والإمام الخميني (قدس سرهم)(1).
ومنها: إن فُقدطريق العلم بالوقت ونحوه، وأخبره العدل العارف بالوقت، ففي جواز الاعتماد على شهادته وجهان:
أحدهما: جواز الاعتماد، وبه قال المحقّق(2) وبعض المحشّين على العروة، كالسيّد الخوئي والفيروزآبادي وكاشف الغطاء.
ثانيهما: عدم جواز الاعتماد، وذهب إليه صاحبا الذخيرة والجواهر(3)والفاضل اللنكرانى(4) وكثير من المحشّين على العروة(5).
ومنها: في ثبوت نجاسة الماء بالعدل الواحد قولان:
أحدهما: عدم ثبوت النجاسة بقوله; لأنّ الماء على أصل الطهارة مالم يعلم ملاقاة شيء من النجاسات له، وبه قال الشيخ(6) وابن البرّاج وعدّة من المحشّين للعروة.
ثانيهما: ثبوت النجاسة، وبه قال العلاّمة(7) وبعض الفقهاء; كالسيّد الخوئي والفيروزآبادي(8) والشهيد السيّد محمّد باقر الصدر(9).
ومنها: إذا وكّل الزوجان وكيلاً في إجراء الصيغة في زمان معيّن لايجوز
- (1) العروة الوثقى 2: 276 مسألة 1 في أحكام الأوقات .
(2) المعتبر في شرح المختصر 2: 63 .
(3) جواهر الكلام 7: 268 ـ 269 .
(4) العروة الوثقى مع تعليقات للشيخ الفقيه الفاضل اللنكرانى، 1:378.
(5) العروة الوثقى 2: 277 مسألة 1 في أحكام الأوقات .
(6) المبسوط 1: 8 ، جواهر الفقه: 9 مسألة 7 .
(7) تذكرة الفقهاء 1: 10 .
(8) العروة الوثقى 1: 96 مسألة 6 من ماء البئر .
(9) بحوث في شرح العروة الوثقى 2: 112 .
لهما المقاربة بعد مضيّ ذلك الزمان إلاّ إذا حصل لهما العلم بإيقاعه .
وفي كفاية أخبار العدل الواحد بإيقاعه قولان:
أحدهما: عدم القبول; لأنّ الأصل عدم وقوعه، وبه قال كثير من الفقهاء; كالسيّد اليزدي وغيره من المحشّين للعروة.
ثانيهما: القبول، وبه قال السيّد الخوئي والفيروزآبادي(1).
- (1) العروة الوثقى 5: 622 مسألة 9 من المسائل المتفرِّقة من كتاب النكاح .
الفصل الثاني
في اعتبار الاُصول والظواهر
وفيه: ثلاثة مباحث
تمهيد
لمّا كان البحث في تعارض الأصل والظاهر أردنا أن نبحث عن حجّية الأصل والظاهر قبل الولوج في صلب الموضوع حتّى تنقدح كبرى القياس ، فإذا ثبتت حجّية الأصل والظاهر نبحث عندئذ عن التعارض، فإن لم تثبت حجّيتهما معاً
أو ثبتت حجّية أحدهما دون الآخر، انتفى موضوع التعارض من رأس; إذ التعارض إنّما يقع بين الحجّتين، فلايعقل التعارض بين الحجّة واللاحجّة . كما هو واضح بيّن .
المبحث الأوّل :
في اعتبار الاُصول
إنّ المقصود من الاُصول العمليّة ، هو الوظائف المقرّرة للشاكّ الذي ليس له طريق معتبر إلى الواقع .
وإن شئت قلت : ما ينتهي إليه المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي .
وسمّيت بالاُصول لأنّه بمعنى ما يبتني عليه الشيء ، والأحكام الظاهريّة في ظرف الشكّ مبتنية عليها ، ولا منافاة لكون الأمارة أصلا أيضاً بهذا المعنى ; إذ لايعتبر في وجه التسمية الاطّراد والانعكاس .
ويمكن أن يقال : إنّ الإطلاق من باب التشبيه بالاُصول الأوّلية التي يبتني عليها الأحكام الأوّلية كالطهارة الذاتيّة والحلّية ; فإنّ الأصل الأوّلي في الأشياء هو الطهارة ، والحلّية في غير اللحوم، فاُطلق الأصل أيضاً على الحكم المضروب في حالة الشكّ; لشباهته بالحكم المضروب لها بما هي هي; لاشتراكهما في أنّهما المرجع عند فقدان الدليل الحاكم على خلافهما(1) .
- (1) المحصول في علم الاُصول 3 : 327 ـ 328 .
وكيف كان، ففيه مطالب :
أ ـ اعتبار الاستصحاب
إنّ المستصحب إمّا أن يكون أمراً وجوديّاً، كوجوب الشيء ، أو طهارة الشيء ، أو رطوبة ثوب ; وإمّا أن يكون عدميّاً، كعدم اشتغال الذمّة بتكليف شرعيّ ، أو عدم نقل اللفظ من معناه ، وعدم موت زيد، ورطوبة الثوب، وحدوث الموجب للوضوء أو الغسل .
وعلى كلا التقديرين ; فإمّا أن يكون حكماً شرعيّاً ; وإمّا أن يكون موضوعاً خارجيّاً; كاستصحاب الكرّية والرطوبة ،
وعلى الأوّل: فإمّا أن يكون حكماً كلّياً; كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر بنفسه ; وإمّا أن يكون حكماً جزئياً; كطهارة هذا الثوب ونجاسته .
وعلى الثاني : فتارةً: يعلم مقدار استعداد بقائه في الزمان، ويشكّ في حدوث زمانيّ أوجب رفع الموضوع وإعدامه عن صفحة الوجود في أثناء استعداده للبقاء، كما إذا احتمل طروّ المرض أو قتل أو تخريب أو نحو ذلك من الأسباب الموجبة لرفع الموضوعات الخارجيّة ، وهذا يكون من الشكّ في الرافع ; واُخرى: لايعلم استعداد بقائه للوجود في عمود الزمان، كما لو شكّ في أنّ البقّ يعيش ثلاثة أيّام أو أربعة ، وهذا يكون من الشكّ في المقتضى .
وعلى كلا التقديرين : فإمّا أن يكون من الأحكام التكليفيّة ، وإمّا أن يكون من الأحكام الوضعيّة ، كالشكّ في السببيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة
والفساد ونحو ذلك(1) .
وقد وقع الخلاف في حجّية الاستصحاب في كلّ واحد من هذه الأقسام، والأقوى حجّية الاستصحاب في جميع الأقسام المزبورة إلاّ في المقتضى . ويدلّ على ذلك أدلّة :
منها : الأخبار ، ومن جملة الروايات صحيحة زرارة ، ولا يضرّ إضمارها بعدما كان الراوي ـ زرارة ـ الذي لا يروي إلاّ عن الإمام (عليه السلام) (2) ، قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن ، فإذا نامت العين والاُذن والقلب فقدوجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر(3) .
وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء ، وجعل العلّة نفس اليقين ، وكون اللاّم في اليقين للجنس لا للعهد ، يكون قوله (عليه السلام) : «ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ» بمنزلة الكبرى الكلّية التي تنطبق على صغرياتها .
ومنها : الصغرى المزبورة في باب الوضوء; فإنّه على يقين من وضوءه، ولا تختصّ بالموضوعات; لأنّ إضافة اليقين إلى الوضوء ليس لبيان تقييد اليقين بالوضوء ، بل لمجرّد بيان أحد مصاديق ما يتعلّق به اليقين ، واختار هذا المصداق بالذكر لكونه مورد السؤال ، لا لخصوصيّة فيه ، فتكون النتيجة هي عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشكّ; سواء تعلّق اليقين بالوضوء أو بغيره من الأحكام
- (1) فرائد الاُصول 2 : 653 ، فوائد الاُصول 4 : 319 ـ 320 و 327 .
(2) فوائد الاُصول 4 : 334 .
(3) تهذيب الأحكام 1 : 8 ح11 ، وسائل الشيعة 1 : 174 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح1 .
والموضوعات ، وأمّا عدم حجّيته في الشكّ في المقتضى بالمعنى المتقدّم، فلعدم صدق النقض عليه ، فلا يعمّه قوله (عليه السلام) : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(1) .
ومنها : أي ممّا يدلّ على حجّية الاستصحاب ولو في الجملة بناء العقلاء وسيرتهم والطريقة العرفيّة على الأخذ بالحالة السابقة ، وعدم الاعتناء بالشكّ في ارتفاعها، ولم يردع عنها الشارع(2) .
ب ـ اعتبار البراءة
تجري البراءة لمطلق الشكّ في التكليف ; سواء كان من الشبهات الوجوبيّة أوالتحريميّة ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشكّ فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصّين أو الاُمور الخارجيّة ، كما في الشبهات الموضوعيّة .
ثمّ اعلم أنّ ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد ، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلّف ، وعمدة أدلّة القول بالبراءة من الآية الشريفة قوله تعالى ـ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}(3) ، وحديث الرفع(4) وغيرهما شامل لجميع الأقسام ، كما عليه الشيخ الأنصاري وغيره .
