و ـ معنى الغلبة
والمراد بالغلبة: ما يفيد الظنّ(1)، وأنّ المناط فيه حصول الظنّ في الشخص الخاصّ بملاحظة حصول الحكم في أغلب الأشخاص(2). ويستفاد من كلام المحقّق القمّي أنّ المراد بالغلبة : حصول الظنّ بوقوع سبب الحكم المخالف للأصل ، وذلك
الظنّ يحصل بسبب كون الغالب في أفعالهم ومعاملاتهم أو معاملات غالب الناس(3).
ز ـ معنى العادة والعرف وأقسامه
العادة في اللغة
أمّا العادة في اللغة، فهي مأخوذة من العود، أو المعاودة ; بمعنى التكرار .
قال الفيّومي : والعادة معروفة ، والجمع عاد وعادات وعوائد ، سمّيت بذلك; لأنّ صاحبها يعاودها; أي يرجع إليها مرّة بعد اُخرى(4) .
قال الراغب : والعادة اسم لتكرير الفعل والانفعال حتّى يصير ذلك سهلا تعاطيه كالطبع ، ولذلك قيل : العادة طبيعة ثانية(5) .
العرف في اللغة
قال الفيّومي : أمرت بالعرف; أي المعروف; وهو الخير والرفق والإحسان. ومنه قولهم : من كان آمراً بالمعروف ، فليأمر بالمعروف; أي من أمر بالخير فليأمر برفق وقدر يحتاج إليه(6) .
- (1) القواعد الفقهيّة للندوي: 152، المنثور في القواعد 1: 329.
(2) جامع الشتات 2: 396.
(3) جامع الشتات 2 : 384 .
(4) المصباح المنير : 436 .
(5) المفردات : 352 .
(6) المصباح المنير : 404 .
قال الراغب : العرف : المعروف ، والمعروف إسم لكلّ فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه ، ومنه قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(1)}(2) .
العرف والعادة في الاصطلاح
قال كثير من فقهاء العامّة في تعريف العرف والعادة : إنّ العادة عبارة عمّا يستقرّ في النفوس من الاُمور المتكرّرة المعقولة عند الطباع السليمة(3) . وفي بعض الكلمات(4): «المقبولة» بدلا عن المعقولة .
ثمّ قالوا : والعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المصداق وإن اختلفا من حيث المفهوم ، فما يصدق عليه أنّه عادة يصدق عليه أنّه عرف(5) .
وفي هذا التعريف إشكالات : منها : كونه معقولا أو مقبولا عند الطبائع السليمة ; فإنّها تقتضي أوّلا: كون العرف والعادة أمراً ثابتاً ; لأنّها من الاُمور القارّة والثابتة ، وليس الأمر كذلك; لأنّ كلّ عرف ليس بثابت .
وثانياً : أنّ العرف يتفاوت باختلاف الأزمان والأمكنة ، ولازم ذلك أن تختلف العقول والطبائع السليمة باختلاف العرف .
- (1) الأعراف : 199 .
(2) المفردات : 331 ـ 332 .
(3) رسائل لإبن عابدين 2 : 112 ، شرح المجلة لسليم بن رستم باز اللبناني 1 : 34 ، الاشباه، و النظائر لإبن نجيم: 93 .
(4) شرح المجلّة لمنير قاضي 1 : 95 ، درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام لعلي حيدر أفندي الحنفي 1 : 40 المادّة 36 ، الأشباه والنظائر : 79 «القاعدة السادسة» .
(5) رسائل لابن عابدين 2 : 112 ، شرح المجلّة لمنير قاضي 1 : 95 ، ولسليم بن رستم باز 1 : 34 ، درر الحكام شرح مجلّة الأحكام 1 : 40 .
وثالثاً : بعض العرف فاسد ، فهل يصدّقها العقول والطبائع السليمة؟
ورابعاً : إذا كان التكرّر ناشئاً عن علاقة عقليّة ـ وهي التي يحكم فيها العقل بهذا التكرّر ـ لم يكن من قبيل العادة ، بل من قبيل التلازم والارتباط العقلي في الوجودين بين العلّة والمعلول ، وذلك كتكرّر حدوث الأثر كلّما حدث مؤثّره ، بسبب أن المؤثّر علّة لا يتخلّف عنها معلولها ، كتحرّك الخاتم بحركة الإصبع ، وليس
ناشئاً عن ميل أو طبع أو عامل طبيعي .
وخامساً : لم تكن العادة والعرف من حيث المصداق واحداً في جميع الموارد ، كما سيجيء إن شاء الله أنّ نسبتهما عموم مطلق . وحيث إنّ هذا التعريف لم يكن جامعاً للأفراد ومانعاً للأغيار ، عدل بعضهم وقال : العرف ما اعتاده جمهور الناس وألفوه من فعل شاع بينهم ، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاصّ بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره(1) .
ففي هذا التعريف أيضاً إشكال ، حيث لم يكن جامعاً للأفراد ولا شاملا للعرف الخاصّ ; لأنّ موضوعه مخصوص ببلد ، أو مكان ، أو فئة من الناس من أرباب الأعمال أو الصنائع ، أو العلوم دون سواهم ، ولم يكن ما اعتاد جمهور الناس . والذي يسهل الأمر إنّ هذه التعاريف شرح الإسميّة وليست تعاريفاً واقعيّة حقيقيّة، فالأولى أن يُقال في تعريفه : العرف ما جرت عليه عادة الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك في بيعهم وشرائهم وإجارهم ، وسائر معاملاتهم ، بحيث يسوغ للمتكلِّم إذا أراد معنى أن يطلق اللفظ ، ويترك القيود اتّكالا على فهم العرف، مثلا إذا قال اللبناني : اشتريت هذا بليرة ، فهم منها الليرة اللبنانية
بدون الوصف(2).
- (1) مقدّمة للحاوي الكبير : 102 .
(2) تحرير اُصول فقه المظفر : 193 ، فقه الإمام جعفر الصادق 6 : 122 .
الفرق بين العرف والإجماع
قد يقع لدى بعض الناس نوع اشتباه أو تداخل بين مفهوم العرف والإجماع ، وهذه فروق ظاهرة بينهما توضّح تباينهما :
1 ـ إنّ الإجماع لا ينعقد إلاّ باتّفاق الاُمّة ، أو مجتهديها أو مجتهدي المذهب المعيّن على اختلاف في المباني ، ولكن عنصر الاتفاق مأخوذ فيه ، بينما لا يؤخذ في
العرف هذا العنصر ، بل يكفي فيه سلوك الأكثرية ، ويشترك في هذا السلوك المجتهدون وغيرهم بما فيهم العامّة والخاصّة(1) .
2 ـ إنّ العرف لا يتكوّن ، ولا يتأتّى تحكيمه إلاّ إذا تكرّر فعله ، حتّى يستقرّ في النفوس ، وتطمئنّ إليه القلوب، ويقع التواطؤ عليه والعمل به . أمّا الإجماع، فيتحقّق بمجرّد اتّفاق المجتهدين على أمر ، دون حاجة إلى تكراره .
3 ـ إنّ الحكم الذي يستند إلى الإجماع كالحكم الذي يستند إلى النصّ
لا مجال لتغييره وتبديله ، وهو أيضاً حجّة على من يأتي بعد عصر المجمعين . أمّا الحكم المستند للعرف، فيتغيّر بتغيّر العرف ، ولا يكون مُلزماً إلاّ لمن
تعارفوا عليه(2) .
النسبة بين العرف والعادة
إنّ العادة جنس أعمّ من العرف ، تحته أنواع ، وأنّ العرف نوع من العادة ; لأنّ العادة تشمل العادة الفرديّة، كمن كان عادته الطهارة والوضوء بعد الحدث وشكّ في طهارته ، وكعادته في نومه وأكله ونوع مأكوله وحديثه وكثير من أفعاله ، والعادة المشتركة ، والعادة الناشئة عن عامل طبيعي، كإسراع بلوغ الأشخاص في
- (1) تحرير اُصول فقه المظفر : 193 .
(2) العُرف 1 : 122 ـ 123 .
الأقاليم الحارّة ، وبطئه في الأقاليم الباردة ، فمثل هذا لا يسمّى عرفاً، بل يسمّى عادةً ، وعادة جمهور قوم; وهي العرف ، فإذا لم يكن الأمر المعتاد ناشئاً بين أكثر القوم لا يتكوّن به عرف معتبر ، بل يكون من قبيل العادة الفرديّة أو العادة المشتركة ، فتكون النسبة بين العادة والعرف هي العموم والخصوص المطلق(1) . وممّا ذكرنا ظهر الإشكال على ما قيل : إنّ النسبة بينهما عموم من وجه(2) .
