمل على كلّ ما يشتمل عليه الأقلّ و ما يعتبر فيه، دون العكس، إذ الأمر الصادر من المولى لايسقط بالإتيان بالأقلّ لو فرض تعلّقه بالأكثر، إذ الأمر المفروض أنّ الجزء الزائد له دخل في المصلحة الملزمة و أنّ الأمر واحد سواء تعلّق بالأكثر أو الأقلّ، و كذا الإشتغال و توجّه التكليف منجّز ولو بالنسبة إلى الأقلّ، فلابدّ من امتثال هذا الأمر الواحد، و إفراغ الذمّة من الشغل اليقيني، و تحصيل القطع بذلك الّذي لايمكن إلاّ بالإتيان بالجزء المشكوك و هو الأكثر، فإنّ سقوط الأمر الإلزامي بالإتيان
بالأقلّ إنّما يتصوّر إذا كان الأقلّ تمام الواجب و المطلوب الكامل، و الغرض التامّ قائماً به، و ليس الأمر كذلك، إذ لو كان الأكثر متعلّقاً للأمر و واجباً عند الآمر في الواقع و نفس الأمر، يكون هو المطلوب الكامل، و الغرض التامّ قائماً به دون غيره، و سقوط الأمر يدور مداره و يقفو أثره، فالإتيان بالأقلّ على هذا التقدير لايفي بالغرض، و لايكفي في الفراغ عن الذمّة المشغولة يقيناً، بخلاف الإتيان بالأكثر، فإنّه يكفي على التقديرين لاشتماله على جميع ما اشتمل عليه الأقلّ و ما يعتبر فيه من المصالح و الغرض، فسقوط الأمر بالإتيان به و حصول الغرض بذلك مسلّم، سواء كان الأكثر متعلّقاً للأمر في نفس الأمر و الواقع، أو الأقلّ.
والحاصل أنّ نفس الإشتغال بالأقلّ يقتضي وجوب الإتيان بالأكثر في مقام الامتثال و الخروج عن عهدة ذلك التكليف، لا أنّ العلم الإجمالي بوجود الأقلّ والأكثر يقتضي ذلك و يوجب الاحتياط، حتّى يورد عليه بانحلاله إلى علم تفصيلي و شكّ بدوي، للقطع بوجوب الأقلّ تفصيلا و لو في ضمن الأكثر و الشكّ في وجوب الزائد، و هو شكّ في التكليف و مجراه البرائة كما حقّق في الاُصول.
و وجه ذلك ما تقدّم من أنّ المقصود المستدلّ القائل بالاشتغال في مسألة الأقلّ و الأكثر، وجوب الإتيان بالأكثر و لزومه بنفس العلم باشتغال الذمّة بالأقل، الحاصل من تعلّق الأمر به و شموله له و توجّهه إلى المكلّف، فإن الأمر الصادر من المولى المتعلّق بمركّب
ذي أجزاء عديدة إنّما تعلّق به بلحاظ الوحدة الإعتبارية الّتي اعتبرها الآمر و رأى المركّب بجميع أجزائه شيئاً واحداً بذاك الاعتبار، ثمّ وجّه إليه أمره، و جعله متعلّقه و موضوعه، و هذا الأمر الواحد الصادر من الشارع يقتضي امتثالا واحداً، و لايحصل العلم به إلاّ بالإتيان بالأكثر، لا أنّه يدّعي العلم بالاشتغال بالأقلّ أو الأكثر على نحو الإجمال، حتّى يورد عليه بانحلاله إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على التقديرين و الشكّ البدوي بالنسبة إلى الأكثر.
هذا أقوى المقال من أدلّة القائلين بالاشتغال، و ينبغي بسط الكلام في مقامين:
المقام الأوّل: في كيفيّة إتيان المأمور به بحيث يحصل الغرض و يسقط الأمر.
و المقام الثاني: في كيفيّة تعلّق الأمر بالمركّب و تنجّزه بالنسبة إلى بعض الأجزاء دون بعض.