وإنّما النزاع المعروف بين الاُصوليّين والأخباريّين في مسألة البراءة إنّما هو في الصغرى، وفي تماميّة البيان ووجود المنجّز من قبل المولى وعدمه ، وأمّا الكبرى ـ وهي عدم كون العبد مستحقّاً للعقاب على مخالفة التكليف مع عدم وصوله إلى المكلّف ـ فهي مسلّمة عند الجميع ، ولم يقع فيه نزاع بين الاُصوليّين
- (1) فرائد الاُصول 2 : 671 ، فوائد الاُصول 4 : 334 .
(2) فوائد الاُصول 4 : 332 .
(3) سورة الإسراء : 15 .
(4) الخصال : 417 ، باب التسعة ح9 .
والأخباريين(1) . نعم، قال الشهيد الصدر: فإنّ معنى المولويّة إنّما هو ثبوت حقّ الطاعة، وحقّ الطاعة قد يفرض ثبوته في الأحكام المقطوعة والمشكوكة لو لم يثبت عندنا الترخيص من قبله ورضاه بفوات التكاليف الواقعيّة في ظرف الشكّ، وعلى هذا يكون العقاب عقاباً على حقّه وليس العقاب على الحقّ قبيحاً (2).
و أمّا عند الشكّ في المكلّف به فيما اشتبه الواجب بغيره من جهة عدم النصّ أو إجماله ، أو من جهة اشتباه الموضوع ، فالأقوى وجوب الاحتياط كما عليه الشيخ الأنصاري(3) .
ج ـ اعتبار أصالة الحلّ
ومن القواعد المشهورة قاعدة الحلّ، ومعناها : أنّ كلّ شيء من الموضوعات الخارجيّة كان مشتبهاً بين الحلال والحرام يُحمل على الحلال . وعليه: إذا شكّ في شيء من الأطعمة والأشربة والألبسة بأنّه محلّل أو محرّم يبني على الحلّية وأصالة الإباحة بمقتضى القاعدة .
واستدلّ على اعتبار القاعدة بجملة من الأخبار :
فمنها : صحيحة عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(4) .
فإنّ قوله (عليه السلام) : «فيه حلال وحرام» ظاهر في الانقسام الفعلي ; بمعنى أن يكون
- (1) فرائد الاُصول 2 : 17 فما بعد ، فوائد الاُصول 4 : 149 ـ 151 ، مصباح الاُصول 2 : 252 ـ 254 ، المحصول في علم الاُصول 3 : 391 .
(2) مباحث الأصول 3: 62 ـ 63 .
(3) فرائد الاُصول 2 : 299 من التراث .
(4) الكافي 5 : 313 ح39 ، وسائل الشيعة 12 : 59 باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح1 .
قسم منه حلالا وقسم منه حراماً ، كالمائع المشكوك في كونه خلاًّ أو خمراً ، فالوظيفة عند الشكّ في الحلّية والحرمة هو الحمل على الحلّية وأصالة الإباحة ، مادام لم يتعيّن الموضوع بالعلم الوجداني .
ومنها : غير ذلك ، كرواية مسعدة بن صدقة(1) وعبدالله بن سليمان(2) ومعاوية
ابن عمّار(3) ، فيستفاد منها أنّ الأشياء الخارجيّة كلّها على الإباحة حتّى تظهر حرمتها بالعلم الوجداني، أو تقوم بها البيّنة أو الحجّة الشرعيّة(4) .
د ـ اعتبار أصالة الطهارة
ومن القواعد المشهورة أيضاً قاعدة الطهارة التي يتمسّك بها الأصحاب في باب الطهارة ، وحاصلها الحكم بطهارة كلّ شيء لم يعلم بنجاسته ، وأنّ الأصل في الأشياء الطهارة .
وهذا الحكم ممّا لا خلاف فيه في الشبهات الموضوعيّة والخارجيّة ، وأمّا في الشبهات الحكميّة ففيه قولان(5) .
يدلّ على ذلك روايات :
1 ـ موثّقة عمّار ، عن الصادق (عليه السلام) قال : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك»(6) .
- (1) الكافي 5 : 313 ح40 ، وسائل الشيعة 12 : 60 باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح4 .
(2) الكافي 6 : 342 ب 89، ح1 ، وسائل الشيعة 17 : 90 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح1 .
(3) وسائل الشيعة 17 : 92 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح7 .
(4) مصباح الفقاهة 2 : 272 ـ 278 ، المحصول في علم الاُصول 3 : 379 ـ 381 .
(5) الحدائق الناضرة 1 : 134 ، القواعد الفقهيّة لمكارم الشيرازي 2 : 417 ، التنقيح 2 : 158 .
(6) تهذيب الأحكام 1 : 285 ح832 ، وسائل الشيعة 2 : 1054 باب 37 من أبواب النجاسات ح4 .
2 ـ ما أرسله الصدوق في المقنع : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(1) .
3 ـ ما رواه حفص بن غياث ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي (عليهم السلام) قال :
«ما اُبالي أبولٌ أصابني أو ماء إذا لم أعلم»(2) .
4 ـ وغير ذلك من الروايات(3) . ولكنّ العمدة في ذلك هو موثّقة عمّار ; فإنّه (عليه السلام) في مقام جعل الطهارة في موضوع لم يعلم نجاسته(4) .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه إذا كانت الشبهة موضوعيّة; كأن يشكّ في كون شيء طاهراً أو نجساً، فإن علم بالحالة السابقة فلا شكّ في أنّه يؤخذ بها بمقتضى الاستصحاب ; لأنّه أصل موضوعيٌّ حاكم على قاعدة الطهارة ، وإن لم يكن له حالة سابقة فيحكم بطهارتها بمقتضى قاعدة الطهارة ، فيجوز استعمالها في كلّ مايشترط فيه الطهارة .
هـ ـ اعتبار أصالة الصحّة
قد يطلق الصحيح في مقابل القبيح ، فمعنى أصالة الصحّة هو الحمل على الحسن المباح في مقابل الحمل على القبيح المحرّم ، وأصالة الصحّة بهذا المعنى مستفادة من الآيات والروايات ، أمّا الآيات، فكقوله تعالى ـ : { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(5) .
وأمّا الروايات، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى
- (1) مستدرك الوسائل 2 : 583 باب 30 من أبواب النجاسات ح4 .
(2) تهذيب الأحكام 1 : 254 ح735 ، وسائل الشيعة 2 : 1054 باب 37 من أبواب النجاسات ح5 .
(3) يراجع وسائل الشيعة 1 : 100 ـ 101 باب 1 من أبواب الماء المطلق ح4 ، 5 ، 9 .
(4) درر الفوائد 2 : 532 .
(5) الحجرات : 12 .
يأتيك ما يغلبك منه، و لاتظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً و أنت تجد لها في الخير محملا»(1) .
وأصالة الصحّة بهذا المعنى مختصّة بعمل المؤمن ، فلا تجري في حقّ غير المؤمن من سائر فرق المسلمين فضلا عن الكافرين ، وليست محلاًّ للكلام ; لعدم ترتّب أثر عمليٌّ عليها ; فإنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن سلاماً أو شتماً لا يترتّب على الحمل على الصحيح وجوب ردّ السلام .
وقد يطلق الصحيح في مقابل الفاسد ، فمعنى أصالة الصحّة هو ترتيب الأثر على العمل الصادر من الغير ، لا العمل الصادر من نفسه ; فإنّه إذا شكّ في عمل نفسه تجري في حقّه قاعدة الفراغ ويحكم بصحّة عمله .
وهذا هو محلّ الكلام ، ولا اختصاص لأصالة الصحّة بهذا المعنى بعمل المؤمن ، بل جارية في حقّ جميع المسلمين، بل الكافرين أيضاً في بعض الموارد ، كما في بعض المعاملات الصادرة منهم(2) .
وأصالة الصحّة بهذا المعنى من القواعد المشهورة بين كثير من الفقهاء ، وأنّ المتمسّكين بهذه القاعدة يستندون فيها إلى الإجماع القولي والعملي ، أمّا القولي فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة في كلّ الأعصار والأمصار(3) . وأمّا العملي، وهو دعوى السيرة القطعيّة من جميع المسلمين المتديّنين على ترتيب آثار الصحّة على أعمال الناس من العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات ، ولذا لا يقدم أحد على تزويج امرأة لاحتمال كون العقد الواقع بينها وبين زوجها باطلا ،
- (1) الكافي 2 : 362 ح3 ، وسائل الشيعة 8 : 614 باب 161 من أبواب أحكام العشرة ح3 .
(2) مصباح الاُصول 3 : 322 ـ 323، فوائد الاُصول 4 : 653 .
(3) عوائد الأيّام : 222 ، فرائد الاُصول 3 : 350 ، العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 179 ـ 180 مسألة 13 .
وهذه السيرة متّصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) ولم يردع عنها(1) .
بل الظاهر أنّ بناء العقلاء على ذلك من دون اختصاص بالمسلمين ويستكشف رضا الشارع بضميمة عدم الردع(2) .
ففي كلّ مورد جرت السيرة فيه على الحمل على الصحّة فلا محالة تكون أصالة الصحّة جارية ومقدّمة على الاستصحاب ، إذ تحقّق السيرة على الحمل على الصحّة كالنصّ المخصّص لدليل الاستصحاب(3) .
نعم ، يستفاد من بعض كلمات المحقّق الثاني(4) ونقل عن العلاّمة أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان ، فلو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنت وأنا صبيٌّ، يُقدّم قول الضامن ; لأصالة براءة الذمّة وعدم البلوغ ، ولا يجري أصالة الصحّة للمضمون له ; فإنّ الأصل عدم السبب الناقل .