تقسيمات للعرف :
التقسيم الأوّل
ينقسم العرف من حيث موضوعه ومتعلّقه إلى نوعين: عرف لفظيّ،
وعرف عمليّ.
1 ـ العرف اللفظي
فامّا العرف اللفظيّ أو القوليّ : فهو أن يشيع بين الناس استعمال بعض الألفاظ أو التراكيب في معنى معيّن تختلف عن مداليلها اللغويّة ، بحيث يصبح ذلك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق ، بلا قرينة ولا علاقة عقليّة ، وذلك كاستعمال لفظ «الدراهم» بمعنى النقود الرائجة في البلد مهما كان نوعها وقيمتها ، حتّى الورق النقدي اليوم ، مع أنّ الدرهم في الأصل نقد فضّيّ مسكوك بوزن معيّن وقيمة محدّدة . وكاستعمال لفظ الدابّة في البغل والفرس ، مع أنّها في الأصل كلّ حيوان في الأرض، مميّزاً كان أو غير مميّز ، وكإطلاق العراقيّين لفظة الولد على خصوص الذكر، بينما يطلق في اللغة على الأعمّ من الذكر والاُنثى .
وإنّ كلّ متكلّم يحمل كلامه على لغته وعرفه ، فينصرف إلى المعاني المقصودة
- (1) المدخل الفقهي العام 2 : 838 ـ 843 .
(2) الفقه 100 : 178 .
حين التكلّم ، وإن خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة ، ذلك لأنّ العرف الطارئ قد نقل تلك الألفاظ إلى معان اُخر صارت هي الحقيقة العرفيّة المقصودة باللفظ ، في مقابل الحقيقة اللّغوية ، ولذا قال الفقهاء : الحقيقة تترك بدلالة العادة، فيحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكلّ عاقد على لغته وعرفه، وقد يختلف فيه بلد عن آخر ، فيعتبر في كلّ مكان عرفه الخاصّ في التخاطب(1) .
قال الشهيد الثاني : لو حلف على لفظ الدابّة والسقف والسراج والوتد لايتناول إلاّ ما يسمّى في العرف كذلك ، دون الآدمي والسماء والشمس والجبل ، فإنّ هذه التسمية فيها هجرت حتّى صارت مجازاً ، لو حلف لا يتكلّم ، فقرأ أو سبّح ، ففي الحنث وجهان مرتّبان ، والأولى العدم(2) .
2 ـ العرف العملي
امّا العرف العملي : فهو اعتياد الناس على شيء من الأفعال أو المعاملات المدنيّة، كتعارفهم في الأنكحة تعجيل جانب معيّن من مهور النساء كالنصف أو الثلثين ، وتأجيل الباقي إلى ما بعد الوفاة أو الطلاق ، واعتيادهم أن يجهِّز الأب ابنته في العرس ، وكتعارف الناس البيع بالتعاطي في كثير من الأشياء من غير صيغة لفظية ، وكاعتياد قوم أكل طعام خاصّ لو أوصى رجل بالصدقة بالطعام ، وما إلى ذلك من العادات(3) .
- (1) رسائل لابن عابدين 2 : 114 ـ 115 ، المدخل الفقهي العام 2 : 844 ـ 856 ، درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام1: 40 المادة 36، المصباح المنير 1: 227 و233، قواعد الفقه الإسلامي للقاضي عبدالوهاب: 217ـ 218 ، القواعد والفوائد 1 : 150 ، تحرير اُصول فقه المظفر : 194 ، فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) 6 : 122 .
(2) تمهيد القواعد : 211 ـ 212 .
(3) القواعد والفوائد 1: 150، تحرير أصول فقه المظفر : 193 ، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 : 41 المادّة 36 ، المدخل الفقهي العام 2 : 858 ـ 859 ، مقدّمة للحاوي الكبيرة : 102 ، قواعد الفقه الإسلامي : 218 .
قال الشهيد : لو استأجر أجيراً يعمل له مدّة معيّنة ، حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزمان ، دون غيره بغير خلاف ، ولو حلف لا يأكل من هذه الشجرة اختصّت يمينه بما يؤكل منها عادة ; وهو الثمر ، دون ما لا يؤكل عادة، كالورق والخشب وإن جاز أكله ، لو حلف أن لا يأكل الرؤوس ; فإنّه ينصرف إلى الغالب من رؤوس النعم ، وفي رؤوس الطير والجراد والسمك وجهان ، أجودهما عدم الدخول لو حلف لا يأكل اللحم ، ففي الحنث بلحم السمك الوجهان (1).
التقسيم الثاني
ينقسم العرف أيضاً ـ لفظيّاً كان ، أو عمليّاً ـ باعتبار من يصدر عنه ، وشيوعه وخصوصه إلى نوعين : عرف عامّ، وعرف خاصّ .
1 ـ العرف العام
أمّا العرف العامّ : فهو الذي يتعارفه في جميع أهل البلاد في زمن من الأزمنة في أمر من الاُمور ، فهو يسمّى بحقيقة عرفيّة; كتعارفهم الاستصناع ودخول الحمّامات من غير تقدير أجر معيّن ولا مدّة المكث فيها .
قال بعض العامّة : والعرف العامّ عندنا هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة حتّى زماننا ، والذي قَبِلَهُ المجتهدون وعملوا به ولو كان مخالفاً للقياس . مثال ذلك : إذا حلف شخص قائلا: «والله لا أضع قدمي في دار فلان» يحنث; سواء دخل تلك الدار ماشياً أو راكباً . أمّا لو وضع قدمه في الدار دون أن يدخلها لا يحنث; لأنّ وضع القدم في العرف العام بمعنى الدخول ، وإن كان معنى ذلك في اللغة
- (1) تمهيد القواعد : 212 .
«لا أضع رجلي»(1) .
أقول : هذا وإن كان من العرف العامّ ولكن لا يختصّ بالعرف الجاري منذ عهد الصحابة حتّى زماننا .
2 ـ العرف الخاصّ
وأمّا العرف الخاص : فهو الذي يتعارفه أهل بلد معيّن ، أو طائفة معيّنة من
الناس من أرباب الأعمال أو الصنائع أو العلوم دون سواهم ، كتعارف أهل العراق إطلاق لفظ الدابّة على الفرس ، وكعرف التجّار فيما يعدّ عيباً ينقص الثمن في البضاعة المبيعة أو لا يعدّ عيباً(2) .
وأضاف بعضهم إلى هذين القسمين قسماً آخر ، فهو يسمّى بالحقيقة الشرعيّة أو العرفيّة الشرعيّة ; وهو عبارة عن الاصطلاحات الشرعيّة، كالصلاة والزكاة والحجّ ، فباستعمالها في المعنى الشرعيّ اُهمل معناها اللغويّ ، فتحمل هذه الألفاظ على معناها الشرعي الذي استعمله الشارع(3) .
التقسيم الثالث
والعرف باعتبار موافقته للشريعة أو مصادمته لها ينقسم إلى عرف صحيح وعرف فاسد ، [ غير صحيح ] فالعرف الصحيح هو الذي لا يخالف نصّاً ; والعرف الفاسد هو الذي يخالف نصّاً ، والعرف الفاسد لا يلتفت إليه(4) .
- (1) درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام 1 : 40 ـ 41 .
(2) مقدّمة للحاوي الكبير : 102 ، رسائل لابن عابدين 2 : 112 ، درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام 1 : 40 ـ 41 ، شرح المجلّة لسليم بن رستم باز اللبناني 1 : 35 ، كتاب المكاسب 4 : 231 ، قواعد الفقه الإسلامي : 218 .
(3) المكاسب : 193 طبع قديم ، درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام 1 : 40 ـ 41 .
(4) ردّ المختار على الدرّ المختار 1 : 35 .
المبحث الثاني :
المراد من الأصل وموارد استعماله
قد مرّ(1) للأصل خمس معان في مصطلحهم، فأيّها يترجّح في المقام وتعضده كلمات الأعلام؟
نقول : ربّما تشعر العبارة السابقة لبعض الأعلام كالشهيد الثاني وصاحب الحدائق وبعض العامّة(2) أنّ المراد من الأصل في تعارض الأصل والظاهر هو الاستصحاب ، كما مثّلوا في المعنى الرابع المذكور آنفاً ، ولكنّنا إذا تتبّعنا كلمات الفقهاء في سائر الموارد كالشهيد وصاحب الحدائق ، يظهر أنّ المراد من الأصل عندهم هاهنا : هو المعنى الخامس ، كما قال به بعض الأعلام(3).