أمّا المقام الأوّل: فأقول: إنّ الغرض المتصوّر في إتيان المأمور به ليس ممّا يجب على المكلّف تحصيله في الخارج و تأمين غرض الآمر من هذه الجهة، بل ما يحكم العقل بإتيانه و يلزم المكلّف بإيجاده في الخارج، عند تعلّق العلم بصدور أمر إلزامي من الشارع، إنّما هو نفس المأمور به من الأجزاء و الشرائط و متعلّق الأمر فقط، و أمّا تحصيل غرض المولى منه فربما لايتوجّه و لايلتفت إليه المكلّف، فضلا عن حكم العقل بوجوبه، حتّى لو سئل المكلّف بعد الإتيان بالمأمور به و
امتثال الأمر عن حصول غرض المولى منه و عدمه، يجيب بعدم العلم و الإطّلاع عليه، فما هو الواجب على المكلّف و اللازم عليه الّذي يحكم به العقل و يشهد عليه الوجدان السليم، هو الإتيان بما هو منجّز عليه الّذي يخرج العبد بتركه عن زيّ العبودية ويعدّ طاغياً على مولاه، و يقبحونه العقلاء بذلك، و تصحّ العقوبة عليه و أمّا غيره فلامجال للعقل فيه.
فلو أمر المولى باُمور عديدة لوحظت فيها الوحدة الإعتباريّة و علم العبد ببعض الاُمور و شمول الأمر له و لم يعلم تعلقّه ببعض آخر منها و ترك المشكوك، بعد التفحّص التامّ عنه و عدم الإنكشاف له، لايعدّ طاغياً و لايحسب عاصياً بمخالفة المجهول و لو لم يحصل غرض الآمر، فإنّ تحصيل الغرض و الهدف من الأمر ليس ممّا يتوجّه إليه العبد و يحكم به العقل كما مرّ، بل هو معذور مادام كونه جاهلا، نعم لو انكشف الخطاء و علم تعلّق الأمر بالمشكوك بعد العمل، فهو مبني على مسألة الإجزاء الّتي هي معركة الآراء بين الأعلام، و إن كان الظاهر من قوله «رفع ما لايعلمون» هو الإجزاء.
أمّا المقام الثاني: فنقول: إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الخارجي الّذي علم المكلّف ببعضه و جهل الآخر، هل هو منجّز في نفس الأمر في جميع أجزاء المأمور به سواء علم به المكلّف أو لم يعلم إلاّ بعضه، أو لايتنجّز إلاّ فيما تعلّق به العلم و أضائه، و لايجاوز عن شعائه و لايدور إلاّ مداره.
لايخفى أنّا لسنا بصدد أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الكذائي بماذا يحصل امتثاله و الخروج عن عهدته بل المنظور هنا أنّ ذلك الأمر في أيّ مقدار من متعلّقه المركّب منجّز، و في أىّ قدر منه غيرمنجّز، فعلى هذا، يقال: إنّ معنى تنجّز الأمر و الحكم بالنسبة إلى شيء عبارة عن كونه بحيث يعدّ تاركه عاصياً و مخالفه خارجاً عن وظيفة العبوديّة عند العقل والعرف، و معنى عدم التنجّز ما يقابل ذلك; فبناء على ذلك لو خالف عبد أمر مولاه في مركّب لوحظت فيه الوحدة اعتباراً بما هو مجهول تعلّق الأمر به و شموله له لايعدّ عاصياً و خارجاً عن زيّ العبوديّة مع الإتيان بما هو المعلوم من المركّب، و لايقبحونه العقلاء و العرف بذلك، و بالجملة المشكوك في الواجب الضمني و الارتباطي، كالمشكوك في الواجب الاستقلالي، من حيث حكم العقل بالبرائة و قبح العقوبة.
هذا تمام الكلام حول أدلّة القائلين بعدم جواز الصلاة في اللباس المشكوك و حول مقدّمات أسّسها بعض تلامذة الميرزا(قدس سره) لجواز الصلاة فيه، فاللآن نشرع في أدلّة القائلين بالجواز بالتفصيل إن شاءالله.
أدلّة القائلين بالجواز
قال الاُستاذ مدّظلّه: أمّا القائلون بجواز الصلاة و صحّتها فيما