أمّا إذا حصل الاتّفاق على حصول جميع الاُمور المعتبرة في العقد ـ من حصول الإيجاب والقبول من الكاملين وجريانهما على العوضين المعتبرين ـ ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول قول مدّعي الصحّة بيمينه ; لأنّه الموافق للأصل ، والأصل في فعل المسلم الصحّة . ولكنّ الأقوى هو التعميم كما عليه الشيخ الأنصاري(5) والسيّد الخوئي(6) .
- (1) فرائد الاُصول 3 : 350 ، مصباح الاُصول 3 : 324 .
(2) إفاضة العوائد 2 : 318 .
(3) مصباح الاُصول 3 : 339 ـ 338 .
(4) جامع المقاصد 5 : 315 ـ 316 . فرائد الاُصول 3 : 358 ـ 357 .
(5) فرائد الاُصول 3 : 360 .
(6) مصباح الاُصول 3 : 324 .
المبحث الثاني :
في حجّية الظواهر
ينبغي أيضاً أن نبحث عن حجّية الظواهر قبل الولوج في صُلب البحث ـ عن تعارض الأصل والظاهر ـ كيما تنقدح كبرى القياس .
أقول : لا يخفى أنّ حجّية الظواهر ممّا تسالم عليه العقلاء في محاوراتهم ، واستقرّ بناؤهم على العمل بها في جميع اُمورهم ، وحيث إنّ الشارع لم يخترع في محاوراته طريقاً خاصّاً ، بل كان يتكلّم بلسان قومه فهي ممضاة عنده أيضاً ، فهي من الاُصول المسلّمة بلا حاجة إلى البحث عنها ، ولا فرق بين ظواهر الكتاب والأخبار(1) .
فأمّا ظواهر السنّة، فلا إشكال لأحد في العمل بها ; لأنّ طريقة محاورات المعصومين (عليهم السلام) لم تكن طريقة مستحدثة غير طريقة سائر الناس العقلاء في محاوراتهم .
وأمّا ظواهر الكتاب وإن منع الأخباريّون من العمل بها لشبهة أنّ فهم القرآن مختصّ بمن نزل عليه ، إلاّ أنّنا نمنع ذلك ; لأنّ اختصاص الله والراسخين في العلم
- (1) مصباح الاُصول 2 : 117 ـ 118 ، دروس في علم الاُصول ، الحلقة الثانية ، القسم الأوّل : 265 ، نهاية الدراية في شرح الكفاية 3 : 180 ، نهاية الأفكار 3 : 90 ، سيرى كامل در اصول فقه 10:216 .
بتأويله غير مناف لفهم غيرهم بعض آياته ممّا ظهر وتجلّى معناها .
وأخبار الأمر بالتمسّك بالقرآن كأخبار الثقلين ، وبأخبار عرض المتعارضات على الكتاب وأمثال ذلك(1) ممّا توجب الاطمئنان بجواز الأخذ بظواهر الآيات الواضحة التي لا غموض في معناها ، وفي مؤدّاها بعد الفحص عن شارحها ممّا ورد عنهم (عليهم السلام) (2) .
وكيف كان، ففي هذا المبحث مطالب عديدة نستوضح من خلالها قواعد سديدة :
أ ـ حجّية خبر العدل والثقة في الموضوعات
هل خبر الواحد العادل والثقة حجّة في الموضوعات ، كما أنّه حجّة في باب الروايات التي مفادها نقل الأحكام عن الإمام (عليه السلام) أو لا؟
ذهب جماعة إلى الأوّل(3) ، واستدلّوا عليه بأمرين : سيرة العقلاء وبناؤهم أوّلا ، وبالأخبار ثانياً .
أمّا السيرة : فموجودة بين العقلاء حتّى قال بها من يقول بعدم حجّية الخبر الواحد العادل في الموضوعات الخارجيّة ، كالبجنوردي(4) والفاضل اللنكراني(5) .
قال السيّد الخوئي : فإنّ سيرة العقلاء قد استقرّت على العمل بخبر الثقة في
- (1) وسائل الشيعة 18 : 24 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح7 ، بحار الأنوار 2 : 175 إلى 176 ح15 ـ 18 و ص244 ح49 ـ 52 .
(2) اُصول الاستنباط : 189 ـ 190 .
(3) جواهر الكلام 6 : 171 ، مصباح الاُصول 2 : 196 ، دروس في فقه الشيعة 2 : 60 ، بحوث في شرح العروة الوثقى 2 : 102 .
(4) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 3 : 29 .
(5) القواعد الفقهيّة 1 : 477 .
جميع اُمورهم في الموضوعات والأحكام ولم يردع عنها الشارع ; فإنّه لو ردع عن العمل بخبر الثقة لوصل إلينا ، كما وصل منعه عن العمل بالقياس ، مع أنّ العامل بالقياس أقلّ من العامل بخبر الثقة بكثير ، وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً ، ولم تصل في المنع عن العمل بخبر الثقة رواية واحدة ، فيستكشف من ذلك كشفاً قطعيّاً أنّ الشارع قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة(1) . وبمثله قال السيّد الصدر(2) .
أمّا الأخبار ، فمنها : صحيحة حريز قال : كانت لإسماعيل بن أبي عبدالله (عليه السلام) دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبت إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس ، فقال : يا بنيّ لا تفعل ، فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره، فاستهلكها ولم يأته بشيء منها ـ إلى أن قال: ـ و قال (عليه السلام) له : مه يا بنيّ، فلا والله ما لكَ على الله [هذا] حجّة، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فأئتمنته ، فقال إسماعيل : يا أبت إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت النّاس يقولون ، فقال : يا بنيّ إنّ الله ـ عزّوجلّ ـ يقول في كتابه : { يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(3) يقول : يصدّق لله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم(4) .
ومقتضاها حجّية اخبار الرجل الواحد ولو في غير أخبار الأحكام ، بتقريب
- (1) مصباح الاُصول 2 : 196 .
(2) بحوث في شرح العروة الوثقى 2 : 90 ـ 91 .
(3) التوبة : 61 .
(4) الكافي 5 : 299 ح1 ، مرآة العقول 19: 409 ح 1، وسائل الشيعة 13 : 230 باب 6 من كتاب الوديعة ح1 .
أنّ ذيل الرواية «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» يدلّ على مطلوبيّة تصديق شهادة المؤمنين وترتيب الأثر على أخبارهم ; فإنّ المؤمنين عامّ استغراقيّ ، فتنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب عدد أفراد المؤمنين كسائر العمومات ، فيكون مفاد هذه الجملة تصديق شهادة كلّ مؤمن ، فالمؤمن بما أنّه مؤمن إذا شهد بشيء يرتّب الأثر على شهادته ، وهو معنى وجوب قبول خبر الواحد العادل أو الثقة(1) .
ومنها : غير ذلك ، كصحيحة(2) هشام في إبلاغ عزل الوكيل بثقة ، وموثّقة سماعة(3) ، وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأذان: «المؤذِّنون اُمناءُ المؤمنين على صلواتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم(4) . وغير ذلك من الروايات في انقضاء العدّة ومعرفة القبلة وغيرها . يستفاد منها تنزيل خبر الثقة منزلة العلم ، كما قال به بعض أصحابنا(5) . وحينئذ فيستثنى منها الشهادة والتنازع جمعاً بينها وبين رواية السكوني(6)، حيث اعتبر اثنين في الشهادة .
وذهب المشهور إلى عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات ، كما نقل(7) ذلك عن المبسوط والخلاف والموجز وشرحه والتذكرة والذكرى والإيضاح وجامع المقاصد ، و السرائر والمهذّب والمعتبر والكفاية ومفتاح الكرامة والعوائد والقواعد الفقهيّة(8) وغيرها(9) .
- (1) عوائد الأيّام : 813 ، القواعد الفقهيّة للبجنوردي 3 : 32 ، وللفاضل اللنكراني 1 : 477 .
(2) من لا يحضره الفقيه 3 : 49 ـ 50 ح170 ، وسائل الشيعة 13 : 286 ، باب 2 من كتاب الوكالة ح1 .
(3) تهذيب الأحكام 7 : 461 ح1845 ، وسائل الشيعة 14 : 226 ، باب 23 من أبواب عقد النكاح ح2 .
(4) من لا يحضره الفقيه 1 : 190 ح905 .
(5) جواهر الكلام 6 : 171 .
(6) تهذيب الأحكام 6 : 286 ح790 ، وسائل الشيعة 18 : 271 ، باب 26 من أبواب الشهادات ح5 .
(7) مفتاح الكرامة 2 : 44 ، جواهر الكلام 6 : 171 .
(8) السرائر 1 : 86 ، المهذب 1 : 30 ، جواهر الفقه : 9 ، المعتبر 2 : 63 ، كفاية الأحكام : 112 ، مفتاح الكرامة 2 : 44 ، عوائد الأيام : 823 ، القواعد الفقهيّة للبجنوردي 3 : 36 ، وللفاضل اللنكراني 1 : 479 .
(9) غنائم الأيّام 1 : 480 .