قال المراغي: إنّ الظاهر من الأصل حينئذ هو الشيء المعتمد المعتبر شرعاً، سواء كان راجعاً إلى النفي، كأصل البراءة واستصحاب العدم، وأصالة العدم بناءً على كونها قاعدة ; أو راجعاً إلى الإثبات، كاستصحاب الوجود، وأصالة بقاء شغل
- (1) صفحه 25 ـ 26.
(2) تمهيد القواعد : 32 ، الحدائق الناضرة 1 : 41 ـ 42 ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 194 .
(3) العناوين 2 : 597 ، مستند الشيعة 17 : 139 ـ 140، تحليل الكلام : 518 ـ 519 .
الذمّة، وأصالة الصحّة في العقود والإيقاعات، وأصالة الصحّة في الأعيان الخارجيّة، وأصالة الطهارة ونظائر ذلك; فإنّ هذه كلّها اُصول يُعدّ مَنْ خالفها مدّعياً(1). ولمّا كان تنقيح الموضوع في البحث أمراً مهمّاً ، ينبغي التتبّع في كلمات الأعيان والفقهاء من الخاصّة والعامّة ، حتّى تظهر صحّة المختار فيما هو محلّ النزاع .
ألف ـ الاستصحاب
من تتبّع كلمات الفقهاء يرى أنّ من موارد استعمال الأصل الاستصحاب ، وأنّهم استعملوا الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في الاستصحاب الأعمّ من الوجوديّ والعدميّ ، كالعلاّمة(2) والشهيدين(3) وفخر المحقّقين(4) والبحراني(5)والمقدس الأردبيلي(6) والسيّدين بحر العلوم(7) والسبزواري(8) وغيرهم .
قال الشهيد الأوّل : ولو أقرّ المحتمل للبلوغ أو باع أو نكح أو طلّق ثمّ ادّعى الصبيّ قيل : ولا يمين عليه ، ولو كان التداعي بعد البلوغ، ففي تقديم قوله عملا بالأصل ، أو قول الآخر عملا بالظاهر من الصحّة وجهان(9) .
قال الشهيد الثاني : ولو أوصى بحمل و أشار إلى معيّن ، اشترط كونه موجوداً
- (1) العناوين 2: 597.
(2) قواعد الأحكام 1 : 12 .
(3) الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة 3 : 127 ، درس 222 ، مسالك الأفهام 6 : 190 ـ 192 .
(4) إيضاح الفوائد 1 : 42 ـ 43 .
(5) الحدائق الناضرة 24 : 584.
(6) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 114 ـ 115 .
(7) بلغة الفقيه 3 : 146 ـ 147 .
(8) مهذّب الأحكام 25 : 186 .
(9) الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة 3 : 127 ، درس 222 .
حال الوصيّة، فإنولدته لأقلّ من ستّة أشهر من حين الوصيّة علم أنّه كان موجوداً; فإن ولدته لأكثر من أقصى مدّة الحمل من حين الوصيّة، علم أنّه لم يكن موجوداً .
ولوولدته فيمابين أقصى مدّة الحمل وأقلّه ، أمكن وجوده حال الوصيّة وعدمه .
وإن كانت الأمة خالية من الفراش ; بأن فارقها الواطئ المباح وطؤه لها من حين الوصيّة حكم بوجوده ، عملا بالظاهر وأصالة عدم وطء غيره ; وإن كانت الأمة فراشاً بحيث يمكن تجدّده بعد الوصيّة لم يحكم بصحّتها; لأصالة عدم تقدّمه حالتها .
وما يقال ـ من أنّ الظاهر الغالب إنّما هو الولادة لتسعة أشهر تقريباً ، فما يولد قبلها يظهر كونه موجوداً وإن كان لها فراش ـ يندفع بأنّ الحكم السابق مرتّب على الأصل المقدّم على الظاهر عند التعارض إلاّ فيما شذّ . وبالجملة : فالمسألة حينئذ من باب تعارض الأصل والظاهر(1) .
قال المقدس الأردبيلي : إذا أسلما ـ الزوجان ـ قبل الدخول ، فالزوج يدّعي بقاء الزوجيّة لوقوع الإسلام معاً ، والزوجة تدّعي عدم بقاء الزوجية للتعاقب ، فقول الزوج موافق للأصل ; لأنّ الأصل بقاء الزوجية ، وعدم سبق إسلام أحدهما على إسلام الآخر ، وقول الزوجة موافق للظاهر ، فإنّ الظاهر المتعارف التعاقب وعدم المقارنة ، فهنا يتعارض الأصل والظاهر ، والظاهر تقديم الأصل هنا ; لأنّ النكاح كان متحقّقاً يقيناً ، ولا يرتفع إلاّ بمثله(2) .
وهكذا في كلمات العامّـة; فإنّـهم جعلوا الاستصحاب هو الأصـل المعارض للظاهر .
- (1) مسالك الأفهام 6 : 190 ـ 191 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 114 ـ 115 .
قال الزركشي : والمراد بالأصل القاعدة المستمرّة أو الاستصحاب(1) .
وقال بعض آخر : الشيء الذي لا يتيقّن نجاسته ، ولكنّ الغالب في مثله النجاسة، يستصحب طهارته ، أم يؤخذ بنجاسته ، قولان :
أحدهما : يستصحب طهارته تمسّكاً بالأصل المتيقّن إلى أن يزول بيقين بعده ، كما في الأحداث .
والثاني : يؤخذ عملا بالظنّ المستفاد من الغلبة ، بخلاف الأحداث ; فإنّ عروضها أكثر، فخفّف الأمر فيها بطرح الظنّ كالشكّ ، ويشهد هذان القولان لقولي تعارض الأصل والظاهر(2) .
وقال بعض آخر : وقد يتعارض أصل وظاهر ، ولذلك أمثلة . . . المثال الرابع : إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة والأشربة ، فالشافعي يجعل القول قول المرأة; لأنّ الأصل عدم قبضها ، ومالك يجعل القول قول الزوج; لأنّه الغالب في العادة، وقوله ظاهر(3).
إذا زنا من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين، وادّعى الجهل بتحريم الزنا لم يقبل قوله ; لأنّ الظاهر يكذِّبه ، وإن كان الأصل عدم علمه بذلك(4) .
ب ـ البراءة
ومن موارد استعمال الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ البراءة . قال العلاّمة : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمال فأدّاه عمرو بعد قبول الثلاثة الحوالة
- (1) المنثور في القواعد 1 : 311 .
(2) العزير شرح الوجير 1 : 74.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 .
(4) القواعد في الفقه الإسلامي : 374 قاعدة 159 .
إلى بكر ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بماله عليه وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شيء أزيد عليه، كان القول قول عمرو لأصالة براءة ذمّته ، ويحتمل أن يقال إن قلنا بصحّة الحوالة على من لا مال
عليه كان القول قول المحال عليه قطعاً(1) .
قال الشهيدان : ولو أدّى المحال عليه فطلب الرجوع بما أدّاه على المحيل لإنكاره الدين ، وزعمه أنّ الحوالة على البريء ، بناءً على جواز الحوالة عليه ، وادّعى الدين المحيل ، تعارض الأصل ـ وهو براءة ذمّة المحال عليه من دين المحيل ـ والظاهر ، ـ وهو كونه مشغول الذمّة ـ إذ الظاهر أنّه لولا اشتغال ذمّة المحال عليه لما اُحيل عليه ، والأوّل ـ وهو الأصل ـ أرجح من الثاني، حيث يتعارضان غالباً(2) .
وقال المحقّق الأردبيلي : فإنّ الظاهر تقديم قول المحال عليه مطلقاً ; لأنّه أدّى ما على المحيل بإذنه فيرجع إليه(3) .
وفي قواعد الشهيد : لو تنازع الزوجان بعد ردّتهما في وقت الإسلام ـ فهنا يتعارض الأصل والظاهر ـ فالظاهر ترجيح قول الزوجة ، فتجب النفقة ، ويحتمل ترجيح دعوى الزوج ; لأصالة البراءة من النفقة بعد الردّة ، وأصالة عدم تقدّم الإسلام ، والظاهر بقاء ما كان على ما كان(4) .
وهكذا يستعمل الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في البراءة لدى العامّة .
قال بعض العامّة : فصل في بيان تعارض الأصل والظاهر . . . ولذلك أمثلة . . .
المثال الخامس : ما إذا ادّعى الجاني شلل عضو المجنيّ عليه ، وادّعى
- (1) تذكرة الفقهاء 2 : 107 .
(2) الروضة البهيّة 4 : 146 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 9 : 311 .
(4) القواعد والفوائد 1 : 138 ، القاعدة الثالثة .