وأجابوا عن السيرة والروايات بأنّ موثّقة مسعدة بن صدقة، عن الصادق (عليه السلام) رادعة عنهما نظراً إلى أنّ ذيلها وهو «والأشياء كلّها على هذا
حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(1) . فمعنى الرواية : أنّ جميع الموضوعات الخارجيّة على الحلّية إلى أن تعرف بالعلم الوجداني أو بالبيّنة حرمتها .
فإنّ نفس دلالتها على اعتبار البيّنة مرجعها إلى عدم اعتبار خبر الواحد العادل، فضلا عن الثقة المجرّدة ; فإنّ البيّنة إنّما تغاير خبر الثقة في أمرين : أحدهما: التعدّد والآخر: العدالة ، ولو كان خبر الواحد الثقة مثل البيّنة معتبراً في الموضوعات الخارجيّة ، لكان ذكر البيّنة خصوصاً في مقام إفادة حكم كلّي لغواً . فنفس دلالة الموثّقة على حجّية البيّنة تصلح رادعة عن السيرة ومانعة عن إعمالها في الشريعة المطهّرة .
وعليه: فالموارد التي قام الدليل فيها على حجّية خبر الواحد الثقة لا يمكن أن يتعدّى منها إلى غيرها من الموضوعات الخارجيّة(2) .
وفيه : أنّ رواية مسعدة بن صدقة مع ما في سندها ودلالتها ـ من كون مسعدة عامّياً مختلفاً في وثاقته، ومن احتمال كون البيّنة فيها بمعنى الحجّة وما به البيان ـ إنّما لم تذكر الخبر في قبال العلم والبيّنة لأجل خصوصيّة في موردها، وهي: أنّ الحلّية في مفروضها كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب ، ومن الواضح عدم اعتبار
- (1) الكافي 5 : 314 ح40 ، تهذيب الأحكام 7 : 226 ح989 ، وسائل الشيعة 12 : 60 باب 4 من أبواب مايكتسب به ح4 .
(2) عوائد الأيّام : 819 ـ 823 ، القواعد الفقهيّة للفاضل اللنكراني 1 : 478 ـ 779 .
خبر الواحد مع وجود اليد ، فكأنّه (عليه السلام) كان بصدد بيان ما يعتبر في جميع الموارد على الإطلاق ، وخبر الواحد ليس بيان في جميع الموارد، خصوصاً في باب القضاء . فحينئذ لم يثبت رادعيّة الرواية من السيرة ، مع كون المسألة من المسائل المبتلى بها، فلو ردّ الشارع لشاع وذاع كردّ القياس(1) .
مع أنّ الرواية الواحدة لا تكفي لإثبات الردع ; لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها ، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً ردعها لأصدر بيانات عديدة ، ولوصلتنا نصوص عديدة كما حدث بالنسبة للقياس ، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل . مع أنّ عدم الردع قبل الإمام الصادق (عليه السلام) في صدر الإسلام محرز ; لعدم نقل ما يدلّ على الردع ، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً ، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء(2) .
ب ـ حجّية الغلبة
فهل هي حجّة أم لا؟ فيه وجهان :
الوجه الأوّل : أنّه حجّة ، ويمكن أن يستدلّ على حجّية الغلبة ومطلق الظنّ بابتناء أكثر الأحكام والشرعيّات على الظنّ ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح، كما هو المحكي عن أبي الصلاح(3) ودعت الضرورة للعمل بالظنّ لتعذّر العلم أو الظنّ الخاصّ في أكثر الصور ، ولا يكفي امتثال ما علم من التكاليف أو ظنّ بالظنّ الخاصّ وإهمال الباقي ، فثبت عليه الأحكام لندرة خطئه وغلبة إصابته ، والغالب
- (1) دروس في فقه الشيعة 2 : 57 ـ 60 و ج3 : 267 .
(2) بحوث في شرح العروة الوثقى 2 : 86 ـ 87 .
(3) تمهيد القواعد : 310 ، نهاية الأحكام 1 : 247 و253 .
لا يترك للنار(1) . وبجملة من الأخبار التي يستظهر منها الاكتفاء بالظنّ والغلبة ، كالأخبار الناهية عن الصلاة في الثوب المشترى من النصراني(2) ، أو الذي أعاره(3)ممّن يشرب الخمر حتّى يغسله; إذ ليس ذلك إلاّ من جهة أنّه مظنّة النجاسة ; لأنّه في معرض ملاقاة بدن الكافر ، أو شارب الخمر مع الرطوبة غالباً .
قال المحقّق القمّي : والاختلاف في تقديم الظاهر على الأصل إنّما يصحّ إذا كان الظاهر أيضاً ممّا يجوز الاعتماد به شرعاً ، وإلاّ فلا معنى لمعارضته الدليل الشرعي بغير الدليل الشرعي . . . فلابدّ من تحقيق معنى الظاهر . . . والذي يحصل من التتبّع في الفقه أنّ القاعدة فيه ما حصل الظنّ بوجود السبب للحكم الشرعي في الخارج فيحصل الظنّ بحصول المسبّب ، وذلك الظنّ إمّا يحصل بسبب كون فعل المسلم محمولا على الصحّة; يعني ليس بمعصية ، أو كون الغالب في أفعالهم ومعاملاتهم ، أومعاملات غالب الناس وإن لم يكونوا مسلمين هو ذلك ، أو غلبة الظنّ من جهة القرائن . . . ولا يخفى على من تتبّع الفقه أنّ جعلهم الغلبة معياراً في الظهور وتقديم ذلك على الأصل فوق حدّ الإحصاء . . . ثمّ قال : إنّ الظاهر من الشريعة والفتوى اعتبار الغلبة(4) .
- (1) الذخيرة 1 : 177 ، القواعد الفقهيّة للندوي : 359 .
(2) كصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال : سألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للّبس لا يدري لمن كان ، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال : إن كان اشتراه من مسلم فليصلِّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلِّ فيه حتّى يغسله .تهذيب الأحكام 1 : 263 ح766 ، وسائل الشيعة 2 : 1071 باب 50 من أبواب النجاسات ح1 .
(3) كصحيحة عبدالله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الحبري «الجري خ.ل» ويشرب الخمر فيردّه أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال : لا يصلّي فيه حتّى يغسله.تهذيب الأحكام 2 : 361 ح1494 ، وسائل الشيعة 2 : 1095 باب 74 من أبواب النجاسات ح2.
(4) جامع الشتات 2 : 384 .
وقال في موضع آخر : ثمّ إنّ الاعتماد على الغلبة وإن كان ممّا يجوز أن يعتمد عليه على التحقيق خلافاً لبعض من لم يتأمّل تأمّلا تامّاً في حقيقته . . .(1) .
فإنّ الفقهاء يقدّمون الغلبة على الأصل في بعض الموارد، كالعلاّمة في بعض
كتبه ، منها: مسألة طين الطريق إذا غلب على الظنّ نجاسته ، فإنّ الظاهر يشهد بها ، والأصل يقتضي الطهارة ، والمشهور الحكم بطهارته(2) ، لكن ذهب العلاّمة في النهاية إلى العمل بالظنّ الغالب هنا عملا بالظاهر(3) .
وفيه : أمّا دعوى ابتناء الشرعيّات على الظنّ ، فإن كان مرادهم بذلك أنّه لايعتبر خصوص العلم في الشرعيّات ، فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّه لا تترتّب عليه حجّية مطلق الظنّ ، ولو كان من غير طريق معتبر لا في الأحكام ولا في الموضوعات ; وإن كان مرادهم حجّية مطلق الظنّ في الشرعيات فممنوع جدّاً; لعدم قيام دليل على ذلك .
نعم ، لو تمّ دليل الانسداد كان الظنّ حجّة مطلقاً ، إلاّ أنّه يتمّ في خصوص الأحكام الشرعيّة دون الموضوعات الخارجيّة ، كالطهارة والنجاسة وغيرهما .
ومنه يعلم الجواب عمّا ذكر من قبح ترجيح المرجوح ; إذ لا قبح فيه إذا كان لحجّة معتبرة من أصل أو أمارة ، بل هو من ترجيح الراجح(4) .
وأمّا الأخبار المذكورة، فهي معارضة في خصوص موردها بأقوى منها دلالة وأكثر عدداً ، كصحيحة عبدالله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر،
- (1) جامع الشتات 2 : 396 .
(2) القواعد والفوائد 1 :138 ، رسائل المحقّق الكركي 2 :237 ، تذكرة الفقهاء 1 : 10 ، منتهى المطلب 3 : 292 .
(3) تمهيد القواعد : 310 ، نهاية الإحكام 1 : 253 .
(4) دروس في فقه الشيعة 2 : 50 ـ 51 .
إنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ ، فاغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ; فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه(1) .
ورواية معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الثياب السابريّة يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب خ .ل) وهم يشربون الخمر ، ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها واُصلّي فيها؟ قال : نعم ، قال معاوية : فقطعت له قميصاً وخطته، وفتلت له إزراراً ورداءً من السابريّ ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ،فكأنّه عرف ما اُريدفخرج بهاإلى الجمعة(2) ، ونحوها(3) غيرها(4) .
ويستفاد من كلمات العامّة أنّ الغلبة عندهم حجّة كما في تحرير المجلّة، المادّة 42 «العبرة للغالب الشائع لا للنّادر» .
قال بعض الشارحين في شرح هذه المادّة : لكنّ الشائع هنا ليس من جهة أنّه عُرفٌ تعامل عليه الناس وائتلفوه ، بل قواعد كلّية اتّخذها الفقهاء مظانّاً في أنّها علّة للحكم ، ولم يعتبروا تخلّفها في بعض الأحيان لكونه نادراً(5) .
وتفرّع على هذه المادّة بعض آخر وقال : إنّ الحكم بموت المفقود لمرور تسعين سنة من عمره مستندة على الشائع الغالب بين الناس من أنّ الإنسان لا يعيش أكثر من تسعين عاماً ، على أنّ البعض قد يعيش أكثر من ذلك، إلاّ أنّه نادر والنادر
- (1) تهذيب الأحكام 2 : 361 ح1495 ، وسائل الشيعة 2 : 1095 باب 74 من أبواب النجاسات ح1 .
(2) وسائل الشيعة 2 : 1093 باب 73 من أبواب النجاسات ح1 .
(3، 4) وسائل الشيعة 2 : ح2 ، 3 ، 5 ، 7 و9 ، وص باب 74 من أبواب النجاسات ح3 ، جواهر الكلام 6 : 169 ـ 170 ، رياض المسائل 1 : 541 ـ 542 ، دروس في فقه الشيعة 2 : 51 .
(5) شرح المجلّة للحمص 1 : 99 .
لا حكم له ، بل يحكم بموته على العرف الشائع وتقسّم أمواله بين ورثته(1) .
ويتفرّع أيضاً ، لو كان الغالب في معاملات شخص الفساد ، فلو صدرت منه معاملة نشك فيها حملناها على الفساد وإن كان قاعدة حمل فعل المسلم تقتضي حمله على الصحيح ، ولكنّ الغلبة الشخصيّة حاكمة على الغلبة النوعيّة(2) .
ونقل عن ابن فرحون تحت عنوان «تنبيه» وينزّل منزلة التحقيق الظنّ الغالب ; لأنّ الإنسان لو وجد وثيقةً في تركة مورّثه ، أو وجد ذلك بخطّه ، أو بخطّ من يثق به ، أو أخبره عدل بحقّ ، فالمنقول جواز الدعوى بمثل هذا ، والحلف بمجرّده . وهذه الأسباب لا تفيد إلاّ الظنّ دون التحقيق ، لكن غالب الأحكام والشهادات إنّما تبنى على الظنّ وتتنزّل منزلة التحقيق(3) .
والجواب أنّه لا أثر للغلبة إلاّ حيث تكون قرينة وتعدّ من الظواهر التي لا ريب في حجّيتها لبناء العقلاء .
وأمّا الغلبة في المثال الثاني فلا أثر لها ، بل المرجع في مثله أصالة الصحّة المستندة إلى وجوب حمل فعل المسلم على الصحيح مطلقاً . وفي المثال الأوّل المرجع إلى الاستصحاب حياته حتّى يحصل اليقين والقطع بموته ، أمّا لو لم يحصل اليقين فلا معوّل على الغلبة(4) .
الوجه الثاني : عدم حجّية ظاهر المزبور ، وبه قال عدّة من الأعلام(5) .
- (1) درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام 1 : 45 .
(2) تحرير المجلّة 1 : 33 .
(3) القواعد الفقهيّة للندوي : 345 .
(4) تحرير المجلّة 1 : 33 .
(5) جواهر الفقه : 9 ، رسائل المحقّق الكركي 2 : 238 ، كشف اللثام 1 : 588 ط جديد ، جواهر الكلام 43 : 22 ، عوائد الأيّام : 380 ـ 382 ، حاشية المكاسب للسيّد اليزدي 2 : 3 ، إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب 4 : 19 ، تحرير المجلّة 1 : 33 .
ويمكن أن يستدلّ عليه بصحيحة زرارة قال : قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه(1) ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لِمَ ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً . . .(2) .
حيث إنّه (عليه السلام) فرض صورة الظنّ والغلبة كالشكّ ، وحكم بعدم اعتبار الظنّ والشكّ ، مع أنّ أغلب صور المسألة في صحيحة عبدالله بن سنان ورواية معاوية بن عمّار وغيرهما، وحصول المظنّة القويّة القريبة من العلم في العرف والعادة التي هي قد تكون أقوى من الظنون التي استندوا إليها ، وأنّه (عليه السلام) حكم بعدم البأس ، بل في بعض الروايات التصريح بعدم اعتبار الظنّ كصحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منيّ فليغسل الذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه منيّ ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء»(3) ، بل في بعض ذمّ العمل بالظنّ ، كما في رواية المفضّل بن عمر قال : سمعت الصادق (عليه السلام) يقول : مَنْ شكّ أو ظنّ وأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة(4) .
مضافاً إلى أنّ الأصل الابتدائي والقاعدة الأوّلية في الظنّ عدم حجّيته ; لقوله تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}(5) ، فالخروج عن الأصل الابتدائي يحتاج إلى دليل ، ولم أجد على حجّية الغلبة دليلا حتّى ينهض لمعارضة الأصل . ويمكن أن يقال: إنّ الصحيحة المذكورة لزرارة موردها باب الطهارة والنجاسة
- (1) أي ظننت دم رعاف أصاب ثوبي .
(2) تهذيب الأحكام 1 : 422 ح1335 ، وسائل الشيعة 2 : 1061 باب 41 من أبواب النجاسات ح1 .
(3) وسائل الشيعة 2 : 1022 باب 16 من أبواب النجاسات ح4 .
(4) الكافي 2 : 397 ح8 ، وسائل الشيعة 18 : 25 باب 6 من أبواب صفات القاضي ح8 .
(5) يونس : 36 .
ولا إطلاق لها. ومع فرض إطلاق مدلولها عدم اعتبار الظنّ دون الغلبة، فإنّ الغلبة عبارة عن الغلبة في الوجود دون الغلبة في الاحتمال، فالغلبة حيث تكون قرينة وتعدّ من الظواهر تكون حجّة لبناء العقلاء .
ج ـ حجّية القرائن
وقبل الخوض في ذلك نذكر مقدّمة ، وهي :
أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ ، فإمّا أن يحصل له القطع ، أو الظنّ ، أو الشكّ ، وعلى الأوّل يعمل بعلمه وقطعه ، ولا شكّ في وجوب متابعته ، ولزوم العمل بما أدّى إليه قطعه ; لأنّه بنفسه وذاته طريق إلى الواقع ، وبالجملة إنّ القطع إمّا أن يتعلّق بموضوع خارجيّ ، وإمّا أن يتعلّق بحكم شرعيّ ، فإن تعلّق بموضوع خارجي لا يفرق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع من أيّ سبب كان ، وإن تعلّق بحكم شرعيّ فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعاً ، كما أنّه يمكن أن يكون موضوعاً بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم .
وعلى الثاني : إن قام الدليل المعتبر على اعتباره كالبيّنة واليد والسوق وغيرها فهو ملحق بالقطع ، وإلاّ فملحق بالشكّ .
وعلى الثالث : يرجع إلى الاُصول العملية من الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير(1) .
وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ ظاهر الحال وشاهده من القرائن(2) ، فإن حصل منها علم فهو معتبر ; لأنّ اعتبار العلم ذاتيّ ، وليست طريقيّته قابلة لجعل الجاعل
- (1) فرائد الاُصول 1 : 5 ـ 7 .
(2) جامع المقاصد 4 : 355 .
والشارع إثباتاً ونفياً ، وهو مورد اتّفاق العقلاء بما فيهم الفقهاء ، كما سنشير إليه في كلام المخالفين لحجّية ظاهر الحال .
ويشعر بذلك قصّة يوسف (عليه السلام) ، فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه وتسأله أن يجازيه ، فذكرت أنّه أراد بها سوءً وعليه أن يسجنه أو يعذّبه عذاباً أليماً { قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) ، حكى الله تعالى
عن يوسف أنّه قال للملك في مقابلة بهتها وكذبها عليه هي راودتني عن نفسي وأنا بريء الساحة { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِى عَنْ نَفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُر قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}(2) وقد أشار هذا الشاهد والصبيّ الذي في المهد من أهلها فقال : أيّها الملك أُنظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدوداً من قدامه فهو الذي راودها ، وإن كان مقدوداً من خلفه فهي التي راودته .
فلمّا سمع الملك كلام الصبيّ وما اقتصّه فجيء بالقميص فنظر إليه فلمّا رآه مقدوداً من خلفه علم من ظواهر الحال وشواهده أنّه صادق ، وقضى ليوسف (عليه السلام) عن امرأته وقال لها : إنّه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم ، وقال ليوسف : أعرض عن هذا ولا يسمعه منك أحد واكتمه .
هذا كلّه فيما إذا أفادت العلم ، وأمّا إذا لم يحصل منها علم ، بل حصل منها ظنّ فهذا محلّ البحث والكلام ، وفي حجّية ذلك وعدمها أقوال :
القول الأوّل : عدم اعتبارها .
- (1) يوسف : 25 .
(2) يوسف : 26 ـ 28 .
القول الثاني : اعتبارها .
القول الثالث : التفصيل .
القول الرابع : التوقّف .
أمّا القول الأوّل : فيستفاد من كلمات جملة من الأعاظم بأنّه إن حصل من القرينة وظاهر الحال وشاهده علم ، فله اعتبار ، وإن لم يحصل منها إلاّ الظنّ فليست بمعتبرة .