المجنيّ عليه سلامته ، فقولان :
أحدهما : القول قول الجاني ; لأنّ الأصل براءة ذمّته .
والثاني : القول قول المجنيّ عليه ; لأنّ الظاهر الغالب من أعضاء الناس السلامة ، وكذلك إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في وجود عضو من أعضاء المجنيّ عليه ; فإنّ الظاهر وجوده للغلبة ، والأصل براءة ذمّة الجاني في ذمّة ذلك العضو المختَلَف فيه ومن قصاصه(1) .
وقال بعض آخر :
إذا اختلف الزوجان في قدر المهر ولا بيّنة ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول الزوج; لأنّه منكر وغارم ، والأصل براءة ذمّته من القدر الزائد على ما يقرّر به .
والثانية : القول قول مدّعي مهر المثل ; لأنّ الظاهر معه(2) .
ج ـ الاشتغال
قد يستعمل الأصل ـ في بحث تعارض الأصل والظاهر ـ في الاشتغال ، وإليك نماذج منها :
الأوّل : قال بعض فقهاء الخاصّة والعامّة :
لو صلّى ثمّ رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة غير معفوّ عنها ، وشكّ هل لحقته قبل الصلاة أو بعدها ، وأمكن الأمران ، فالصلاة صحيحة ; لأنّ الظاهر صحّة أعمال المكلّفين وجريانها على الكمال ، وإن كان الأصل عدم انعقاد الصلاة وبقاءها في
- (1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي : 333 .
الذمّة حتّى يتيقّن صحّتها(1) .
الثاني : إذا شكّ بعد الفراغ من الطهارة أو الصلاة وغيرها من العبادات في ترك ركن منها ; فإنّه لا يلتفت إلى الشكّ ، وإن كان الأصل عدم الإتيان به ، وعدم براءة الذمّة من التكليف به ، لكنّ الظاهر من أفعال المكلّفين بالعبادات أن تقع على الوجه المأمور به ; فإنّ العبد إذا أراد أن يعمل عملا لا يترك شيئاً في محلّه ، فيرجّح هذا الظاهر على الأصل(2) .
الثالث : لو توافقا الزوجان على المهر ، واختلفا بعد الزفاف في قبض الصداق ، فقالت الزوجة : لم أقبض ، وقال الزوج : قد قبضت ، إن كانت العادة جارية بأنّها لا تمكّن من الدخول إلاّ بعد أن تستوفي المهر كالعادة القديمة ، تعارض بين استصحاب اشتغال الذمة والظاهر ، وإن لم يكن العادة جارية في تقديم المهر على الزفاف ، فالقول قول الزوجة(3) .
د ـ أصالة الحلّ
قد يستعمل الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في فقه العامّة والخاصّة في أصالة الحلّ أيضاً .
منها : في وجوب اجتناب معاملة الظالمين ومن لا يتوقّى المحارم والسِفْلة : ـ وهو الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ـ ومن يضرب بالطنبور ، ومن
- (1) تمهيد القواعد : 305 ـ 306 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 369 القاعدة 159 .
(2) تمهيد القواعد : 304 ـ 305 ، العناوين 1 : 157 ـ 158 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 48 .
(3) الخلاف كتاب الصداق 5 : 116 ، المبسوط 4 : 301 ، قواعد الأحكام 2 : 44 ، القواعد والفوائد 1 : 152 ، جواهر الكلام 31 : 132 ـ 134 ، كتاب النكاح للشيخ الأنصاري : 282 ، مهذّب الأحكام 25 : 182 ، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة 2 : 124 ، بداية المجتهد 2 : 31 ، رسائل لابن عابدين 2 : 126 .
لم يسرّه الإحسان ولا تسوؤه الإساءة ، ومن ادّعى الأمانة وليس لها بأهل ، بحيث يظنّ تحريم ما بيده ، وجهان :
أحدهما : عدم وجوب الاجتناب لأصالة الحلّ ، ولا يلتفت إلى القرائن الظاهرة . ويحمل الروايات الواردة على الكراهة(1) .
ثانيهما : وجوب الاجتناب للقرائن الظاهرة والروايات(2) الواردة ، كما قال به الصدوق(3) ، فيتعارض الظاهر والأصل .
هـ ـ أصالة الطهارة
و من جملة موارد استعمال الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ أصالة الطهارة.
قالوا : قد يعارض الأصل والظاهر ، وصوره كثيرة كغسالة الحمّام ، وثياب مدمن الخمر وشبهه ، وطين الطريق ، وأواني المشركين وما بأيديهم ، وطهارة ما تناله أيدي الناس على اختلاف فرقهم وتباين آرائهم في الطهارة والنجاسة(4) .
غسالة الحمّام نجسة مع العلم بملاقاة النجاسة ، وطاهرة مع العلم بالخلوّ عنها ، ثمّ إنّه مع الشكّ في ملاقاة النجاسة ، فهل يحكم بالطهارة، أو النجاسة؟ فمع غضّ النظر عن الأخبار يقع التعارض بين الظاهر والأصل ; إذ الظاهر أنّها نجسة ، والأصل الطهارة(5) .
- (1) قواعد الأحكام 1 : 119 ـ 120 ، جامع المقاصد 4 : 10 ـ 11 ، تمهيد القواعد : 304 .
(2 و 3) من لا يحضره الفقيه 3 : 100 ، ح388 ـ 392 .
(4) القواعد والفوائد 1 : 138 ، رسائل المحقّق الكركي 2 : 237 .
(5) القواعد والفوائد 1 : 138 ، الاقطاب الفقهيّة على مذهب الإماميّة : 45 ، رسائل المحقّق الكركي 2 : 237 ، المعتبر 1 : 92 ، منتهى المطلب 1 : 146 ، تمهيد القواعد : 303 ، الحدائق الناضرة 1 : 135 ، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 2 : 531 ـ 534 .
إذا وجد كلباً خارجاً من بيت فيه إناء مكشوف ، ووجد على فم الكلب أثر
مباشرته، ففي الحكم بنجاسة الإناء وجهان : الأصل هو الطهارة ، والظاهر على خلافه . والعمل على الأصل(1) .
إذا ظنّ النجاسة في الثوب ، ثمّ صلّى قبل طهارته ففي صحّة صلاته وعدمها وجهان، بل قولان :
الأوّل : الظاهر فساد صلاته لغلبة الظنّ ، كما قال به أبو الصلاح الحلبي(2) .
الثاني : صحّة صلاته وعدم نجاسة المحلّ بالظنّ، فالثوب على أصل الطهارة كما قال به ابن إدريس(3) ، وهو الحقّ .
وكذلك في فقه العامّة يستعمل الأصل ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في أصالة الطهارة .
قال بعض :
فصل في بيان تعارض الأصل والظاهر ، ولذلك أمثلة :
أحدها : طين الشارع في البلدان في نجاسته قولان :
أحدهما : أنّه نجس لغلبة النجاسة عليه ; والثاني : أنّه طاهر; لأنّ الأصل طهارته .
المثال الثاني : الصلاة في ثياب من يغلب عليه النجاسة بمخامرة النجاسة من المسلمين والمشركين قولان : أحدهما : لا يجوز لغلبة النجاسة عليها ، والثاني : يجوز; لأنّ الأصل الطهارة(4) .
- (1) تمهيد القواعد : 303 .
(2) الكافي في الفقه : 140 .
(3) السرائر 1 : 179 ـ 180 .
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 373 القاعدة 159 .
المثال الثالث : لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء ، وشكّ هل ولغ فيه أم لا؟ وكان فمه رطباً ، ففي نجاسة الماء وطهارته وجهان :
أحدهما : نجس; لأنّ الظاهر ولوغه ، والثاني : طاهر لأصالة الطهارة(1) .
المثال الرابع : إذا دخل بيت الخلاء وجلس للاستراحة ، وشكّ هل خرج منه شيء أو لا؟ قال محمّد بن الشيباني : «كان محدثاً عملا بالغالب» ; وقال غيره : «مطهِّر للأصل إذا كانت الحالة السابقة الطهارة»(2) .
المثال الخامس : لو اغتسلت من الجماع بعدما قضت شهوتها، ثمّ خرج منها منيّ بعد الغسل ; فإنّه يجب عليها إعادة الغسل; لأنّ الخارج منيّها ، أو منيّها ومنيّ الرجل; لأنّ الظاهر اختلاطه ، مع أنّ الأصل عدم ذلك(3) .
و ـ أصالة الصحّة
وقد يستعمل الأصل في كلمات الفقهاء ـ في بحث تعارض الأصل والظاهر ـ في أصالة الصحّة في العقد .
منها : لو كان الغالب في معاملات شخص الفساد ، فلو صدرت منه معاملة نشكّ في الصحّة والفساد فيها ، الغلبة الشخصية تقتضي فساد المعاملة ، وهذا مشرب القوم (أهل السنّة) ، وأصالة الصحّة المستندة إلى وجوب حمل فعل المسلم على الصحيح تقتضي الصحّة(4) .
ومنها : إذا بقي من المجبوب بقيّة يمكنه الوطء بها سقط خيارها ، فإن ادّعت عدم
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي : 372 القاعدة 159 .
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم : 49 .
(3) المنثور للقواعد 1 : 316 .
(4) تحرير المجلة 1 : 33 .
إمكانه وأنكر احتمل تقديم قوله عملا باصالة سلامة العقد ، وتقديم قولها عملا بالظاهر ; إذ الظاهر عجز المقطوع ذكره . . .(1) .
وجاء أيضاً بهذا المعنى في كلمات العامّة ، فمن ذلك ما يلي ، قالوا : اختلاف المتعاقدين في الصحّة والفساد ، القول قول مدّعي الصحّة على الأظهر ; لأنّ الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصحّة ، وإن كان الأصل عدمها (2).
وإذا ادّعى البائع أنّه كان صبياً أو غير ذلك وأنكر المشتري ، فالقول قول المشتري ومدّعي الصحّة ; لأنّ الظاهر وقوع العقد على وجه الصحّة دون الفساد ، وإن كان الأصل عدم البلوغ والإذن .(3)
فيستفاد من هذه الكلمات من العامّة والخاصّة أنّ مراد الفقهاء من الأصل في بحث تعارض الأصل والظاهر هو المعنى الخامس لا خصوص الاستصحاب .
- (1) تحرير الأحكام 2 : 30 .
(2، 4) المنثور في القواعد 1 : 317 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 370 قاعدة 159 ، الأشباه والنظائر في الفروع : 48 ـ 49 ، الموسوعة الفقهيّة 12 : 195 .
المبحث الثالث :
المراد من الظاهر وموارد استعماله
إنّ الظّاهر إن كان ممّا قام الدليل على اعتباره فهو خارج عن محلّ البحث; لأجل عدم الريب في تقدّمه على الأصل ولزوم اتّباعه، كالبينّة في الموضوعات والكتاب والسنّة في الأحكام(1)، وسوق المسلمين، وقاعدتي الفراغ والتجاوز، وقاعدة اليد المثبتة لملكيّة الشخص للمال الذي تحت يده وسلطته، كما لو كان شخص ساكنا في دار وكان مقتضى القاعدة اليد كونه مالكها، ثمّ ادّعى شخص آخر أنّه هو المالك لا الساكن، فيكون هذا القول على خلاف قاعدة اليد الدالّة على ملكيّة الساكن .
بل المراد هنا بالظاهر هو المستفاد من العرف والعادة والشيوع والقرائن من ظاهر الحال، وشاهد الحال، والظنّ العادي والحاصل من الغلبة(2)، وأخبار الثقة في الموضوعات، والتأسيس وغيرها، فهاهنا مطلبان:
- (1) العناوين 2 : 597 .
(2) تمهيد القواعد: 301 ، العناوين 2 : 597 ، الدرر النجفيّة 1 : 156 ، ما وراء الفقه 9: 17 ـ 18، تحليل الكلام : 517 .
المطلب الأوّل :
خروج الأمارات من محلّ النزاع
قد مضى آنفاً أنّه إن قام الدليل على اعتبار الظاهر، فلا ريب في تقدّمه على الأصل وخروجه عن محلّ النزاع. ولصحّة ما ذكرنا نذكر كلمات الفقهاء:
قال الشهيد الأوّل: موضع الخلاف في تعارض الأصل والظاهر ليس عامّاً; إذ الإجماع على تقديم الأصل على الظاهر في صورة دعوى بيع أو شراء، أو دين، أو غصب، وإن كان المدّعي في غاية العدالة مع فقد العصمة، وكان المدّعى عليه معهوداً بالتغلّب والظلم.
كما أجمعوا على تقديم الظاهر على الأصل في البيّنة الشاهدة بالحقّ; فإنّ الظاهر الغالب صدقها وإن كان الأصل براءة ذمّة المشهود عليه، ولهذا نظائر(1).
وقال أيضاً: ولايلتفت الشاك بعد الفراغ من العبادة، مع أنّ الأصل عدم الفعل(2).
ثمّ قال : اليد تقبل للشدّة والضعف; إذ هي عبارة عن القرب والاتّصال، فكلّما زاد تأكّدت اليد، فأبلغها ما قبض بيده، ثمّ ما عليه من الثياب والمنطقة والنعل، ثم البساط المبسط تحته، أو الدابّة تحته، ثمّ تحت حمله، ثمّ ما هو سائقها أو قائدها، ثمّ الدار الّتي هو ساكنها; إذ هي دون الدابّة; لاستيلائه في الدابّة على جميعها، ثمّ الملك الذي يتصرّف فيه(3).
قال الشهيد الثاني: إذا تعارض الأصل والظاهر، فإن كان الظاهر حجّةً يجب
- (1) القواعد والفوائد 1 : 140 .
(2) المصدر 1 : 137 .
(3) المصدر 2: 190 ـ 191 .
قبولها شرعاً، كالشهادة والرواية والأخبار، فهو مقدَّم على الأصل بغير إشكال، كتقديم شهادة العدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه. وشهادتهما ببراءة ذمّة من علم اشتغال ذمّته بدين ونحوه. وشهادتهما بدخول الليل للصائم، وطلوع الفجر له، ورؤية الهلال للصوم والفطر، والنجاسة، والطهارة.
وتقديم إخبار ذي اليد بطهارة ما بيده بعد العلم بنجاسته، أو بالعكس، وان لم يكن عدلاً. وقبول قول الاُمناء ونحوهم ممّن يقبل قوله في تلف ما اؤتمن عليه من مال وغيره. وقبول قول المعتدّة في انقضاء عدّتها بالأقراء، ولو في شهر واحد; سواء كانت عادتها منتظمة بما يخالف ذلك أم لا ; وأخبارها بابتداء الحيض بها وانقطاعه عنها بعد العلم بخلافه مالم يعلم كذبها، ونحو ذلك(1).
ثمّ قال: إذا شكّ بعد الفراغ من الطهارة أو الصلاة أو غيرهما من العبادات في فعل من أفعالها، بحيث يترتّب عليه حكم; فإنّه لا يلتفت إلى الشكّ وإن كان الأصل عدم الإتيان به، وعدم براءة الذمّة من التكليف به، لكنّ الظاهر من أفعال المكلّفين بالعبادات أن تقع على الوجه المأمور به، فيرجّح هذا الظاهر على الأصل . وهو المروي عندنا صحيحاً عن الصادق (عليه السلام) ، أنّه قال لزرارة بن أعين: «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»(2).
وكذا لو شكّ في فعل من أفعال الصلاة بعد الانتقال منه إلى غيره وإن كان فيها; لأنّ الظّاهر فعله في محلّه، مع أنّ الأصل عدمه، وليس كذلك الطهارة، والفارق النص(3)، وإلاّ لأمكن القول باتّحاد الحكم(4).
- (1) تمهيد القواعد : 300 ـ 302 .
(2) تهذيب الأحكام 2: 352 ح1459، وسائل الشيعة 5: 336، باب23،من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح1.
(3) تهذيب الأحكام 1: 100 ح 261، وسائل الشيعة 1: 330 باب 42 من أبواب الوضوء ح 1.
(4) تمهيد القواعد : 304 ـ 305.
ثمّ قال: وإن لم يكن كذلك، بل كان مستند بالعرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظن ونحو ذلك فتارةً يعمل بالأصل، ولا يلتفت إلى الظاهر وهو الأغلب، وتارةً يعمل بالظاهر ولا يلتفت إلى هذا الأصل(1).
قال القمّي: أمّا فيما كان الظاهر من الأدلّة المشهورة الشرعيّة والأمارات المنصوبة من قبل الشارع كالخبر والشهادة والإقرار ونحو ذلك، فلا إشكال فيه ـ أي تقديمه ـ ثمّ قال: تقديم الظاهر على الأصل في الشرع في غاية الكثرة، كاليد اللاّحقة للملك السابق، والحكم بحلّية اللحوق والجلود في أيدي المسلمين، والحكم بصحّة معاملتهم وتناكحهم وتوارثهم، وعدم اعتبار الشك بعد الوضوء وبعد الصلاة وبعد خروج الوقت إلى غير ذلك(2).