قال الشهيد ـ في مسألة اختلاف البائع والمشتري في حدوث العيب قبل القبض أو بعده ـ : ثمّ تنازعا في سبق العيب حلف البائع ، ولو كان هناك قرينة تشهد للمشتري وأفاده القطع فلا يمين(1) .
قال المحقّق الثاني بعد نقل كلام الشهيد من الدروس : وما أحسنه ، إذ القرائن المثمرة للظنّ ـ الذي لم يثبت من قبل الشارع اعتباره ـ يبعد المصير إليها ، وقديستفاد من الحكم شهادة الحال إذا أفادت القطع بثبوت سبق العيب ، التعويل على ما أثمر القطع واليقين في كلّ موضع ، كالشياع إذا بلغ مرتبة التواتر وأثمر اليقين(2) .
وعن الشهيد الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل عبارة العلاّمة ـ ولو ادّعى البائع البراءة فالقول قول المشتري مع اليمين وعدم البيّنة ، وقول البائع في عدم سبق العيب مع عدم البيّنة وشهادة الحال(3) ـ قال : «المراد بشهادة الحال نحو زيادة الاصبع واندمال الجُرح مع قصر زمان البيع بحيث لا يحتمل تأخّره ، ويعتبر كونها مفيدة للقطع ، وحينئذ يقدّم قول المشتري بغير يمين ، ولو شهد الحال للبائع فكذلك
- (1) الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة 3 : 289 .
(2) جامع المقاصد 4 : 355 .
(3) إرشاد الأذهان 1 : 377 .
كطراوة الجرح مع تطاول زمان البيع فلا يمين عليه أيضاً»(1) .
وبهذا المضمون قال الحلّي(2) والأردبيلي(3) وصاحب الجواهر(4) وصاحب الرياض في شرح الصغير(5) ، وغيرهم(6) .
قال بعض المعاصرين رحمه الله تعالى : إذا كان العيب موجوداً بالفعل ، وظاهراً للعيان ، وقال المشتري : حدث هذا العيب عند البائع . وقال البائع : بل حدث عند المشتري ، فمن المدّعي ، ومن المنكر؟ ولابدّ أن ينظر ، فإن شهدت الحال شهادة تفيد القطع والجزم بأنّ العيب قديم ، ولا يمكن أن يحدث عند المشتري ، كمن اشترى داراً ، ثمّ تبيّن أنّها قائمة على غير أساسها المعتاد ، إن كان كذلك تردّ دعوى البائع ، ويحكم للمشتري بحقّ الخيار من غير يمين .
وإن شهدت الحال شهادة قطعية بأنّ العيب حادث وابن يومه ، ولا يمكن بحال أن يكون حادثاً قبل القبض ، كالجرح في الدابّة الذي لا يزال طريّاً ، إن كان كذلك يرد قول المشتري من غير أن يحلف البائع ، لأنّ اليمين إنّما تحتاج إليها مع عدم العلم بالواقع ، والواقع هنا معلوم فلا داعي لليمين ، وإن كان من العيوب التي يمكن حدوثها عند البائع وعند المشتري ، أي قبل القبض وبعده ، فالقول قول البائع مع يمينه إذا لم يكن للمشتري بيّنة ، لأنّ الأصل سلامة العين من العيوب ، حتّى يثبت العكس ، ولم يثبت العيب قبل القبض(7) .
- (1) حاشية الإرشاد المطبوع مع غاية المراد 2 : 110 .
(2) الجامع للشرائع : 266 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 437 .
(4) جواهر الكلام 23 : 286 .
(5) الشرح الصغير 2 : 68 .
(6) العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 180 .
(7) فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 3 : 224 .
وقال كاشف الغطاء : فإنّ القرينة إذا أفادت العلم واليقين فهي الحجّة، وإلاّ فلا أثر لها(1) .
وكيف كان ، فيستفاد من كلامهم : أنّ القرائن المفيدة للظنّ لم يثبت اعتبارها من قِبل الشارع فيكون الاعتماد عليها بلا مستند شرعي .
و أمّا القول الثاني : اعتبارها ، سواء كان ظاهر الحال وشاهده مفيداً للقطع أو الظنّ المتاخم له ، ويستفاد ذلك من إطلاق كلمات عدّة من الأعلام ، كالشيخ والمحقّق والعلاّمة والشهيد في بعض كتبهم ، كما فهم ذلك صاحب الجواهر(2) من كلامهم .
قال الشيخ : إذا وجد ميّت في المعركة وليس به أثر قتل فحكمه حكم الشهيد ، وبه قال الشافعي(3) ، وقال أبو حنيفة : إن لم يكن به أثر غسّل وصلّى عليه ، وإن كان به أثر فإن خرج من عينيه أو أُذنيه لم يُغسَّل ويُصلّى عليه ، وإن خرج من أنفه أو قبله أو دبره غسّل وصلّى عليه(4) .
دليلنا : أنّ ظاهر الحال أنّه شهيد ; لأنّ القتل يحصل بما له أثر وبما ليس له أثر فالحكم لظاهر الحال(5) .
قال المحقّق : إذا قال المشتري هذا العيب كان عند البائع فلي ردّه ، وأنكر البائع ، فالقول قول البائع مع يمينه ما لم يكن هناك قرينة حال تشهد لأحدهما(6) .
قال العلاّمة ـ في المسألة السالفةـ : ويقدّم قول البائع مع اليمين وعدم البيّنة
- (1) تحرير المجلّة 4 : 142 .
(2) جواهر الكلام 23 : 286 .
(3) الأُمّ 1 : 268 ، المجموع 5 : 216 .
(4) الهداية 1 : 101 ، المبسوط للسرخسي 2 : 51 .
(5) الخلاف 1 : 711 ـ 712 ، المبسوط 1 : 182 .
(6) شرائع الإسلام 2 : 32 ، المختصر النافع : 155 .
وعدم شهادة الحال لو ادّعى المشتري سبق العيب(1) .
وبمثلهما قال الشهيد في غاية المراد(2) والسبزواري في الكفاية(3) .
وربما يمكن أن يستدلّ لهذا القول ، بموارد مختلفة في الفقه الإسلامي في أبواب متفرّقة حيث يقدّم ظاهر الحال وشاهده على الأصل ، وهو دليل على اعتباره ، إذ لو لم يكن ظاهر الحال معتبراً لما قدِّم على الأصل ، ولنذكر بعضها :
أ ـ قالوا : إذا قبض المشتري المبيع ثمّ ادّعى نقصانه ، فإن لم يحضر كيله ولا وزنه ، بل اشتراه بخبر البائع مثلا ، فالقول قول المشتري فيما وصل إليه مع يمينه قولا واحداً ، إذا لم يكن للبائع بيّنة ، وإن كان حضر ، فالقول قول البائع مع يمينه ، والبيّنة على المشتري(4) . وفي كون القول قول البائع ادّعى بعضهم : «عدم وجدان الخلاف فيه»(5). وقال بعض آخر : «عند علمائنا»(6) .
قال عدّة من الفقهاء : إنّما كان القول قول البائع في الثانية مع أنّ الأصل عدم وصول حقّ المشتري إليه في الصورتين ، عملا بظاهر الحال ، من أنّ صاحب الحقّ إذا حضر استيفاء حقّه يحتاط لنفسه ويعتبر مقدار حقّه ، فيكون هذا الظاهر مرجّحاً لقول البائع ومقوّياً لجانبه ومعارضاً للأصل(7) .
قال الشهيد : غيبة المسلم بعد نجاسته أو نجاسة ما يصحبه من الثياب ونحوها ،
- (1) قواعد الأحكام 1 : 147 ، إرشاد الأذهان 1 : 377 .
(2) غاية المراد 2 : 144 .
(3) كفاية الأحكام : 94 .
(4) شرائع الإسلام 2 : 32 ، إرشاد الأذهان 1 : 383 ، الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة 3 : 213 ، كفاية الأحكام : 96 ، جواهر الكلام 23 : 175 ـ 177 .
(5) رياض المسائل 5 : 157.
(6) مفتاح الكرامة 4 : 723 .
(7) جامع المقاصد 4 : 406 ـ 407 ، مسالك الأفهام 3 : 252 ، مفتاح الكرامة 4 : 723 ، التنقيح الرائع 2 : 69 .
فإنّه يحكم بطهره إذا مضى زمان يمكنه فيه الطهارة ، عملا بظاهر حال المسلم ، أنّه يتنزّه عن النجاسة في ظاهر مذهب الأصحاب . ومن التعليل يظهر اشتراط علمه بها واعتقاده بنجاستها(1) .
ويمكن الجواب عن ذلك أوّلا : بأنّ تقديم ظاهر الحال على الأصل في هذا المورد لأجل الإجماع وهذا إنّما يستفاد منه اعتبار ظاهر الحال في الجملة لا بالجملة ، ولا يمكن إلغاء خصوصيّة المورد .
وثانياً : لعلّ تقديم قول البائع لأصالة الصحّة في دفع المسلم وقبضه ، إذ الفرض أنّه قبض على أنّه تمام الحقّ، كما قال به بعض(2) .
وثالثاً : توقّف بعضهم في تقديم قول البائع(3) ، بل قال الأردبيلي : يقدّم قول المشتري في هذا المورد أيضاً ، بأنّ الأصل عدم وصول حقّه إليه وهو مقدّم على الظاهر مع الحضور أيضاً(4) .