فيستفاد من هذه الكلمات لو كان الظّاهر ممّا قام الدليل على اعتباره، فهو مفروغ عنه في تقديمه على الأصل، بل لا إشكال ولا نزاع. فما قال المحقّق الرشتي «فالظاهر أنّ المراد بالظاهر اعمّ من الاُصول الأوّلية والقواعد الشرعيّة والظواهر الغير المعتبرة»(3). والمحقّق الآشتياني: «والمراد بالظاهر أعمّ من أن يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر شرعاً»(4)، والفاضل اللنكراني: «والظاهر أنّ المراد بالظاهر هو الظاهر المعتبر، والظاهر غير المعتبر لا عبرة به أصلاً»(5)، فبعيد جدّاً في تعارض الأصل والظاهر; لأنّه لايبقى للأصل موضوع مع وجود الظاهر المعتبر .
- (1) تمهيد القواعد: 301.
(2) جامع الشتات 2: 384 .
(3) كتاب القضاء 2: 94 .
(4) كتاب القضاء: 333 .
(5) تفصيل الشريعة، كتاب القضاء والشهادات: 76.
المطلب الثاني :
استعمال الظاهر في موضع الخلاف
قلنا فيما تقدّم: إنّ المراد من الظاهر ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ ما يستفاد من العرف والعادة والغلبة وظاهر الحال وشاهده وغير ذلك. والشاهد على ذلك ما في كلمات الأصحاب من أنّه يستعمل لفظ «الظاهر» في أحد هذه المعاني .
أ ـ العرف والعادة
ومن موارد استعمال الظاهر في كلمات الفقهاء ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ العادة والعرف ، وفيها موارد :
منها : قالوا : إذا اختلف الزوجان ـ بعد أن سلّمت نفسها إليه ـ في قبض المهر ، فقال الزوج : قد أقبضتك المهر ، وقالت : ما قبضته ، وكان العادة قبض الصداق قبل الزفاف ، ففي كون القول قول الزوج، أو الزوجة وجهان، بل قولان ; فإنّ الأصل يقتضي عدم القبض ; والعرف والعادة تقتضي عدم الدخول إلاّ بعد أن تستوفي المهر ، فيتعارض الأصل والظاهر(1) .
ومنها : إذا ادّعت الزوجة ـ بعد طول بقائها مع الزوج ويساره ـ أنّه لم يوصلها النفقة الواجبة ، فقد قال الأصحاب : القول قولها ; لأنّ الأصل معها ، مع أنّ العادة والظاهر لا يحتمل ذلك ، ولو قيل بترجيح الظاهر كان وجهاً في المسألة
- (1) المبسوط 6 : 16 ، الخلاف 5 : 116 وج4 : 385 ، قواعد الأحكام 2 : 44 ، مختلف الشيعة 7 : 322 ، كشف اللثام 7 : 482 تفصيل الشريعة كتاب النكاح: 452، ومن أهل السنّة : عقد الجواهر الثمينة 2 : 124 ، بداية المجتهد 2 : 31 ، رسائل لابن عابدين 2 : 126 .
ليس بذلك البعيد(1) .
ومنها : إذا تيقّن الطهارة أو النجاسة في ماء ، أو ثوب ، أو أرض ، أو بدن ، وشكّ في زوالها ; فإنّه يُبنى على الأصل ، وإن دلّ الظاهر على خلافه ، كما لو وجد الثوب نظيفاً بيد من عادته التطهير إذا نظّف، ونحوه(2) .
ومنها : إذا ادّعت المطلّقة البائن قبل ظهور الحمل أنّها حامل، وكانت دعواها مستندة إلى وجود الأمارات الظنّية الّتي يستدّل بها عند النسوان في العرف والعادة، ففي قبول قولها ووجوب الإنفاق على زوجها قولان: الظاهر قبول قولها. وبه قال المحقّق وصاحب الجواهر والسيّد اليزدي والاصفهاني(3). والأصل عدم الحمل الذي هو الشرط في وجوب الإنفاق; لأنّ وجوب الإنفاق على الزوجة انقطع بالطلاق البائن، ووجوبه عليها مشروط بالحمل، كما ذهب إليه الشهيد والإمام الخميني والفاضل اللنكراني(4).
وعلى ذلك جرت كلمات أبناء العامّة واستعملوا الظاهر في العرف والعادة ، وإليك نماذج منها :
1 ـ إذا باع البائع شيئاً وسكت المتعاقدان عن بيان حمل البضاعة المبيعة إلى المشتري ، واختلف البائع والمشتري في حملها ، وفي كون القول قول البائع، أو المشتري وجهان ; فإنّ الأصل أن تكون حمولة المبيع على المشتري ، والعرف اعتبر حمولته على البائع ; فإنّ الفقهاء يقدِّمون العرف على الأصل(5) .
- (1) تمهيد القواعد : 304 .
(2) تمهيد القواعد : 303 .
(3) شرائع الإسلام 2: 351، جواهر الكلام 31: 357 ـ 358،العروة الوثقى 6: 176 ـ 177، وسيلة النجاة 2:274.
(4) مسالك الأفهام 8: 474، تحرير الوسيلة 2: 281، تفصيل الشريعة، كتاب النكاح: 584 .
(5) المدخل الفقهي العامّ 2 : 865 ـ 866 .
2 ـ سكوت الفتاة البِكر عن استئذان وليّها لها في تزويجها من رجل معيّن وبمهر معيّن إذناً، وعدمه وجهان ، الأصل عدم الإذن ; والظاهر والعرف والعادة إذناً ، والظاهر مقدّم على الأصل(1) .
3 ـ لو ادّعت الزوجة التسمية في الصداق ، وكانت العادة النوعيّة التسمية ، فأنكر الزوج أصل التسمية ، ففيه يتعارض الأصل والظاهر ; لأنّ الأصل عدم التسمية ، والظاهر والعادة التسمية(2) .
ب ـ الغلبة
قد يستعمل الظاهر في كلمات الأصحاب ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في الغلبة ، ولذلك أمثلة :
منها : طين الطريق إذا غلب على الظنّ نجاسته ، فإنّ الظاهر يشهد بها ، كما ذهب العلاّمة في النهاية إلى العمل بالظنّ الغالب هنا عملا بالظاهر(3) ; والأصل يقتضي الطهارة كما عليه المشهور(4)، وهو الحقّ .
ومنها : لو وجد الجلد في يد مستحلّ الميتة بالدبغ ، ولم يخبر بأنّه مذكّى
أو ميتة ، بل يسكت ، ففي حلّ الصلاة فيه وعدمه وجهان : أحدهما :
حلّها وحمله على الأغلب من التذكية ، ثانيهما : عدم الحلّ; لأنّ الأصل
عدم التذكية(5) .
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي : 372 ، المدخل الفقهي العام 2 : 864 ـ 865 .
(2) عقد الجواهر الثمينة 2 : 124 .
(3) نهاية الإحكام 1 : 247 و 253 .
(4) منتهى المطلب 3: 292، القواعد والفوائد1: 138، رسائل المحقّق الكركي 2: 237، تمهيد القواعد: 310 .
(5) ذكرى الشيعة 3 : 29 ، الحدائق الناضرة 7 : 53 .
ومنها : في الصلاة في البيع والكنائس قولان : أحدهما : عدم الكراهة كما قال به المفيد والشيخ والعلاّمة(1) ; لأنّ الأصل عدم التكليف وانتفاء الكراهة ، ثانيهما : الكراهة كما قال به ابن البرّاج وسلاّر وابن إدريس(2) ; لعدم انفكاكهما عن النجاسة غالباً .
ومنها : إذا خرج من بيت الخلاء من كان عادته الاستنجاء ثمّ شكّ في أنّه استنجى أم لا ، فيه وجهان; إذ الظاهر غالباً أنّه استنجاء ; والأصل عدم الاستنجاء ، فيتعارض الأصل والظاهر ، فيقدّم بعضهم الأصل(3)، وبعضهم الظاهر(4) .
ومنها : لو غاب شخص وانقطعت أخباره ، ولم يعلم حياته وموته ، وقد تجاوز التسعين من عمره ، فهل نحكم بموته بحكم الغلبة؟ حيث إنّ الغالب على البشر لا يعمّرون أكثر من تسعين ، كما هو مشرب القوم (أهل السنّة) ، أو نحكم بحياته ، لاستصحاب حياته حتّى يحصل اليقين والقطع بموته؟ كما قال به بعض الفقهاء(5) ، وهو الحقّ .
ومنها : لو شكّ بعد الارتماس في وصول الماء إلى عضو من الأعضاء وجزء من الأجزاء ، ففي وجوب الالتفات إليه وعدمه وجهان ، وجه عدم الالتفات أنّ الظاهر
- (1) المقنعة : 151 ، النهاية : 100 ، مختلف الشيعة 2 : 124 .