ب ـ أفتى جماعة(5) من الفقهاء بأنّه متى خلا الرجل بامرأته خلوة تامّة ، ثمّ اختلفا في الدخول ، فادّعت المواقعة ، فأنكره ، فإنّ القول قولها عملا بظاهر الحال من حال الصحيح في خلوته بالحلال مع عدم الموانع وحصول الدواعي .
ومنهم الشيخ ، حيث قال : ومتى خلا الرجل بامرأته ، فأرخى الستر ، ثمّ طلّقها وجب عليه المهر على ظاهر الحال ، وكان على الحاكم أن يحكم بذلك ، وإن لم يكن قد دخل بها ، إلاّ أنّه لا يحلّ للمرأة أن تأخذ أكثر من نصف المهر
- (1) تمهيد القواعد : 308 .
(2) جامع المدارك 3 : 200 .
(3) الحدائق الناضرة 29 : 184 ـ 185 .
(4) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 532 .
(5) المهذّب 2 :204 ،اللمعة :117 ،كشف اللِّثام 2 :86 ،كفاية الأحكام :181 ، القضاء للمحقّق الرشتي 1 : 324 .
ما لم يدخل بها(1) .
ويدلّ على ذلك روايات يستفاد منها أنّ الخلوة التامّة بين الزوج والزوجة يلحق بالدخول .
منها : ما روي عن السجّاد (عليه السلام) في سند صحيح ، قال : «إذا أغلق باباً وأرخى ستراً وجب المهر والعدّة»(2) .
ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان يقول : «من أجاف من الرجال على أهله باباً أو أرخى ستراً فقد وجب عليه الصداق»(3) . ومثله رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) .
أقول : إنّ ظاهر الحال في هذه الأخبار يقدّم على الأصل فلولا حجّيته لما قدّم على الأصل ، مع أنّه لا يستفاد من هذا الظاهر والخلوة التامّة القطع بالدخول ، بل يحصل الظنّ بالدخول كما استفاد ذلك ابن أبي عمير والعلاّمة . فقد نقل الكليني ذلك عن ابن أبي عمير ، حيث قال : «وإنّما معنى ذلك أنّ الوالي إنّما يحكم بالحكم الظاهر إذا أغلق الباب وأرخى الستر وجب المهر ، وإنّما هذا عليها إذا علمت أنّه لم يمسّها ، فليس لها فيما بينها وبين الله إلاّ نصف المهر»(5) .
قال العلاّمة : واعلم أنّ التحقيق في هذا الباب أن نقول : إنّما يجب كمال المهر بالدخول لا بإرخاء الستر والخلوة ، لكن لمّا كانت الخلوة مظنّة له بحيث لا ينفكّ
- (1) النهاية : 471 .
(2) الكافي 6 : 111 ح7 ، وسائل الشيعة 15 : 67 باب 55 من أبواب المهور ح2 .
(3) الاستبصار 3 : 313 ح822 ، وسائل الشيعة 15 : 67 باب 55 من أبواب المهور ح4 .
(4) تهذيب الأحكام 7 : 464 ح1863 ، الاستبصار 3 : 312 ح821 ، وسائل الشيعة 15 : 67 باب 55 من أبواب المهور ح3 .
(5) الكافي 6 : 111 ذ ح 7 .
عنه غالباً وجب أن لا ينفكّ عن إيجاب كمال المهر المستند إلى الدخول غالباً ، فمدّعيه حينئذ يدّعي الظاهر ، ومنكره يدّعي خلافه ، فيحكم للمدّعي به مع اليمين ; قضاءً للظاهر ، أمّا مع تصديق المرأة بعدمه فلا يجب الكمال قطعاً(1) .
ويمكن أن يجاب أوّلا : بأنّ هذه الروايات مع قصور سند أكثرها معارضة بمثلها كرواية يونس بن يعقوب ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : «لا يوجب المهر إلاّ الوقاع في الفرج»(2) . ورواية حفص بن البختري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إذا التقى الختانان وجب المهر والعدّة والغسل»(3) . ورواية اُخرى عن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة فاُدخلت عليه فأغلق الباب وأرخى الستر وقبّل ولمس من غير أن يكون وصل إليها ، ثمّ طلّقها على تلك الحال ، قال : «ليس عليه إلاّ نصف المهر(4) ». وغير ذلك من الروايات .
فهنا تتعارض الروايات ، والأشبه العمل بالروايات الأخيرة ; لكونها أشبه بالأصل وأصحّ سنداً(5) ، ومطابقة لنصّ القرآن { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}(6) فإنّ المراد بالمسّ هنا الجماع ; للإجماع على أنّ مطلق المسّ غير موجب للجميع ، وهو الأشهر بين الفقهاء(7)، بل المشهور(8) ، وأفتى بذلك كثير من الفقهاء(9) ، بل لعلّه إجماع بين
- (1) مختلف الشيعة 7 : 159 .
(2 و 4) تهذيب الأحكام 7 : 464 ح1859 ، 1861 ، الاستبصار 3 : 312 ح817 و 819 ، وسائل الشيعة 15 : 65 ـ 66 باب 54 من أبواب المهر ح4 و 6 .
(4) وسائل الشيعة 15 : 68 باب 55 من أبواب المهور ح5 .
(5) كشف الرموز 2 : 188 .
(6) البقرة : 237 .
(7) الروضة البهيّة 5 : 378 ، تمهيد القواعد : 313 ، رياض المسائل 7 : 163 .
(8) العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 194 .
(9) المبسوط 4 : 318 ، شرائع الإسلام 2 : 333 ، المختصر النافع : 216 ، الحدائق الناضرة 24 : 584 ، جواهر الكلام 31 : 141 ، نهاية المرام 1 : 409 ـ 410 ، فقه القضاء : 565 ، تفصيل الشريعة، كتاب النكاح،: 446 ـ 447.
المتأخّرين منهم كما في الجواهر(1) .
وثانياً : مع احتمال حملها على التقيّة كما حملها صاحب الوسائل(2) وغيره من الفقهاء ، فروى العامّة عن عمر وسائر الخلفاء: من أرخى ستراً وأغلق باباً فقد وجب عليه المهر. وأفتى به أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وكثير من العامّة .
قال ابن قدامة في المغني : «إنّ الرجل إذا خلا بامرأته بعد العقد الصحيح استقرّ عليه مهرها ، ووجبت عليها العدّة وإن لم يطأ ، روى ذلك عن الخلفاء الراشدين
وزيد وابن عمر ، وبه قال علي بن الحسين ، وعروة وعطاء والزهري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي ، وهو قديم قول الشافعي ، قال شريح والشعبي وطاووس وابن سيرين والشافعي في الجديد لا يستقرّ إلاّ بالوطء ، وحكي ذلك عن ابن مسعود وابن عبّاس وروي نحو ذلك عن أحمد .
ثمّ قال : ولنا إجماع الصحابة ، روى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة ابن أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون : أنّ من أغلق باباً أو أرخى ستراً لقد وجب المهر ووجبت العدّة(3) .
فيقوى الظنّ بخروجها مخرج التقيّة ، فيبقى الظهور المزبور بلا مستند شرعيّ صالح لقطع الاُصول الموافقة لدعوى عدم الوقاع .
- (1) جواهر الكلام 31 : 142 .
(2) وسائل الشيعة 15 : 67 ، باب 55 من أبواب المهور ذيل الحديث 2 ، جواهر الكلام 31 : 142 ، العروة الوثقى ـ ملحقات ـ 3 : 194 .
(3) المغني 8 : 61 ـ 62 .
وثالثاً : مع أنّه لو عملنا بهذه الروايات ، وفرضنا حجّيتها ، إنّ غاية ما يثبت بها حجّية ظاهر الحال في خصوص موردها ، ولا يمكن تنقيح المناط وجريانها في سائر الموارد ، حتّى يستفاد منها حجّية ظاهر الحال وشاهده في جميع الموارد .
ج ـ قال المشهور من الفقهاء : لو ادّعى رجل زوجية امرأة ، وادّعت اُختها أنّها الزوجة ، وأقاما البيّنة قدّمت بيّنة الزوج إن لم يدخل بالمدّعية ، وإن دخل بها قدّمت بيّنة المدّعية ; لأنّ ظاهر دخول الرجل بها كونها زوجته ، وإن كان الأصل عدم زوجية المدّعية(1) . فلولا حجّية الظاهر لما قدّم على الأصل .
ويدلّ على القول المشهور رواية الزهري ، عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بوليّ وشهود ، وأنكرت المرأة ذلك ، فأقامت اُخت هذه المرأة على هذا الرجل البيّنة أنّه تزوّجها بوليّ وشهود ولم يوقّتا وقتاً ، فكتب : «إنّ البيّنة بيّنة الرجل ولا تقبل بيّنة المرأة ; لأنّ الزوج قد استحق بضع هذه المرأة ، وتريد اُختها فساد النكاح ، فلا تصدّق ولا تقبل بيّنتها إلاّ بوقت قبل وقتها ، أو بدخول بها(2)» .
وضعفها(3) منجبر بالشهرة ، بل دعوى عدم الخلاف والإجماع(4) . وقال بعض الفقهاء : لا يختصّ الحكم بموردها ، ثمّ قال : لو ادّعى زوجيّة امرأة ، وادّعت اُختها زوجيّته ، فلم تكن لهما بيّنة ودخل بها ، فالقول قولها لتصديقه إيّاها بفعله(5) .