(2) المهذّب 1 : 75 ـ 76 ، المراسم : 65 ، السرائر : 270 .
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى 3 : 422 ـ 423 ، كما عن الإمام الخميني والميلاني والنجفي والخونساري والرفيعي والكلپايكاني والشاهرودي في حاشية العروة الوثقى 1 : 174 ذيل مسألة 5 من أحكام الاستنجاء ، الناشر: المكتبة العلمية الاسلامية، والفاضل اللنكرانى كما فى تعليقاته على العروة الوثقى 1 : 117 .
(4) العروة الوثقى 1 : 335 مسألة 5 .
(5) تحرير المجلّة 1 : 33 .
والغالب وصول الماء إلى جميع الأجزاء والأعضاء مع الارتماس وعدم الحائل ; ووجه الالتفات أنّ الحدث متيقّن والرافع مشكوك فيه ، والأصل عدم الوصول ، فهنا تعارض الأصل والظاهر(1) . إلى غير ذلك من الموارد التي استعمل فيها الظاهر بمعنى الغلبة .
كما يشاهد ذلك في غضون كتب العامّة، حيث استخدموا نفس المصطلح في المعنى أيضاً .
قال بعض العامّة : فصل في بيان تعارض الأصل والظاهر . . . ولذلك أمثلة :
أحدها : طين الشارع في البلدان ، في نجاسته قولان : أحدهما : أنّه نجس لغلبة النجاسة عليه ، والثاني : أنّه طاهر; لأنّ الأصل طهارته .
ثانيها : المقبرة القديمة المشكوك في نبشها في تحريم الصلاة فيها قولان : أحدهما : التحريم ; لأنّ الغالب على القبور النبش ; والثاني : يجوز ; لأنّ الأصل الطهارة .
ثالثها : في الصّلاة في ثياب من يغلب عليه النجاسة بمخامرة النجاسة من المسلمين والمشركين قولان : أحدهما : لا يجوز ; لغلبة النجاسة عليها ; والثاني : يجوز ; لأنّ الأصل الطهارة .
رابعها : إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة والأشربة ، فالشافعي يجعل القول قول المرأة ; لأنّ الأصل عدم قبضها كسائر الديون ; ومالك يجعل القول قول الزوج ; لأنّه الغالب في العادة ، وقوله ظاهر . . .(2) .
خامسها : في جواز الفطر في الصيام بغلبة الظنّ غروب الشمس وعدمه
- (1) إيضاح الفوائد 1 : 43 .
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 .
وجهان : من أنّ الوقت عليه أمارات تعرف بها ، فاكتفي فيها بالظنّ الغالب ، وهو ظاهر المذهب . ومن أنّ الأصل عدم غروبه(1) .
سادسها : ما إذا ادّعى الجاني بشلل عضو المجنيّ عليه ، وادّعى المجنيّ عليه سلامته ، فقولان: أحدهما : القول قول الجاني ; لأنّ الأصل براءة ذمّته ; والثاني : القول قول المجنيّ عليه ; لأنّ الظاهر الغالب من أعضاء الناس السلامة(2) .
سابعها : لو اغتسلت من الجماع بعدما قضت شهوتها ثمّ خرج منها منيّ بعد الغسل ; فإنّه يجب عليها إعادة الغسل; لأنّ الخارج منيّها ، أو منيّها ومني الرجل ; لأنّ الظاهر ـ والغالب على ظنّه ـ اختلاطه ، مع أنّ الأصل عدم ذلك(3) .
وكيف كان ، فقد استعمل الظاهر ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ في الغلبة ، حتّى قال بعضهم : الظاهر والغلبة بمعنى واحد، ونصّ عبارته ما يلي : تعارض الأصل والظاهر . إعلم أنّ الأصحاب تارةً يعبّرون عنهما بالأصل والظاهر ، وتارةً بالأصل والغالب ، وكأنّهما بمعنى واحد(4) .
ج ـ القرائن
وقد يطلق الظاهر في كلمات الأعلام ـ في بحث تعارض الأصل والظاهر ـ على القرائن ، وله أمثلة كثيرة :
الأوّل : الجلد المطروح في بلاد الإسلام إذا ظهرت عليه قرائن التذكية ، كما لو كان جلداً لبعض كتبنا التي لا تتداولها أيدي الكفّار عادةً ، فالأصل يقتضي عدم
- (1) القواعد في الفقه الإسلامي : 370 ، القاعدة 159 .
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 : 46 .
(3) المنثور في القواعد 1 : 316 .
(4) المصدر 1 : 311 .
تذكيتها ، والظاهر يقتضيها ; ففي تقديم أيّهما وجهان(1): الأقوى تقديم الظاهر ; لما قلنا في سوق المسلمين . فالعبرة بغلبة المسلمين في البلاد ، فلا دخل لما يسمّى سوقاً في العرف .
المثال الثاني : إذا وجد كلباً خارجاً من بيت فيه إناء مكشوف من لبن ، ووجد على فم الكلب أثر اللبن ، وفي الحكم بنجاسته وعدمه وجهان : من أنّ الأصل عدم نجاسته ; ومن كون الظاهر النجاسة(2) .
المثال الثالث : في قبول قول الصبيّ المميّز في الهديّة وفتح الباب وجهان : من أنّ الأصل عدم قبوله ; لأنّه محجور في الأفعال والأقوال ; والظاهر والقرائن الموجود قبوله ، كما قال به الشهيد(3) .
المثال الرابع : إذا ادّعى من نشأ في دار الإسلام من المسلمين الجهل بتحريم الزنا والخمر ووجوب الصلاة ونحو ذلك ، في سماع قوله وعدمه وجهان : أحدهما : لا يقبل قوله ; لأنّ الظاهر يكذِّبه ، وهو الحقّ . ثانيهما : سماع قوله ; لأنّ الأصل عدم علمه بذلك(4) . فهنا من موارد تعارض الأصل والظاهر ، والمراد بالظاهر هنا شاهد الحال .
المثال الخامس : لو سمع المصلِّي يلحن في صلاته ، أو يترك آية أو كلمة ، وكان المصلّي من أهل المعرفة بالقراءة ، بحيث يظهر أنّه ما فعل ذلك إلاّ سهواً ، ففي وجوب تنبيهه عليه وعدمه وجهان: منشأهما تعارض الأصل والظاهر من أصالة عدم معرفته بذلك على الوجه المجزي ، فيجب تعليمه ; ودلالة ظاهر حاله على كونه
- (1) ذكرى الشيعة 3 : 28 ، تمهيد القواعد : 311 ، الحدائق الناضرة 7 : 53 .
(2) تمهيد القواعد : 303 .
(3) القواعد والفوائد 1 : 222 .
(4) تمهيد الفوائد : 307 .
قد ترك ذلك سهواً ، والحال أنّه غير مبطل للصلاة ، فلا يجب(1) .
المثال السادس : إذا اختلف الزوجان بعد التمكين في الإنفاق ; فقالت : لم ينفق عليّ ، وادّعى هو الإنفاق ، احتمل تقديم قولها عملا بالأصل ، وتقديم قوله عملا بالظاهر من شاهد الحال من أنّه أنفق عليها في مدّة تسليمها نفسها(2) .
المثال السابع : ما لو اختلف البائع والمشتري في نقصان المبيع ، وكان المشتري قد حضر الكيل أو الوزن ، فهل يقدّم قول البائع، أو المشتري وجهان: الوجه الأوّل : تقديم قول البائع; لشهادة الظاهر له ; من أنّ المشتري إذا حضر لاستيفاء حقّه يحتاط لنفسه ، الوجه الثاني تقديم قول المشتري ، لأنّ الأصل عدم قبض الجميع(3) .
المثال الثامن : كلّ موجود في المعركة ميّتاً ، وفيه أثر القتل فهو شهيد
لا يغسّل ولا يكفّن ، وإنّما وقع الخلاف في من وجد كذلك خالياً من أثر القتل ، فنسب إلى المشهور بكونه شهيداً أيضاً عملا بالظاهر ، ولأنّ القتل لا يستلزم
ظهور الأثر ; وقيل : يغسّل ويكفّن للشكّ في الشرط وأصالة وجوب غسل الأموات ، نسب هذا إلى ابن الجنيد(4)، وتبعه صاحب الجواهر(5) ، وهو أوفق بالقواعد الشرعيّة عند المحدِّث البحراني(6) . والمراد بالظاهر أي ظاهر الحال كما
- (1) تمهيد القواعد : 310 .
(2) تحرير الأحكام 2 : 49 .
(3) شرائع الإسلام 2 : 32 ، مسالك الأفهام 3 : 252 ، جواهر الكلام 23 : 177 ، الحدائق الناضرة 19 : 184 ـ 185 ، جامع الشتات 2 : 384 .
(4) مختلف الشيعة 1 : 241 .
(5) جواهر الكلام 4 : 93 .
(6) الحدائق الناضرة 3 : 418 ـ 419 .
قال به الشيخ(1) .
قال بعض أهل السنّة : «إذا اختلف الزوجان في قدر المهر ولا بيّنة، ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول الزوج ; لأنّه منكر وغارم ، والأصل براءة ذمّته من القدر الزائد على ما يقرّر به .
والثانية : القول قول مدّعي مهر المثل ; لأنّ الظاهر معه .
ثمّ قال : إذا أسلم الزوجان قبل الدخول ، وقال الزوج : أسلمنا معاً فنحن على نكاحنا ، وقالت الزوجة : بل على التعاقب فلا نكاح ، وجهان : أحدهما : القول قول الزوج; لأنّ الأصل معه ، والثاني : القول قول الزوجة; لأنّ الظاهر معها; إذ وقوع الإسلام معاً في آن واحد نادر ، والظاهر خلافه(2) .
وقال في موضع آخر : فهل القول قول مدّعي التقارن فلا ينفسخ النكاح ، أو مدّعي التعاقب لأنّ الظاهر معه؟ على وجهين يرجعان إلى تعارض الأصل والظاهر(3) .
لو رُئىَ شخص خارجاً من دار وهو مرتبك وفي يده سكّين ملوّث بالدم ، ووجد في الدار شخص ذبيح يضطرب ، ففيه وجهان: الأصل عدم كون الخارج قاتلا ; الثاني: القرينة القطعيّة كافية لكون الخارج هو القاتل(4) .
إذا اختلف الزوجان في بعض أمتعة البيت أنّها ملك الرجل أو المرأة ، ولا بيّنة لأحدهما ، يترجّح قول الرجل بيمينه فيما يستعمله الرجال عادةً ، كالسيف وثياب
- (1) الخلاف 1 : 712، المسألة 517 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي : 333 ـ 334 .
(3) المصدر : 232 .
(4) المدخل الفقهي العام 2 : 919 .
الرجل، فيحكم له به مبدئيّاً ، ويترجّح كذلك قول المرأة فيما يستعمله النساء ، كثيابهنّ وأدواتهنّ ، وذلك بقرينة عادة الاستعمال وعرفه ، وإن كان من المحتمل أن يملك كلّ منهما ما هو في العادة من حوائج الآخر ، وهذا حكم القضاء مع اليمين حتّى تقوم بيّنة على إثبات خلافه(1) .
إذا شكّ في طلوع الفجر في رمضان ; فإنّه يباح له الأكل حتّى يتيقَّن طلوعه ، ولا عبرة في ذلك بغلبة الظنّ بالقرائن ونحوها ما لم يكن مستنداً إلى إخبار ثقة بالطلوع(2) .
وآخر ما استقرأناه في مختلف الأبواب الفقهيّة من موارد استعمالهم الظاهر في المعاني التي مرّ الإيعاز إليها : هو التأسيس والحقيقة والسبب الشرعي ، ولعلّ الباحث المتتبّع يجد أكثر ممّا ظهرنا عليه .
د ـ التأسيس و الحقيقة
قالوا : لو ادّعت امرأة على رجل أنّه تزوّجها في يوم معيّن بمهر مسمّى ، وشهد به شاهدان ; ثمّ ادّعت عليه أنّه تزوّجها في يوم آخر معيّن بمهر معيّن ، وشهد به شاهدان ، ثمّ اختلفا ، فادّعت المرأة أنّ كلاًّ منهما عقد شرعيّ ، وادّعى الزوج التكرار المحض ، إمّا على وجه الاحتياط في تصحيحه ، لإشهاده، أو مجرّداً ، فالقول قول الزوجة لأنّ الظاهر معها(3) . عملا بالحقيقة الشرعيّة ; فإنّ العقد حقيقة شرعيّة في السبب المُبيح للبضع ، فاستعماله في الإيجاب والقبول المجرّدين عن الأثر
- (1) المصدر 920 ـ 921 .
(2) القواعد في الفقه الإسلامي : 369 ، القاعدة 159 .
(3) المبسوط 4 : 291 ، شرائع الإسلام 2 : 334 ، تمهيد القواعد : 307 ، قواعد الأحكام 2 : 44 ، مسالك الأفهام 8 : 204 ، جامع الشتات 2 : 384 ـ 385 .
مجاز بحسب الصورة ، كتسمية الصورة المنقوشة على الجدار فرساً(1) . أو لأنّ معها الأصل والظاهر ; فإنّ الأصل والظاهر التأسيس والحقيقة في لفظ العقد وفي صيغته، ولا عقد على المكرّر حقيقة، ولا الصيغة المكرّرة بمعنى الإنشاء المعتبر في العقود(2) .
قالوا : لو أقام شاهدين أنّه باعه هذا الثوب يوم الخميس بألف ، وشاهدين أنّه باعه يوم الجمعة منه بألف أو بألفين ، فقال المشتري هو عقد واحد كرّرناه ، وقال البائع : بل عقدان ، فالقول قول البائع ; لأنّ الظاهر معه ، ويحتمل تقديم منكر التعدّد ; لأصالة براءة الذمّة من الثاني(3) .
قال الشهيد : لو قال : له عليّ ألف درهم ودرهم ودرهم ، وأطلق ; فإنّ الثالث يمكن كونه معطوفاً على الثاني ، ويمكن كونه تأكيداً ; لاتّحاد لفظهما مقترناً بالواو ; لكنّ الظاهر العطف ، والأصل يقتضي براءة الذمّة ممّا زاد على الدرهمين(4) .
والمراد بالظاهر هاهنا : التأسيس .
قال بعض العامّة : إذا قال لمدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم يقصد بالثانية والثالثة تأكيداً ولا استئنافاً وإيقاعاً، بل أطلق النيّة، ففي وقوع الطلاق ثلاثاً وعدمه وجهان : الظاهر أنّه يقع ثلاثاً; لأنّه موضوع للإيقاع كاللفظ الأوّل ، ولهذا يقال: إذا دار الأمر بين التأسيس والتأكيد فالتأسيس أولى .
والأصل أنّه لا يلزمه أكثر من واحدة لأنّه المتيقّن(5) .
- (1) غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3 : 139 .
(2) كشف اللثام 7 : 483 .
(3) المبسوط 4 : 291 ، تمهيد القواعد : 307 .
(4) تمهيد القواعد : 309 .
(5) المنثور في القواعد 1 : 320 ، القواعد في الفقه الإسلامي : 375 .
هـ ـ إخبار العدل الواحد
قد يراد من الظاهر ـ في تعارض الأصل والظاهر ـ إخبار العدل الواحد، ولنذكر أمثلة، منها:
لو ادّعت المطلّقة بائناً قبل ظهور الحمل أنّها حامل وشهدت لها الثقة الخبيرة من القوابل، ففي قبول قولها ووجوب الإنفاق على زوجها وجهان: الظاهر قبول قولها، وبه قال الإمام الخميني والفاضل اللنكراني(1).
والأصل عدمه حتّى ظهر بها حمل، كما ذهب به الشيخ الطوسي(2).
ومنها: في جواز الاعتماد على أذان المؤذّن الثقة العارف بالوقت المترصّد له، قولان:
الأوّل: جواز الاعتماد، وبه قال عدّة من الفقهاء في تعليقات العروة الوثقى; كالسيّد أبو الحسن الاصفهاني، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيّد محمّد الفيروزآبادي، والسيّد محسن الحكيم، وميرزا عبد الهادي الشيرازي، والسيّد محمد رضا الكلبايكاني، والشيخ محمّد رضا آل ياسين، والسيّد أحمد الخوانساري، والشيخ محمد حسين الكاشف الغطاء، والفاضل اللنكراني، ونسب الشهيد(3) ذلك إلى المحقّق(4) وبعض الأصحاب(5).
الثاني: في جواز الاعتماد إشكال، وبه قال السيّد اليزدي والميرزا حسين النائيني، والشيخ آقا ضياء الدِّين عراقي، والسيّد حسين البروجردي
- (1) تحرير الوسيلة 2: 281، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب النكاح: 584 .
(2) المبسوط 6: 26 .
(3) تمهيد القواعد: 302 .
(4) المعتبر في شرح المختصر 2: 63 .
(5) نقله عن أبي العباس في الموجز، فى مفتاح الكرامة 2: 44 .