- (1) المختصر النافع : 196 ، تمهيد القواعد : 307 ، الروضة البهية 5 : 127 ـ 128 ، التنقيح الرائع 3 : 13ـ 14 .
(2) وسائل الشيعة 14 : 225 ـ 226 باب 22 من أبواب عقد النكاح ح1 .
(3) إذ في سندها محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، والأوزاعي ، وعيسى بن يونس ، ولم يوثّقوا . جامع الرواة 2 : 201 ، 439 ، و 1 : 655 .
(4) كفاية الأحكام : 155 ، مستند الشيعة 2 : 488 .
(5) التنقيح الرائع 3 : 14 .
وفيه : أوّلا : يحتمل أنّ الحكم مخصوص بمورد الرواية ، ولذا قال بعض : إنّ الحكم مخصوص بموردها ولا يتعدّى إلى غيره ، حتّى إذا كانت المدّعية على الرجل بنتها أو اُمّها ; لمنع ترجيح الظاهر على الأصل بإطلاقه(1) . وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .
وثانياً : أنّ ظاهر الحال من المرجّحات مسألة ، وكونه حجّة مستقلّة مسألة اُخرى ، وفي هذه المسألة ظاهر الحال من المرجّحات لا أنّه حجّة .
د ـ إذا وجد صبيّ في بئر لقوم وكانوا متّهمين على أهله ، فعليهم الدية ، وإن كانوا مأمونين فلا شيء عليهم ، والقتيل إذا وُجد في قرية ولم يعرف من قتله فديته على أهلها ، فإن وجد بين القريتين فالدية على أهل الأقرب إليه منها ، فإن كان وسطاً فالدية نصفان ، وحكم القبيلة والمحلّة والدرب والدار حكم القرية(2) .
فهنا أيضاً قدّم ظاهر الحال على الأصل من غير أن يفرّق بين أن يحصل منه العلم أو الظنّ .
ويمكن أن يُجاب عنه : بأنّ تقديم ظاهر الحال في هذا المورد للنصّ الخاصّ كما سأل سماعة أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يوجد قتيلا في قرية أو بين قريتين ، قال : «يقاس بينهما فأيّتهما كانت إليه أقرب ضمنت(3) ». وغير ذلك من الروايات(4) .
وكيف كان فإنّا لم نجد دليلا يدلّ على اعتبار ظاهر الحال وشاهده بالجملة . نعم ، يستفاد حجّيته في الجملة في موارد مخصوصة .
القول الثالث : إن حصل من ظاهر الحال الظنّ المتاخم للعلم والظنّ الغالب فله
- (1) الروضة البهية 5 : 128 ، مستند الشيعة 2 : 488 .
(2) غنية النزوع : 414 .
(3) من لا يحضره الفقيه 4 : 74 ح224 .
(4) من لا يحضره الفقيه 4 : 72 ـ 73 ح221 و 223 .
اعتبار في الجملة وإلاّ فلا ، ويستفاد هذا من كلمات بعض الأعلام كالعلاّمة(1)والشهيدين والمحقّق الثاني والفاضل اللنكراني في بعض كتبهم .
قال الشهيد الأوّل : يجوز الاعتماد على القرائن في مواضع ، وهذه مأخوذة من إفادة الخبر المحتفّ بالقرائن للعلم ، إمّا بمجرّد القرائن أو بها وبالأخبار ، ولكن معظم هذه المواضع فيها ظنّ غالب لا غير ، كالقبول من المميّز في الهديّة ، وفتح الباب ، واللوث ، وجواز أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن ، والتصرّف في الهديّة من غير لفظ ، والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع ، والعري في الخلوة وشبهه(2) .
وقال الشهيد الثاني : إذا تيقّن الطهارة أو النجاسة في ماء ، أو ثوب ، أو أرض ، أو بدن ، وشكّ في زوالها ، فإنّه يبني على الأصل ، وإن دلّ الظاهر على خلافه ، كما لووجد الثوب نظيفاً بيد من عادته التطهير إذا نظّف ونحوه ، إلاّ أن يتّفق مع ذلك خبر محتفّ بالقرائن الكثيرة الموجب للعلم ، أو الظنّ المتاخم له فيقوى العمل به ، وفي الاكتفاء بالقرائن منفكّة عن الخبر وجه، من حيث إنّ العبرة في إفادة الخبر المحفوف بالقرائن العلم بالقرائن لا به(3) .
وقال المحقّق الكركي في تحديد الشياع : اختلفت عبارة الأصحاب في تحديد الشياع ، فقيل : هو عبارة عن إخبار جماعة يتاخم قولهم العلم ، أي يقاربه ، فعلى هذا يعتبر حصول ظنّ قويّ يقرب من العلم .
وقيل : هو اخبار جماعة يحصل بإخبارهم العلم ، فعلى هذا يكون هو التواتر .
والأصحّ في المذهب الأوّل ; لأنّ الظنّ القوي البالغ مبلغاً يقرب من العلم ليس
- (1) مختلف الشيعة 7: 159.
(2) القواعد والفوائد 1 : 222 قاعدة 66 .
(3) تمهيد القواعد : 303 .
أدون من الظنّ الحاصل بشهادة العدلين إن لم يكن أقوى .
والظاهر من كلام الفقهاء أنّه أدون من شهادة العدلين ، مع أنّ الحاصل بها ظنّ(1) .
وللمحقّق الفاضل اللنكراني تفصيل آخر وإليك نصّه حرفياً قال : فالظاهر أنّه لابدّ من التفصيل بين الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان ـ الذي يعبّر عنه بالعلم العادي العقلائي ، ويكون احتمال خلافه موهوناً عند العقلاء في الغاية ، بحيث لا يكون مورداً لاعتنائهم بوجه ، ولذا يعبّر عنه بالاطمئنان الذي معناه خلوّ الذهن عن الاضطراب، الناشئ من الترديد وحصول الطمأنينة والسكون له ـ وبين غيره من الظنون بالقول بحجّية القسم الأوّل ، فإنّه حجّة عقلائية ، والنكتة فيه أنّ «العلم» في مثل قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» لابدّ وأن يؤخذ من العرف، كسائر العناوين والموضوعات المأخوذة في لسان الأدلّة، والاطمئنان الّذي يكون احتمال خلافه موهوماً عند العقلاء ، بحيث لا يعتنون به يكون علماً عندهم ، وإن لم يكن بعلم عندهم ، فما ظنّ نجاسته بالظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان نجس بمقتضى قوله (عليه السلام) : فإذا علمت فقد قذر; لأنّه من المعلوم نجاسته عرفاً(2).
القول الرابع : التوقّف
يستفاد من كلام العلاّمة في بعض كتبه التوقّف ، حيث قال : إذا اختلف الزوجان بعد التمكين في الإنفاق ، فقالت : لم ينفق عليّ ، وادّعى هو الإنفاق ، احتمل تقديم قولها مع اليمين عملا بالأصل ، وتقديم قوله عملا بالظاهر من شاهد الحال ، من أنّه أنفق عليها في مدّة تسليمها نفسها(3) .
- (1) رسائل المحقّق الكركي 2 : 197 .
(2) تفصيل الشريعة ، كتاب الطهارة ، النجاسات و احكامها: 391 ، مسألة 3 .
(3) تحرير الأحكام 2 : 49 .
د ـ حجّية العرف والعادة
لا نزاع بين العلماء في أنّ العرف إذا كان مخالفاً لأدلّة الشرع وأحكامه الثابتة التي لا تتغيّر باختلاف البيّنات والعادات ، لا يلتفت إليه ولا يعتدّ به ، بل يجب إلغاؤه كتعارف الناس شرب الخمور ، والتعامل بالربا ، ولعب الميسر ، ولبس الحرير والذهب ، وكاسترقاق المدين الذي كان متعارفاً في جاهلية العرب وعند الرومانيّين ، ونكاح الشغار ـ وهو أن يتّفق شخصان فيزوّج كلٌّ منهما الآخر قريبته ، فتكون هي كمهر للاُخرى ـ وهو متعارف في بلاد الشام وغيرها ، وغير ذلك من الاُمور التي حرّمتها الشريعة ; لما يترتّب عليها من المفاسد الدينيّة والاجتماعية الثابتة ، التي لا تتغيّر بتغيّر الظروف والعادات(1) .
وأمّا إذا كان العرف لا يخالف دليلا من الأدلّة الشرعيّة ، ولا قاعدة من
قواعده الأساسية من كلّ وجه ، ولم يكن مخالفاً لنصّ أو شرط لأحد المتعاقدين ، ففيه بحث من حيث حجّيته وعدمها ; فقال قوم من أهل السنّة بحجّيته ، واستدلّوا على ذلك بقاعدة معروفة عندهم «العادة محكمة» يعني أنّ العادة عامّة كانت أو خاصّة تجعل حكماً لإثبات حكم شرعيّ ، وهي المرجع عند النزاع لأنّها دليل يبنى عليه الحكم ، وهي مأخوذة من الحديث القائل «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» ، فينبغي أن يبحث في سند هذا الحديث ودلالته .
«سند الحديث»
- (1) رسائل ابن عابدين 2 : 114 ، مقدّمة للحاوي الكبير : 103 ، المدخل الفقهي العام 2 : 874 ـ 888 ، ردّ المختار على الدرّ المختار 1 : 35 .